مشروعية علم الوقف والابتداء من السنة
مدة
قراءة المادة :
17 دقائق
.
مشروعية علم الوقف والابتداء من السنةإن الحمد لله، نحمده ونشكره ونستعين به، ونؤمن به ونتوكَّل عليه، من يهد الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلن تجد له وليَّا نصيرًا، أما بعد:
فإن علم الوقف والابتداء يعد من العلوم المفيدة والنافعة للمسلم، وهو من الأهمية بمكان، حتى إن ابن الجزري قد قال عنه في منظومته:
وبعد تجويدك للحروف
لا بد من معرفة الوقوف
والابتداء، وهي تقسم إذن
ثلاثة تام وكاف وحسن
ويمثل هذا العلم جانبًا مهمًّا من جوانب أداء التعابير القرآنية، فهو يوضح كيف وأين يجب أن يقف قارئ القرآن، وكيف يبتدئ، وأين يقطع قراءته، ثم إنه يتصل اتصالًا شديدًا بعلم التفسير، وبإعراب القرآن، قال الزجاج: (ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه معرفة الوقف والابتداء فيه)[1]، والناظر في كتب الوقف والابتداء يجد الكثيرَ من الآثار المروية عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والتي تبين كيفية تفسيرهم لبعض آيات القرآن اعتمادًا على موطن الوقف فيها.
ولا شك أن الدليل المقبول يعد ضابطًا من الضوابط المعتبرة في الوصول إلى قوة الاستدلال، فالمقدمات الصحيحة توصل للنتائج الصحيحة، والعكس صحيح.
وإذا كان الاستدلال على المسائل والأحوال المختلفة والمتغيرة مما يتعلق بالجوانب الدنيوية يحتاج إلى أدلة كي يكون مقبولًا، فهو في أمور الدين أكثر احتياجًا، وإذا تعلق الاستدلال بالقرآن كانت الحاجة لذلك أشد، فالباب ليس مفتوحًا لكل أحد، بل على من أراد الولوج إلى هذا المنهل العظيم أن يمتلك الآلات التي تؤهله لأن يكون ما ذهب إليه مقبولًا، ولذا وجدنا أهل العلوم المختلفة يأتون بالأدلة من الكتاب ومن السنة ليؤصلوا تلك العلوم، ومن ذلك علم الوقف والابتداء، فقد استدل علماء التجويد بأدلة من السنة لكل نوع من أنواع الوقف، وبناء عليها بينوا أن ليس للقارئ أن يقف حيث شاء في القرآن، وأتوا بالأدلة على ذلك من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، وقسموا الوقف على أقسام تام وكاف وحسن وقبيح، ولكل قسم دليله.
وسأتكلم في هذا المقال عن أدلة مشروعية الوقف والابتداء من السنة، وما وقفت عليه من ذلك في كتب الوقف والابتداء، وكتب التجويد دليلان أبينهما فيما يأتي:
الحديث الأول:
1- قال الإمام الحاكم:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ الْفَقِيهُ، ثنا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الرَّقِّيُّ، ثنا أَبِي، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: «لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ»، ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ»[2].
التخريج:
أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الإيمان:1/ 91 رقم 101، والبيهقي في السنن الكبرى: 3/120 رقم 5073، قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف الفقيه المهرجاني، به، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق: 31/160، قال: أخبرنا أبو القاسم زاهر بن طاهر أنا أبو بكر البيهقي أنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف الفقيه المهرجاني، به.
تراجم الرجال:
رجاله سبعة:
1- أحمد بن سلمان بن الحسن بن إسرائيل، أبو بكر البغدادي، الحنبلي، الفقيه، النجاد، الحافظ، شيخ العلماء ببغداد، صدوق إمام، ولد سنة ثلاث وخمسين ومائتين، سمع يحيى بن جعفر بن الزبرقان، وأبا داود السجستاني، وأبا بكر بن أبي الدنيا، وهلال بن العلاء، وطبقتهم، قال الخطيب: كان صدوقًا، عارفًا، صنف كتابًا كبيرًا في السنن، وكان له بجامع المنصور حلقة قبل الجمعة للفتوى، وحلقة بعدها للإملاء، حدث عنه أبو بكر القطيعي، والدارقطني، وابن شاهين، والحاكم، وابن منده، وابن رزقويه، وخلق كثير، قال أبو إسحاق الطبري: كان النجاد يصوم الدهر ويفطر كل ليلة على رغيف فيترك منه لقمة، فإذا كان ليلة الجمعة تصدق برغيفه واكتفى بتلك اللقم، وقد صنف النجاد كتابًا في الفقه والاختلاف، قال الدارقطني: حدث النجاد من كتاب غيره ما لم يكن في أصوله، قال الخطيب كان قد أضر فلعل بعضهم قرأ عليه ذلك، وقال ابن حجر: هو صدوق[3].
2- هلال بن العلاء بن هلال بن عمر الباهلي، مولاهم، أبو عمر الرقي، حدث عنه النسائي، وأبو بكر النجاد، وغيرهم، قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: صالح، وقال في موضع آخر: ليس به بأس، روى أحاديث منكرة عن أبيه، فلا أدري الريب منه أو من أبيه، وذكره ابن حبان في الثقات، والنتيجة ما قاله ابن حجر: صدوق، من الحادية عشرة، مات في المحرم، سنة (280هـ)، وقد قارب المائة[4].
3- العلاء بن هلال الرقي، روى عنه عمرو بن محمد الناقد أحاديث موضوعة، قال أبو حاتم: منكر الحديث ضعيف الحديث، عنده عن يزيد بن زريع أحاديث موضوعة، ولد سنة خمسين ومائة، ومات سنة خمس عشرة ومائتين، يروي عن عبيد الله بن عمرو، والبصريين، روى عنه ابنه، كان ممن يقلب الأسانيد ويغير الأسماء، لا يجوز الاحتجاج به بحال[5].
4- عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي، أبو وهب، الأسدي، ثقة فقيه، ربما وهم، من الثامنة، مات سنة (180هـ)، عن ثمانين إلا سنة، سمع عبد الملك بن عمير، وابن عقيل، وزيد بن أبي أنيسة، قال يحيى بن معين: عبيدالله بن عمرو الرقى ثقة، وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول عبيدالله بن عمرو صالح الحديث ثقة صدوق لا أعرف له حديثًا منكرًا، وهو أحب إلي من زهير بن محمد، وقال العجلي: ثقة[6].
5- زيد بن أبي أنيسة، أبو أسامة، الرهاوي، شيخ الجزيرة، روى عن شهر، وعطاء، والحكم، وعنه مالك، وعبيد الله بن عمرو، حافظ إمام ثقة، توفي سنة (124)[7].
6-القاسم بن عوف الشيباني، الكوفي، صدوق يغرب، من الثالثة، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول القاسم بن عوف مضطرب الحديث، ومحله عندي الصدق، وذكره ابن حبان في الثقات، قال ابن عدي: له من الحديث شيء يسير، وهو ممن يكتب حديثه[8].
7-عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبدالرحمن، ولد سنة ثلاث من المبعث النبوي، واستصغر يوم أحد وهو ابن (14) سنة، من المكثرين، وكان شديد المتابعة للأثر، مات سنة (73هـ)[9].
الحكم على الحديث:
الحديث بهذا الإسناد ضعيف والله أعلم، فيه العلاء بن هلال، قال أبو حاتم: منكر الحديث ضعيف الحديث، عنده عن يزيد بن زريع أحاديث موضوعة، وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الأسانيد ويغير الأسماء لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال النسائي: روى عنه ابنه هلال غير حديث منكر، فلا أدري منه أتى أو من ابنه[10]، قلت: ابنه هلال وصفه الذهبي بالحافظ[11]، وهو صدوق، فالنكارة من أبيه والله أعلم.
وللحديث متابعة، فالعلاء تابعه عبدالله بن جعفر -وهو ثقة[12]- متابعة تامة في القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس[13]، وعبدالله هذا قد روى عن عبيدالله بن عمرو، وروى عنه هلال بن العلاء الرقي[14].
ومدار الإسناد على القاسم بن عوف، وهو صدوق كما قال ابن حجر، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه، إذن فالحديث بإسناد العلاء بن هلال ضعيف لا يرتقي وإن توبع، فمثله لا يتقوى حديثه، وبإسناد عبد الله بن جعفر يكون حسنًا فيه هلال بن العلاء صدوق، والقاسم بن عوف صدوق أيضًا.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة ولم يخرجاه[15]، قلت: وهذا تساهل شديد منه رحمه الله، فمثل رواية العلاء بن هلال لا تحتاج لاكتشاف علة بل هي علة ظاهرة بنفسها.
وجه الدلالة:
في هذا الحديث دلالة على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتعلمون الوقوف القرآنية كما يتعلمون القران، ولم يخالف في ذلك احد منهم فكان إجماعًا[16].
قال الأشموني: (قال النحاس: وهذا يدل على أنهم كانوا يتعلمون الوقوف كما يتعلمون القرآن، حتى قال بعضهم: إن معرفته تظهر مذهب أهل السنة من مذهب المعتزلة، كما لو وقف على قوله: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾ [القصص: 68]، فالوقف على يختار هو مذهب أهل السنة لنفي اختيار الخلق لا اختيار الحق فليس لأحد أن يختار بل الخيرة لله تعالى)[17].
النتيجة:
الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية الوقف استدلال مقبول بناءً على قبول الحديث، بل هو نص فيه، وأصل له.
الحديث الثاني:
2- سُئِلَ علي رضيَ اللهُ عنهُ عنْ مَعنى التَّرْتيلِ في قولِهِ تَعَالَى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]، فَقَالَ: التَّرْتيلُ تَجْويدُ الحُروفِ ومَعْرِفةُ الوُقُوفِ[18].
التخريج:
لم أقف على سند أو تخريج لهذا الأثر لا من كتب السنة ولا من كتب التفسير، وقد أوردته عامة كتب التجويد مستدلة به بغير إسناد، والأثر قد يكون لا أصل له.
وجه الدلالة:
إن قوله تعالى: (ورتل) أمر وهو يقتضي الوجوب؛ لأن الأصل في الأمر أن يكون للوجوب إلا إذا وجدت قرينة تصرفه عن الوجوب إلى غيره من الندب، أو الإباحة، أو الإرشاد، أو التهديد، إلى غير ذلك، فيحمل على ذلك لتدل عليه القرينة، ولم توجد قرينة هنا تصرفه عن الوجوب إلى غيره، فيبقى على الأصل وهو الوجوب، وأيضًا قوله تعالى: (ترتيلًا) تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه مما لا بد منه[19].
قال ابن الجزري: (في كلام علي رضي الله عنه دليل على وجوب تعلمه ومعرفته)[20].
نقل الأشموني بعد أن أورد هذا الأثر قول ابن الأنباري: من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء[21]، ثم قال: إذ لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن إلا بمعرفة الفواصل، فهذا أول دليل على وجوب تعلمه وتعليمه[22].
النتيجة:
هذا القول ضعيف لا أصل له على الغالب، وعليه فقد لا تثبت نسبته لعلي رضي الله عنه، ولا يجوز الاستدلال والاحتجاج به في هذا الباب، وهو إن كان قولًا مجردًا في إثبات مشروعية الوقف لا يقبل، فما بالك وقد جاء تفسيرًا لآية من القرآن، فالرد له أشد، إذن يكون الاستدلال بهذا القول على الوقف مردودًا، والله أعلم.
[1] إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل، لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري:78.
[2] استدل بهذا الحديث أبو جعفر النحاس في القطع والائتناف: 87، وأبو عمرو الداني في المكتفى: 104، وابن الجزري في النشر:1/225، والأشموني في منار الهدى: 13 .
[3] ميزان الاعتدال:1/238، والمغني في الضعفاء:1/41، وتذكرة الحفاظ:3/868، ولسان الميزان:1/180 وطبقات الحفاظ: 356 .
[4] ينظر: الجرح والتعديل:9/79، والثقات:9/248، وتهذيب الكمال: 30/346، وتذكرة الحفاظ:2/612، والكاشف: 2/342، و ميزان الاعتدال:7/101، و تقريب التهذيب: 576، وتهذيب التهذيب: 11/73.
[5] الجرح والتعديل:6/361، والمجروحين: 2/184، والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي: 2/189، والكامل: 5/223، وتهذيب الكمال: 22/544، وميزان الاعتدال: 5/131، والمغني في الضعفاء: 2/441، وتهذيب التهذيب: 8/172، وتقريب التهذيب: 436.
[6] ينظر: التاريخ الكبير: 5/392، والثقات: 7/149، والجرح والتعديل: 5/328، والكاشف: 1/685، وتذكرة الحفاظ:1/241، ومعرفة الثقات: 2/112، وتقريب التهذيب: 373، وتهذيب التهذيب: 7/38، وتهذيب الكمال: 19/136.
[7] الكاشف: 1/415، وتقريب التهذيب: 222، وتهذيب التهذيب: 3/343.
[8] الجرح والتعديل: 7/114، والثقات: 5/305، والكامل: 6/37، وتهذيب الكمال: 23/399، والمغني في الضعفاء: 2/520، وميزان الاعتدال: 5/456، والكاشف: 2/129، وتقريب التهذيب: 451، وتهذيب التهذيب: 8/293.
[9] ينظر: الاستيعاب: 3/969، والإصابة: 4/181.
[10] الكامل: 5/223.
[11] الكاشف: 2/342.
[12] هو عبد الله بن جعفر بن غيلان الرقي، أبو عبد الرحمن، القرشي، مولاهم، ثقة، لكنه تغير بأخرة فلم يفحش اختلاطه، من العاشرة، مات سنة (220هـ). تقريب التهذيب:298.
[13] القطع والائتناف: 87.
[14] ينظر: تهذيب الكمال: 14/377، و تهذيب التهذيب: 5/151.
[15] المستدرك: 1/ 91.
[16] ينظر: النشر:1/225، والمكتفى: 104، والوقف والابتداء: 45.
[17] منار الهدى: 13.
[18] استدل بهذا الحديث: ابن الجزري في النشر:1/225، والأشموني في منار الهدى: 13-14.
[19] الوقف والابتداء:45، وينظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 3/269 .
[20] النشر: 1/225.
[21] إيضاح الوقف والابتداء: 78.
[22] منار الهدى: 13-14.