شرح زاد المستقنع باب آداب القاضي


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ باب آداب القاضي].

الآداب جمع أدب، والأدب من مكارم الأخلاق ومن محاسن العادات.

وهذا الباب -باب آداب القاضي- باب عظيم اعتنى به العلماء رحمهم الله، وهي جملة من الأمور التي ينبغي للقاضي أن يراعيها في أقواله وأفعاله وأحواله في مجلس القضاء، والسبب في ذلك أن القضاء لابد له من هيبة، ولابد له من صيانة وتحفظ يستعان بهما بعد الله عز وجل في إيصال الحقوق إلى أهلها، فالتبذل وعدم العناية بحق القضاء شره وبلاؤه عظيم، ومن هنا اعتنى العلماء بهذا الباب.

وآداب القاضي.. منها: آداب ظاهرة وآداب باطنة، والآداب الظاهرة: قولية، وفعلية، وكلها ينبغي أن يستجمعها القاضي في قضائه.

أن يكون قوياً من غير عنف

قال رحمه الله: [ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف].

فلا تأخذه في الله لومة لائم؛ لأنه إذا كان ضعيفاً لا يستطيع أن يأمر بما أمر الله به، ولا أن ينهى عما نهى الله عنه، فلابد وأن يكون قوياً من غير عنف، فالقوة إذا جاوز وأفرط فيها فإنها تصبح عنفاً، فينبغي أن تكون القوة بحدود، وهي القوة لإحقاق الحق وإبطال الباطل من غير عنف.

وإذا كان قوياً من غير عنف فإنه حينئذٍ يهابه الباغي والظالم، ويطمع في عدله المظلوم؛ لأن المظلوم لما يرى القاضي ضعيفاً يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فيفضل السكوت؛ لأنه كيف يشتكي إلى إنسان ضعيف؟

حينما فلابد أن يكون القاضي قوياً حتى يطمع الناس في الوصول إلى حقوقهم عن طريقه، وإذا كان القاضي بهذه الصفة رغب الناس في حكم الله عز وجل والعدل الذي يبينه، فإذا أفرط في القوة نفر الناس وظلم الناس وأجحف بالناس، وقد كان صلى الله عليه وسلم قوياً من دون عنف، وهو أن يضع الشدة في موضعها.

أن يكون ليناً من غير ضعف

قال رحمه الله: [ليناً من غير ضعف].

ليناً رفيقاً حتى لا ينفر منه الضعيف، ولا يهابه هيبة ترده عن الشكوى إليه؛ لأن القاضي إذا كان غير لين خافه الناس وهابوه، لكنه إذا كان ليناً ألفه الضعيف واستطاع أن يبث إليه حزنه وأن يشتكي إليه وأن يبين مظلمته، فيمكن الخصوم من بيان مظالمهم وحوائجهم، لكن يشترط أن تكون هذه اللينة من دون ضعف وخور؛ لأن الضعف والخور يطمع الباغي في بغيه، ومن هنا قالوا: إنه ينبغي عليه أن يكون جامعاً لهاتين الصفتين الجامعتين بين الحسنيين.. أن يكون قوياً من دون عنف، ليناً من دون ضعف.

أن يكون حليماً ذا فطنة وأناة

قال رحمه الله: [حليماً ذا أناة وفطنة].

لأن القاضي سيأتي إليه السفيه بسفهه، والجاهل بجهله، والناس تأتي وقد أُخذت حقوقها، وضاعت، فيصرخ الرجل وتتألم المرأة ويتضجر المظلوم، فيحتاج إلى صبر وإلى تحمل وإلى أناة، وإلى عدم استعجال وعدم تضجر من هذه الأشياء، ولذلك الأجر في هذا عظيم، فمن ابتلي بمصالح المسلمين كل الناس تأتيه على اختلاف أحوالها حتى العالم.. الطبيب.. الخطيب..، فلابد أن يكون لديه من الحلم ما يسع الناس برحمته ولطفه، حتى يستطيع كل شخص أن يبدي ما عنده ما دام أنه يقدر على ذلك، أما إذا كان لا يقدر على ذلك أو كان مريضاً أو عنده .. فهذا أمر آخر، لكن في الأصل العام أنه يبذل ما يستطيع، حتى يستطيع أن يعلم ماذا عند الناس، ويوصلهم إلى حكم الله عز وجل ودينه وشرعه بالتي هي أحسن.

والحلم خصلة يحبها الله، قال صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد القيس : (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، والحلم سعة الصدر، ويلزم أن يكون القاضي حليماً؛ قد يأتي الخصم -في بعض الأحيان- بحالة متفجع، فتصدر منه عبارات، فلابد أن يكون لديه من الحلم ما يطفئ هذا الغضب، ولا ينفر منه الناس في تعاملهم معه.

[ذا أناة].

أي: صاحب أناة لا يستعجل في الأمور، فإذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم عليه حتى ترى خصمه، فلعله فقئت عيناه، وقد يأتيك الشخص وهو يبكي ويشتكي وإذا بك تشعر أنه المظلوم، ثم يتبين أنه مزور أو كذاب أو غشاش، أو يكون رجلاً صالحاً وعظم الأمر عندك ولكنه فهم خطأ، فلا يمكن أن تستبين هذه الأمور إلا بالأناة والتروي وعدم الاستعجال، ولذلك من رُزق الأناة فقد رزق الخير الكثير.

[وفطنة].

الفطنة هي: الكياسة والحذر والتنبه، ومن الناس من رزق الفطنة حتى إذا ولي القضاء يبلغ به الحال أنه يجلس إليه الخصمان فيعرف المحق منهما من المبطل، وهذا أثر عن بعض السلف وبعض العلماء الأجلاء الذين كانوا على درجة من الفطنة والفهم، حتى بلغ بأحدهم أنه لا يتكلم عنده الخصمان إلا شعر أيهما الظالم من المظلوم من كثرة التعامل مع الناس وتفطنه لأقوالهم وطرقهم وألاعيبهم وكذبهم وغشهم، فأصبح -غالباً- من قوة فراسته يستطيع أن يدرك كثيراً من الخلل، وليس معنى ذلك أنه يعلم الغيب، وإنما هي فراسة المؤمن.

لكن ينبغي -كما يقول العلماء- في هذه الفراسة والفطنة أن لا يجاوز فيها ولا يسرف، وذلك أنه قد تكون عند إنسان فراسة -وقد تصيب- لكن لا يسرف فيها؛ فإن الشيطان -من خبثه- ربما يستدرج الإنسان إذا أصاب في التفرس مرة أو مرتين حتى يوقعه في سوء الظن بالمسلمين، وربما سدده بالفراسة المرة والمرتين حتى لربما خونه في أهله وعرضه وزوجه، فيحذر الإنسان من استدراج الشيطان له، فالفراسة لها حدود، والفطنة لها حدود، ولذلك قالوا: يكره شديد الذكاء في القضاء؛ لأنه إذا اشتد ذكاؤه ربما حمل الأمور ما لا تتحمل، وحملها على غير ما لا ينبغي أن تحمل عليه.

أن يكون مجلسه قريباً فسيحاً

قال رحمه الله: [وليكن مجلسه في وسط البلد فسيحاً].

للقاضي أن يجلس في أي مكان، لكن ينبغي أن يراعي فيه الرفق بالناس، لئلا يكون فيه تعنيت للخصوم والشهود بالذهاب إليه في أماكن بعيدة، ولذلك اختاروا وسط المدينة ما أمكن، واختلفوا هل يقضي في المسجد أو لا؟ الجمهور على جواز ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه، ولأن الخلفاء الراشدين من بعده كذلك، واستحب بعض العلماء من الجمهور القضاء في المسجد، ولكن الصحيح أنه يجوز أن يجلس حيث أمكنه، ومن هنا قال بعض العلماء:

وحيث لاق للقضاء يقعد وفي البلاد يستحب المسجد

وحيث لاق للقضاء يقعد.. يعني: حيث كان المكان لائقاً يجلس، حتى لو في السوق، بلغ ببعض أئمة السلف رحمهم الله أنه إذا جاءه خضمان يقول: لا يحل لي أن تجاوز قدمي قدميهما حتى أفصل بينهما. أي: لا يجوز أن أفارقهما ولا أن أؤخرهما فلربما جاءوه وهو في السوق، فينتحي ناحية من السوق ويسمع من الخصمين ويقضي بينهما، وهذا مما وضع له من البركة.

وفي البلاد يستحب المسجد.. فيجوز أن يكون القضاء في المسجد.

وقوله: [فسيحاً]

أي: أن يكون المكان فسيحاً لكن في المسجد اشترط بعض العلماء: أن لا يؤذي الناس والمصلين، فإذا كان ذلك يشوش عليهم، وحصلت المفاسد فالمصلحة أن يصرفه عنهم.

العدل بين الخصوم في التعامل معهم أثناء القضاء

قال رحمه الله: [ويعدل بين الخصمين في لحظه]

وهذا من أدب المجلس؛ لأن عمر بن الخطاب لما كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب القضاء -الذي شرحه الإمام ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين، وهو يسمى كتاب السياسة الكبيرة وهو من أعظم الكتب التي اعتنى العلماء بها- قال له: (آسِ بين الخصمين في عدلك ولحظك ومجلسك) في لحظك: أي: ينبغي أن يعدل بين الخصمين في اللحظ، فلا ينظر إلى أحدهما أكثر من الآخر، ولا ينظر إلى أحدهما بشدة دون الآخر، ولا يطيل النظر على وجه الريبة؛ لأن هذا يحدث في النفوس شيئاً، فإذا نظر إلى أحدهما فلينقل النظر إلى الآخر، وإذا أجلسهما فيجلسهما في مكان واحد، فلو جلس أحدهما على شيء دون الآخر سوى بينهما في المجلس، ولا يجلس أحدهما بجواره والآخر أمامه، بل يجلسان أمامه، كل هذا من باب الحيادية في القضاء، وقد بلغ القضاء الإسلامي الأوج والعظمة وحاز أعلى المراتب وأسماها؛ لأنه من حكيم حميد، وكل هذا من أجل أن يكون العدل، حتى في الصورة والشكل.

وقوله: [ولفظه].

ولفظه: يعني في كلامه، فلا يتكلم مع أحدهما أكثر من الآخر، إلا إذا وجدت حاجة أو وجد أمر، ولا يلحظ أحدهما لحظاً شديداً إلا إذا وجدت حاجة، كل هذا من باب أن يكون على حيادية، فلا يخون في مجلسه ولا في نظره ولا في قوله.

[ومجلسه]

كذلك مكان جلوسه، فلا يجعل أحدهما في مكان أبرد من مكان الآخر، ولا مكان أشرف من مكان الآخر، ولا يكون أحدهما في مكان فيه تكرمة والآخر في مكان لا تكرمة فيه، بل ينبغي أن يجلس الخصمان مجلساً متساوياً، ويكون دخولهما من باب واحد، وأن يكون حال القاضي بينهما حالاً واحداً، فلا يقوم لأحدهما ولا يقوم للآخر، ولا يحتفي بأحدهما دون الآخر، بل مثلما يفعل مع هذا يفعل مع هذا.

وقد أثر عن بعض أهل العلم أنه كان في القضاء، فدخل عليه رجل واختصم مع آخر -وهذه مأثورة عن الإمام الشيخ: عبد الله بن حميد نسأل الله أن يقدس روحه وعلماء المسلمين أجمعين- في جنات النعيم، فلما جاء دخلا عليه قالا: يا شيخ! أتينا في خصومة، قال: أتيتما في خصومة؟ قالا: نعم -وكان أحدهما دخل من باب خاص- فقال: يا فلان! من أين دخلت؟ قال: دخلت من باب كذا، قال: اذهب وادخل مع خصمك، ثم إذا دخلتما من باب واحدٍ قضيت بينكما.

وهكذا العدل، فلابد أن يكون بهذا التجرد وبهذا الصفاء والنقاء؛ لتحصل الطمأنينة لدى الناس للوصول إلى الحق.

اتخاذ المستشارين من العلماء

قال رحمه الله: [وينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب]

فمثلاً: لو رفعت إليه حادثة عن شخص فعل فعلاً، قد يكون معتقداً لحرمة هذا الفعل، لكن غيره يعتقد جوازه، ويخفى عليه مذهب غيره، فيأتي ويعزر المسكين، ولربما قال له أحد الخصوم: هذا جائز عندنا، وهو يكذب أو يقول: عملت على مذهب كذا، وأنا أعتقد مذهب الحنفية أو المالكية أو الحنابلة، وعندنا هذا جائز، فكيف يعرف صدقه من كذبه؟ لابد من مشاورة العلماء، وهذا جرت عليه السنة، وهو أن مجلس القاضي يحضره العلماء، وبعد أن يسمع تفاصيل القضية يشاورهم فيما نزل به، هذه هي السنة التي أمر الله بها عز وجل نبيه: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، فالشورى كلها خير، وإذا عجز عن ذلك فإنه يتصل بهم ويذاكرهم ويناظرهم حتى يجد الحق ويصل إليه.

[ويشاورهم فيما أشكل عليه]

هذا هو الأصل، والله المستعان.

يحرم القضاء إذا كان القاضي مشوش الذهن

قال رحمه الله: [ويحرم القضاء وهو غضبان كثيراً].

ويحرم القضاء وهو غضبان- وهو غضبان: جملة حالية- لأن الغضب يمنع الإنسان من التأمل والتدبر، ولربما اشتد في قوله وتعامله؛ ولذلك لا يجوز أن يقضي وهو على هذه الصفة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

قوله: [أو حاقن أو في شدة جوع أو عطش].

أشير إلى الحاقن بوله أن احتقانه يشوش عليه فكره، أو شدة عطش كذلك يشوش عليه فكره، والنص جاء في الغضبان، وألحق به ما في معناه.

[أو همّ أو ملل أو كسل أو نعاس أو برد مؤلم أو حر مزعج].

كل هذه الأمور تؤثر عليه في فكره وتأثر عليه في تركيزه، فلابد أن يكون على حالة بخلاف هذه الحالات، لكي تعينه على أن يكون أصفى ذهناً وأقدر على معرفة الحق.

[ وإن خالف فأصاب الحق نفذ ].

وإن خالف فقضى وهو غضبان أو قضى وهو مهموم أو قضى وهو عطشان أو قضى وهو جائع شديد الجوع، نفذ قضاؤه إن أصاب حقاً، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والعلة هنا أنه يخشى مع هذه الحالات أن يتشوش فكره فلا يمعن النظر، لكن فإذا لم يشوش فإنه يصح قضاؤه.

تحريم الرشوة والهدايا للقضاة

قال رحمه الله: [ويحرم قبوله رشوةً، وكذا هدية]

ويحرم عليه أن يقبل الرشوة، وفيها اللعن -والعياذ بالله- الراشي والمرتشي، والرائش -وهو الذي يمشي بينهما- والعياذ بالله، فلا يجوز للقاضي أن يقبل الرشوة، وهي السحت الذي حرم الله ورسوله، قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188]، هذه الرشوة ثم انظر وتأمل قوله تعالى: (تُدْلُوا بِهَا) ذكر بعض المفسرين أن القاضي إذا قبل الرشوة نزل من المنزلة العالية السامية إلى الحضيض، ولذلك قال سبحانه: (تُدْلُوا) كالدلو ينزل إلى القاع، فإنزال الرشوة وإدلاؤها إلى القاع، (القاضي) الذي صار في الحضيض بعد أن كان في مقام يشرفه الله عز وجل به ويكرمه ويعزه فيأبى إلا أن يهين نفسه ويذلها.

(وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)، وهذا من أسرار اللغة الجميلة، ولذلك لا يمكن أن يترجم القرآن إلى أية لغة؛ لأنه لا تستطيع أن تجد فيها هذه المعاني الجميلة المتجددة.

[ إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته إذا لم تكن له حكومة ].

إلا أن يكون هذا الشخص يهاديه من قبل، كصديقة أو رفيقه أو ابن عمه أو قريبه، وكان بينهما مودة، فإذا هاداه بعد الولاية كان كحاله قبل الولاية؛ لكن إذا كان له عند القاضي قضية فلا يجوز للقاضي أن يقبل منه.

استحباب ألا يكون الحكم إلا بحضرة الشهود

قال رحمه الله: [ ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود ].

يستحب للقاضي أن لا يحكم في قضية شهد فيها الشهود إلا إذا كانوا حاضرين؛ ولهذا فوائد عظيمة، منها: أنهم إذا شهدوا على شخص بضرر، وحكم عليه فإن هذا يردع شهود الزور من شهادتهم ويوقع في قلوبهم الهيبة مما أقدموا عليه، وكذلك أيضاً الشهود يصححون خطأ القاضي، فلربما نسي شيئاً مما ذكروه، وربما قضى ببعض الكلام دون البعض، فالشاهد عندما يكون حاضراً يكون هذا موافقاً لحكمه.

لا يقبل حكم القاضي لنفسه ولا لقرابته

قال رحمه الله: [ولا ينفذ حكمه لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له].

(لا ينفذ حكمه لنفسه)، فالقاضي لا يقضي لنفسه، وإنما يختصم إلى قاض غيره إذا حصلت خصومة بينه وبين شخص آخر، فيرفعه إلى قاضٍ غيره يحكم له أو يحكم لخصمه، وكذلك بالنسبة لمن هو معه كالشيء الواحد كابنه، فلا يقضي لابنه وإن نزل، ولا لابنته وإن نزلت، ولا لأبيه وإن علا؛ لأنه لو فعل ذلك فكأنه قاضٍ لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني)، فلا يشهد لهم ولا يقضي لهم، ولا يصح قضاؤه لهم، فإن فعل فكأنه قضى لنفسه.

وفي حكم ذلك أيضاً الاستخوان، وما هو مظنة الخيانة والريبة، مثلما يقضي في قضية بين رجل وآخر شريك للقاضي في شركة، وله فيها مصلحة، وجاء صاحب الشركة أو مدير الشركة وخاصم شخصاً عند هذا القاضي، ففي هذا ملابسة، فكأنه قضى لنفسه، لأن له جزءاً من المصلحة؛ لأن هذه الشركة له فيها سهم، سواءً تمحضت من ماله أو كان له فيها شركة ونحو ذلك.

قال رحمه الله: [ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف].

فلا تأخذه في الله لومة لائم؛ لأنه إذا كان ضعيفاً لا يستطيع أن يأمر بما أمر الله به، ولا أن ينهى عما نهى الله عنه، فلابد وأن يكون قوياً من غير عنف، فالقوة إذا جاوز وأفرط فيها فإنها تصبح عنفاً، فينبغي أن تكون القوة بحدود، وهي القوة لإحقاق الحق وإبطال الباطل من غير عنف.

وإذا كان قوياً من غير عنف فإنه حينئذٍ يهابه الباغي والظالم، ويطمع في عدله المظلوم؛ لأن المظلوم لما يرى القاضي ضعيفاً يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فيفضل السكوت؛ لأنه كيف يشتكي إلى إنسان ضعيف؟

حينما فلابد أن يكون القاضي قوياً حتى يطمع الناس في الوصول إلى حقوقهم عن طريقه، وإذا كان القاضي بهذه الصفة رغب الناس في حكم الله عز وجل والعدل الذي يبينه، فإذا أفرط في القوة نفر الناس وظلم الناس وأجحف بالناس، وقد كان صلى الله عليه وسلم قوياً من دون عنف، وهو أن يضع الشدة في موضعها.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3186 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع