شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الحدود [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الحدود].

تقدم معنا معنى الكتاب، وأنه يطلق في لسان العرب على مادة: الجمع والضم، وأطلقه العلماء رحمهم الله على كتب العلم؛ لأنها تضم المسائل والأحكام بعضها إلى بعض، فإذا ضم بعضها إلى بعض؛ اجتمعت النظائر تحت مسمىً واحد أو أصل جامع، ولا يعبرون بهذا التعبير إلا إذا كانت المادة كبيرة، وبينا منهج العلماء رحمهم الله في ذلك، فكأن المصنف رحمه الله انتهى من شيء ودخل في شيء آخر، وقد كنا في كتاب القصاص والديات وما يتبع ذلك من أبواب، واليوم إن شاء الله نستفتح -بالاستعانة بالله عز وجل، والبراءة من الحول والقوة- بالحدود.

تعريف الحدود لغة واصطلاحاً

الحدود في لسان العرب: جمع حد، وأصل الحد كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: الفاصل بين الشيئين، والحائل بين دخول بعضهما على بعض، فإذا فصل الشيء بين اثنين فهو حدّ، ويقال: الحد انتهاء القدر، فإذا كانت نهاية لا يمكن أن يتجاوزها الإنسان فهو حد.

ومن هنا اختلف العلماء، فقالوا: سمي الباب حداداً، وسمي السجّان حداداً؛ لأنه يمنع الإنسان من الخروج، والباب أيضاً يمنع الخارج عن الداخل، فالمقصود: أن مادة الحد في الأصل: المنع.

والحدود فيها وجهان:

الوجه الأول: قال بعض العلماء: إن الحدود مقدّرة من الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أن الله عز جل قد حدّها، ووضع لها قدراً معيناً، لا يمكن لنا أن نزيد على ذلك القدر ولا أن ننتقص منه، فصارت حدوداً من هذا الوجه، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولا يمكننا بحال أن نزيد على المائة ولا أن ننتقص منها، وأمرنا أن نجلد من قذف المحصنة المؤمنة أو قذف المحصن المؤمن ثمانين جلدة، وهي حد القذف، ولا يمكن لنا أن نزيد على هذا الحد ولا أن ننقص منه، قالوا: فلما حدّ الله عز وجل هذه الحدود بمقادير لا يمكن للمكلفين أن يزيدوا عليها ولا أن ينتقصوا منها سميت حدوداً من هذا الوجه، وبناء على هذا القول -وهو اختيار ابن قتيبة من أئمة اللغة وغيره رحمة الله عليهم- تكون الحدود راجعة إلى التقدير؛ لأنها مقدرات شرعاً، فهي عقوبات محددة من الله سبحانه وتعالى بنص الكتاب وسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

الوجه الثاني: قالوا: إن الحدود مأخوذة من الحد، وهو: المانع الفاصل بين الشيئين، قالوا: إن هذه الحدود تمنع الشخصين المجرم الفاعل للمعصية ومن لم يفعلها، فالحدود تمنع الفاعل للجريمة إذا أقيم عليه الحد أن يعود أو يفكر مرة ثانية في العودة إلى تلك الجريمة، فمثلاً: لو أن السارق قطعت يده، فإنه غالباً -إذا كان عنده عقل يزجره ويمنعه- لن يعاود الكرة مرة ثانية؛ لأنه كلما أراد أن يعود إلى جريمته؛ نظر إلى يده، فتذكر تلك العقوبة وآلامها، فكفته وزجرته بإذن الله عز وجل ومنعته، فهي مانعة للشخص نفسه، وهي مانعة أيضاً للغير أن يفعل فعله، ومن هنا قال سبحانه وتعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] .

وعلى هذا فالحدود زواجر وموانع، زواجر؛ لأنها تزجر الإنسان أن يعود مرة ثانية إلى فعل المعصية، وتزجر غيره وتمنعه من العود والتكرار للفعل، قال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [النور:17]، فالخطأ يحرص الشرع على عدم تكراره، والزلة يحرص الشرع أيما حرص على عدم تكرارها من الإنسان، وفي ذلك صلاح لمن فعل المعصية، وصلاح لمن عافاه الله عز وجل من تلك المعصية.

فالحدود هي: عقوبات مقدرة شرعاً للمنع من الوقوع في المعصية، وهذا التعريف تضمن المعنيين: كون الحدود مقدرة شرعاً من الله عز وجل، وكونها تمنع الغير من الوقوع فيها، فتتضمن معنيي الحد الذين أشرنا إليهما.

أنواع الحدود الشرعية

قال المصنف رحمه الله: (كتاب الحدود)، ولم يقل: كتاب الحد، فجمعها رحمه الله لاختلاف أنواعها وتعددها، فهناك حد الزنا، وحد القذف، وحد المسكر، وحد السرقة، وحد الحرابة وقطع الطريق، وحد البغاة، وحد الردة، فهذه سبعة حدود جعل الله عز وجل لها عقوباتٍ محددة مقدرة شرعاً، وألحق العلماء رحمهم الله بهذه الحدود باب التعزير، وهو الذي لا تقدير فيه، ويرجع فيه إلى اجتهاد القاضي وولي الأمر في تحديد عقوبة لمن ارتكب ما لا يصل إلى الحدود، بما يزجره ويتناسب مع فعله، وكذلك يمنع ويزجر غيره من أن يفعل كفعله.

وهذه الأبواب الثمانية هي التي سيتكلم المصنف رحمه الله عنها في كتاب الحدود، وهذه الجرائم هي: جريمة الزنا، وهي أعظم الفواحش، وجريمة القذف، وهو فاحشة اللسان، وجريمة السكر، وهو من الجرائم المتعلقة بالشرب، وجريمة السرقة، وهي: الاعتداء على أموال الناس، والجرائم الأولى التي هي: الزنا والقذف؛ اعتداء على أعراض المسلمين، وجريمة السكر اعتداء على العقل، وجريمة السرقة اعتداء على أموال الناس، وجريمة الحرابة تشمل في بعض الأحيان الاعتداء على الأعراض، وتارة الاعتداء على الأموال، وتارة الاعتداء على الأنفس، وتجمع أنواعاً مختلفة من الجرائم، ولذلك جعل الله عقوبتها أنواعاً، وجريمة البغاة هي: الخروج عن جماعة المسلمين، ومحاربتهم، والعصيان والتمرد والشذوذ عن الجماعة، وهي تتضمن الاعتداء على جماعة المسلمين، وجريمة الردة هي: جريمة في أصل الدين الذي هو العقيدة، وأما التعزيرات فهي في جرائم مختلفة، تكون تارة بالاعتداء على العرض بما لا يصل إلى الحد، وتارة بالاعتداء على الأموال بما لا يصل إلى الحد، وتكون أيضاً اعتداء بالجنايات المختلفة التي لا تقدير فيها من المشرع سبحانه وتعالى.

هذه الحدود على اختلافها جمعها المصنف رحمه الله في هذا الكتاب بقوله: (كتاب الحدود).

وهنا سؤال: هل نبدأ بالأعلى والأشد ثم نتدرج على حسب الجرائم أم نبدأ بنوع خاص من هذه الجرائم؟

منهج المصنف رحمه الله أنه ابتدأ بحد الزنا، ثم أتبعه بحد القذف، ثم أتبعه ببقية الحدود، وغيره من العلماء لم يذكروا كتاب الحدود بعد الديات والقصاص، وإنما ابتدءوا بباب البغاة، ثم ذكروا باب الردة، ثم بعد ذلك باب الحدود، وقبل أن ندخل في تفاصيل أبواب العلم نذكر أنه من الأهمية بمكان معرفة المناسبات؛ لأنها تمهد لطالب العلم فهم الأبواب، وتربط المسائل الموجودة في الأبواب، وتبين علاقة بعض هذه الأبواب ببعض.

أما العلماء الذين ذكروا حد البغاة؛ وحد قطع الطريق، وحد الردة عقب القصاص والديات؛ فذلك لأنها في الغالب تشتمل على القتل، فرءوا أنها أنسب بباب القتل، فجعلوها قبل الحدود، وفصلوها عن باب الحدود لمكان المجانسة في قضية القتل، لكونه قد ينتهي إلى القتل.

وهذا منهج درج عليه بعض الأئمة مثل الإمام النووي رحمه الله، وغيره من الأئمة كـالبغوي ، فهؤلاء رءوا قوة العقوبة، وأنها وصلت إلى حد القتل، ففي القصاص إزهاق الأنفس والأطراف، والبغي وقطع الطريق قد يوجب القتل.

والذين بدءوا بحد الزنا -كما درج عليه المصنف- تدرجوا في الحدود، ولهم ما يبرر هذا المنهج، فهم يرون أن أشد الحدود التي نص عليها الكتاب والسنة هو حد الزنا، وسنذكر لماذا أن حد الزنا هو أشد هذه الحدود حينما نبين أن الجلد في الزنا أقوى من الجلد في غيره، ويظهر هذا جلياً في العقوبات المقدرة، قالوا: وكون حد البغاة وقطع الطريق يوجب القتل ليس على كل حال، فقد لا يوجب قتلاً، ومن هنا لا يتأصل في إزهاق النفس فلا يلحق بباب الديات والقصاص، فرءوا أن المفترض أن يبدءوا بحد الزنا، والدليل على قوة هذا الحد:

أولاً: أن الله سبحانه وتعالى شدد في عقوبة الزنا، ومن هنا نحتاج أول شيء أن ننظر لماذا قدم باب الزنا على باب القذف ثم على باب الخمر وبقية الجرائم؟

أما تقديمه على باب القذف وباب الخمر فلا يشك أحد أن حد الزنا شدد الشرع فيه أكثر من هذه الحدود المتبقية، فالجلد في الزنا مائة جلدة، وفي القذف ثمانون جلدة، ومن هنا نعلم أن عقوبة الزنا أشد من عقوبة القذف.

ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى غلظ هذه العقوبة حتى قال: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فشدد في إقامة حد الزنا أكثر من غيره، فلم يذكر ذلك لا في حد السكر ولا في حد القذف.

ثالثاً: أن الزنا اتفقت الشرائع السماوية على تحريمه، أما الخمر فكان مباحاً في الشرائع التي قبلنا، وفي شريعتنا حرمه الله عز وجل، وجعل في تحريمه الخير والرحمة لهذه الأمة، فهديت هذه الأمة للفطرة، والخمر غواية وشر وبلاء.

بالنسبة للقذف الأمر واضح، فإن القذف تبعٌ للزنا، وليس أصلاً للزنا؛ لأنه اعتداء على العرض بالمعنى، لكنه ليس اعتداءً على العرض بالحس، واعتداء المعاني دون اعتداء الحس.

ومن هنا ابتدأ المصنف رحمه الله بحد الزنا، وفي هذا الباب الأول سيذكر المصنف رحمه الله أموراً تتعلق بإقامة الحد بخصوص حد الزنا، ولا يذكر أصولاً عامة للحدود، فالعلماء الذين قدموا حد الزنا -كالمصنف رحمه الله- يرون أن حد الزنا أصل وغيره ينبني عليه، ولذلك فإن عقوبة الجلد تفرعت على ما نص الله عليه في كتابه ووردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة حد الجلد للزاني والزانية، ومن هنا قالوا: إن حد الزنا أصل انبنى عليه غيره خاصة في مسائل الجلد، وسيذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب الأول جملة من المسائل والأحكام المتعلق بحد الزنا.

الأدلة على مشروعية الحدود

الأصل في شرعية الحدود: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر الحدود في كتابه، فنص على حد الزنا، فقال سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، ونص على حد القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، ونص على حد السرقة: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، ونص على حد الحرابة: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33].

كذلك أيضاً في السنة جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جريمة الزنا: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وصح عنه عليه الصلاة والسلام كما في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه أنه لما اعترف بالزنا أقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد فأمر برجمه، قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، وفي قصة العسيف -كما في الصحيح- والعسيف هو الأجير، فقد جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أناشدك الله أن تقضي بيني وبين هذا الرجل بكتاب الله، فقال الآخر: وأنا أناشدك أن تقضي بيني وبينه بكتاب الله، إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أنيس- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا وأقام عليهما الحد، وهذه كلها سنن صحيحة في حد الزنا.

وأما حد السرقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد المخزومية كما في الصحيح، وهي التي كانت تستعير المتاع وتجحده، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها)، وهذا نص في إثبات حد السرقة، وكذلك أمر عليه الصلاة والسلام بقطع يد سارق رداء صفوان ، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن أناساً من عكل أو عرينة اجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسملوا عينيه -كما في بعض الروايات- واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثرهم، فأخذوا، فأمر بهم عليه الصلاة والسلام فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمرت أعينهم، وفي لفظ: وسملت أعينهم، ثم تركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون)، وفي الصحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد شارب الخمر، فكان من الصحابة الضارب بثوبه، والضارب بنعله، وهذا كله يدل على إثبات الحدود ومشروعيتها.

الحكمة من مشروعية الحدود

للعلماء رحمهم الله في حكمة الحدود أوجه، فمنهم من يقول: الحدود زواجر، قصد الله عز وجل من شرعها لعباده أن يجعلها زاجرة لهم ومانعة لهم من الوقوع في هذه المحرمات العظيمة، والكبائر الموبقة والمهلكة، قالوا: إن أصل الشرع المراد به صيانة الناس عما فيه فساد دينهم ودنياهم وآخرتهم، والموجب لهذه العقوبات مفسد، ومن هنا هي زواجر تمنع الناس من الوقوع والتلبس بهذه الجرائم، قالوا: والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر أن تقام علانية ولا تقام خفية، وأمر أن يشهد هذه العقوبات طائفة من المؤمنين اتعاظاً واعتباراً، فهذا يدل على أنها زواجر، وإذا أقيمت هذه الحدود أحيت قلوب الناس وانزجروا، فقل أن يرفع شخص يده راجماً لمحصن أن يقع فيما وقع فيه، وإذا رأت عيناه تألم الزاني الذي يقام عليه حد الجلد؛ فإنه يتألم لذلك، وينكف وينزجر، فهي زواجر وروادع تمنع وتزجر.

ومن العلماء من قال: إن الحدود جوابر، أي: أن الله سبحانه وتعالى شرع الحد كفارة للذنب، واستدلوا بأدلة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في خطبته أن من أقيم عليه الحد فهو كفارة له، ومن لم يقم عليه الحد -أي مات ولم يتب من ذنبه- فهو إلى مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، إن عذبه فبعدله، وإن غفر له فبفضله، وهذا إن لم يتب، فإن تاب قبل موته تاب الله عز وجل عليه، وهذا بإجماع العلماء، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا واضحة جلية.

قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الحد كفارة، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أقام الحد على ماعز بن مالك الأسلمي الذي اعترف بالزنا، اختلف الصحابة: هل هو في الجنة أم في النار؟ فقال قوم: إنه فعل كبيرة فهو معذب، وقال قوم: إنه قد تاب، والله يتوب على من تاب، فلما خرج عليه الصلاة والسلام وسمعهم يختلفون قال عليه الصلاة والسلام: (إنه الآن ينغمس في أنهار الجنة)، فهذا يدل على أن الحد يكفر الذنب، وكذلك لما زنت المرأة واختلفوا: هل هي معذبة أم مرحومة؟ خرج عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم)، وقال: (وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟)، لكن هذا جاء ما ينسخه، مما يدل على أن الأفضل والأكمل الأخذ بالرخصة؛ لأن ماعز بن مالك خير بين أن يتوب فيتوب الله عليه، وبين أن يقام عليه الحد، فاختار أن يقام عليه الحد، فمن أهل العلم من قال: كيف يختار إقامة الحد الشديد مع أن التوبة أخف وأرحم؟ وأجيب عن هذا بأن ماعزاً شك في قبول توبته، ورضي لنفسه ما هو عزيمة بينة، ولكن السنة دلت دلالة واضحة على أن الأفضل والأكمل أن يستتر، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما اعترف ماعز ، واعترفت المرأتان بالزنا، وأقيم عليهم الحد؛ خطب عليه الصلاة والسلام الناس، وقال: (أيها الناس! من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله)، فهذا نص واضح صريح، وهو متأخر. وبعض الذين يتلبسون بالجرائم في زماننا يشدد بعضهم على نفسه إذا تاب أو زجر بالزواجر، فلا يرضى إلا أن يعترف أمام القاضي ويطلب أن يقام عليه الحد، فمثل هؤلاء ينبغي على طلاب العلم وعلى الأئمة والخطباء أن ينصحوهم بالسنة، وأن يبينوا لهم أن النصوص واضحة جلية في أن الأفضل والأكمل لأحدهم أن يستتر بستر الله عز وجل، وهذا هو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتشديد على الناس في هذا الأمر ليس من السنة، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إن كثرة إيراد العذاب بالنار، والتخويف بعذاب القبر، وقرع الناس دائماً بهذا الشيء، دون ذكر الجنة وسعة رحمة الله عز وجل يفضي ببعض الناس إلى الغلو في التوبة، والغلو في الرجوع إلى الله في العبادات، والغلو في الطاعة، ومن هنا كره بعض العلماء أن يتقدم القصاص والوعاظ في الخطب والمواعظ؛ لأنهم لا يفهمون أصول الشريعة في الجمع بين الرجاء والخوف؛ لأن الواقع في الذنب يحتاج إلى نوع من الحكمة والتلطف، فالمستخف لحدود الله المنتهك لمحارم الله عز وجل يزجر بما يناسبه، ومن جاء متفطر القلب، منيباً إلى الرب، تائباً من قرارة قلبه، أو يعلم منه التوبة من دلائل حاله، لا يزاد على ما هو عليه؛ لأنه إذا زيد على حاله ذلك؛ أوجب له القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه).

والذي يظهر أن الحدود زواجر وجوابر، فيها معنى الزجر وفيها معنى الجبر، فهي جابرة للكسر بإذن الله عز وجل، وأيضاً زاجرة عن حدود الله وعن محارم الله.

الحدود في لسان العرب: جمع حد، وأصل الحد كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: الفاصل بين الشيئين، والحائل بين دخول بعضهما على بعض، فإذا فصل الشيء بين اثنين فهو حدّ، ويقال: الحد انتهاء القدر، فإذا كانت نهاية لا يمكن أن يتجاوزها الإنسان فهو حد.

ومن هنا اختلف العلماء، فقالوا: سمي الباب حداداً، وسمي السجّان حداداً؛ لأنه يمنع الإنسان من الخروج، والباب أيضاً يمنع الخارج عن الداخل، فالمقصود: أن مادة الحد في الأصل: المنع.

والحدود فيها وجهان:

الوجه الأول: قال بعض العلماء: إن الحدود مقدّرة من الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أن الله عز جل قد حدّها، ووضع لها قدراً معيناً، لا يمكن لنا أن نزيد على ذلك القدر ولا أن ننتقص منه، فصارت حدوداً من هذا الوجه، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولا يمكننا بحال أن نزيد على المائة ولا أن ننتقص منها، وأمرنا أن نجلد من قذف المحصنة المؤمنة أو قذف المحصن المؤمن ثمانين جلدة، وهي حد القذف، ولا يمكن لنا أن نزيد على هذا الحد ولا أن ننقص منه، قالوا: فلما حدّ الله عز وجل هذه الحدود بمقادير لا يمكن للمكلفين أن يزيدوا عليها ولا أن ينتقصوا منها سميت حدوداً من هذا الوجه، وبناء على هذا القول -وهو اختيار ابن قتيبة من أئمة اللغة وغيره رحمة الله عليهم- تكون الحدود راجعة إلى التقدير؛ لأنها مقدرات شرعاً، فهي عقوبات محددة من الله سبحانه وتعالى بنص الكتاب وسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

الوجه الثاني: قالوا: إن الحدود مأخوذة من الحد، وهو: المانع الفاصل بين الشيئين، قالوا: إن هذه الحدود تمنع الشخصين المجرم الفاعل للمعصية ومن لم يفعلها، فالحدود تمنع الفاعل للجريمة إذا أقيم عليه الحد أن يعود أو يفكر مرة ثانية في العودة إلى تلك الجريمة، فمثلاً: لو أن السارق قطعت يده، فإنه غالباً -إذا كان عنده عقل يزجره ويمنعه- لن يعاود الكرة مرة ثانية؛ لأنه كلما أراد أن يعود إلى جريمته؛ نظر إلى يده، فتذكر تلك العقوبة وآلامها، فكفته وزجرته بإذن الله عز وجل ومنعته، فهي مانعة للشخص نفسه، وهي مانعة أيضاً للغير أن يفعل فعله، ومن هنا قال سبحانه وتعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] .

وعلى هذا فالحدود زواجر وموانع، زواجر؛ لأنها تزجر الإنسان أن يعود مرة ثانية إلى فعل المعصية، وتزجر غيره وتمنعه من العود والتكرار للفعل، قال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [النور:17]، فالخطأ يحرص الشرع على عدم تكراره، والزلة يحرص الشرع أيما حرص على عدم تكرارها من الإنسان، وفي ذلك صلاح لمن فعل المعصية، وصلاح لمن عافاه الله عز وجل من تلك المعصية.

فالحدود هي: عقوبات مقدرة شرعاً للمنع من الوقوع في المعصية، وهذا التعريف تضمن المعنيين: كون الحدود مقدرة شرعاً من الله عز وجل، وكونها تمنع الغير من الوقوع فيها، فتتضمن معنيي الحد الذين أشرنا إليهما.

قال المصنف رحمه الله: (كتاب الحدود)، ولم يقل: كتاب الحد، فجمعها رحمه الله لاختلاف أنواعها وتعددها، فهناك حد الزنا، وحد القذف، وحد المسكر، وحد السرقة، وحد الحرابة وقطع الطريق، وحد البغاة، وحد الردة، فهذه سبعة حدود جعل الله عز وجل لها عقوباتٍ محددة مقدرة شرعاً، وألحق العلماء رحمهم الله بهذه الحدود باب التعزير، وهو الذي لا تقدير فيه، ويرجع فيه إلى اجتهاد القاضي وولي الأمر في تحديد عقوبة لمن ارتكب ما لا يصل إلى الحدود، بما يزجره ويتناسب مع فعله، وكذلك يمنع ويزجر غيره من أن يفعل كفعله.

وهذه الأبواب الثمانية هي التي سيتكلم المصنف رحمه الله عنها في كتاب الحدود، وهذه الجرائم هي: جريمة الزنا، وهي أعظم الفواحش، وجريمة القذف، وهو فاحشة اللسان، وجريمة السكر، وهو من الجرائم المتعلقة بالشرب، وجريمة السرقة، وهي: الاعتداء على أموال الناس، والجرائم الأولى التي هي: الزنا والقذف؛ اعتداء على أعراض المسلمين، وجريمة السكر اعتداء على العقل، وجريمة السرقة اعتداء على أموال الناس، وجريمة الحرابة تشمل في بعض الأحيان الاعتداء على الأعراض، وتارة الاعتداء على الأموال، وتارة الاعتداء على الأنفس، وتجمع أنواعاً مختلفة من الجرائم، ولذلك جعل الله عقوبتها أنواعاً، وجريمة البغاة هي: الخروج عن جماعة المسلمين، ومحاربتهم، والعصيان والتمرد والشذوذ عن الجماعة، وهي تتضمن الاعتداء على جماعة المسلمين، وجريمة الردة هي: جريمة في أصل الدين الذي هو العقيدة، وأما التعزيرات فهي في جرائم مختلفة، تكون تارة بالاعتداء على العرض بما لا يصل إلى الحد، وتارة بالاعتداء على الأموال بما لا يصل إلى الحد، وتكون أيضاً اعتداء بالجنايات المختلفة التي لا تقدير فيها من المشرع سبحانه وتعالى.

هذه الحدود على اختلافها جمعها المصنف رحمه الله في هذا الكتاب بقوله: (كتاب الحدود).

وهنا سؤال: هل نبدأ بالأعلى والأشد ثم نتدرج على حسب الجرائم أم نبدأ بنوع خاص من هذه الجرائم؟

منهج المصنف رحمه الله أنه ابتدأ بحد الزنا، ثم أتبعه بحد القذف، ثم أتبعه ببقية الحدود، وغيره من العلماء لم يذكروا كتاب الحدود بعد الديات والقصاص، وإنما ابتدءوا بباب البغاة، ثم ذكروا باب الردة، ثم بعد ذلك باب الحدود، وقبل أن ندخل في تفاصيل أبواب العلم نذكر أنه من الأهمية بمكان معرفة المناسبات؛ لأنها تمهد لطالب العلم فهم الأبواب، وتربط المسائل الموجودة في الأبواب، وتبين علاقة بعض هذه الأبواب ببعض.

أما العلماء الذين ذكروا حد البغاة؛ وحد قطع الطريق، وحد الردة عقب القصاص والديات؛ فذلك لأنها في الغالب تشتمل على القتل، فرءوا أنها أنسب بباب القتل، فجعلوها قبل الحدود، وفصلوها عن باب الحدود لمكان المجانسة في قضية القتل، لكونه قد ينتهي إلى القتل.

وهذا منهج درج عليه بعض الأئمة مثل الإمام النووي رحمه الله، وغيره من الأئمة كـالبغوي ، فهؤلاء رءوا قوة العقوبة، وأنها وصلت إلى حد القتل، ففي القصاص إزهاق الأنفس والأطراف، والبغي وقطع الطريق قد يوجب القتل.

والذين بدءوا بحد الزنا -كما درج عليه المصنف- تدرجوا في الحدود، ولهم ما يبرر هذا المنهج، فهم يرون أن أشد الحدود التي نص عليها الكتاب والسنة هو حد الزنا، وسنذكر لماذا أن حد الزنا هو أشد هذه الحدود حينما نبين أن الجلد في الزنا أقوى من الجلد في غيره، ويظهر هذا جلياً في العقوبات المقدرة، قالوا: وكون حد البغاة وقطع الطريق يوجب القتل ليس على كل حال، فقد لا يوجب قتلاً، ومن هنا لا يتأصل في إزهاق النفس فلا يلحق بباب الديات والقصاص، فرءوا أن المفترض أن يبدءوا بحد الزنا، والدليل على قوة هذا الحد:

أولاً: أن الله سبحانه وتعالى شدد في عقوبة الزنا، ومن هنا نحتاج أول شيء أن ننظر لماذا قدم باب الزنا على باب القذف ثم على باب الخمر وبقية الجرائم؟

أما تقديمه على باب القذف وباب الخمر فلا يشك أحد أن حد الزنا شدد الشرع فيه أكثر من هذه الحدود المتبقية، فالجلد في الزنا مائة جلدة، وفي القذف ثمانون جلدة، ومن هنا نعلم أن عقوبة الزنا أشد من عقوبة القذف.

ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى غلظ هذه العقوبة حتى قال: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فشدد في إقامة حد الزنا أكثر من غيره، فلم يذكر ذلك لا في حد السكر ولا في حد القذف.

ثالثاً: أن الزنا اتفقت الشرائع السماوية على تحريمه، أما الخمر فكان مباحاً في الشرائع التي قبلنا، وفي شريعتنا حرمه الله عز وجل، وجعل في تحريمه الخير والرحمة لهذه الأمة، فهديت هذه الأمة للفطرة، والخمر غواية وشر وبلاء.

بالنسبة للقذف الأمر واضح، فإن القذف تبعٌ للزنا، وليس أصلاً للزنا؛ لأنه اعتداء على العرض بالمعنى، لكنه ليس اعتداءً على العرض بالحس، واعتداء المعاني دون اعتداء الحس.

ومن هنا ابتدأ المصنف رحمه الله بحد الزنا، وفي هذا الباب الأول سيذكر المصنف رحمه الله أموراً تتعلق بإقامة الحد بخصوص حد الزنا، ولا يذكر أصولاً عامة للحدود، فالعلماء الذين قدموا حد الزنا -كالمصنف رحمه الله- يرون أن حد الزنا أصل وغيره ينبني عليه، ولذلك فإن عقوبة الجلد تفرعت على ما نص الله عليه في كتابه ووردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة حد الجلد للزاني والزانية، ومن هنا قالوا: إن حد الزنا أصل انبنى عليه غيره خاصة في مسائل الجلد، وسيذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب الأول جملة من المسائل والأحكام المتعلق بحد الزنا.

الأصل في شرعية الحدود: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر الحدود في كتابه، فنص على حد الزنا، فقال سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، ونص على حد القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، ونص على حد السرقة: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، ونص على حد الحرابة: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33].

كذلك أيضاً في السنة جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جريمة الزنا: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وصح عنه عليه الصلاة والسلام كما في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه أنه لما اعترف بالزنا أقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد فأمر برجمه، قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، وفي قصة العسيف -كما في الصحيح- والعسيف هو الأجير، فقد جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أناشدك الله أن تقضي بيني وبين هذا الرجل بكتاب الله، فقال الآخر: وأنا أناشدك أن تقضي بيني وبينه بكتاب الله، إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أنيس- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا وأقام عليهما الحد، وهذه كلها سنن صحيحة في حد الزنا.

وأما حد السرقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد المخزومية كما في الصحيح، وهي التي كانت تستعير المتاع وتجحده، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها)، وهذا نص في إثبات حد السرقة، وكذلك أمر عليه الصلاة والسلام بقطع يد سارق رداء صفوان ، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن أناساً من عكل أو عرينة اجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسملوا عينيه -كما في بعض الروايات- واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثرهم، فأخذوا، فأمر بهم عليه الصلاة والسلام فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمرت أعينهم، وفي لفظ: وسملت أعينهم، ثم تركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون)، وفي الصحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد شارب الخمر، فكان من الصحابة الضارب بثوبه، والضارب بنعله، وهذا كله يدل على إثبات الحدود ومشروعيتها.

للعلماء رحمهم الله في حكمة الحدود أوجه، فمنهم من يقول: الحدود زواجر، قصد الله عز وجل من شرعها لعباده أن يجعلها زاجرة لهم ومانعة لهم من الوقوع في هذه المحرمات العظيمة، والكبائر الموبقة والمهلكة، قالوا: إن أصل الشرع المراد به صيانة الناس عما فيه فساد دينهم ودنياهم وآخرتهم، والموجب لهذه العقوبات مفسد، ومن هنا هي زواجر تمنع الناس من الوقوع والتلبس بهذه الجرائم، قالوا: والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر أن تقام علانية ولا تقام خفية، وأمر أن يشهد هذه العقوبات طائفة من المؤمنين اتعاظاً واعتباراً، فهذا يدل على أنها زواجر، وإذا أقيمت هذه الحدود أحيت قلوب الناس وانزجروا، فقل أن يرفع شخص يده راجماً لمحصن أن يقع فيما وقع فيه، وإذا رأت عيناه تألم الزاني الذي يقام عليه حد الجلد؛ فإنه يتألم لذلك، وينكف وينزجر، فهي زواجر وروادع تمنع وتزجر.

ومن العلماء من قال: إن الحدود جوابر، أي: أن الله سبحانه وتعالى شرع الحد كفارة للذنب، واستدلوا بأدلة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في خطبته أن من أقيم عليه الحد فهو كفارة له، ومن لم يقم عليه الحد -أي مات ولم يتب من ذنبه- فهو إلى مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، إن عذبه فبعدله، وإن غفر له فبفضله، وهذا إن لم يتب، فإن تاب قبل موته تاب الله عز وجل عليه، وهذا بإجماع العلماء، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا واضحة جلية.

قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الحد كفارة، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أقام الحد على ماعز بن مالك الأسلمي الذي اعترف بالزنا، اختلف الصحابة: هل هو في الجنة أم في النار؟ فقال قوم: إنه فعل كبيرة فهو معذب، وقال قوم: إنه قد تاب، والله يتوب على من تاب، فلما خرج عليه الصلاة والسلام وسمعهم يختلفون قال عليه الصلاة والسلام: (إنه الآن ينغمس في أنهار الجنة)، فهذا يدل على أن الحد يكفر الذنب، وكذلك لما زنت المرأة واختلفوا: هل هي معذبة أم مرحومة؟ خرج عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم)، وقال: (وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟)، لكن هذا جاء ما ينسخه، مما يدل على أن الأفضل والأكمل الأخذ بالرخصة؛ لأن ماعز بن مالك خير بين أن يتوب فيتوب الله عليه، وبين أن يقام عليه الحد، فاختار أن يقام عليه الحد، فمن أهل العلم من قال: كيف يختار إقامة الحد الشديد مع أن التوبة أخف وأرحم؟ وأجيب عن هذا بأن ماعزاً شك في قبول توبته، ورضي لنفسه ما هو عزيمة بينة، ولكن السنة دلت دلالة واضحة على أن الأفضل والأكمل أن يستتر، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما اعترف ماعز ، واعترفت المرأتان بالزنا، وأقيم عليهم الحد؛ خطب عليه الصلاة والسلام الناس، وقال: (أيها الناس! من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله)، فهذا نص واضح صريح، وهو متأخر. وبعض الذين يتلبسون بالجرائم في زماننا يشدد بعضهم على نفسه إذا تاب أو زجر بالزواجر، فلا يرضى إلا أن يعترف أمام القاضي ويطلب أن يقام عليه الحد، فمثل هؤلاء ينبغي على طلاب العلم وعلى الأئمة والخطباء أن ينصحوهم بالسنة، وأن يبينوا لهم أن النصوص واضحة جلية في أن الأفضل والأكمل لأحدهم أن يستتر بستر الله عز وجل، وهذا هو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتشديد على الناس في هذا الأمر ليس من السنة، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إن كثرة إيراد العذاب بالنار، والتخويف بعذاب القبر، وقرع الناس دائماً بهذا الشيء، دون ذكر الجنة وسعة رحمة الله عز وجل يفضي ببعض الناس إلى الغلو في التوبة، والغلو في الرجوع إلى الله في العبادات، والغلو في الطاعة، ومن هنا كره بعض العلماء أن يتقدم القصاص والوعاظ في الخطب والمواعظ؛ لأنهم لا يفهمون أصول الشريعة في الجمع بين الرجاء والخوف؛ لأن الواقع في الذنب يحتاج إلى نوع من الحكمة والتلطف، فالمستخف لحدود الله المنتهك لمحارم الله عز وجل يزجر بما يناسبه، ومن جاء متفطر القلب، منيباً إلى الرب، تائباً من قرارة قلبه، أو يعلم منه التوبة من دلائل حاله، لا يزاد على ما هو عليه؛ لأنه إذا زيد على حاله ذلك؛ أوجب له القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه).

والذي يظهر أن الحدود زواجر وجوابر، فيها معنى الزجر وفيها معنى الجبر، فهي جابرة للكسر بإذن الله عز وجل، وأيضاً زاجرة عن حدود الله وعن محارم الله.

قال رحمه الله تعالى: [لا يجب الحد إلا على بالغ].

قوله: (لا يجب الحد) أي: حد الزنا، (إلا على بالغ)، ومثله بقية الحدود، والبلوغ هو: طور ينتقل فيه الإنسان من الصبا إلى الحلم، وهو العقل، وقد تقدم معنا في مسائل متعددة من العبادات والمعاملات مثل مسائل الحجر العلامات المعتبرة للبلوغ.

قال: (لا يجب الحد إلا على بالغ) ومفهوم هذا أنه إذا كان صبياً لا يجب عليه الحد، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم)، فدل على أن الصبي مرفوع عنه القلم، فلو وقع صبي في فاحشة الزنا مثلاً؛ فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه لم يثبت شرط إقامة حد الزنا وهو البلوغ، فيشترط في ثبوت حد الزنا على الزاني أن يكون بالغاً.

قال المصنف رحمه الله: [عاقل].

العقل شرط تكليف، فمن كان غير عاقل -بأن كان مجنوناً- لا يقام عليه الحد، وهذان الشرطان: (البلوغ والعقل) محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، فكلهم مجمعون ومتفقون على أن الصبي لا يقام عليه الحد، والمجنون لا يقام عليه الحد، بشرط أن يكون الزنا أو الفاحشة أو الجريمة وقعت أثناء الصبا، أي: قبل البلوغ، وأثناء الجنون، فإذا كان مجنوناً فإنه غير مكلف، والأصل في ذلك الحديث المتقدم وفيه: (وعن المجنون حتى يفيق)، فإن كان يفيق تارة ويجن تارة نظرنا: فإن وقع زناه أثناء الإفاقة؛ أخذ بجريمته كما يؤاخذ المفيق والعاقل، وذلك لأنه لا موجب لإسقاط التكليف عنه، فهو مؤاخذ بفعله.

ويضاف إلى البلوغ والعقل: الاختيار، وبناء على ذلك فإنه لا يقام الحد على مكره، فلو أكره على فعله ولم يكن بيده ذلك؛ فإنه لا يقام عليه؛ لأن الله تعالى أسقط بالإكراه الردة، وهي أعظم الذنوب وأشدها، وهذا خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله، فالمكره يسقط عنه التكليف، وقد بينا شروط الإكراه، وبينا الأدلة على أن الإكراه مؤثر.

إذاً: يشترط: البلوغ والعقل والاختيار، فلا يقام الحد على مكره.

قال المصنف رحمه الله: [ملتزم].

الالتزام بأحكام الشريعة معتبر، وهذه المسألة تقدمت معنا، ولكن قد يأتي لها شيء من البيان أكثر إن شاء الله في حد الزنا، وهي مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ فإذا كان الذي زنى ملتزماً بأحكام الشريعة؛ فإننا نقيم عليه الحد، لكن لو كان غير ملتزم كالحربي والمستأمن، أو كان من أهل الذمة، فهل الذميون مؤاخذون بحيث لو أن اثنين من أهل الكتاب زنيا ورفعا إلى قاض مسلم يقيم عليهما الحد أم لا؟

الصحيح أنه يحكم بينهما بشرع الله عز وجل، كما قال تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49]، فأمر الله عز وجل بالرجوع إلى شرعه ودينه، والتخيير في الحكم بينهم في قوله: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42] منسوخ، أو له وجه آخر ذكرناه، وهو في بعض الأحوال التي لا تكون فيها العزيمة، وسيأتي هذا بتفصيل أكثر في كتاب القضاء.

إذا ثبت هذا، فإن الملتزم تقام عليه الحدود؛ لأنه قد التزمها بإسلامه، وكذلك أهل الكتاب إذا ترافعوا إلينا فإنهم ملزمون بشريعتنا، وقد أكدت السنة ذلك كما في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقام الحد على اليهوديين الذين زنيا، فأمر بهما فرجما، وفي هذا الحديث تفصيل سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى في موضعه.

قال المصنف رحمه الله: [عالم بالتحريم].

وهو أن يكون عالماً بحرمة الجريمة التي فعلها، فإذا كان لم يعلم ولم تقم عليه الحجة؛ فإنه يسقط عنه الحد للشبهة، وذكروا من أمثلة ذلك: حديث العهد بالإسلام، فإن الوثنيين والإباحيين واللادينيين عندهم استخفاف بالمحارم، خاصة الإباحيين، فلو أن أحداً منهم أسلم، ولم يعرف شرائع الإسلام، فوقعت منه جريمة الزنا قبل أن يعلم الحكم، فحينئذٍ لم تقم عليه الحجة، وهذه مسألة من المسائل التي يعذر فيها بالجهل، ولها أصل من قضاء الصحابة والسلف رضوان الله عليهم، فإذا كان غير عالم؛ فإنه لا يقام عليه الحد حتى تقام عليه الحجة لمكان الشبهة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدرء الحدود بالشبهات.