شرح زاد المستقنع باب جامع الأيمان


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

الرجوع إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ

فيقول المصنف رحمه الله: [باب جامع الأيمان: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ].

أي: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف وقصده؛ لأن الله تعالى يقول: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225] وقال سبحانهه في الآية الأخرى: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [المائدة:89] فإذا كانت اليمين في الأصل لا تنعقد إلا إذا قصد الشخص عقدها، فإذا لم يقصد عقدها بأن جرت على لسانه كانت لغواً ساقطة، دل هذا على قوة تأثير النية، فإذا كانت اليمين لا تنعقد إلا عند القصد والتوجه والنية، فمن باب أولى أن لا تنعقد في الألفاظ والكلمات ما دام أن اللفظ محتمل ويرجع إلى نيته.

والأصل في ذلك حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) والأعمال شاملة للأقوال والأفعال، واليمين قول، فتدخل تحت هذا العموم، فدل على أنه لابد من الرجوع إلى نية الحالف.

وصورة المسألة: لو قال: والله لا أركب السيارة. فالسيارة لفظ عام يشمل السيارة الصغيرة والكبيرة والباص وغيره، فلو قال: قصدت السيارة -أل للعهد- الفلانية أو سيارة فلان. فحينئذٍ ينتقل من العموم إلى الخصوص.

والعكس، لو أن شخصاً جاراه في السيارة فقال: والله لا أشتري السيارة. فظاهر الحال أنه لا يشتري السيارة هذه، لكن قال: نيتي جميع السيارات، يعني: جنس السيارة لا أشتريها، فحينئذٍ النية تتحكم في اللفظ، بشرط أن يكون ذلك اللفظ محتملاً؛ لأن (أل) في السيارة تحتمل الجنس وهذا للعموم، وتحتمل العهد وهذا للخصوص، قال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:15-16] قيل: إن أل في الرسول للاستغراق؛ لأن من عصى رسولاً واحداً فكأنما عصى الرسل كلهم، والأشبه أن هذا عهد ذهني.

فهناك شرط في اعتبار النية مؤثرة في اللفظ: وهو أن يكون اللفظ محتملاً، بمعنى: أن وضعه اللغوي يحتمل معنيين فأكثر، فالنية تحدد المراد، أما إذا كان اللفظ لا يحتمل ولا علاقة له بما نوى في وضع اللغة وأصلها، وليس هناك عرف جارٍ به، فنيته لغو، كأن يقول: والله لا آكل البرتقال. ولكن قصد بالبرتقال التفاح، ومعلوم أنه لا يطلق البرتقال على التفاح فحينئذٍ تسقط نيته ويعتد ويعتبر بظاهره، فما دام أنه تلفظ بهذا اللفظ يؤاخذ به، ويحكم بوجوب الكفارة عليه إن أكل ذلك المسمى.

وهذا مقرر على مسألة مشهورة عند علماء الأصول، وهي: مسألة وضع اللغة، والصحيح أن الله عز وجل هو واضع اللغات، ومن هنا لو تحكم الشخص في اللغة وقال: والله لا أصعد الجبل، وقيل له: ماذا تريد بالجبل؟ قال: السيارة. لا يوجد أحد يطلق الجبل على السيارة لا لغة ولا عرفاً، ولا توجد مناسبة بين السيارة والجبل، فهو يضع دلالة من عنده لهذا اللفظ، مع أن الجبل من حيث هو موضوع على دلالة معينة، فهو فحينئذٍ يسقط اعتبار النية بشرط احتمال اللفظ، وهذا أصل صحيح مقرر عند العلماء.

الرجوع إلى سبب اليمين عند انعدام النية

قال رحمه الله: [ فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها ]

فأول شيء النية ثم هناك السبب، وسبب اليمين يسمونه: السبب المهيج. وبعض فقهاء الحنابلة يطلق ويقول: سبب اليمين، وعند المالكية وبعض الفقهاء يسمونه: بساط اليمين. وبعضهم يعبر عنه: بموجب اليمين، والمراد من ذلك الباعث على اليمين.

ونحن نمثل بأشياء موجودة الآن؛ لأن القديم موجود في كتب العلماء فإذا رجع إليه طالب العالم فإنه يفهم.

مثال: لو أن شخصاً اختصم مع شخص وجرى بينهم لجاج، فقال: تركب معي سيارتي. فقال له: والله لا أركب سيارتك. فقوله: (لا أركب سيارتك) في الأصل يقتضي أن كل سيارة يملكها الشخص أنه لا يركبها، ولكن بساط اليمين، وموجب اليمين، والباعث على اليمين، والسبب المهيج لليمين، هو الخصومة عن سيارة معينة.

فحينئذٍ نقول: هذا العموم ينصرف إلى خاص، فلا يحنث إذا ركب سيارة أخرى يملكها ذلك الشخص، إلا إذا نوى، فإن النية مؤثرة، لكن كلامنا هنا عن الشخص الذي قال: والله لا أركب سيارتك. قلنا له: هل نويت العموم؟ قال: لا ما نويت العموم، بل خرج مني هذا اللفظ بناءً على قوله لي: اركب معي سيارتي، فقلت: لا أريد أن أركب. فقال لي: لابد أن تركب. فأحرجني فأردت أن أقطع قوله: فقلت: والله لا أركب سيارتك. نقول له: إن ركبت أي سيارة غير هذه السيارة فإنك حينئذٍ لا تحنث؛ لأن السبب المهيج يقتضي التخصيص.

الرجوع إلى التعيين في اليمين عند انعدام النية والسبب

قال رحمه الله: [فإن عدم ذلك رجع إلى التعيين]

إذا: هناك ثلاثة أشياء:

- النية.

- السبب.

- التعيين.

والتعيين: أن يعيّن الشيء، وهو ضد الإبهام، فإذا قال: والله لا آكل هذا اللحم. والله لا ألبس هذا الثوب. والله لا أكلم هذا الرجل.. لا أُكلم هذا الصبي.. لا أُكلم هذه الجارية. فهذا تعيين، والمعين لا ينصرف إلى غيره؛ لأن مرادهم بعينه وذاته، وعين الشيء ذاته.

قوله: [فإذا حلف: لا لبست هذا القميص فجعله سراويل أو رداءً أو عمامة ولبسه]

أي: لو حلف على ذلك الشيء بعينه كأن يقول: لا لبست هذا القميص، ومادة القميص من القماش، إذاً انصب عليها اليمين، فلو أن هذا القميص غُيِّر وفُصِّل سروالاً حنث بلبسه؛ لأنه قال: هذا، فاختص بالتعيين وتقيد به؛ لأن اليمين بالتعيين، فمهما تغير في شكله فذاته موجودة، وانصب المنع على الذات، وحينئذٍ لو تغيرت إلى أي حال فإنه يبقى الحكم معلقاً بها، فيحنث إذا لبسه على أي صورة.

وكذلك لو جعل هذا القميص رداءً أو عمامة، فإنه يحنث بلبسه، والعكس إذا جعل السروال قميصاً، فالمادة موجودة والحكم واحد في هذا.

قوله: [أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخاً]

أو صار رجلاً لأن الحكم متعلق بعين الصبي ولا يختلف.

قوله: [أو زوجة فلان هذه، أو صديقه فلاناً، أو مملوكه سعيداً، فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم]

لو قال: والله لا أكلم زوجتك. فليس كقوله: والله لا أكلم هذه الزوجة. فلو قال: لا أكلم زوجتك. فقوله: زوجتك لفظ عام، فإذا لم تكن هناك نية وأخذناه على ظاهر اللفظ، فكل زوجة يتزوجها هذا الرجل بمجرد أن يعقد عليها وتدخل في عصمته، فإنه يحنث بكلامه معها بأقل ما يصدق أنه كلام.

فكل امرأة عقد عليها ذلك الشخص فإنه يحنث بكلامه لها، وبمجرد أن تخرج من عصمته وتنتقل عنها، فحينئذٍ إذا كلمها لا يحنث؛ لأن الوصف متعلق بكلام زوجة هذا الرجل، وحينئذٍ متى ما كانت زوجة لهذا الرجل حنث بكلامها، وإذا زالت هذه الصفة من الزوجة لم يحنث، أما إذا قال: لا أكلم زوجتك هذه. صار الأمر متعلقاً بالزوجة بعينها، فلو طلقها أو بانت منه، فإنه في هذه الحالة لو كلمها فإن اليمين ما زالت منعقدة فيحنث بكلامها، حتى لو تزوجت غيره فإنه لا زال اليمين متعلقاً بالعين فيحنث بكلامها.

قوله: (أو مملوكه سعيداً).

لو قال: لا أكلم مملوكاً لك. فهذا عام، أي: كل عبد يملكه هذا الشخص، فبمجرد ما يشتريه يحنث بكلامه بأقل ما يصدق عليه أنه كلام، لكن لو قال: لا أكلم مملوكك سعيداً وعيّن، أو مملوكك هذا وعين وخصص، فحينئذٍ كما ذكرنا، لو أنه أعتقه ما زال الحكم متعلقاً بعين المملوك، فيحنث بكلامه.

قوله: (فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم)

الأصل أنه يحنث حتى بعد زوال هذه الأشياء كما ذكرنا وفصلنا.

قوله: [أو لا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشاً].

لأن اليمين متعلقة بلحم الحمل، فحتى إن أكله بعد أن صار كبشاً، فإنه يحنث؛ لأنه قد انصبت اليمين على لحمه.

قوله: [أو هذا الرطب فصار تمراً أو دبساً أو خلاً].

لو جيء لشخص برطب فقال: والله لا آكل رطباً. فرُفِعَ هذا الرطب ثم صار تمراً بالحرارة وبالتأخر وجيء به إليه، فقيل له: كل. فأكل، فإنه لا يحنث؛ لأن الأمر متعلق بالوصف الذي هو رطب، ولو قال: والله لا آكل الرطب وقيل له: على هذه النخلة رطب اصعد وكله. قال: أنا حلفت أن لا آكل الرطب، ثم صبر حتى صار تمراً فصعد وأكل، فإنه يحنث لو صعد وهو رطب وأكل منه، ولا يحنث في الثانية؛ لأنه أكل تمراً؛ ولأنه حلف على الرطب، لكن لو قال: والله لا آكل هذا الرطب، فإنه في هذه الحالة يحنث إن أكله رطباً أو تمراً.

[أو هذا اللبن فصار جبناً أو كشكاً أو نحوه ثم أكله حنث في الكل]

وهكذا بالنسبة للبن، يعني يستوي أن ينتقل عن حاله بفعل المكلف أو ينتقل بطبعه، كما ذكرنا في الرطب والتمر، حنث في الكل [إلا أن ينوي ما دام على تلك الصفة] إذاً النية من أقوى ما تكون، ونحن لا نتكلم هنا على قوة السبب.

وعلى هذا يحنث في الكل كما ذكرنا؛ لأنه قصد عين المحلوف عليه.

وإذا كانت له نية فقال: والله لا أكلم زوجتك فلانة، وهذا لأنه رأى أن الرجل متضايق منه بسبب خصومة أو شيء، فقصد في نيته أن هذه المرأة سيئة تسبب مشاكل، فقال: والله لا أكلم هذه الزوجة، وهو يقصد مدة كونها زوجة له، فحينئذٍ هناك تعيين في السبب، ولكن النية أخص من السبب؛ لأنه لم يقصد عين المرأة، وحينئذٍ إذا زالت الزوجية يجوز له أن يكلمها ولا يحنث.

فيقول المصنف رحمه الله: [باب جامع الأيمان: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ].

أي: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف وقصده؛ لأن الله تعالى يقول: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225] وقال سبحانهه في الآية الأخرى: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [المائدة:89] فإذا كانت اليمين في الأصل لا تنعقد إلا إذا قصد الشخص عقدها، فإذا لم يقصد عقدها بأن جرت على لسانه كانت لغواً ساقطة، دل هذا على قوة تأثير النية، فإذا كانت اليمين لا تنعقد إلا عند القصد والتوجه والنية، فمن باب أولى أن لا تنعقد في الألفاظ والكلمات ما دام أن اللفظ محتمل ويرجع إلى نيته.

والأصل في ذلك حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) والأعمال شاملة للأقوال والأفعال، واليمين قول، فتدخل تحت هذا العموم، فدل على أنه لابد من الرجوع إلى نية الحالف.

وصورة المسألة: لو قال: والله لا أركب السيارة. فالسيارة لفظ عام يشمل السيارة الصغيرة والكبيرة والباص وغيره، فلو قال: قصدت السيارة -أل للعهد- الفلانية أو سيارة فلان. فحينئذٍ ينتقل من العموم إلى الخصوص.

والعكس، لو أن شخصاً جاراه في السيارة فقال: والله لا أشتري السيارة. فظاهر الحال أنه لا يشتري السيارة هذه، لكن قال: نيتي جميع السيارات، يعني: جنس السيارة لا أشتريها، فحينئذٍ النية تتحكم في اللفظ، بشرط أن يكون ذلك اللفظ محتملاً؛ لأن (أل) في السيارة تحتمل الجنس وهذا للعموم، وتحتمل العهد وهذا للخصوص، قال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:15-16] قيل: إن أل في الرسول للاستغراق؛ لأن من عصى رسولاً واحداً فكأنما عصى الرسل كلهم، والأشبه أن هذا عهد ذهني.

فهناك شرط في اعتبار النية مؤثرة في اللفظ: وهو أن يكون اللفظ محتملاً، بمعنى: أن وضعه اللغوي يحتمل معنيين فأكثر، فالنية تحدد المراد، أما إذا كان اللفظ لا يحتمل ولا علاقة له بما نوى في وضع اللغة وأصلها، وليس هناك عرف جارٍ به، فنيته لغو، كأن يقول: والله لا آكل البرتقال. ولكن قصد بالبرتقال التفاح، ومعلوم أنه لا يطلق البرتقال على التفاح فحينئذٍ تسقط نيته ويعتد ويعتبر بظاهره، فما دام أنه تلفظ بهذا اللفظ يؤاخذ به، ويحكم بوجوب الكفارة عليه إن أكل ذلك المسمى.

وهذا مقرر على مسألة مشهورة عند علماء الأصول، وهي: مسألة وضع اللغة، والصحيح أن الله عز وجل هو واضع اللغات، ومن هنا لو تحكم الشخص في اللغة وقال: والله لا أصعد الجبل، وقيل له: ماذا تريد بالجبل؟ قال: السيارة. لا يوجد أحد يطلق الجبل على السيارة لا لغة ولا عرفاً، ولا توجد مناسبة بين السيارة والجبل، فهو يضع دلالة من عنده لهذا اللفظ، مع أن الجبل من حيث هو موضوع على دلالة معينة، فهو فحينئذٍ يسقط اعتبار النية بشرط احتمال اللفظ، وهذا أصل صحيح مقرر عند العلماء.

قال رحمه الله: [ فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها ]

فأول شيء النية ثم هناك السبب، وسبب اليمين يسمونه: السبب المهيج. وبعض فقهاء الحنابلة يطلق ويقول: سبب اليمين، وعند المالكية وبعض الفقهاء يسمونه: بساط اليمين. وبعضهم يعبر عنه: بموجب اليمين، والمراد من ذلك الباعث على اليمين.

ونحن نمثل بأشياء موجودة الآن؛ لأن القديم موجود في كتب العلماء فإذا رجع إليه طالب العالم فإنه يفهم.

مثال: لو أن شخصاً اختصم مع شخص وجرى بينهم لجاج، فقال: تركب معي سيارتي. فقال له: والله لا أركب سيارتك. فقوله: (لا أركب سيارتك) في الأصل يقتضي أن كل سيارة يملكها الشخص أنه لا يركبها، ولكن بساط اليمين، وموجب اليمين، والباعث على اليمين، والسبب المهيج لليمين، هو الخصومة عن سيارة معينة.

فحينئذٍ نقول: هذا العموم ينصرف إلى خاص، فلا يحنث إذا ركب سيارة أخرى يملكها ذلك الشخص، إلا إذا نوى، فإن النية مؤثرة، لكن كلامنا هنا عن الشخص الذي قال: والله لا أركب سيارتك. قلنا له: هل نويت العموم؟ قال: لا ما نويت العموم، بل خرج مني هذا اللفظ بناءً على قوله لي: اركب معي سيارتي، فقلت: لا أريد أن أركب. فقال لي: لابد أن تركب. فأحرجني فأردت أن أقطع قوله: فقلت: والله لا أركب سيارتك. نقول له: إن ركبت أي سيارة غير هذه السيارة فإنك حينئذٍ لا تحنث؛ لأن السبب المهيج يقتضي التخصيص.

قال رحمه الله: [فإن عدم ذلك رجع إلى التعيين]

إذا: هناك ثلاثة أشياء:

- النية.

- السبب.

- التعيين.

والتعيين: أن يعيّن الشيء، وهو ضد الإبهام، فإذا قال: والله لا آكل هذا اللحم. والله لا ألبس هذا الثوب. والله لا أكلم هذا الرجل.. لا أُكلم هذا الصبي.. لا أُكلم هذه الجارية. فهذا تعيين، والمعين لا ينصرف إلى غيره؛ لأن مرادهم بعينه وذاته، وعين الشيء ذاته.

قوله: [فإذا حلف: لا لبست هذا القميص فجعله سراويل أو رداءً أو عمامة ولبسه]

أي: لو حلف على ذلك الشيء بعينه كأن يقول: لا لبست هذا القميص، ومادة القميص من القماش، إذاً انصب عليها اليمين، فلو أن هذا القميص غُيِّر وفُصِّل سروالاً حنث بلبسه؛ لأنه قال: هذا، فاختص بالتعيين وتقيد به؛ لأن اليمين بالتعيين، فمهما تغير في شكله فذاته موجودة، وانصب المنع على الذات، وحينئذٍ لو تغيرت إلى أي حال فإنه يبقى الحكم معلقاً بها، فيحنث إذا لبسه على أي صورة.

وكذلك لو جعل هذا القميص رداءً أو عمامة، فإنه يحنث بلبسه، والعكس إذا جعل السروال قميصاً، فالمادة موجودة والحكم واحد في هذا.

قوله: [أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخاً]

أو صار رجلاً لأن الحكم متعلق بعين الصبي ولا يختلف.

قوله: [أو زوجة فلان هذه، أو صديقه فلاناً، أو مملوكه سعيداً، فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم]

لو قال: والله لا أكلم زوجتك. فليس كقوله: والله لا أكلم هذه الزوجة. فلو قال: لا أكلم زوجتك. فقوله: زوجتك لفظ عام، فإذا لم تكن هناك نية وأخذناه على ظاهر اللفظ، فكل زوجة يتزوجها هذا الرجل بمجرد أن يعقد عليها وتدخل في عصمته، فإنه يحنث بكلامه معها بأقل ما يصدق أنه كلام.

فكل امرأة عقد عليها ذلك الشخص فإنه يحنث بكلامه لها، وبمجرد أن تخرج من عصمته وتنتقل عنها، فحينئذٍ إذا كلمها لا يحنث؛ لأن الوصف متعلق بكلام زوجة هذا الرجل، وحينئذٍ متى ما كانت زوجة لهذا الرجل حنث بكلامها، وإذا زالت هذه الصفة من الزوجة لم يحنث، أما إذا قال: لا أكلم زوجتك هذه. صار الأمر متعلقاً بالزوجة بعينها، فلو طلقها أو بانت منه، فإنه في هذه الحالة لو كلمها فإن اليمين ما زالت منعقدة فيحنث بكلامها، حتى لو تزوجت غيره فإنه لا زال اليمين متعلقاً بالعين فيحنث بكلامها.

قوله: (أو مملوكه سعيداً).

لو قال: لا أكلم مملوكاً لك. فهذا عام، أي: كل عبد يملكه هذا الشخص، فبمجرد ما يشتريه يحنث بكلامه بأقل ما يصدق عليه أنه كلام، لكن لو قال: لا أكلم مملوكك سعيداً وعيّن، أو مملوكك هذا وعين وخصص، فحينئذٍ كما ذكرنا، لو أنه أعتقه ما زال الحكم متعلقاً بعين المملوك، فيحنث بكلامه.

قوله: (فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم)

الأصل أنه يحنث حتى بعد زوال هذه الأشياء كما ذكرنا وفصلنا.

قوله: [أو لا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشاً].

لأن اليمين متعلقة بلحم الحمل، فحتى إن أكله بعد أن صار كبشاً، فإنه يحنث؛ لأنه قد انصبت اليمين على لحمه.

قوله: [أو هذا الرطب فصار تمراً أو دبساً أو خلاً].

لو جيء لشخص برطب فقال: والله لا آكل رطباً. فرُفِعَ هذا الرطب ثم صار تمراً بالحرارة وبالتأخر وجيء به إليه، فقيل له: كل. فأكل، فإنه لا يحنث؛ لأن الأمر متعلق بالوصف الذي هو رطب، ولو قال: والله لا آكل الرطب وقيل له: على هذه النخلة رطب اصعد وكله. قال: أنا حلفت أن لا آكل الرطب، ثم صبر حتى صار تمراً فصعد وأكل، فإنه يحنث لو صعد وهو رطب وأكل منه، ولا يحنث في الثانية؛ لأنه أكل تمراً؛ ولأنه حلف على الرطب، لكن لو قال: والله لا آكل هذا الرطب، فإنه في هذه الحالة يحنث إن أكله رطباً أو تمراً.

[أو هذا اللبن فصار جبناً أو كشكاً أو نحوه ثم أكله حنث في الكل]

وهكذا بالنسبة للبن، يعني يستوي أن ينتقل عن حاله بفعل المكلف أو ينتقل بطبعه، كما ذكرنا في الرطب والتمر، حنث في الكل [إلا أن ينوي ما دام على تلك الصفة] إذاً النية من أقوى ما تكون، ونحن لا نتكلم هنا على قوة السبب.

وعلى هذا يحنث في الكل كما ذكرنا؛ لأنه قصد عين المحلوف عليه.

وإذا كانت له نية فقال: والله لا أكلم زوجتك فلانة، وهذا لأنه رأى أن الرجل متضايق منه بسبب خصومة أو شيء، فقصد في نيته أن هذه المرأة سيئة تسبب مشاكل، فقال: والله لا أكلم هذه الزوجة، وهو يقصد مدة كونها زوجة له، فحينئذٍ هناك تعيين في السبب، ولكن النية أخص من السبب؛ لأنه لم يقصد عين المرأة، وحينئذٍ إذا زالت الزوجية يجوز له أن يكلمها ولا يحنث.

قال رحمه الله: [فصل: فإن عدم ذلك رجع إلى ما يتناوله الاسم].

إذاً أول شيء النية، ثم السبب، أي: لابد أول شيء أن تكون هناك نية؛ لأن مقاصد المكلفين معتبرة، وقد أجمعت على ذلك نصوص الكتاب والسنة والقاعدة المشهورة: على أن الأمور بمقاصدها، ثم السبب الذي يهيج اليمين.

قوله: (رجع إلى ما يتناوله الاسم)

أي: هذا اللفظ يدل على ماذا؟ وهذا عين العدل في الشريعة الإسلامية، فينظر إلى دلالة اللفظ اللغوية والعرفية والشرعية، هذه ثلاثة أنواع من الدلالات، فإذا قال: والله لا أصعد الجبل، والله لا أجلس تحت السماء، والله لا أعبر نهراً ولا أركب بحراً، والله لا أصلي، والله لا أصوم، فكل هذه ألفاظ فيها دلالة لغوية وفيها دلالة شرعية وفيها دلالة عرفية، فحينئذٍ لابد من النظر في اللفظ، هذا إذا قال: ليست عندي نية في شيء معين، وليس هناك سبب هيج على اليمين، فحينئذٍ يُنْظَرُ في دلالة اللفظ.

قال رحمه الله: [وهو ثلاثة: شرعي وحقيقي وعرفي].

هذه يسمونها. الحقائق، وهي:

- الحقيقة اللغوية.

- الحقيقة الشرعية.

- الحقيقة العرفية.

فالحقيقة اللغوية: مصطلح يكون في أصل التخاطب في لسان العرب، فإذا قالوا: السماء، فهم يعنون بها السماء المعروفة، وإذا قالوا: الأرض، الجبل، الشجر، فهذه أسماء على مسميات معينة وضعت في لغة ولسان العرب، فهذه يسمونها: حقيقة لغوية، وهي ما يدل عليه اللفظ في وضع اللغة.

الحقيقة الشرعية: فالشرع قد ينقل هذا الاسم من عموم إلى خصوص، وقد ينقل هذا الاسم إلى دلالة ليس فيها لا عموم ولا خصوص، وإنما يكون لها معنىً جديد، فالشرع يتصرف في المسميات.

الحقيقة العرفية: العرف يجمع الناس على لفظ له دلالة لغوية فيأخذه الناس، مثلاً السيارة الآن، السيارة: لها معنى في اللغة، وهي في لغة القرآن موجودة: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ [يوسف:19].. يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف:10].

لكن هل تلك السيارة التي كانت عندهم هي السيارة الموجودة عندنا الآن؟ الجواب: لا، السيارة في القديم لها معنى، والسيارة في وضع اللغة لها معنى، وفي عرفنا اليوم لها معنى.

ونحن نمثل بشيء موجود: الكتابة في القديم لها معنى، ومعناها اللغوي معروف، وهو الخط باليد، لكن في زماننا الآن يضرب بأصابعه على الآلة ومع ذلك يوصف بكونه كاتباً، فلو قال شخص: والله لا أكتب على الآلة، وهو يختصم مع شخص على أن يطبع له، إذاً يوجد معنى عرفي الآن.

كذلك الوضوء له معنىً لغوي، وله معنىً شرعي، والصلاة والزكاة والصوم والهبة والصدقة والإجارة كلها حقائق فيها معان لغوية وفيها معان شرعية.

ولذلك لما استفتحنا أبواب العلم كنا نقول: في اللغة وفي الشرع، في اللغة: أي: حقيقة لغوية، وفي الشرع: أي حقيقة شرعية، فهذه تسمى: بالحقائق، فإذا تلفظ المكلف فإنه ينظر فيها.

الحقيقة الشرعية ومتى يرجع إليها في اليمين

قال رحمه الله: [فالشرعي ما له موضوع في الشرع، وموضوع في اللغة]

فالشرعي كالصلاة مثلاً، لها موضوع في اللغة، فتطلق بمعنى: الدعاء، وتطلق بمعنى: الرحمة، وتطلق بمعنى: البركة، ولكنها في الشريعة نقلت إلى العبادة، ذات القيام والركوع والسجود والذكر على الوجه المخصوص.

قال رحمه الله: [فالمطلق ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح]

اللفظ المطلق إذا كان له معنى لغوي ومعنى شرعي فإننا نصرفه إلى الشرعي، فلو قال: والله لا أصلي، فإنه يحنث بالصلاة نافلة أو فريضة؛ لأن الشرع يطلق الصلاة على هذه العبادة ذات الركوع والسجود، هذا هو المعنى الشرعي. والمعنى اللغوي: الدعاء، فلو أنه قال: والله لا أصلي. ثم قال: اللهم! ارحمني لم يحنث؛ لأنه عند تعارض الحقيقة اللغوية مع الحقيقة الشرعية، مع الإطلاق العام يتقيد بالشرع، فإذا قال: والله لا أصلي. فإنه يحنث بفعل الصلاة، ولا يحنث بالدعاء، ولا بالترحم.

إذاً: الصلاة في هذا المعنى تنصرف إلى المعنى الشرعي، فلا يحنث إلا بفعل فريضة أو نافلة. ويشترط إذا كانت بالمعنى الشرعي أن تكون معتبرة معتداً بها شرعاً.

فلو قال: والله لا أصلي هذه الساعة. ثم قال: أريد أن أكفر. فقام يريد أن يصلي، فصلى ركعتين، ثم أراد أن يكفر، فتبين له أنه محدث، سقطت عنه الكفارة تيسيراً من الله.

إذاً في هذه الحالة لا يحنص إلا إذا كانت صلاة شرعية؛ لأنه قال: والله. أي: ألزم نفسه فيما بينه وبين الله أنه لا يصلي، فلا يكون حانثاً ولا تجب عليه كفارة إلا إذا حصل الإخلال، ولا يحصل الإخلال إلا بالصلاة الشرعية، فإذا صلى محدثاً لم تكن صلاته مجزئة.

[فإذا حلف لا يبيع أو لا ينكح فعقد عقداً فاسداً لم يحنث]

وهذا مثلما ذكرنا، لو قال: لا أصلي ثم صلى صلاة فاسدة لم يحنث؛ لأن الشرع لا يسمي هذا صلاة، ولا يسمي هذا بيعاً، قال: والله لا أبيع. ثم باع بيعاً فاسداً، كأن يبيع مجهولاً، فإنه يحكم ببطلان البيع؛ لأنه من بيوع الغرر -وقد تقدم معنا- كما لو قال له: أبيعك داراً ولم يصفها، قال: هذه الدار تشتريها مني (بمليون)، قال: قبلت. أعطاه (المليون) تمت صورة البيع، لكن انفسخ هذا البيع بحكم الشرع، قال القاضي: هذا بيع فاسد؛ لأن الدار لم تصفها ولم تبينها على وجه تزول به الجهالة ويصح به العقد، إذاً هذا عقد فاسد، وذلك لوجود الغرر.

في هذه الحالة لو جاء وقال: أنا قلت: والله لا أبيعه، وقد وقع مني بيع، ولكن أفسده القاضي، أو المفتي حيث قالا: هذا بيع فاسد. نقول: إذاً وجوده وعدمه على حد سواء، ولا كفارة عليك؛ لأنك حلفت على بيع شرعي وهذا بيع فاسد.

[وإن قيد يمينه بما يمنع الصحة، كأن حلف لا يبيع الخمر أو الخنزير حنث بصورة العقد]

إذا قلنا: إن البيع حقيقة شرعية، ولابد أن يكون على الصفة الشرعية، فلو أنه قال: (والله لا أبيع الخمر) ثم باع الخمر هل يحنث؟ قالوا: هنا يحنث بصورة العقد؛ لأن مراده بقوله: (لا أبيع الخمر) صورة العقد؛ لأنه في الأصل يريد أن لا يبادل؛ لأن البيع حقيقته المبادلة، وكأنه يقول: التزمت فيما بيني وبين الله أن لا أبادل الخمر بشيء، فلما وقع البيع فصورة المبادلة وجدت، فحينئذٍ نقول: قد حصل الإخلال فلزمه الكفارة من هذا الوجه.

وهناك من العلماء من لا يرى أنه ليس إخلالاً ولا تجب به الكفارة.

الحقيقة اللغوية ومتى يرجع إليها في اليمين

قال رحمه الله: [والحقيقي هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته].

الحقيقي في اللغة: هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته اللغوية، كالسماء والأرض، فهذه حقائق تنطبق على أشياء. مثلاً: اللحم حقيقة يطلق على اللحم، ولا ينصرف إلى غيره إذا أطلق، وهذا لا إشكال في اعتباره، فلو قال: (لا آكل اللحم) حكمنا بأنه يحنث بأكل اللحم، أياً كان هذا اللحم، فيكون اللحم شاملاً للحم الأنعام ولحم الطيور ولحم الأسماك، فإذا أكله حنث، وتتقيد هذه الحقيقة بدلالتها.

[كاللحلم فإن حلف لا يأكل اللحم فأكل شحماً أو مخاً أو كبداً أو نحوه لم يحنث]

لأن الكبد والشحم والمخ هذه ليست بلحم؛ فإن العرب إذا قالت: اللحم، فإنه لا يشمل الكبد ولا المخ ولا الشحم، وقد يستشكل البعض هذا، ويقول: إن الله عز وجل قال في المحرمات: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145] نقول: هذا لا إشكال فيه؛ لأنه عبر بالجزء وأراد الكل؛ لأن الذي يأكل الخنزير في الأصل إنما يأكل اللحم، وجعل ما بعده تبعاً له.

فالشاهد من هذا: أن اللحم إذا أطلق فالمراد به اللحم المعروف، ولا يشمل الشحم وبقية الأجزاء التي ليست بلحم حقيقة؛ فإن اللحم له حقيقة، والشحم له حقيقة، والكبد لها حقيقة، الطحال له حقيقة، فإذا قال: لا آكل الكبد فهذه حقيقة تتقيد بالكبد، وإذا قال: والله لا آكل اللحم، فهذه حقيقة تتقيد باللحم.

[وإن حلف لا يأكل أدماً حنث بأكل البيض والتمر والملح والخل والزيتون ونحوه وكل ما يصطبغ به]

إذا قال: والله لا آكل ولا أطعم الإدام، والأدم هو: كل ما يؤتدم به، فإنه يحنث به إن أكله، سواء كان من المربى أو الملوخية أو اللوبيا أو الفاصوليا أو الخضار أو غيرها من المطاعم مما يؤتدم به، فكل ما يؤتدم به، تصدق عليه هذه الحقيقة اللغوية الجامعة في دلالتها على هذه الأشياء، فيحنث بها.

[ولا يلبس شيئاً فلبس ثوباً أو درعاً أو جوشناً أو نعلاً حنث]

لأن أصل اللبس الدخول في الشيء، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف) وجعل هذا لبساً، فلو قال شخص: والله لا ألبس، فإنه يحنث بكل شيء يكتسي به، ويضعه على بدنه ويدخل فيه، فإذا قال: والله لا ألبس الثوب. فإنه بمجرد دخوله فيه يحنث.

لكن لو أنه وضع الثوب على كتفيه لم يحنث؛ لأنه لا يصدق عليه اللبس، مثله مثل المحرم، لو أن محرماً أخذ ثوباً ووضعه مثل الإحرام، لم تجب عليه الفدية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم) الذي يشمل أعلى البدن، ثم قال: (ولا السراويلات) الذي يشمل أسفل البدن ثم قال: (ولا البرانس) فشمل أعلى البدن وأسفله، فإذا حصل الدخول حصل الإخلال وإلا فلا.

[وإن حلف لا يكلم إنساناً حنث بكلام كل إنسان]

إذا قال: والله لا أكلم إنساناً. فإن هذه نكرة عامة تشمل كل إنسان، سواءً كان مجنوناً أو كان عاقلاً صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثى؛ لأن الحقيقة اللغوية تشمل هذا كله.

[ولا يفعل شيئاً فوكل من فَعَلَهُ حنث إلا أن ينوي مباشرته بنفسه]

إذا قال: والله لا أعطي فلاناً ثم وكل شخصاً -والوكيل ينزل منزلة الأصيل، والفرع آخذ حكم أصله- وقال له: يا فلان اذهب واعط فلاناً أو قال لابنه: يا محمد اذهب وأعط فلاناً هذا المبلغ حنث؛ لأن عطاء الوكيل عطاء من الأصيل، وهو تابع للأصل فيحنث به.

الحقيقة العرفية ومتى يرجع إليها في اليمين

قال رحمه الله: [والعرفي ما اشتهر مجازه فغلب الحقيقة كالرواية والغائط ونحوهما]

هذا النوع الثالث من الحقائق: وهي الحقيقة العرفية، فقوله: (ما غلب مجازه على الحقيقة) مثل: الغائط، والراوية، فلو قال: والله لا أذهب إلى الغائط، فالعرف أن الغائط مكان قضاء الحاجة، وذلك لقوله تعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43] يعني: مكان قضاء الحاجة، فقوله: والله لا أذهب إلى الغائط، أو لا أدخل الغائط، أو لا أجلس في الغائط، يحمل على الحقيقة العرفية، فيحنث بدخوله مكان قضاء الحاجة، وحينئذٍ لا يحكم بكونه حانثاً إلا إذا دخل فيه، لكن لو قصد الحقيقة اللغوية، وقال: أردت بالغائط المكان المطمئن؛ فحينئذٍ نيته تنقله من الحقيقة العرفية إلى الحقيقة اللغوية؛ لأنه نوى ذلك وقصده.

لكن لو تعارضت الحقيقتان، كأن قال: والله لا أجلس في غائط، فقال بعض الفقهاء: هذه حقيقة لغوية وحقيقة عرفية، فأيها يقدم؟ يقدم العرفية على اللغوية في قول جمهور العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وهذا ما درج عليه المصنف رحمه الله، أن العرف معتبر.

إذاً الراوية والغائط تنتقل من المعنى العام إلى المعنى الخاص.

[فتتعلق اليمين بالعرف] الأصل في الاحتجاج بالعرف القاعدة الشرعية التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة: (العادة محكمة)، فإذا جرى العرف بذلك فإنه يؤثر.

جلس قوم في شركة أو مؤسسة وعندهم غرفة معينة اصطلحوا على تسميتها (الغرفة) فهذا عرف خاص، فإذا حلف شخص وقال: والله لا أدخل الغرفة، فالغرفة حقيقة لغوية للمكان المبني بالهيئة المعروفة، فكلمة (الغرفة) في اللغة عامة في كل غرفة، ولكن العرف والأصل أنه يريد هذه الغرفة، لاختصاص هذه الغرفة بالعرف.

إذاً: لابد للفقيه إذا سئل عن الأيمان أن يكون ملماً بدلالة اللغة في هذا اللفظ الذي سُئل عنه، وأن يكون ملماً بدلالة الشريعة، فإذا قال: والله لا أتصدق، والله لا أهب، كيف يعرف أنه حنث أو لم يحنث إذا لم يعلم حقيقة الهبة، وحقيقة الصدقة، وحقيقة الوقف؟ إذاً: لابد من إدراك هذا كله حتى يحكم بكونه حانثاً أو غير حانث.

[فإذا حلف على وطء زوجته أو وطء دار تعلقت يمينه بجماعها وبدخول الدار]

أي: لو قال: والله لا أطأ زوجتي. تعلقت يمينه بجماعها، هذه حقيقة عرفية، ولو قال: والله لا أدخل الدار، لم يحنث إلا بدخول جرمه كاملاً فيها، والدار إذا خصها العرف بشيء معين اختصت به؛ لأن الدار في بعض الأحيان قد تطلق حتى على الخباء، يقول الشخص: هذه داري. وهي خيمة، وقد تختص بالبناء.

إذاً العرف له تأثير في دلالات الألفاظ، فحينئذٍ نتقيد بهذا العرف، وإن كانت دلالة اللغة عامة كما بيّنا.

[وإن حلف لا يأكل شيئاً فأكله مستهلكاً في غيره كمن حلف لا يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه، أو لا يأكل بيضاً فأكل ناطفاً لم يحنث]

هذه المسألة تقدمت معنا في الصيد في المستهلك ومتى يحكم باستهلاكه وعدمه، في المستهلك من الممنوع أكله وطعمه مثل: الزعفران وغيره.

فعلى كل حال إذا استهلكت وذهبت مادة السمن في المطبوخ فإنه لا يؤثر؛ لأنه لم يصدق عليه أنه أكله، أما لو بقي شيء من المادة فإنه يؤثر.

[وإن ظهر طعم شيء من المحلوف عليه حنث]

لأنه حينئذٍ يتحقق السبب الموجب للحنث، وهو وجود طعم الذي حلف أنه لا يطعمه.

قال رحمه الله: [فالشرعي ما له موضوع في الشرع، وموضوع في اللغة]

فالشرعي كالصلاة مثلاً، لها موضوع في اللغة، فتطلق بمعنى: الدعاء، وتطلق بمعنى: الرحمة، وتطلق بمعنى: البركة، ولكنها في الشريعة نقلت إلى العبادة، ذات القيام والركوع والسجود والذكر على الوجه المخصوص.

قال رحمه الله: [فالمطلق ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح]

اللفظ المطلق إذا كان له معنى لغوي ومعنى شرعي فإننا نصرفه إلى الشرعي، فلو قال: والله لا أصلي، فإنه يحنث بالصلاة نافلة أو فريضة؛ لأن الشرع يطلق الصلاة على هذه العبادة ذات الركوع والسجود، هذا هو المعنى الشرعي. والمعنى اللغوي: الدعاء، فلو أنه قال: والله لا أصلي. ثم قال: اللهم! ارحمني لم يحنث؛ لأنه عند تعارض الحقيقة اللغوية مع الحقيقة الشرعية، مع الإطلاق العام يتقيد بالشرع، فإذا قال: والله لا أصلي. فإنه يحنث بفعل الصلاة، ولا يحنث بالدعاء، ولا بالترحم.

إذاً: الصلاة في هذا المعنى تنصرف إلى المعنى الشرعي، فلا يحنث إلا بفعل فريضة أو نافلة. ويشترط إذا كانت بالمعنى الشرعي أن تكون معتبرة معتداً بها شرعاً.

فلو قال: والله لا أصلي هذه الساعة. ثم قال: أريد أن أكفر. فقام يريد أن يصلي، فصلى ركعتين، ثم أراد أن يكفر، فتبين له أنه محدث، سقطت عنه الكفارة تيسيراً من الله.

إذاً في هذه الحالة لا يحنص إلا إذا كانت صلاة شرعية؛ لأنه قال: والله. أي: ألزم نفسه فيما بينه وبين الله أنه لا يصلي، فلا يكون حانثاً ولا تجب عليه كفارة إلا إذا حصل الإخلال، ولا يحصل الإخلال إلا بالصلاة الشرعية، فإذا صلى محدثاً لم تكن صلاته مجزئة.

[فإذا حلف لا يبيع أو لا ينكح فعقد عقداً فاسداً لم يحنث]

وهذا مثلما ذكرنا، لو قال: لا أصلي ثم صلى صلاة فاسدة لم يحنث؛ لأن الشرع لا يسمي هذا صلاة، ولا يسمي هذا بيعاً، قال: والله لا أبيع. ثم باع بيعاً فاسداً، كأن يبيع مجهولاً، فإنه يحكم ببطلان البيع؛ لأنه من بيوع الغرر -وقد تقدم معنا- كما لو قال له: أبيعك داراً ولم يصفها، قال: هذه الدار تشتريها مني (بمليون)، قال: قبلت. أعطاه (المليون) تمت صورة البيع، لكن انفسخ هذا البيع بحكم الشرع، قال القاضي: هذا بيع فاسد؛ لأن الدار لم تصفها ولم تبينها على وجه تزول به الجهالة ويصح به العقد، إذاً هذا عقد فاسد، وذلك لوجود الغرر.

في هذه الحالة لو جاء وقال: أنا قلت: والله لا أبيعه، وقد وقع مني بيع، ولكن أفسده القاضي، أو المفتي حيث قالا: هذا بيع فاسد. نقول: إذاً وجوده وعدمه على حد سواء، ولا كفارة عليك؛ لأنك حلفت على بيع شرعي وهذا بيع فاسد.

[وإن قيد يمينه بما يمنع الصحة، كأن حلف لا يبيع الخمر أو الخنزير حنث بصورة العقد]

إذا قلنا: إن البيع حقيقة شرعية، ولابد أن يكون على الصفة الشرعية، فلو أنه قال: (والله لا أبيع الخمر) ثم باع الخمر هل يحنث؟ قالوا: هنا يحنث بصورة العقد؛ لأن مراده بقوله: (لا أبيع الخمر) صورة العقد؛ لأنه في الأصل يريد أن لا يبادل؛ لأن البيع حقيقته المبادلة، وكأنه يقول: التزمت فيما بيني وبين الله أن لا أبادل الخمر بشيء، فلما وقع البيع فصورة المبادلة وجدت، فحينئذٍ نقول: قد حصل الإخلال فلزمه الكفارة من هذا الوجه.

وهناك من العلماء من لا يرى أنه ليس إخلالاً ولا تجب به الكفارة.