شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني والعشرون


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

[ عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتَ إذا صليتُ المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟ قال: نعم رواه مسلم ].

هذا الحديث يأتي به النووي رحمه الله بعد حديث الاستقامة: قل: آمنت بالله، ثم استقم .

وتقدم في معنى الاستقامة أنها أداء جميع الواجبات، واجتناب جميع المنهيات، وأنها أمر عظيم لا يطيقها إلا عظماء الرجال.

وهنا كأن النووي رحمه الله قصد بإيراد هذا الحديث: أرأيتَ إن صليتُ المكتوبات، وصمت رمضان.. ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟ قال: نعم ، كأنه رحمه الله يريد أن يقول: إذا كانت الاستقامة هي مهمة الشريعة الإسلامية كلها: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ، فإن أقل ما ينبغي على المسلم إنما هو ما جاء في هذا الحديث: أداء الواجبات، وترك المحرمات.

ترجمة لجابر بن عبد الله الأنصاري راوي الحديث

الحديث يرويه أبو عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري الخزرجي .

وجابر رضي الله تعالى عنه من آخر من توفي بالمدينة، وكان له حلقة علم في هذا المسجد النبوي الشريف.

ويقول عن نفسه: ( ما تخلفت عن غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استشهد أبي في غزوة أحد ).

وله مع أبيه، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداث جسام.

مما جاء عنه: أن أباه لما استشهد في أحد قال: (جئت وأبي مسجّى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأردت أن أكشف وجهه لأراه، فنهاني الصحابة وسكت عني رسول الله، قال: نهوني مخافةً عليَّ مما أرى بأبي من المُثْلة.

ثم بعد ذلك يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في ذلك الوقت يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة كانت لا زالت تحفه بأجنحتها حتى رُفع) .

ثم بعد ذلك لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جابراً فقال له: (هلم يا بنيَّ! أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟ لقد أحياه، وما كلّم الله أحداً كفاحاً سوى أبيك، قال: تمنَّ يا عبدي!

قال: أتمنى -يا رب- أن تعيدني إلى الدنيا أقاتل في سبيلك وأستشهد مرةً أخرى.

قال: سبقت كلمتنا أنهم إليها لا يُرجعون -أي: انتهى الأمر- ، تمنَّ.

قال: أخبر من وراءنا بما وجدنا) .

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي جابراً بعد أيام كئيباً، فقال: (ما بالك -يا بني- كئيباً؟

قال: يا رسول الله! استشهد أبي وعليه دين، فجئت إلى أصحاب الدين -وهم من اليهود- فأعطيتهم كل ما عندي -وكان عنده بستان من أبيه- ليأخذوه في دين أبي فلم يقبلوا، طلبت منهم التأجيل فلم يؤجلوا، وطلبت منهم أن يضعوا من دين أبي فلم يضعوا.

فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أردت الجَداد فآذِنِّي.

فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه ومر بالبستان، وقال له: جُدَّ كل نوع على حدة، ثم اكْتَل لهم دينهم.

قال: فوفيت جميع الدين، وبقي لي من ثمرة البستان مثل ما كنت أجُدُّ كل عام) .

يقول جابر رضي الله تعالى عنه: وبعد ستة أشهر ذهبت لأنقل أبي -أي: من أرض المعركة، وقد كانوا أرادوا نقلهم في أول يوم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن شهيد المعركة يُدفن في مكانه- وبعد ستة أشهر يقول: جئت لأنقل أبي فما وجدت الأرض غيَّرت منه شيئاً إلا شعرات في لحيته، ولكأنه دُفن بالأمس.

ويروي مالك رحمه الله: ( أن السيل مر بمحل المعركة فاحتفر قبر عمرو بن الجموح وآخر، فجاء أهلهما يحملانها من الوادي وينقلانهما إلى المدينة، وكان بين ذلك السنوات الطوال -قال ابن كثير:- ما غيرت الأرض منهما شيئاً، وكان عمرو واضعاً يده على صدغه -أي: على جرح- فرفعنا يده، فلما تركناها عادت حيث كانت ).

هؤلاء هم الشهداء أحياء عند الله.

وبهذه المناسبة: سمعت من بعض الإخوان أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في منطقة سيد الشهداء، في أواخر الستينات الهجرية، يقول بلسانه -وأسمع منه بأذني-: توفي لنا طفل صغير، فاستكثرنا أن ننقله إلى البقيع، وقلنا: ندفنه في مقبرة الشهداء بأحد، قال: فذهبت أنا ورجل معي، نحفر القبر، فإذا بالدم يفاجئني في وجهي، ونظرنا فإذا فخذ إنسان، قال: فأخذنا قطعة من الثياب وعصبنا الدم، وأعدنا التراب، وجئنا بالطفل إلى البقيع.

تلك آيات نشاهدها وعلامات نحضرها يقيمها الله لكل مسلم آيةً محسوسةً ودليلاً وشاهداً على ما جاء في كتاب الله، وإن كان كتاب الله دليلاً قائماً، ولا يتوقف الإيمان به على مشاهدات ولا محسوسات، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]، وصدق الله العظيم القائل: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

حرص الصحابة على السؤال عما يدخلهم الجنة

جابر بن عبد الله يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعدة رجال تتنوع أسماؤهم، لكن تتفق أسئلتهم، يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

هذا الرجل يقول: (أرأيت يا رسول الله): بمعنى: أعلمني أو أخبرني. (إن صليت المكتوبات) المكتوبات: الصلوات الخمس، والمكتوبات أي: المفروضات الواجبات، ومنه قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103].

(وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام): وفسر النووي (أحللت الحلال): فعلته معتقداً حِلَّه، (وحرمت الحرام): اجتنبته معتقداً حُرْمَته. (أأدخل الجنة؟ قال: نعم).

هذا الحديث -مع أمثاله، وما يشبهه في موضوعه- اقتصر على فرضين:

الصلاة.

والصيام.

وجاءت أحاديث أخرى فيها الزكاة وفيها الحج.

كما جاء أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس وقال: (يا رسول الله! أعلمني ماذا فرض الله عليَّ؟

قال: خمس صلوات في اليوم والليلة.

قال: هل افترض عليَّ غيرها؟

قال: لا. إلا أن تطوَّع.

قال: ثم ماذا؟

قال: صوم شهر رمضان.

قال: هل افترض عليَّ غيره؟

قال: لا. إلا أن تطوَّع.

قال: ثم ماذا؟

قال: زكاة مالك -وعلَّمه الزكاة-.

قال: هل فرض عليك غيرها؟

قال: لا، إلا أن تطوَّع.

قال: ثم ماذا؟

قال: تحج بيت الله إن استطعت إليه سبيلاً.

قال: هل فرض علي غيره؟

قال: لا. إلا أن تطوَّع.

فقال: والذي بعثك بالحق نبياً! لا أزيد على ذلك ولا أنقص.

فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح -وأبيه- إن صدق. وفي رواية: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا).

هذا الحديث يبحثه العلماء من عدة جوانب:

أولاً: كون الرجل يسأل -وفي بعض الروايات أو بعض الطرق- أو بعض الرجال الذين جاءوا.

جاء رجل -وهو طفيل - وقال: (يا رسول الله! جاءنا رسولك، وأخبرنا أنك رسول الله، فهل هذا حق؟ قال: نعم.

قال: والذي رفع السماء! آلله أرسلك؟

قال: نعم، والذي رفع السماء! إنه أرسلني.

قال: إن رسولك أخبرنا أنه كُتب علينا خمس صلوات في اليوم والليلة، آلله أمرك بذلك؟

قال: نعم. الله أمرني بذلك.

وذكر صوم رمضان، وذكر الزكاة، وذكر الحج، كل ذلك يقول: رسولك أخبرنا بذلك، والذي رفع السماء! آلله أمرك بهذا؟

فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم.

فيقول -كما قال هذا وذاك-: والذي بعثك بالحق! لا أزيد على ذلك ولا أنقص).

في هذا الحديث الاقتصار على الصلاة المكتوبة، وهي خمس صلوات، يستدل العلماء على أنه لا فرض بعد الصلوات الخمس، وأن ما عدا الصلوات الخمس: إما من باب فرض الكفاية، وإما من باب السنة.

والسنن تتفاوت.

ويجيبون على قول مَن يرى أن الوتر فرض؛ ولكن لم يقل بفرضية الوتر أحد من الأئمة الأربعة، إلا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول بوجوبه.

وليعلم الجميع أن الوجوب والفرض اصطلاح.

فاصطلاح الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن الواجب دون الفرض.

وأن اصطلاحه: أن الفرض: ما ثبت بدليل قطعي من كتاب أو سنة متواترة.

والواجب: ما ثبت بسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقابل اصطلاح (السنة المؤكدة) لدى الأئمة الثلاثة.

والأئمة الثلاثة رحمهم الله عندهم السنة المؤكدة الوتر، وركعتا الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتركهما لا في حضر ولا في سفر، وقال في ركعتي الفجر: (صلوهما ولو طاردتكم الخيل).

الفرض والنافلة فيما يتعلق بالتوحيد

إن لكل ركن من الأركان الخمسة -التي بُني عليها الإسلام- نوافل:

فأول أركان الإسلام: الشهادتان (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله):

وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول ويحث على قول: (لا إله إلا الله) دبر كل صلاة مائة مرة.

أو في كل يوم مائة مرة.

وكان يحث على التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين .. ثلاثاً وثلاثين .. ثلاثاً وثلاثين، وأن يختم المائة بـ(لا إله إلا الله).

وكذلك الصلاة والسلام على رسوله صلوات الله وسلامه عليه. قالوا: إن الصلاة على النبي فرضٌ في العمر مرة بدليل قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه.

فقالوا: بمقتضى هذه الآية صارت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرضاً ولو في العمر مرة؛ ولكن لها نوافل، كما جاء في الحديث: (حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر وكان من ثلاث درجات، وكلما صعد درجة قال: آمين .. آمين .. آمين، فلما خطب ونزل، قالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمِّن ولا ندري علام أمَّنت! قال: أتاني جبريل، وقال لي: رغم أنف امرئ أدرك أبويه -أو أحدهما- على الكبر ولم يغفر له، أبعده الله يا محمد! قل: آمين. فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك رمضان ثم خرج ولم يغفر له، أبعده الله يا محمد! قل: آمين. فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ ذُكرت عنده ولم يصلِّ عليك أبعده الله يا محمد! قل: آمين. فقلت: آمين).

من هنا قال العلماء: من الواجب على كل مسلم إذا سمع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده أن يصلي عليه صلوات الله وسلامه عليه. وقد جعل الله لتلك الصلاة أجراً عظيماً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً).

الفرض والنافلة في الصلاة

وإذا جئنا إلى أركان الإسلام الأخرى: فأولها: الصلاة.

وقد أوجب الله سبحانه وتعالى الصلوات الخمس، ونعلم جميعاً أنها أول ما فرضت خمسين صلاة، ثم ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين ربه وبين موسى عليه السلام ويطلب التخفيف ويُسقط عنه خمساً خمساً حتى استقرت خمساً في العمل وهي في الأجر خمسون.

وجعل الله سبحانه مما شرع نبيه صلى الله عليه وسلم -وهو لا ينطق عن الهوى- صلوات أخرى نوافل:

منها الرواتب مع الفريضة.

ومنها النوافل المقيدة بزمن أو بعمل.

ومنها النافلة المطلقة.

فمن الرواتب:

كما جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات في اليوم والليلة -أي: نوافل- وذكر ركعتي الفجر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين قبله، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء)، وجاءت أحاديث أخرى: (أن مع الظهر أربعاً قبلها وأربعاً بعدها، ومع العصر أربعاً قبلها).

وبين المغرب والعشاء صلاة الأوابين: ست ركعات، ركعتين .. ركعتين .. ركعتين.

ثم قيام الليل بلا حد ولا عد.

تلك هي الرواتب مع الصلوات الخمس.

وهناك النوافل المقيدة بزمن:

كركعتي الضحى، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم ما يترتب عليها من عظيم الأجر كما سيأتي أنها تعدل ثلاثمائة وستين صدقة، وكذلك تعلم القرآن في بيوت الله تعالى، ومن فضل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن يذهب إلى بطحان ويأتي بناقتين كوماوين من غير إثم ولا قطيعة رحم، قالوا: كلنا يريد ذلك يا رسول الله! قال: من غدا إلى المسجد فتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع..).

والمقيدة بعمل:

ذكر صلى الله عليه وسلم: (كلُّ سلامى من ابن آدم كلَّ يوم تطلع فيه الشمس عليه فيها صدقة)، والسلامى: المفصل في الجسم، وقالوا: في جسم الإنسان ثلاثمائة وستين سلامى، أي: في أصابعه وفي ظهره وفي ضلوعه وفي يديه ورجليه إلى غير ذلك، تلك السلامات صيانتها، وحفظها إنما هي كما قال صلى الله عليه وسلم: (عليه صدقة)، ثم مَن في جميع الصحابة يستطيع أن يتصدق كل يوم ثلاثمائة وستين صدقة، قالوا: (ومن يستطيع ذلك يا رسول الله؟! فقال: كل تحميدة صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وأن تعين أخاك على دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه صدقة، وأن تلقى أخاك بوجه بشوش صدقة، ويُجزئ عن ذلك كله ركعتا الضحى).

هناك أيضاً الصلوات الأخرى التي تدخل في باب فرض الكفاية:

كصلاة الجنائز.

وكذلك الكسوف.

والاستسقاء. وغير ذلك.

جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن لهذه النوافل مهمتان:

المهمة الأولى: الصيانة والضمان والأمن على الفريضة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه أول ما يسأل العبد يوم القيامة عن الصلاة، فإن كانت مجزئة ووافية فبها ونعمت وصلح سائر عمله وأُلحقت بها جميع الأعمال، وإن كانت قد نقصت، وفرط وضيع، وأراد الله بالعبد خيراً يقول للملائكة: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: بلى يا رب! فيقول: اجبروا فريضته من نافلته)، وهكذا سائر الأعمال.

تلك النوافل يتكرم المولى سبحانه ويجبر منها الفريضة، فريضة الصلاة التي هي أول ما يُسأل عنها العبد، فإن قُبلت قبل معها سائر عمله، وإذا رُدت رُد معها سائر عمله؛ لأنها العهد الذي بيننا وبينهم، والذي جاء في خصوصها وحدها: (من ترك الصلاة فقد كفر).

والمهمة الثانية في جميع النوافل: أن الله سبحانه قال في الحديث القدسي: (إن أقرب أو أحب أو أشد ما تقرب إلي به عبدي بما افترضته عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها...)، وبين العلماء أن هذا العبد يصبح عبداً ربانياً لا يسمع إلا في الله، ولا يبصر إلا في الله، ولا تتحرك يده أخذاً وعطاءً إلا فيما يرضي الله، ولا تسعى قدمه إلا إلى رضاء الله.

وأشرنا في السابق في شرح معنى: (الصراط المستقيم) في قوله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ... [الأنعام:161] إلى قوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].

وهكذا تكون النوافل هي السلم الذي يعرج عليه العبد إلى ربه، وهو مرتقى المنازل العليا لكل مسلم.

إذاً: النوافل لها أهميتها هي تابعة لكل فريضة كما أشرنا.

الفرض والنافلة في الصوم

كذلك الصوم:

فرضُه رمضان؛ ولكن جاءت بالإضافة إليه نوافل أخرى:

جاء صوم الإثنين والخميس، وقال فيه صلى الله عليه وسلم: (يوم الإثنين يوم فيه ولدت، وعلي فيه أنزل)، وفي يوم الخميس قال: (يوم تعرض فيه الأعمال على الله -أو على ربي-، وأحب أن يعرض عملي على ربي وأنا صائم).

وذكر صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقال في ذلك: (من صام من كل شهر ثلاثة أيام فكأنما صام الدهر) أي: أن الحسنة بعشرة أمثالها.

وجاء في موضع آخر: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر).

وهكذا يبين صلى الله عليه وسلم في نوافل محددة كصوم يوم عاشوراء، أنه: (يكفر سنة ماضية).

وفي صوم يوم عرفات يقول: (يكفر السنة الماضية والباقية).

الفرض والنافلة في الزكاة

أما الزكاة:

فبيَّن سبحانه وجوبها في قوله: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24] أي: معدود محسوب، سواءً كان في الحبوب العُشر أو نصف العُشر، أو كان في النقدين ربع العشر أو كما يقولون: (2.5%)، وبين صلى الله عليه وسلم زكاة بهيمة الأنعام فيما يتعلق بالإبل والبقر والغنم.

ولكن (إن في المال حقاً سوى الزكاة) وقد بين صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم يمينُه ما تنفق شمالُه)، لا تقل: (شمالُه ما تنفق يمينُه).

ويقول بعض العلماء: إن الحديث فيه قلب، والأصل: (لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

والصواب: لا. كما جاء في الحديث: (لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) وليس هناك قلب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يبين مدى إخفاء المتصدق صدقته، والناظر دائماً إنما يراعي اليمنى؛ لأنها صاحبة الحركة، وصاحبة العطاء، وصاحبة الأخذ، أما اليسار فلا دخل لها في ذلك، وهو من شدة إخفائه الصدقة يوقف حركة اليمين ويحرك اليسار؛ لأن الأعين لا ترقبها.

فالحديث فيه: (حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله)، هذا الذي يتصدق بهذا المال على هذه الصفة إنما يتعامل مع مَن؟ مع الله، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة:245].

وقد جاءت النماذج والأمثلة في سلف الأمة، فهاهو الصديق رضي الله تعالى عنه يَخرُج من ماله كلِّه، فيسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر ! ما تركت لعيالك؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله).

وهاهو عمر الفاروق رضي الله عنه يقسم ماله نصفين..

أيها الإخوة! إن الإنفاق أو الصدقة النافلة باب مفتوح ومجال واسع ومهمتها أشياء عديدة:

في الفريضة: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، نعم. تطهر قلوب الأغنياء من الشح والبخل، وقلوب الفقراء من الحقد والحسد؛ لأن الفقير إذا رأى النعمة عند الغني يستأثر بها دونه فلا يناله منها شيء تحرك الحقد في قلبه والحسد والغيظ، أما إذا وجد نعمة الغني تفيض عليه فإنه يكون حارساً لهذه النعمة ويدعو الله له أن يبارك في ماله وأن يديمه عليه وأن يزيده لتزيد حصته فيه.

ورغم ما في هذه الأبواب من الخير إلا أننا نغفل عنها، وفيما يتعلق بالحث على الصدقة يأتي الشرع الحكيم بقصتين عجيبتين:

يأتي بقصة أصحاب الجنة: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:17-20].

لماذا؟

لأنهم تنادوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ [القلم:21-26].

لماذا؟

أبوهم كان يتصدق؟!

أبوهم كان يخرج من ثمارها؟!

ولكنهم هم ضنوا وبخلوا بهذا القدر وعزموا على ألَّا يعطوا أحداً، وأن يصرموها ليلاً قبل أن يصحو المساكين ويأخذوا منها شيئاً، فعاملهم الله بنقيض قصدهم.

ويذكر لنا صلى الله عليه وسلم في المقابل: (بينما رجل يمشي في فلاة فإذا به يسمع صوتاً في السحاب: اذهبي فأمطري فاسقي مزرعة فلان) وانظروا أسلوب الحديث! (في فلاة) ليس في وسط قرية أو مدينة فنقول: هذا تشويش أو شيء يختلط أو شيء يُتوهَّم، بل فلاة من الأرض، ليس هناك تشويش ولا وهم.

ويسمع الصوت صريحاً في السحاب؛ من الذي يسخر السحاب؟ من الذي يأتي به؟ من الذي يسوقه فيحيي الأرض الميتة؟

إنه الله، لا شمس تبخِّر، ولا محطيات تتبخَّر، ورطوبة تتكاثف ثم يعود إلى الأرض، لا؛ والله! إنه صنع الله سبحانه وتعالى، من تبخير أو من بحار أو من شمس... أو غير ذلك، وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، ويسوقها إلى ما يريد، فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ [فاطر:9] سياق من الله، فهذه السحابة تؤمر وتذهب حيثما أمرت، قال: (فيمشي الرجل في ظلها، فإذا بها تأتي إلى حرة، وتستجمع، وتمطر، ويتجمع الماء ويسيل في شرجة، فيتبع الماء، فإذا برجل قائم بمسحاته يحول الماء في مزرعته، فيسلم عليه باسمه الذي سمع في السحاب.

فينظر إليه فإذا به رجل غريب.

فقال: كيف عرفت اسمي وأنت غريب.

فقال الآخر: أخبرني! ماذا تفعل في مزرعتك؟

قال: وما الذي حملك على السؤال؟

فأخبره.

فقال: نعم. إن يكن كذلك فإني حينما أحصدها أقسم ثمرتها إلى ثلاثة أقسام:

قسم: أدخره لنفسي وعيالي.

وقسم: أدخره أعيده بذراً فيها.

وقسم: أتصدق به على المساكين).

أي قسمة هذه؟!

أولئك ضنوا بالصدقة فأصبحت جنتهم كالصريم، وهذا حافظ على الصدقة فسخر الله له السحابة في مزرعته. ليس هناك ماكينة ولا دولاب ولا ساقية ولا شيء، بل من الله؛ لأنه يتعامل مع الله، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245]، إذا أعطيت الثلث، فسيعطيك ثلاثة أثلاث، وهذا فضل الله.

إذاً: النوافل بابها واسع.

الفرض والنافلة في الحج

إذا جئنا إلى الحج:

بين صلى الله عليه وسلم أنه يجب في العمر مرة، وجاء الحديث: (ما من حق امرئ مسلم عافيته في بدنه وأغنيته في ماله أن يهجر البيت فوق خمس).

وأما العمرة فقال عليه الصلاة والسلام -فيها وفي الحج-: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).

وهكذا -أيها الإخوة- جميع الفرائض لها نوافل، وتلك النوافل بمثابة الضمان لإكمال ما عساه أن يكون من نقص الفرائض.

الحديث يرويه أبو عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري الخزرجي .

وجابر رضي الله تعالى عنه من آخر من توفي بالمدينة، وكان له حلقة علم في هذا المسجد النبوي الشريف.

ويقول عن نفسه: ( ما تخلفت عن غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استشهد أبي في غزوة أحد ).

وله مع أبيه، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداث جسام.

مما جاء عنه: أن أباه لما استشهد في أحد قال: (جئت وأبي مسجّى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأردت أن أكشف وجهه لأراه، فنهاني الصحابة وسكت عني رسول الله، قال: نهوني مخافةً عليَّ مما أرى بأبي من المُثْلة.

ثم بعد ذلك يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في ذلك الوقت يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة كانت لا زالت تحفه بأجنحتها حتى رُفع) .

ثم بعد ذلك لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جابراً فقال له: (هلم يا بنيَّ! أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟ لقد أحياه، وما كلّم الله أحداً كفاحاً سوى أبيك، قال: تمنَّ يا عبدي!

قال: أتمنى -يا رب- أن تعيدني إلى الدنيا أقاتل في سبيلك وأستشهد مرةً أخرى.

قال: سبقت كلمتنا أنهم إليها لا يُرجعون -أي: انتهى الأمر- ، تمنَّ.

قال: أخبر من وراءنا بما وجدنا) .

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي جابراً بعد أيام كئيباً، فقال: (ما بالك -يا بني- كئيباً؟

قال: يا رسول الله! استشهد أبي وعليه دين، فجئت إلى أصحاب الدين -وهم من اليهود- فأعطيتهم كل ما عندي -وكان عنده بستان من أبيه- ليأخذوه في دين أبي فلم يقبلوا، طلبت منهم التأجيل فلم يؤجلوا، وطلبت منهم أن يضعوا من دين أبي فلم يضعوا.

فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أردت الجَداد فآذِنِّي.

فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه ومر بالبستان، وقال له: جُدَّ كل نوع على حدة، ثم اكْتَل لهم دينهم.

قال: فوفيت جميع الدين، وبقي لي من ثمرة البستان مثل ما كنت أجُدُّ كل عام) .

يقول جابر رضي الله تعالى عنه: وبعد ستة أشهر ذهبت لأنقل أبي -أي: من أرض المعركة، وقد كانوا أرادوا نقلهم في أول يوم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن شهيد المعركة يُدفن في مكانه- وبعد ستة أشهر يقول: جئت لأنقل أبي فما وجدت الأرض غيَّرت منه شيئاً إلا شعرات في لحيته، ولكأنه دُفن بالأمس.

ويروي مالك رحمه الله: ( أن السيل مر بمحل المعركة فاحتفر قبر عمرو بن الجموح وآخر، فجاء أهلهما يحملانها من الوادي وينقلانهما إلى المدينة، وكان بين ذلك السنوات الطوال -قال ابن كثير:- ما غيرت الأرض منهما شيئاً، وكان عمرو واضعاً يده على صدغه -أي: على جرح- فرفعنا يده، فلما تركناها عادت حيث كانت ).

هؤلاء هم الشهداء أحياء عند الله.

وبهذه المناسبة: سمعت من بعض الإخوان أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في منطقة سيد الشهداء، في أواخر الستينات الهجرية، يقول بلسانه -وأسمع منه بأذني-: توفي لنا طفل صغير، فاستكثرنا أن ننقله إلى البقيع، وقلنا: ندفنه في مقبرة الشهداء بأحد، قال: فذهبت أنا ورجل معي، نحفر القبر، فإذا بالدم يفاجئني في وجهي، ونظرنا فإذا فخذ إنسان، قال: فأخذنا قطعة من الثياب وعصبنا الدم، وأعدنا التراب، وجئنا بالطفل إلى البقيع.

تلك آيات نشاهدها وعلامات نحضرها يقيمها الله لكل مسلم آيةً محسوسةً ودليلاً وشاهداً على ما جاء في كتاب الله، وإن كان كتاب الله دليلاً قائماً، ولا يتوقف الإيمان به على مشاهدات ولا محسوسات، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]، وصدق الله العظيم القائل: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

جابر بن عبد الله يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعدة رجال تتنوع أسماؤهم، لكن تتفق أسئلتهم، يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

هذا الرجل يقول: (أرأيت يا رسول الله): بمعنى: أعلمني أو أخبرني. (إن صليت المكتوبات) المكتوبات: الصلوات الخمس، والمكتوبات أي: المفروضات الواجبات، ومنه قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103].

(وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام): وفسر النووي (أحللت الحلال): فعلته معتقداً حِلَّه، (وحرمت الحرام): اجتنبته معتقداً حُرْمَته. (أأدخل الجنة؟ قال: نعم).

هذا الحديث -مع أمثاله، وما يشبهه في موضوعه- اقتصر على فرضين:

الصلاة.

والصيام.

وجاءت أحاديث أخرى فيها الزكاة وفيها الحج.

كما جاء أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس وقال: (يا رسول الله! أعلمني ماذا فرض الله عليَّ؟

قال: خمس صلوات في اليوم والليلة.

قال: هل افترض عليَّ غيرها؟

قال: لا. إلا أن تطوَّع.

قال: ثم ماذا؟

قال: صوم شهر رمضان.

قال: هل افترض عليَّ غيره؟

قال: لا. إلا أن تطوَّع.

قال: ثم ماذا؟

قال: زكاة مالك -وعلَّمه الزكاة-.

قال: هل فرض عليك غيرها؟

قال: لا، إلا أن تطوَّع.

قال: ثم ماذا؟

قال: تحج بيت الله إن استطعت إليه سبيلاً.

قال: هل فرض علي غيره؟

قال: لا. إلا أن تطوَّع.

فقال: والذي بعثك بالحق نبياً! لا أزيد على ذلك ولا أنقص.

فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح -وأبيه- إن صدق. وفي رواية: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا).

هذا الحديث يبحثه العلماء من عدة جوانب:

أولاً: كون الرجل يسأل -وفي بعض الروايات أو بعض الطرق- أو بعض الرجال الذين جاءوا.

جاء رجل -وهو طفيل - وقال: (يا رسول الله! جاءنا رسولك، وأخبرنا أنك رسول الله، فهل هذا حق؟ قال: نعم.

قال: والذي رفع السماء! آلله أرسلك؟

قال: نعم، والذي رفع السماء! إنه أرسلني.

قال: إن رسولك أخبرنا أنه كُتب علينا خمس صلوات في اليوم والليلة، آلله أمرك بذلك؟

قال: نعم. الله أمرني بذلك.

وذكر صوم رمضان، وذكر الزكاة، وذكر الحج، كل ذلك يقول: رسولك أخبرنا بذلك، والذي رفع السماء! آلله أمرك بهذا؟

فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم.

فيقول -كما قال هذا وذاك-: والذي بعثك بالحق! لا أزيد على ذلك ولا أنقص).

في هذا الحديث الاقتصار على الصلاة المكتوبة، وهي خمس صلوات، يستدل العلماء على أنه لا فرض بعد الصلوات الخمس، وأن ما عدا الصلوات الخمس: إما من باب فرض الكفاية، وإما من باب السنة.

والسنن تتفاوت.

ويجيبون على قول مَن يرى أن الوتر فرض؛ ولكن لم يقل بفرضية الوتر أحد من الأئمة الأربعة، إلا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول بوجوبه.

وليعلم الجميع أن الوجوب والفرض اصطلاح.

فاصطلاح الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن الواجب دون الفرض.

وأن اصطلاحه: أن الفرض: ما ثبت بدليل قطعي من كتاب أو سنة متواترة.

والواجب: ما ثبت بسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقابل اصطلاح (السنة المؤكدة) لدى الأئمة الثلاثة.

والأئمة الثلاثة رحمهم الله عندهم السنة المؤكدة الوتر، وركعتا الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتركهما لا في حضر ولا في سفر، وقال في ركعتي الفجر: (صلوهما ولو طاردتكم الخيل).