شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والعشرون


الحلقة مفرغة

حرص الصحابي على طلب النصيحة من النبي عليه الصلاة والسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

[ عن أبي عمرو وقيل: أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم رواه مسلم ].

إن هذا الحديث المبارك الذي فيه الجواب عن هذا السؤال الحكيم يعتبره العلماء جامعاً شاملاً لمهام الإسلام، وإنه لتظهر فيه حكمة وحصافة ولب السائل رضوان الله تعالى عليه، وهو أبو عمرة سفيان الثقفي ، وهو من ثقيف من سكان الطائف، يسأل هذا السؤال ليتعلم، ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: السؤال نصف العلم، أو هو العلم، ويقال: تعلم كيف تسأل كما تتعلم كيف تستمع، والسؤال ينبئ عن عقل صاحبه.

فهذا الصحابي الجليل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله!) يستحضر في نفسه أن المسئول أمامه هو رسول من عند الله لا ينطق عن الهوى، ويستحضر في نفسه أن المسئول أمامه قد أوتي جوامع الكلم، ويستحضر في نفسه أن المسئول أمامه مبلغ رسالة الله لخلق الله، فهو النبراس، وهو القدوة، وهو السراج المنير الذي يضيء للخلق سبيلهم، يستحضر كل تلك المعاني حينما قال: (يا رسول الله! قل لي)، وهذا السؤال له ولغيره ممن يبلغه.

قال: (قل لي في الإسلام) لا في الدنيا ومتاعها وزخرفها، ولا في السلطة وعزتها، ولا في منصب وجاهه، لا، بل في الإسلام، كان الإسلام ممتزجاً بدمائهم، وأصبح يسري في عروقهم، وأصبح هو ديدنهم ومقصدهم، وهذا مما ينبئ عن قوة إخلاصه، وحسن مقصده، وشدة تيقظه لما يسأل عنه، فالإسلام به عزة الخلق، وفيه سعادة الدنيا والآخرة.

والسائل يعلم يقيناً أن الرسول جاء برسالة الإسلام، وقد نفض الدنيا عن يديه، وقال: أنتم أعلم بدنياكم مني ، فليسوا في حاجة إلى توجيه فيها، أمر الدنيا يستوي فيه المسلم والكافر، وقد يكون الكافر أشد حذقاً في أمور الدنيا من المسلم، وقد توصل الكافر في أمور دنياه إلى مخترعات، وإلى مستحدثات، وإلى مستجدات لم يصل إليها المسلم حتى اليوم، والدنيا مبناها على التجارب، فطالما يوجد فكر وتجربة توجد نتائج تقدمية، ولكن السائل يهتم بالإسلام، والسؤال عن الإسلام، ولا يمكن أن يجاب عليه إلا من طريق الوحي، ولذا قال: يا رسول الله! قل لي في الإسلام، والإسلام إذا انفرد يشمل الإيمان، فمراده: الرسالة التي حملتها وبلغتنا إياها.

قوله: (قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك) ومن بعد رسول الله يسأل؟ ومن بعد رسول الله يستطيع أن يجيب؟ ومن بعد رسول الله يملك أن يزيد على جواب رسول الله؟ لا أحد.

قال: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك أحداً غيرك)، علم أنه لا يوجد غير رسول الله أعلم بدين الله، فهو يطلب الإيضاح، ويطلب التفصيل، ويطلب البيان، بلا إشكال ولا لبس ولا غموض ولا خفاء، ومن بعد رسول الله أوتي جوامع الكلم؟ فهو أفصح العرب صلى الله عليه وسلم.

عرف السائل كيف يكيف سؤاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم قدر للرجل سؤاله، وعرف حقيقة حاله، وأجابه الجواب الذي لا يوجد مثله أبداً، ولو اجتمع الخلائق كلهم ما استطاعوا أن يضيفوا إلى هذا الجواب حرفاً واحداً، وكان الجواب على مقتضى سؤال السائل من الإيضاح والشمول والبيان والمعرفة والتوجيه، فقال: (قل: آمنت بالله، ثم استقم)، كلمتان: (آمنت بالله) وحرف العطف (واستقم)، وفي بعض الروايات: (قل: الله ربي، ثم استقم)، ذكر بعض العلماء زيادة: أنه سأل أيضاً: ما أشد ما تخافه عليّ يا رسول الله؟! فأخرج صلى الله عليه وسلم لسان نفسه وأمسكه بيده وقال: أمسك عليك هذا.

حسن جواب الرسول عليه الصلاة والسلام وبلاغته وحكمته

نرجع إلى هذا الحديث على إيجازه، ونتكلم فيه من جهتين:

جهة منهجية، وجهة موضوعية.

أما الجهة المنهجية فهي تطابق الجواب مع السؤال، ليشبع رغبة السائل ويكفي حاجته، بكل وضوح وبيان، وبكل شمول واستغراق، وليس ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما الناحية الموضوعية فنجد هذا الترتيب: (قل: آمنت بالله) فالقول يقتضي مقول، وكأنه صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينطق قائلاً قولاً مسموعاً (آمنت بالله)، ولم يقل له: آمن بالله ثم استقم؛ لأنه لو قال: آمِن بالله، فالإيمان بالله داخل القلب؛ لأن الإيمان التصديق، ولكن عمل القلب وحده لا يكفي، فلابد معه من نطق اللسان المعبر عن إيمان القلب، ولذا قال له: (قل: آمنت بالله)، وقال الله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، وما قال: وكان من المسلمين، بل قال: ((وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) ليشهد العالم عليه، وليشترك اللسان في الإيمان.

وهنا وقفة: هل السائل غير مؤمن؟ هو يقول: يا رسول الله! ويقول: قل لي في الإسلام، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه جواباً مكتمل الجوانب، لم يحل فيه على متقدم ولا غائب، بل أعطاه الجواب مكتملاً لا يحتاج إلى إضافة، ولا إلى إلحاق، ولا إلى إتباع، ولا إلى إحالة، كأنه يرسم له منهجاً من جديد، ليكون جواباً له ولغيره، ولو وصل هذا الحديث إلى أي إنسان يعقل فهو موجه له، وإن كان مؤمناً جدد إيمانه، لقد كان صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة، يجدد ذكر الله.

معنى قوله: قل: (آمنت بالله)

قال: (قل: آمنت بالله)، الإيمان لغة هو: التصديق، أي: أن يصدق القلب بمقتضى الخبر، ولكن الإيمان في اصطلاح الشرع: تصديق القلب، ونطق اللسان، وعمل الجوارح، فقوله: (قل: آمنت بالله)، الإيمان بالله هو: التصديق بالله، وبوجوده، وبما يستحقه في ذاته، وبما جاء عن الله، ومن الإيمان بالله الإيمان برسول الله؛ لأنه جاء برسالة من عند الله، ومن الإيمان بالله الإيمان بيوم القيامة؛ لأن الله أخبر به، والإيمان بيوم القيامة إيمان بالجنة والنار، والإيمان بالجنة والنار إيمان بالجزاء والحساب، فمن الإيمان الإيمان بالمجازاة على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة عقوبة، فالإيمان بالله يقتضي الإيمان بكل ما جاءنا به رسول الله من عند الله.

فهذه الجملة الأولى تتضمن كل ما يتعلق بالعقائد، وتتضمن الالتزام بأركان الإسلام، وتتضمن الالتزام بالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج؛ لأن الله هو الذي فرضها، فإذا آمنت بالله قمت بكل ما أمرك به الله، وهذه أركان الإسلام، وإذا آمنت بالله آمنت بكل ما أخبر به الله، وأركان الإيمان: الإيمان بالله، ورسله، وملائكته، وكتبه، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، إذا آمنت بالله كنت حقاً مسلماً أمرك لله، وهنا قدم صلى الله عليه وسلم أولاً الإيمان بالله، ثم أتى بحرف العطف (ثم) الذي يفيد الترتيب والتعقيب، ما قال: قل: آمنت بالله واستقم، وما قال: قل: آمنت بالله فاستقم، بل جاء بثم، والبعض يقول: إن ثم للترتيب والتراخي، وهنا ليس المراد التراخي، وتظهر قوة أسلوب هذا الحديث في قوله: (قل: آمنت بالله)، فإذا استغرقت كل جوانب الإيمان بالله فاستقم، فكأن عملية الإيمان بالله تحتاج إلى فترة تروٍ وتريث واستجماع وتجميع وإدراك لكل ما يقتضي الإيمان بالله.

معنى قوله: (ثم استقم)

قال عليه الصلاة والسلام: (قل آمنت بالله ثم استقم)، فإذا تأمل المسلم هذه الجملة فقط لوجد كل العقائد في هذه الكلمة، فكأنه وضع القاعدة الأساسية التي يقوم عليها البناء، ثم منها الانطلاق، كما يجعلون قاعدة انطلاق قوية إذا كان المنطلق منها قوياً ثقيلاً يحتاج إلى قاعدة راسخة قوية لتتحمل رد الفعل، وتتحمل انعكاس الانطلاق كما يقولون في علم الحركة، فالانطلاق بعد الإيمان بالله إلى الاستقامة أمر عظيم.

وما هي الاستقامة؟

يتفق العلماء على أن الاستقامة وسط بين طرفين، فهي الاعتدال بلا اعوجاج كما قال الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا [الكهف:1-2] أي: ليس فيه عوج، لا في يمين ولا في يسار، وليس فيه هبوط ولا صعود، بل اعتدال واستقامة، وهكذا يقولون: الفضيلة وسط بين طرفين، فمثلاً: الشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين التبذير والتقتير، وكذلك الاستقامة.

الاستقامة إذا طبقناها على الإسلام كله، وجدناها تدخل في كل شيء منه، وهي الميزان الذي يزن العبد به أعماله.

جاء عن السلف رضي الله تعالى عنهم بيان معنى الاستقامة، فعن أبي بكر الصديق أنه لما قرأ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] فقال: آمنوا بالله واستقاموا على ذلك حتى ماتوا، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: آمنوا بالله ثم استقاموا ولم يروغوا روغان الثعالب، فالاستقامة على الإيمان بالله هي: الدوام عليه حتى يلقى الله، وهو على استقامته. ومن جانب آخر يكون تحقيق الاستقامة في الإيمان بالله بلزوم وترك البدع المحدثة، فنحن نقرأ في كتب العقائد عن الطوائف المتعددة التي ضلت في أسماء الله وصفاته، فنجد مثلاً المشبهة والمعطلة، فالاستقامة تكون بلا تشبيه ولا تعطيل، تكون بإثبات صفات الله بلا تشبيه، وتنزيه الله بلا تعطيل، كما قال الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فالاستقامة هنا طريق وسط بين طرف المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه، وبين طرف المعطلة الذين عطلوا الله من صفاته التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله، فالاستقامة وسط بين هذا وذاك، إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، هذه استقامة في حق أسماء الله وصفاته، وإذا جئنا إلى الاستقامة في الإسلام -كما سأل السائل- نجد أن الشريعة كلها بل الرسالة بأكملها إنما جاءت لتقرر الاستقامة والاعتدال في الطريق من الدنيا إلى الآخرة، وهو طريق العبد إلى ربه.

الحث على الاستقامة في سورة الفاتحة

جاء ذكر الاستقامة في كتاب الله في مواضع كثيرة، وهذا الباب واسع، لو تفرغ إنسان لجمعه لجاء على القرآن الكريم كله بجميع تعاليمه، ولنبدأ أولاً بفاتحة الكتاب:

قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، في هذه المقدمة: قل: آمنت بالله، إذا حمدت الله أثبت لله صفات الكمال والجلال، وإذا قلت: (رب العالمين)، أقررت واعترفت لله بالربوبية العامة للعالمين جميعاً، عالم الإنس والجن والملائكة، عالم الحيوان والطير، عالم البحار والجبال، عالم النبات والأشجار، هو رب العالمين يربي العالم كله، فالذي يدبر هذا العالم، والذي أوجده هو الله رب العالمين.

(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ربوبية رحمة، لا سلطة وقهر وجبروت، مع أنه سبحانه له السلطة وله القوة وله الجبروت، لكنه يربي العالمين بالرحمة، وقد بين صلى الله عليه وسلم أنه أرحم بالخلق من الأم على رضيعها، وله مائة رحمة أنزل واحدة في الدنيا، وأمسك تسعاً وتسعين إلى يوم القيامة، فبهذه الرحمة الواحدة يتراحم الخلق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها خشية أن تصيب ولدها، هذه رحمة الله رب العالمين الرحمن الرحيم في الدنيا، وعند المعاد يرحم العباد بتسعة وتسعين رحمة.

(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ليس معه ملك، وليس معه مالك، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، وأنت -أيها العبد- أين تذهب؟ دنياك ربنا يدبرها، وآخرتك إليه وحده، إذاً: ليس لك مجال، وليس لك مآل، وليس لك مفر، ولا مهرب، إلا أن تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وحقاً تقولها، وحقاً هي لله، (قل: آمنت بالله) ومن الإيمان بالله إفراد الله بالعبادة، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) والعبادة كلها لله، وتقديم المعمول -كما يقولون- من أدوات التخصيص والحصر، فاحصر العبادة لربك، وكذلك الاستعانة احصرها بربك، فلا يعينك على أمورك في الدين والدنيا والآخرة إلا الله، وفي الحديث المتقدم: (ولو أن الإنس والجن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) فمن الذي يعينك على دينك؟ ومن الذي يوفقك للعمل؟ ومن الذي يهديك للصواب؟ ومن الذي يعطيك القدرة للقيام والعمل؟ هو الله وحده لا شريك له، نستعين بك على كل شيء، ومن ذلك العبادة، وإذا كان الأمر كذلك فبأي طريق تسلك العبادة؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] الطريق الذي نستمر عليه ونستقيم عليه في عبادتك، وفي أداء حقك علينا، فيما أوجبت علينا يا الله!

وما هذا الصراط؟

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7].

ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟

قال الله: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، ما قال: قدوة، ولا امتثالاً، بل قال: (رَفِيقًا) على هذا الصراط المستقيم، كأنك تسلك صراطاً سلكه من هو خير منك، من نبيين وصديقين وشهداء وصالحين، وأنت تسير معهم، أي صراط تريد أفضل من هذا؟ أي وجهة تولي وجهك سوى هذه الوجهة؟

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] المغضوب عليهم هم: الذين علموا وتركوا العمل والضالون هم: الذين عملوا بغير علم، والأولون هم اليهود؛ لأنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، والآخرون هم النصارى؛ لأنهم ابتدعوا رهبانية ما كتبها الله عليهم، فتطلب من الله في هذه السورة الكريمة الهداية إلى الصراط المستقيم، الذي هو صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتسأله أن يجنبك السبل والطرق الأخرى، بأن يجنبك طريق العلم مع ترك العمل، ويجنبك طريق العمل بلا علم، والاستقامة بين هذين الطرفين، فإذا انتهيت من سورة الفاتحة يباشرك في كتاب الله، أول ما يأتيك في المصحف الشريف سورة البقرة: بسم الله الرحمن الرحيم الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، سألت الله الهداية إلى الصراط المستقيم، فهذا الكتاب الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ريب فيه هدىً للمتقين، تسأل الله الهداية؟ فهي في هذا الكتاب، تسأل الله الصراط المستقيم؟ فهذا هو الصراط المستقيم، ومن هم المتقون؟

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5].

أيها الإخوة: نجد أول المصحف الكريم في سورة الفاتحة يتعبدنا الله في كل يوم على عدد ركعات الفريضة سبع عشرة ركعة نقرأ فيها (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، ونجد المقدمة إيماناً بالله وتمجيداً لله، ولهذا جاء في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: مجدني عبدي) إلى قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين، فيقول: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل).

وإذا قرأنا سورة البقرة وجدنا فيها أكثر من أربعين قضية تشريعية اجتماعية وأخلاقية ومعاملات سواءً كانت في القضاء أو في الحقوق أو في الدماء أو في غير ذلك.

الحث على الاستقامة في سورة الأنعام

وفي سورة الأنعام نجد موقفاً آخر مع الاستقامة، قال الله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] لا ما حرمتم على أنفسكم، وما سيبتم من السوائب، وما اعتبرتم من البحيرة والوصيلة، لا كهذه التحريمات التي هي عن هوىً وجهالة، وبين بطلان ذلك بالتذكير بأنه خلق ثمانية أزواج من الضأن والماعز ومن البقر والإبل ولم يحرمها فقال: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143] وبعد ذلك أمره الله أن يقول لهم: تعالوا أبين لكم حقيقة ما حرم ربكم عليكم، فبدأ بقوله: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام:151]، وهذا يوافق الحديث: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، فالتوحيد بداية كل شيء، ثم قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151] إلى آخر الآية، ذكر حق اليتيم وإيفاء الكيل والوفاء بالعهد، ثم قال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، (وأن هذا صراطي مستقيماً) أي: هذا التشريع وهذا البيان وما يتلوه عليهم رسول الله مما حرم الله عليهم، ومما فرض عليهم.

ثم في آخر السورة تجد قوله سبحانه، قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:161-163].

انظر إلى هذه الآية: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) لو أخذنا قوله في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهنا قال: (هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، ما هو؟ قال: (دِينًا قِيَمًا) والدين القيم هو الإسلام، وقال الله: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)، وفي آخر سورة النحل قال الله: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123]، فيبين هذا الصراط بقوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، فإياك نعبد وحدك، وصلاتي ونسكي لك وحدك، بل إن محياي أي: حياتي كلها بكل ما فيها، وما أتصرف فيها من حركاتي وسكناتي وقولي وصمتي وقيامي ونومي وكل تركاتي هي لك يا الله! لأنه لا يتحرك لنفسه، ولا لمنصب، ولا لدنيا يجمعها، إنما يتحرك لأمر الله، إما تنفيذاً لأمر من أوامره، وإما كفاً عن نهيٍ من نواهيه، فيعلن صلى الله عليه وسلم أن حياته كلها ومماته لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، وبالفعل هو أول من آمن بالإسلام والرسالة التي جاء بها من عند الله، وذلك بشهادة الله في قوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285] إذاً: قوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، أولية زمنية؛ لأن صاحب الدعوة إذا لم يكن مؤمناً بها كيف يدعو الناس أن يؤمنوا بها؟ كيف تدعو إلى شيء لم تقتنع به، ولم تؤمن به، وتريد غيرك أن يؤمن به؟! ولهذا فإن الدعوات الزائفة يعلم أصحابها بأنها زائفة، ولا يؤمنون بها، ولا يكون لها استمرار، ولا يدوم لها بقاء؛ لأنها ليس لها جذر تقوم عليه، وليست لها قاعدة تنطلق منها، بل الداعي إليها والآتي بها لا يؤمن بها، فعلى أي شيء يرتكز.

الحث على الاستقامة في سورة الشورى

وفي سورة الشورى نجد قوله سبحانه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [الشورى:13-15]، قال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى) وذكر الأنبياء، فكلهم على الإيمان، قال الله: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) )[البقرة:2-4] وهنا قال أيضاً (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، ثم قال: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [الشورى:15]، إذاً: اتباع الأهواء مغاير للاستقامة؛ لأن الاستقامة اعتدال وسير معتدل، واتباع الهوى سير معوج يميناً ويساراً.

أيها الإخوة الكرام: إن موضوع الاستقامة الذي جاء في هذا الحديث لواسع، فنذكر النتائج المترتبة على هذه الاستقامة:

الرزق العاجل في الدنيا من ثمرات الاستقامة

قال الله: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16]، إذاً: نتيجة الاستقامة الرزق العاجل في الدنيا.

وقال الله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] يقول الشافعي وغيره: إن هذا الحديث: (قل: آمنت بالله، ثم استقم)، منتزع من هذه الآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) ماذا تكون النتيجة؟ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] تتنزل ولم يقل: تنزل، كأن فيه تجدد النزول سواءً كان بالنسبة للأفراد فكل شخص تنزل عليه ملائكة خاصة، أو للشخص فيتكرر عليه نزول الملائكة بالبشرى، تتنزل عليهم الملائكة من أجل ماذا؟ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، أي بشرى أعظم من هذه يا إخوان؟! انظر إلى هذه المقدمة قبل دخولهم الجنة أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:30]، فنفي الخوف والحزن معاً في وقت واحد، ويقولون: الخوف من المستقبل، والحزن على الماضي.

ومتى يكون تنزل الملائكة؟

الجمهور على أنه في لحظة النزع، عند إدباره من الدنيا، وإقباله على الآخرة، وهذا أشد ما يكون خوفاً مما أمامه، وأشد ما يكون حزناً على ما ترك وراءه، فيقال لهم: ألا تخافوا من المستقبل، لماذا؟ لأنكم كنتم على استقامة، ولا تحزنوا على الماضي، وما من إنسان يخرج من الدنيا إلا وهو آسف، إن كان محسناً أسف أن لم يكن قد ازداد، وإن كان مسيئاً يأسف أن لم يكن قد أحسن، فساعة النزع ساعة حزن قطعاً، والملائكة تأتي لترفع عنه هذا العبء والخوف من طريق لم يسلكه من قبل، وما يدري ماذا أمامه، فهو طريق مجهول، لو كنت تمشي في فلاة من الأرض، وما سبق لك أن مشيتها من قبل، وكنت في ظلام دامس، ولا دليل معك، ولا تدري أتطأ شوكاً أو حجراً أو حية أو تقع في حفرة، ولا تدري ماذا يكون أمامك، فكيف يكون سيرك؟ لا شك يكون بخوف، فالميت ترك أطفالاً وصاروا يتامى، وترك أموالاً ولا يدري ما يصير فيها، وترك زوجات، وغير ذلك، فكل ذلك يكون موضع حزن، ولو لم يترك شيئاً بالكلية فإنه ترك الدنيا التي كان يعمل فيها الخير، ولحظة من لحظات الدنيا يذكر الله فيها خير من الدنيا وما فيها، كما جاء أخوين مات أحدهما، وعاش الآخر بعده أياماً، ثم ذكر الأول بخير، ثم ذكر الثاني بخير أكثر منه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألم يكن صلى وصام بعده؟ قالوا: بلى، قال: ذلك زيادة خير).

وهكذا الدنيا هي سوق الإنسان، وعمره هو رأس المال، ففيها يعمل رأس المال في سوقه ليصل إلى الربح، فإن ربح فالحمد لله، وإن خسر -عياذاً بالله- فليس هناك سوق آخر، فتتنزل الملائكة على المؤمنين في تلك اللحظات، ويقولون لهم: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:30]، ومع ذلك يزيدونهم على هذه الطمأنينة بقولهم: وَأَبْشِرُوا [فصلت:30]، والبشرى هي: الخبر السار الذي تتغير له بشرة الوجه بالبشرى والاستبشار والتهلل والسرور، وهذه أعظم بشرى يتلقاها الإنسان، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، الذي أخبركم بها الرسول، وقرأتم عنها في القرآن، ووصفت لكم بأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ثم ربط بين ملائكة الرحمة وبين الإنسان المستقيم، فهم أخوة، فقال الله عن الملائكة: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31]، ولاية الملائكة للإنسان متى كانت؟ لقد كانت ولاية مرافقة، وولاية نصرة، وولاية تأييد، ولقد نزلت الملائكة تقاتل مع المسلمين في الغزوات، فكانوا فعلاً أولياء المؤمنين في الحياة الدنيا، وكذلك امتدت الولاية إلى الآخرة، قال الله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غافر:7] أي: استقاموا على طريقك، وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9]، فهذه هي الولاية الحقيقية، (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)، وقال الله عنهم: والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [الرعد:23-24]، ويقولون: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:31-32]، والنزل هو: الذي يقدم للضيف على عجل حتى تؤدى له الوليمة الكبرى، فالملائكة تقدم أول مجيئهم الهدايا والتحية، في أول نزولهم إلى الجنة.

ثم ذكر الله الدرجة العليا للدعاة إلى الله، وهم كل من استقام على دين الله، ولم تشغله نفسه عن إخوانه، بل تفرغ لهذا الصراط، يدعو من حاد عنه يميناً أو يساراً، فقال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، لا أحد أحسن قولاً منه، ثم بين سبحانه عظيم مهمة هذا الداعي، وعظيم قدر تلك الاستقامة، فقال: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ [فصلت:34]، الداعي يتعرض إلى إساءة الناس، فأمره الله أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن فقال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34]، أي: ادفع إساءة المسيئين بالحسنة، وهل يستطيع كل إنسان ذلك؟ لا، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، تنتقل العداوة إلى صداقة وولاية؛ لأنك استقمت على سبيل الدعاة إلى الله، قال الله: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]، فمن كان كذلك داعياً إلى الله، فلا أحد أحسن قولاً منه، ولكن وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم.

أيها الإخوة: قال صلى الله عليه وسلم: (سددوا، وقاربوا، ولن تحصوا) أي: ولن تستطيعوا أن تأتوا بكل ما أمرتكم به، ولكن سددوا، والتسديد هو: التصويب، حينما تجعل هدفاً أمامك وترميه بالسهم فتصيبه، فالتسديد هو: أن تصوب السهم إلى غرضه، فسدد في العمل، واقصد الغاية المرجوة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ولن تطيقوا) أي: لن تطيقوا كل الاستقامة، ولكن سددوا وقاربوا.

قال بعض السلف: المستقيم على الصراط المستقيم كالجبل لا تحرقه النار، ولا يتأثر بالبرد، ولا تزعزعه الأهواء، بل هو ثابت مستقر في مكانه، وهكذا المسلم المستقيم؛ لا تغره الدنيا بزخرفها، ولا يلين مع الهوى ولا إلى المال، ولو راودته نفسه فهو مستقيم لا يتزعزع، مستقر على الطريق السوي من دنياه إلى آخرته.

والله أسأل أن يوفقني وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا الاستقامة على دينه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم! اهدنا صراطك المستقيم، اللهم! أعنا على سلوكه، اللهم! اجعل لنا الرفيق الأمين الذي نقتدي به، اللهم! اجعلنا من أتباع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ووفقنا لنتبع ما جاء به من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللهم! أوردنا حوضه، واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! إنا نسألك -يا الله- أن تأخذ بنواصي المسلمين إلى الخير، حكومات وشعوباً، حاكمين ومحكومين، واهدهم إلى العودة إلى كتاب الله والاستقامة على دين الله، ونسألك أن توفقنا جميعاً إلى ما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير، والقادر على ذلك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! واجزه عنا أحسن ما جازيت نبياً عن أمته.