شرح زاد المستقنع باب قتال أهل البغي [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

يقول المصنف -رحمه الله تعالى-: [ إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ فهم بغاة].

فقد ذكر المصنف رحمه الله في هذه الجملة الضوابط التي يمكن أن يتوصل من خلالها إلى معرفة البغاة، وقد اختلفت تعاريف العلماء رحمهم الله، ولكن هذه الصفات التي ذكرها هي من أجمع الصفات في معرفة أهل البغي، وقد قسم

صفات الطائفة الباغية

العلماء رحمهم الله الطوائف في هذا الباب إلى طائفتين: طائفة عادلة، وطائفة باغية.

فأهل البغي ذكرهم المصنف أربعة صفات، هذه الصفات الأربع لا بد من توفرها للحكم بكونهم بغاة:

الصفة الأولى: أن يخرجوا عن جماعة المسلمين وإمامهم، فيكون فيهم خروج على جماعة المسلمين وإمامهم.

الصفة الثانية: أن يكونوا جماعة.

الصفة الثالثة: أن تكون لهذه الجماعة شوكة ومنعة وقوة.

الصفة الرابعة: أن يكون لهم تأويل سائغ.

هذه الأربع الصفات لا بد من توفرها.

يقول رحمه الله: ( إذا خرج قوم)

الخروج على الأئمة وعلى جماعة المسلمين فتنة عظيمة، ولذلك اعتنى العلماء رحمهم الله بهذا الأمر حتى ذكروا في مسائل الاعتقاد، أن مذهب أهل السنة والجماعة أنه ينبغي لزوم جماعة المسلمين، وتلك هي وصية الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ودرج عليها أئمة السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين، وجعل الله الخير للأمة في اتقاء الفتنة، والبعد عنها، ولزوم الجماعة ما أمكن.

ولذلك نجد في مباحث العقيدة هذا المبحث، ويعتني العلماء فيه بالتأصيل الشرعي للإمامة، ولزوم الجماعة، والسمع والطاعة، والضوابط المعتبرة في ذلك، وكلام الفقهاء في هذا الباب من الفقه إنما هو في باب الجنايات، بمعنى: في حكم من خرج، وليس في تأصيل وتقعيد هذا الأمر والكلام عليه، ولذلك يشير العلماء رحمهم الله فقط إلى أنه مذهب أهل السنة والجماعة من حيث الأصل.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أنه لو تغلب أحد على المسلمين بالشوكة والمنعة، وأصبح يحكم فيهم بالشرع فإنه تلزم طاعته، إذا انعقدت عليه جماعة المسلمين، ولا يشترط انعقاد الكافة عليه، بل المراد أن تنعقد كلمة أهل الحل والعقد والرأي، ولذلك جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر المسلمين كلهم في الستة الذين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ومن هنا قالوا: العبرة بأهل الحل والعقد، وأهل الصلاح كالعلماء والفضلاء، ومن يعرف برجاحة العقل وسداده، ونحو ذلك ممن لهم رأي، وحسن نظر، والناس تبع لأمثال هؤلاء.

فإذا انعقدت الكلمة من هؤلاء؛ فإنها تكون جماعة المسلمين، والمنبغي لزوم هذه الجماعة، وبين النبي صلى الله عيه وسلم أن على المسلم السمع والطاعة وإن تأمر عليه عبد حبشي؛ ولذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المثل، وقد كانت العرب فيهم العصبية والأنفة أن تقبل بمثل هذا الأمر، ولكنه أراد بذلك إرغام أنف المسلم لحكم الشرع.

والعجيب أنك لن تجد الأمة تسير على هذا الأصل إلا وجدت غياباً لكثير من الشرور، وإن وجدت شروراً في جماعة فإنك تجد أشر من ذلك أن يخرج الإنسان عن الجماعة، ومن هنا لم تأت هذه النصوص من فراغ، ومن تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) يجد أمراً عجيباً، وعلى هذا كان مذهب أهل السنة والجماعة في لزوم هذا الأصل.

مظاهر الخروج عن جماعة المسلمين

يكون الخروج أول ما يكون بالرأي؛ ولذلك نجد نصوص الكتاب والسنة تأمر المسلم بعدم اتباع بالهوى، وعدم المبالغة في تخطئة الغيره، وعدم الدعوة للشذوذ، ومن تأمل أيضاً هدي السلف الصالح رحمهم الله وجد ذلك جلياً ظاهراً.

فيبدأ الخروج بالاحتقار، والكلام في الولاة والحكام، ثم في العلماء والفضلاء واتهامهم في الدين والرأي، حتى تنسل ثقة الناس من هؤلاء، وإذا نزعت الثقة من العلماء فإنه ينتظر الشر العظيم، والبلاء الوخيم، وهناك كلمات يقولها العلماء قد لا يلقي الإنسان لها بالاً، ولكنه إذا تأملها وعاش حقيقتها أدرك ما يعنيه العلماء وأهل العلم حينما يتقون الفتنة، ويحرصون على جمع الكلمة ما أمكن، وليس معنى ذلك أننا سنصل إلى حال يشابه ما كان في عصر الصحابة أو الخلفاء الراشدين، إنما الشريعة تمشي على الأغلب، وتراعي في المصالح الأغلب، ومن هنا تجد أن المصالح في اتباع هذه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأكبر من أن يجتهد الإنسان عليها، أو يحاول أن يخرج عنها باجتهاد أو برأي.

الخروج من حيث هو بالأصل لا يكون إلا بالرأي، وقد ضرب الله المثل للإنسان حتى في البهائم والحيوانات فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26] فالحكيم العاقل ينتبه للأمثال، والإنسان لو أراد أن ينظر إلى جماعة المسلمين ويشذ عن رأيهم فلينظر إلى بيته، حينما يرى أنه يقوم على مصالح أولاده ورعاية أسرته، ويسهر عليهم، وفي قرارة قلبه يتمنى أن يكون أفضل بيت، وأحسن بيت، ولكنه ببشريته وضعفه تنتابه الشهوات والملهيات، حتى لربما ضيع كثيراً من حقوق أولاده، وهو في دولة صغيرة وبيئة صغيرة، لا يستطيع أن يجد فيها عشر معشار ما يجده غيره ممن هو أعظم منه مسئولية، وأكثر منه أمانة.

ومن هنا: إذا أنصف الغير تمعن وتريث، ونظر إلى الأمور بأغلبها خيراً وأقلها شراً كما قرر هذا العلماء والأئمة رحمهم الله، فتجد الإنسان إذا أراد ابنه أن يشذ عنه، أو أن يتمرد عليه في بيته، أول ما يبدأ التمرد بالاحتقار، وأول ما يبدأ الابن إذا كان ابناً شاذاً عن بقية الأبناء أن يذكر مثالب أبيه، وأن يحاول أن يفسر كل خير ونصيحة، وكل ما يداوي به جراحه، وكل ما يحسن به إليه، يحملها على العكس والضد.

ومن هنا لا يزال الإنسان يتألم مما يرى ويسمع، وكل يوم هذا الابن يسل محبته ومودته وتقديره من آبائه ومن بقية الأسرة، حتى لربما أصبح البيت جحيماً لا يطاق.

فأول ما يبدأ الشر بالاحتقار، ولذلك تجد الأمور إذا قامت على حسن التقدير، وعدم الغلو في هذا التقدير، وعدم المبالغة في الإطراء والمدح، وأن يكون هناك نوع من التعقل، إلا في المواطن المحددة التي تجابه بضدها، فيقابل الإنسان بالضد من المدح والثناء، حتى يقطع دابر من هو ضده، أما في الشهادة فيشهد شهادة الحق، ويحاول قدر المستطاع أن يعذر وأن ينصف، وأن ينظر إلى غلبة الخير وغلبة المصالح، ووجود الشر في ضده.

فالخروج على الأئمة والجماعة يكون بالاحتقار، ويكون الاحتقار للعامة والخاصة، فيحتقر أئمة المسلمين، ثم بعد ذلك لربما استرسل به الشيطان -والعياذ بالله- إلى أن يحتقر العوام.

ومن نظر في أحوال الخارجين في القديم, وحتى في العصر الحديث، نجد أحدهم -في بعض البلدان الخارجية- ينتسب للإسلام ثم يكفر مجتمعه, ويرى أن هذا المجتمع كله كافر، وعندها لا يبالي أن يقتل الصغير أو الكبير أو المرأة أو الطفل، بل ويرى أن هذا حقاً، وأن هذا يطاع به الله عز وجل، ويتقى به الله عز وجل -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا كله كما أخبر الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21] والشيطان له خطوات.

ومن هنا يبدأ بالاحتقار، ثم بالنقد؛ لأنه إذا بدأ الاحتقار في القلب تسلط اللسان، فبدأ بالنقد، ثم بعد النقد يبدأ يضخم هذه الأمور، ثم يصل إلى قاعدة أو أساس أن الأمر منكر، ثم هذا المنكر يوجد معه منكر آخر، ثم المنكر الثالث، حتى يصل إلى التكفير، ثم يتعدى بتكفيره إلى من رضي به ومن سكت عنه ومن مدح مدحة واحدة قد يلحق بهذا، والسبب في هذا كله الجهل بحكم الله عز وجل، وعدم الرضا بما أنزل الله، وقد يقال له: قد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم المرء المسلم على السمع والطاعة، فيرد عليك قائلاً: أنت بهذه الأفكار وبهذه الرجعية تريدنا صماً بكماً. فيتعالى على النص؛ لأن عقله لا يستطيع أن يتقبل مثل هذا؛ لأن عنده هوى متبعاً.

فيبدأ الخروج بالاحتقار والازدراء، وعدم المبالاة بجماعة المسلمين، وعدم المبالاة بعلمائهم، وعندها تزل القدم بعد ثبوتها، والله قد أعذر لهؤلاء، فنص الكتاب ونص السنة واضح، وجماعة المسملين أمامه وعلماؤهم أمامه، فمن احتقر هذا كله فلا يلومن إلا نفسه، وكل ما يأتي من تبعات، وكل ما ينجر إليه من ويلات وعواقب وخواتم، فلا يلومن في ذلك كله إلا نفسه، ولن يهلك على الله إلا هالك؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر المنكرات، ويذكر ما سيكون من الولاة من المساوئ والمثالب، ثم قال الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم أغير الخلق على الحق، وأغير على هذه الأمة: (أفلا نناجزهم بالسيوف؟ قال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) من يستطيع أن يجتهد مع هذا، هل يستطيع أحد أن يقدم على هذا أو يؤخر؟ فما على المسلم إلا التسليم.

لا يعني هذا التخاذل أو التواكل، بل يعني السمع والتسليم، وهل الإسلام إلا الاستسلام، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ويقول: (يا رسول الله! كيف نعطي الدنية في ديننا!) أي: بتلك الشروط القاسية على المسلمين، ثم هم محرمون يتحللون من إحرامهم، ويرجعون إلى ديارهم، ثم إذا أسلم أحد يرد إلى الكفار، وإذا ارتد مسلم فإنه لا يرد إلى المسلمين (أنعطي الدنية؟!).

إذا جئت تنظر إلى الظاهر وجدت الذلة والصغار في الظاهر، وأموراً لا يسلم بها العقل، لكن الشريعة تأتي لكي تحكم الإنسان بالسمع والطاعة، وتأمر بالاستسلام والتسليم الذي يأتي به الفرج والمخرج، ويظن البعض أنها أوهام وأحلام، ونحن نقول له: اتبع وسترى ما يسرك، وإن كان يظن الإنسان أنه سيجد خيراً في اجتهاده، فسيجد خيراً من ذلك الخير في اتباعه للكتاب والسنة، ولن يجد أعلم من الله بخلقه، ولا أحكم ولا أعدل من الله عز وجل في شرعه ونظامه!

فلا يستدرك أحد على الله عز وجل، ولذلك تجد أعداء الإسلام يدخلون السموم على المسلمين في هذا، ويحاولون تشكيكهم، ويعتبرون أن هذا ذلة، ويعتبرون أن هذا نوع من الخور والغفلة والسذاجة، نعم؛ ذلة في مقام عزة، ومهانة في مقام كرامة، وعقل وإنصاف، وبعد نظر، ومن قرأ التاريخ يجد العبر، وكم من أشياء خرجت عن جماعة المسلمين تحت دعاوى، ثم لما تمكن أصحاب تلك الدعاوى رموا وراء ظهورهم ما كانوا يقولون.

هناك أمور لا يمكن للإنسان أن يدركها، فمادام أن هناك نصاً وشرعاً أمر أن يسلم به فليسلم به.

فالخروج لا يكون أول ما يكون إلا بالاحتقار، ولذلك يبلغ ببعض الناس في بعض الزمان أن يقول: لم يبق عالم أثق به. وإذا قال هذه الكلمة؛ فليعلم أنه قد ضل ضلالاً مبيناً، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) وقد زكى حملة هذا العلم، وانظر إلى نفسك حينما تريد أن تحفظ آية من كتاب الله لا تستطيع أن تحفظها، بعض السور قصيرة لا تستطيع أن تحفظها، لتدرك أن هذا الدين عطية من الله، وأنه مادام وأنه قد زكى هؤلاء العلماء فوالله إن العالم ليخاف، ولكنه يخاف على المسلمين لا على نفسه، وينصح للمسلمين لا لذاته، ولا يدخل في جعبته شيئاً، وإنما يعلم أنه إذا أصغت له الآذان، ووعت منه القلوب فإنه على شفير جهنم، وأنه إن أخذ بهم بالسلامة سلم له دينه، وإن أخذ بهم على منهج السلف الصالح ابتعد بهم عن هذه العواقب الوخيمة.

بين العلماء رحمهم الله أن الشذوذ لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا تجد نصوص الشريعة كلها تذم شيئين، ولو نظرت في كثير من المصائب الموجودة اليوم وجدتها بسبب هذين الشيئين:

الأول: في قرارة الإنسان وقلبه.

والثاني: في لسانه، في اللسان الذي يكب الناس في النار على وجوههم والعياذ بالله.

أما في القلب: فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) فما بالك إذا احتقر العلماء، واحتقار العلماء -في الخروج على الأئمة والخروج على الولاة والعلماء- لا يكون بأن يقول لك: أنا أحتقر فلاناً، ولكنه كما يكون بالمقال يكون بلسان الحال.

هناك نماذج، ونذكر في واقعنا ما يقوله البعض الآن عندما تقول له: الشيخ أو العالم فلان نصح بكذا، وإذا به يقول: والله ما يفقه الواقع! ولا بد من فقه الواقع!

لكن ما هو فقه الواقع؟ فقه الواقع أن تعي ما تقول، والواقعة التي تتكلم فيها، وعندك فيها نص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو تجتهد وعندك أمانة وورع وإخلاص، فقد فقهت في واقعك، أما فقه الواقع أن تكون بمثابة الشهادة والتزكية تُعطى لمن يوافق رأيي، وتنزع ممن لا يوافق رأيي، فبهذا نصير علماء للعلماء، ومعلمين للعلماء، وأعرف من العلماء بدين وشرع الله عز وجل!

ولذلك ينبغي الحذر، فقد يكون هناك كلمة حق يراد بها باطل، وقد بينت النصوص أنه لا يهلك على الله إلا هالك، فعلى كل إنسان أن يحتاط من هذه اللمزات، وهذا الاحتقار؛ لأنه يؤدي بالإنسان إلى العواقب الوخيمة.

بداية خروج الخوارج على علي رضي الله عنه كان بالاحتقار

الخروج على الأئمة لا يكون إلا بالاحتقار، ومن نماذج ذلك في التاريخ: أن أول فتنة وقعت للخوارج حينما خرجوا على علي رضي الله عنه فاحتقروه، واحتقروا مكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتقروا مكانه من العلم والفقه، وقد أمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه بعثه إلى اليمن قاضياً ومعلماً، واستخلفه على المدينة صلوات الله وسلامه عليه وقال له: : (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) فكان بهذه هي المنزلة العظيمة، وإذا بالخوارج يحتقرونه في ذلك، فخرجوا عليه رضي الله عنه وأرضاه، بالنقمة؛ نقموا عليه أنه قبل التحكيم، وقد بينا في المجلس الماضي كيف عتبوا عليه، وكيف أنه رضي الله عنه أقام عليهم الحجة.

فأصل الخروج لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا أول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما -وهذا موضع الشاهد- أنه قال لهم: ماذا تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه؟ ماذا تنقمون منه وهو أسبق للإسلام وأعرف بشرع الله عز وجل وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم؟

فهو يخاطب أناساً لو كان عندهم عقل وبصيرة، لرجعوا إلى أنفسهم، إذ كيف يحتقرون هذا الصحابي الجليل المبشر بالجنة والخليفة الراشد، ورموا بكل ذلك وراء ظهورهم، بل وصل الأمر إلى تكفيره رضي الله عنه وأرضاه.

ومن هنا أول ما يكون الخروج بالاحتقار، وما وجدنا أئمة السلف رحمهم الله يحرصون على شيء مثل احترام المسلم لأخيه المسلم، فضلاً عن العلماء وفضلاً عمن له حق وله فضل.

العلماء رحمهم الله الطوائف في هذا الباب إلى طائفتين: طائفة عادلة، وطائفة باغية.

فأهل البغي ذكرهم المصنف أربعة صفات، هذه الصفات الأربع لا بد من توفرها للحكم بكونهم بغاة:

الصفة الأولى: أن يخرجوا عن جماعة المسلمين وإمامهم، فيكون فيهم خروج على جماعة المسلمين وإمامهم.

الصفة الثانية: أن يكونوا جماعة.

الصفة الثالثة: أن تكون لهذه الجماعة شوكة ومنعة وقوة.

الصفة الرابعة: أن يكون لهم تأويل سائغ.

هذه الأربع الصفات لا بد من توفرها.

يقول رحمه الله: ( إذا خرج قوم)

الخروج على الأئمة وعلى جماعة المسلمين فتنة عظيمة، ولذلك اعتنى العلماء رحمهم الله بهذا الأمر حتى ذكروا في مسائل الاعتقاد، أن مذهب أهل السنة والجماعة أنه ينبغي لزوم جماعة المسلمين، وتلك هي وصية الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ودرج عليها أئمة السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين، وجعل الله الخير للأمة في اتقاء الفتنة، والبعد عنها، ولزوم الجماعة ما أمكن.

ولذلك نجد في مباحث العقيدة هذا المبحث، ويعتني العلماء فيه بالتأصيل الشرعي للإمامة، ولزوم الجماعة، والسمع والطاعة، والضوابط المعتبرة في ذلك، وكلام الفقهاء في هذا الباب من الفقه إنما هو في باب الجنايات، بمعنى: في حكم من خرج، وليس في تأصيل وتقعيد هذا الأمر والكلام عليه، ولذلك يشير العلماء رحمهم الله فقط إلى أنه مذهب أهل السنة والجماعة من حيث الأصل.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أنه لو تغلب أحد على المسلمين بالشوكة والمنعة، وأصبح يحكم فيهم بالشرع فإنه تلزم طاعته، إذا انعقدت عليه جماعة المسلمين، ولا يشترط انعقاد الكافة عليه، بل المراد أن تنعقد كلمة أهل الحل والعقد والرأي، ولذلك جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر المسلمين كلهم في الستة الذين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ومن هنا قالوا: العبرة بأهل الحل والعقد، وأهل الصلاح كالعلماء والفضلاء، ومن يعرف برجاحة العقل وسداده، ونحو ذلك ممن لهم رأي، وحسن نظر، والناس تبع لأمثال هؤلاء.

فإذا انعقدت الكلمة من هؤلاء؛ فإنها تكون جماعة المسلمين، والمنبغي لزوم هذه الجماعة، وبين النبي صلى الله عيه وسلم أن على المسلم السمع والطاعة وإن تأمر عليه عبد حبشي؛ ولذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المثل، وقد كانت العرب فيهم العصبية والأنفة أن تقبل بمثل هذا الأمر، ولكنه أراد بذلك إرغام أنف المسلم لحكم الشرع.

والعجيب أنك لن تجد الأمة تسير على هذا الأصل إلا وجدت غياباً لكثير من الشرور، وإن وجدت شروراً في جماعة فإنك تجد أشر من ذلك أن يخرج الإنسان عن الجماعة، ومن هنا لم تأت هذه النصوص من فراغ، ومن تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) يجد أمراً عجيباً، وعلى هذا كان مذهب أهل السنة والجماعة في لزوم هذا الأصل.

يكون الخروج أول ما يكون بالرأي؛ ولذلك نجد نصوص الكتاب والسنة تأمر المسلم بعدم اتباع بالهوى، وعدم المبالغة في تخطئة الغيره، وعدم الدعوة للشذوذ، ومن تأمل أيضاً هدي السلف الصالح رحمهم الله وجد ذلك جلياً ظاهراً.

فيبدأ الخروج بالاحتقار، والكلام في الولاة والحكام، ثم في العلماء والفضلاء واتهامهم في الدين والرأي، حتى تنسل ثقة الناس من هؤلاء، وإذا نزعت الثقة من العلماء فإنه ينتظر الشر العظيم، والبلاء الوخيم، وهناك كلمات يقولها العلماء قد لا يلقي الإنسان لها بالاً، ولكنه إذا تأملها وعاش حقيقتها أدرك ما يعنيه العلماء وأهل العلم حينما يتقون الفتنة، ويحرصون على جمع الكلمة ما أمكن، وليس معنى ذلك أننا سنصل إلى حال يشابه ما كان في عصر الصحابة أو الخلفاء الراشدين، إنما الشريعة تمشي على الأغلب، وتراعي في المصالح الأغلب، ومن هنا تجد أن المصالح في اتباع هذه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأكبر من أن يجتهد الإنسان عليها، أو يحاول أن يخرج عنها باجتهاد أو برأي.

الخروج من حيث هو بالأصل لا يكون إلا بالرأي، وقد ضرب الله المثل للإنسان حتى في البهائم والحيوانات فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26] فالحكيم العاقل ينتبه للأمثال، والإنسان لو أراد أن ينظر إلى جماعة المسلمين ويشذ عن رأيهم فلينظر إلى بيته، حينما يرى أنه يقوم على مصالح أولاده ورعاية أسرته، ويسهر عليهم، وفي قرارة قلبه يتمنى أن يكون أفضل بيت، وأحسن بيت، ولكنه ببشريته وضعفه تنتابه الشهوات والملهيات، حتى لربما ضيع كثيراً من حقوق أولاده، وهو في دولة صغيرة وبيئة صغيرة، لا يستطيع أن يجد فيها عشر معشار ما يجده غيره ممن هو أعظم منه مسئولية، وأكثر منه أمانة.

ومن هنا: إذا أنصف الغير تمعن وتريث، ونظر إلى الأمور بأغلبها خيراً وأقلها شراً كما قرر هذا العلماء والأئمة رحمهم الله، فتجد الإنسان إذا أراد ابنه أن يشذ عنه، أو أن يتمرد عليه في بيته، أول ما يبدأ التمرد بالاحتقار، وأول ما يبدأ الابن إذا كان ابناً شاذاً عن بقية الأبناء أن يذكر مثالب أبيه، وأن يحاول أن يفسر كل خير ونصيحة، وكل ما يداوي به جراحه، وكل ما يحسن به إليه، يحملها على العكس والضد.

ومن هنا لا يزال الإنسان يتألم مما يرى ويسمع، وكل يوم هذا الابن يسل محبته ومودته وتقديره من آبائه ومن بقية الأسرة، حتى لربما أصبح البيت جحيماً لا يطاق.

فأول ما يبدأ الشر بالاحتقار، ولذلك تجد الأمور إذا قامت على حسن التقدير، وعدم الغلو في هذا التقدير، وعدم المبالغة في الإطراء والمدح، وأن يكون هناك نوع من التعقل، إلا في المواطن المحددة التي تجابه بضدها، فيقابل الإنسان بالضد من المدح والثناء، حتى يقطع دابر من هو ضده، أما في الشهادة فيشهد شهادة الحق، ويحاول قدر المستطاع أن يعذر وأن ينصف، وأن ينظر إلى غلبة الخير وغلبة المصالح، ووجود الشر في ضده.

فالخروج على الأئمة والجماعة يكون بالاحتقار، ويكون الاحتقار للعامة والخاصة، فيحتقر أئمة المسلمين، ثم بعد ذلك لربما استرسل به الشيطان -والعياذ بالله- إلى أن يحتقر العوام.

ومن نظر في أحوال الخارجين في القديم, وحتى في العصر الحديث، نجد أحدهم -في بعض البلدان الخارجية- ينتسب للإسلام ثم يكفر مجتمعه, ويرى أن هذا المجتمع كله كافر، وعندها لا يبالي أن يقتل الصغير أو الكبير أو المرأة أو الطفل، بل ويرى أن هذا حقاً، وأن هذا يطاع به الله عز وجل، ويتقى به الله عز وجل -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا كله كما أخبر الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21] والشيطان له خطوات.

ومن هنا يبدأ بالاحتقار، ثم بالنقد؛ لأنه إذا بدأ الاحتقار في القلب تسلط اللسان، فبدأ بالنقد، ثم بعد النقد يبدأ يضخم هذه الأمور، ثم يصل إلى قاعدة أو أساس أن الأمر منكر، ثم هذا المنكر يوجد معه منكر آخر، ثم المنكر الثالث، حتى يصل إلى التكفير، ثم يتعدى بتكفيره إلى من رضي به ومن سكت عنه ومن مدح مدحة واحدة قد يلحق بهذا، والسبب في هذا كله الجهل بحكم الله عز وجل، وعدم الرضا بما أنزل الله، وقد يقال له: قد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم المرء المسلم على السمع والطاعة، فيرد عليك قائلاً: أنت بهذه الأفكار وبهذه الرجعية تريدنا صماً بكماً. فيتعالى على النص؛ لأن عقله لا يستطيع أن يتقبل مثل هذا؛ لأن عنده هوى متبعاً.

فيبدأ الخروج بالاحتقار والازدراء، وعدم المبالاة بجماعة المسلمين، وعدم المبالاة بعلمائهم، وعندها تزل القدم بعد ثبوتها، والله قد أعذر لهؤلاء، فنص الكتاب ونص السنة واضح، وجماعة المسملين أمامه وعلماؤهم أمامه، فمن احتقر هذا كله فلا يلومن إلا نفسه، وكل ما يأتي من تبعات، وكل ما ينجر إليه من ويلات وعواقب وخواتم، فلا يلومن في ذلك كله إلا نفسه، ولن يهلك على الله إلا هالك؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر المنكرات، ويذكر ما سيكون من الولاة من المساوئ والمثالب، ثم قال الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم أغير الخلق على الحق، وأغير على هذه الأمة: (أفلا نناجزهم بالسيوف؟ قال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) من يستطيع أن يجتهد مع هذا، هل يستطيع أحد أن يقدم على هذا أو يؤخر؟ فما على المسلم إلا التسليم.

لا يعني هذا التخاذل أو التواكل، بل يعني السمع والتسليم، وهل الإسلام إلا الاستسلام، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ويقول: (يا رسول الله! كيف نعطي الدنية في ديننا!) أي: بتلك الشروط القاسية على المسلمين، ثم هم محرمون يتحللون من إحرامهم، ويرجعون إلى ديارهم، ثم إذا أسلم أحد يرد إلى الكفار، وإذا ارتد مسلم فإنه لا يرد إلى المسلمين (أنعطي الدنية؟!).

إذا جئت تنظر إلى الظاهر وجدت الذلة والصغار في الظاهر، وأموراً لا يسلم بها العقل، لكن الشريعة تأتي لكي تحكم الإنسان بالسمع والطاعة، وتأمر بالاستسلام والتسليم الذي يأتي به الفرج والمخرج، ويظن البعض أنها أوهام وأحلام، ونحن نقول له: اتبع وسترى ما يسرك، وإن كان يظن الإنسان أنه سيجد خيراً في اجتهاده، فسيجد خيراً من ذلك الخير في اتباعه للكتاب والسنة، ولن يجد أعلم من الله بخلقه، ولا أحكم ولا أعدل من الله عز وجل في شرعه ونظامه!

فلا يستدرك أحد على الله عز وجل، ولذلك تجد أعداء الإسلام يدخلون السموم على المسلمين في هذا، ويحاولون تشكيكهم، ويعتبرون أن هذا ذلة، ويعتبرون أن هذا نوع من الخور والغفلة والسذاجة، نعم؛ ذلة في مقام عزة، ومهانة في مقام كرامة، وعقل وإنصاف، وبعد نظر، ومن قرأ التاريخ يجد العبر، وكم من أشياء خرجت عن جماعة المسلمين تحت دعاوى، ثم لما تمكن أصحاب تلك الدعاوى رموا وراء ظهورهم ما كانوا يقولون.

هناك أمور لا يمكن للإنسان أن يدركها، فمادام أن هناك نصاً وشرعاً أمر أن يسلم به فليسلم به.

فالخروج لا يكون أول ما يكون إلا بالاحتقار، ولذلك يبلغ ببعض الناس في بعض الزمان أن يقول: لم يبق عالم أثق به. وإذا قال هذه الكلمة؛ فليعلم أنه قد ضل ضلالاً مبيناً، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) وقد زكى حملة هذا العلم، وانظر إلى نفسك حينما تريد أن تحفظ آية من كتاب الله لا تستطيع أن تحفظها، بعض السور قصيرة لا تستطيع أن تحفظها، لتدرك أن هذا الدين عطية من الله، وأنه مادام وأنه قد زكى هؤلاء العلماء فوالله إن العالم ليخاف، ولكنه يخاف على المسلمين لا على نفسه، وينصح للمسلمين لا لذاته، ولا يدخل في جعبته شيئاً، وإنما يعلم أنه إذا أصغت له الآذان، ووعت منه القلوب فإنه على شفير جهنم، وأنه إن أخذ بهم بالسلامة سلم له دينه، وإن أخذ بهم على منهج السلف الصالح ابتعد بهم عن هذه العواقب الوخيمة.

بين العلماء رحمهم الله أن الشذوذ لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا تجد نصوص الشريعة كلها تذم شيئين، ولو نظرت في كثير من المصائب الموجودة اليوم وجدتها بسبب هذين الشيئين:

الأول: في قرارة الإنسان وقلبه.

والثاني: في لسانه، في اللسان الذي يكب الناس في النار على وجوههم والعياذ بالله.

أما في القلب: فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) فما بالك إذا احتقر العلماء، واحتقار العلماء -في الخروج على الأئمة والخروج على الولاة والعلماء- لا يكون بأن يقول لك: أنا أحتقر فلاناً، ولكنه كما يكون بالمقال يكون بلسان الحال.

هناك نماذج، ونذكر في واقعنا ما يقوله البعض الآن عندما تقول له: الشيخ أو العالم فلان نصح بكذا، وإذا به يقول: والله ما يفقه الواقع! ولا بد من فقه الواقع!

لكن ما هو فقه الواقع؟ فقه الواقع أن تعي ما تقول، والواقعة التي تتكلم فيها، وعندك فيها نص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو تجتهد وعندك أمانة وورع وإخلاص، فقد فقهت في واقعك، أما فقه الواقع أن تكون بمثابة الشهادة والتزكية تُعطى لمن يوافق رأيي، وتنزع ممن لا يوافق رأيي، فبهذا نصير علماء للعلماء، ومعلمين للعلماء، وأعرف من العلماء بدين وشرع الله عز وجل!

ولذلك ينبغي الحذر، فقد يكون هناك كلمة حق يراد بها باطل، وقد بينت النصوص أنه لا يهلك على الله إلا هالك، فعلى كل إنسان أن يحتاط من هذه اللمزات، وهذا الاحتقار؛ لأنه يؤدي بالإنسان إلى العواقب الوخيمة.

الخروج على الأئمة لا يكون إلا بالاحتقار، ومن نماذج ذلك في التاريخ: أن أول فتنة وقعت للخوارج حينما خرجوا على علي رضي الله عنه فاحتقروه، واحتقروا مكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتقروا مكانه من العلم والفقه، وقد أمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه بعثه إلى اليمن قاضياً ومعلماً، واستخلفه على المدينة صلوات الله وسلامه عليه وقال له: : (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) فكان بهذه هي المنزلة العظيمة، وإذا بالخوارج يحتقرونه في ذلك، فخرجوا عليه رضي الله عنه وأرضاه، بالنقمة؛ نقموا عليه أنه قبل التحكيم، وقد بينا في المجلس الماضي كيف عتبوا عليه، وكيف أنه رضي الله عنه أقام عليهم الحجة.

فأصل الخروج لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا أول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما -وهذا موضع الشاهد- أنه قال لهم: ماذا تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه؟ ماذا تنقمون منه وهو أسبق للإسلام وأعرف بشرع الله عز وجل وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم؟

فهو يخاطب أناساً لو كان عندهم عقل وبصيرة، لرجعوا إلى أنفسهم، إذ كيف يحتقرون هذا الصحابي الجليل المبشر بالجنة والخليفة الراشد، ورموا بكل ذلك وراء ظهورهم، بل وصل الأمر إلى تكفيره رضي الله عنه وأرضاه.

ومن هنا أول ما يكون الخروج بالاحتقار، وما وجدنا أئمة السلف رحمهم الله يحرصون على شيء مثل احترام المسلم لأخيه المسلم، فضلاً عن العلماء وفضلاً عمن له حق وله فضل.

يقول رحمه الله: ( إذا خرج قوم)

أي: تميزوا عن جماعة المسلمين بمكان يتجمعون فيه، أو يتحزبون فيه، كما حصل للخوارج حينما اجتمعوا بحروراء، وهذا شرط عند بعض العلماء رحمهم الله، ومنهم من أخذ بمطلق الخروج.

وقوله رحمه الله: (قوم) هذه العبارة تشير إلى أنه لا يكون الخروج من الأفراد، وأن خروج الأفراد لا يأخذ حكم خروج الجماعات، فلو أن شخصاً تبنى الخروج على جماعة المسلمين، ولم يكن له أتباع أو أفراد كالاثنين والثلاثة؛ فالصحيح: أنهم لا يأخذون حكم البغاة؛ وذلك لتعبير القرآن بالطائفة، والأصل في ذلك: عمل السلف الصالح رحمهم الله.

والشرط الثالث: أن يكون لهم شوكة ومنعة، أما إذا كانوا لا شوكة لهم ولا منعة، وانحصروا في مكان دون أذية للمسلمين، ودون تحريض للغير أن يخرج معهم بشق عصا الطاعة والشذوذ عن الجماعة؛ فإنهم لا يأخذون حكم الخوارج في قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله، وإنما من حق الإمام أن يعاملهم بما يقطع شرهم وبلاءهم عن المسلمين: إما بعزلهم، وإما بمنع الناس من الاتصال بهم، أو نفيهم ونحو ذلك مما يرى فيه المصلحة.

والشرط الأول دليله إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال الخوارج بالخروج، وهذا يدل على أنهم لا يقاتلون، ولا يستباح منهم القتال إلا بخروجهم، ويتحقق الخروج بالاعتداء على حرمات المسلمين، ومن هنا استدل العلماء بأن علياً رضي الله عنه كما في الرواية الصحيحة عنه: ما قاتل الخوارج إلا لما قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت رحمه الله ورضي عن أبيه، فلما قتلوه آذنهم علي رضي الله عنه بالقتال، فقالوا: إنهم لا يقاتلون إلا بهذا الشرط.

وهناك من العلماء -وهو رأي صحيح وأميل إليه- من يقول: إنه لا يشترط أن يبدءوا بالقتال إذا غلب على الظن أنهم سيفعلونه؛ لأنه لو اشترط هذا الشرط فمعناه: أنهم لا يقاتلون إلا إذا فعلوا الضرر بالمسلمين، والواقع أنه إذا غلب على الظن أنهم أعدوا العدة يريدون التعرض أو الأذية بالمسلمين، فحينئذ يجوز قتالهم، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، وهو أنه لا يشترط وجود القتال منهم، وأنه إذا غلب على ظن الإمام أنهم سيخرجون، وأنه سيكون منهم الضرر؛ فمن حقه أن يبدأهم دفعاً للشر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بادر عدوه قبل أن يأتي إلى المدينة كما صح عنه في غزواته صلوات الله وسلامه عليه، وكان من شجاعته عليه الصلاة والسلام أنه لا يسمع بقوم يريدون غزوه إلا بادرهم.

وقوله رحمه الله: (بتأويل سائغ)

هذا الشرط الرابع هو التأويل: أن تكون عندهم شبهة، وهذه الشبهة تكون في الرأي كما اشتبه الأمر على الخوارج، وتأولوا في قتال علي رضي الله عنه وأرضاه، فإذا تحققت هذه الأربعة الشروط فحينئذ يوصف هؤلاء بكونهم بغاة أو أهل بغي.

قال المصنف رحمه الله: [ وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه].

قوله: (وعليه) أي: يجب على الإمام أن يراسلهم، فيبعث إليهم أناساً من أهل العلم ومن أهل الصلاح، أو ممن يقبلون قوله ويناقشونه ويناظرونه، وقد يكون بعض العلماء أقدر على ردهم إلى الحق، والدليل على هذه المسألة فعل علي رضي الله عنه، فإنه بعث إلى الخوارج عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما فناظرهم، ورجع معه ألفان.

وانظر كيف أن الإسلام يحفظ الحقوق ويعالج الأمور بحكمة! فلا أكمل من شرع الله عز وجل، ولا أتم من هديه، فأرسل رضي الله عنه وأرضاه عبد الله بن عباس وناظرهم؛ لأنه قد يكون هناك أناس لبس عليهم، فكم من كلمات ظاهرها السلامة وباطنها الخطأ والخلل، ويغتر بعض المسلمين من الأخيار والصالحين بظاهرها من الخير؛ ولذلك لا يكشف عوارها، ولا يبين زيفها إلا من عنده علم وبصيرة، فحينئذ يوكل الأمر إلى العلماء أن يناقشوهم وأن يناظروهم ويقيموا عليهم الحجة، وقد نص عليه جماهير العلماء رحمهم الله: على أنه يجب على ولي الأمر أو الوالي أو الإمام أن يبعث إليهم من يقيم عليهم الحجة.

قوله: [ فإن ذكروا مظلمة أزالها].

أي: فإن ذكر البغاة مظلمة، يعني أنهم خرجوا بسبب مظلمة؛ أزالها؛ وقد ذكر بعض العلماء أنه يجب على ولي الأمر أن ينصفهم إذا ذكروا مظلمة، ويكون معهم؛ لأنهم إذا كانوا مظلومين فالواجب عليه أن يزيل عنهم الظلم, وقد تكون في الناس عصبية، أو ضعف في الدين، فإذا حصل أقل الظلم بالغوا فخرجوا، وربما حصلت فتنة وشر، فمثل هؤلاء يبين لهم أن هذه المظلمة ستزال عنهم، ويرفع ما بهم من البلاء، ويكشف عنهم الظلم؛ لأن الله أمر بالعدل، وأوجب العدل على الحكام والولاة، ولا يجوز لهم أن يظلموا رعاياهم، ول أن يكونوا سبباً للخروج عليهم بهذه المظالم.

وقد يستطيل بعض العمال في عمالته، ويستغل عمله، فيظلم ويكره الناس في ولاتهم، فحينئذ يجب على الولاة أن ينصفوا المظلومين، وأن يردوا المظالم إلى أهلها، وألا يمنعهم من قبول الحق كونه أتى من هؤلاء، بل عليهم أن يقبلوا الحق، ويردوا المظالم إلى أهلها، وينصفوهم في ذلك؛ لأن الله أوجب عليهم ذلك، وما شرع الله عز وجل الإمامة إلا لهذا المقصد العظيم وهو: إقامة العدل، ومنع الظلم، وكف الظالم عن ظلمه، فإذا ذكر البغاة المظلمة فالواجب على الإمام أن ينصفهم فيها.

قوله: [ وإن ادعوا شبهة كشفها ].

بأن يخرجوا في مدينة، ويكون سبب خروجهم في هذه المدينة كون عامل المدينة ظالماً، وبعض الأحيان يكون في البوادي فيظلمهم السعاة والجباة، وأصحاب الضرائب؛ فعلى الولاة أن يزيلوا هذه المظالم كلها، وهذا واجب عليه لتزال هذه الشبهة.

قوله: [فإن فاءوا].

أي: رجعوا إلى جماعة المسلمين، كف عنهم، وقبل رجوعهم؛ ولذلك قبل علي رضي الله عنه الخوارج الذين تابوا ورجعوا وكانوا قرابة الألفين، ولم يعنف أحداً منهم ولم يلمه.

فإذا تبين الحق للمسلم ورجع إليه، فهذا يدل على خيره وفضله، والمسلم الحق هو الوقاف عند حدود الله، الذي إذا استبانت له المعالم، وتبين له أن الشرع يلزمه بجماعة المسلمين، وسمع من العلماء النصيحة والتوجيه وقبله بنفس مطمئنة ورجع، فهذا يدل على فضله، وأنه إنسان يريد الخير، فيُقبل منه ذلك ولا يحاسب ولا يقرع ولا يوبخ، بل يثبت على رجوعه ويعان على ذلك.