شرح زاد المستقنع باب مقادير ديات النفس [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [هذه أصول الدية]

تقدم معنا أن المصنف رحمه الله ذكر أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والفضة والبقر والماشية، ومن أهل العلم من قال: الإبل هي الأصل، وهذا من حيث الدليل أقوى وأصح وأولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها في الديات، وهذا في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل) فنص عليه الصلاة والسلام على هذا الأصل.

وفي حديث عمرو بن حزم في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الديات ما يشهد بهذا، وقد أجمعت الأمة على قبول هذا الكتاب والعمل به، كما ذكر ذلك الإمام الحافظ ابن عبد البر ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، والإمام ابن القيم ، والحافظ ابن حجر رحمة الله على الجميع.

حتى قالوا: إن شهرته أغنت عن طلب إسناده، والعمل عند سلف الأمة الصالح رحمهم الله والتابعين لهم من الخلف على هذا، أي: العمل بهذا الكتاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل) فهذا هو الأصل، والمصنف رحمه الله زاد لنا الذهب والفضة، وفيها قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقضاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقدر عمر رضي الله عنه الإبل كما بينا في المجلس الماضي، ومن هنا صارت أصلاً ثانياً عند العلماء رحمهم الله.

ثم بعد ذلك البقر والغنم على الأصل الذي ذكرناه في خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه اعتبر البقر واعتبر الغنم بديلاً عن الإبل، وبديلاً عن الذهب والفضة.

لكن عند النظر من حيث الأصل فإن الإبل هي الأصل، وعلى هذا فهي التي عليها المعول، وإنما لزم الرجوع لهذا للتنبيه؛ لأنه سيرتبط كلام سيأتي للمصنف رحمه الله بهذه الجملة، وأن العبرة بالإبل بالغة ما بلغت، سواء غلت قيمتها أو نقصت فهي الأصل وهي التي عليها المعول.

قال رحمه الله: [ فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله ]:

قوله: (فأيها أحضر من تلزمه) أي: الدية (لزم الولي قبوله) أي: قبول الذي أحضره، سواء كان الإبل أو الذهب أو الفضة أو البقر أو الشياه، على التفصيل الذي تقدم، لكن إذا قلنا: إن الإبل هي الأصل؛ فالأصل الذي يلزم بأخذه هو الإبل، وحينئذٍ لا يُلزم بالذهب والفضة وله الحق أن يقول: أريد الإبل. هذا من حيث الأصل، لكن العلماء والأئمة رحمهم الله نبهوا على مسألة إذا شحت الإبل وقلت.

مثلاً: في بعض الأزمنة مثل زماننا تكثر الحوادث ويكثر قتل الخطأ في السيارات ونحوها، فلو تصورت مثلاً السيارة ربما يكون فيها الأربعون ويهلكون في لحظة واحدة، وتلزم دية هؤلاء، فإذا كانوا أربعين، فيلزم لهم أربعة آلاف من الإبل، ثم حادث آخر وثانٍ وثالث حتى تشح الإبل، وحينئذٍ تصبح عزيزة.

لذلك ذكر بعض العلماء هذا من باب المصلحة المرسلة، وعدلوا بها إلى التقويم؛ أي: تقويمها بالذهب والفضة، والتقويم على وجهين:

تقويم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويعتبر أصلاً عند أهل العلم إذا قلنا: إنها ألف مثقال من الذهب. وهناك خلاف في مسألة مهمة وهي: هل تقديرات الصحابة في الأحكام تعتبر وقتية زمانية بحسب عرفهم؟ أم أنها باقية إلى قيام الساعة، يعني تعبدية؟

إن تقديرات الصحابة واجتهاداتهم مثل أقضية الصحابة في قتل الصيد التي تقدمت معنا، حينما قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحمامة في الحرم شاة، وهذا حكم وقضاء من خليفة راشد، وقضاء الصحابة رضوان الله عليهم في الوعل والثيتل، كما قضى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعبد الله بن عباس .

إن قلت: إن هذا القضاء يبقى إلى يوم القيامة فلا يستأنف الاجتهاد فيه، فهذا وجه، ويختاره الحنابلة ويدرجون عليه، ومنها مسألة الحمى؛ فمثلاً عندنا حمى عمر بن الخطاب وحمى عثمان رضي الله عنهما، فهل إذا حموا يظل حمى إلى قيام الساعة؟ أم أنه وقتي زماني مقدر بذلك الزمان، فإذا تغير الزمان ممكن أن يجتهد باجتهاد جديد، فيحكم بارتفاع الحمى، ويحكم بتجديد اجتهاد الحكمين في مسألة الصيد، ومن أمثلتها مسألتنا.

فإن قلنا: إن عمر بن الخطاب وقت وحدد الدية على سبيل الإلزام فلا تغير، فننظر قيمة الألف دينار كم تعادل في زماننا، والاثني عشر ألف درهم، ونقدرها بالدراهم، مثل الريالات الموجودة وعدلها من الذهب بالجنيهات والدنانير والدولارات، هذه من جهة الذهب وهذه من جهة الفضة، هذا إذا قلنا: إنها زمانية محددة بذلك العرف. ويشهـد لهذا قول عمر : ألا إن الإبل قد غلت. ففارق بين زمانها في عهـد النبي صلى الله عليه وسلم وبين زمانه هو، فجعل طرو الاختلاف في الأسعار موجباً لطرو الحكم وتجديد الحكم، وهذا وجه عند بعض العلمـاء رحمهم الله.

وبناءً على هذا تصبح الإبل هي الأصل وتخرج من الإشكال كله.

فإذا قلنا: إن الإبل هي الأصل. أصبح التقدير بالعدل من اجتهاد عمر رضي الله عنه، وفيه أحاديث مرفوعة ضعيفة، وقد بينّا هذا وأشرنا إليه فيما مضى.

قال رحمه الله: [ ففي قتل العمد وشبهه خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة ].

أنواع الدية واختلاف العلماء في تغليظها

قوله: [ففي قتل العمد وشبهه]: الدية تنقسم إلى نوعين:

النوع الأول: الدية المغلظة.

والنوع الثاني: الدية المخففة، أو مطلق الدية، كما يقول بعض العلماء رحمهم الله.

التغليظ في الدية: التشديد والتعظيم، وأصل الشيء الغليظ هو: الشديد والعظيم، وبعض العلماء يرى أنه يُشرع تغليظ الدية، ومنهم من لا يرى التغليظ، والذين يرون التغليظ يختلفون:

المذهب الأول: منهم من يحصر التغليظ على صفة القتل، فيقول: إذا قتلَ قتل عمد أو شبه عمد فإنه تُغلظ عليه الدية، ولا يسوى بين دية الخطأ المحض وبين دية العمد وشبه العمد.

والمذهب الثاني يقول: إن الدية تغلظ؛ فتغلظ في صفة القتل، وتغلظ بالزمان وتغلظ بالمكان، وتغلظ بالشخص المقتول، فيغلظونها إذا كانت في حرم مكة، واختلف في حرم المدينة هل تغلظ أو لا؟ فتغليظها في حرم مكة مأثور عن خليفتين راشدين عن عمر حكاية، وعن عثمان رواية صحيحة، وفي شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف.

فهذا التغليظ أُثر عن عمر ، وعثمان ، وعبد الله بن عمر ، وصار التغليظ إلى ثلث الدية، يعني يجب عليه دية مع زيادة الثلث، وهذا كما ذكرنا صح عن عثمان رضي الله عنه، ويلاحظ أن التغليظ هنا ليس في الإبل، وإنما هو في النقد، ويشمل الإبل والنقد ولا ينحصر في الإبل وحدها.

قضى عمر بن الخطاب في رجل وطئ في الطواف في البيت بدية وثلث، يعني زاد على الجاني ثلث الدية تعظيماً للحرم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً.

قالوا: فهذا يدل على أن الدية داخل الحرم تغلظ، وهذا مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وخالف هذا القول قول آخر فقال: إن الدية لا تغلظ في الحرم. والقول الأول عند الشافعية، وعند الحنابلة قول به، وهو رواية عن الإمام أحمد ، ولكن الرواية التي عليها ظاهر مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وهو مذهب الحنفية وأهل الرأي، وقول فقهاء المدينة السبعة: على أنه لا تغلظ الدية داخل الحرم.

فلو أخطأ شخص وقتل شخصاً في الحرم لا تضاعف عليه الدية، واستدلوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة، قال: (وأنتم يا خزاعة! قد قتلتم القتيل من هذيل وإني عاقله) فخزاعة قتلت الرجل من هذيل، وكانت خزاعة حلفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فتحمل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتول ولم يغلظ الدية مع أن القتل وقع داخل الحرم، وهذا يدل على أن الدية لا تغلظ لا بالزمان ولا بالمكان.

الصورة الثانية عند القائلين بالتغليظ: التغليظ بالزمان، يقولون: من قتل خطأً في الأشهر الحرم، فإننا نوجب عليه الدية وثلثاً، وهذا من باب التغليظ بالزمان.

ودليلنا على أن هذا القول مرجوح: أن الله تعالى أمر بالدية، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم الدية أنها مائة من الإبل، وغلظ في أثمان الإبل وطريقتها أثلاثاً وأرباعاً على التفصيل الذي سنذكره، ولم يذكر زيادة على الوارد الذي هو مائة من الإبل.

ولذلك نقول: هذا هو الأصل والذي دل عليه الدليل، وحرمة الزمان هذه لا دليل على التغليظ بها، فنبقى على الأصل الموجب للدية الأصلية وهي مائة من الإبل.

كذلك أيضاً عندهم التغليظ في الشخص المقتول، ويأتي على صورتين عندهم:

منهم من قال: إذا كان المقتول قريباً للقاتل، فلو قتل والعياذ بالله أخاه يغلظون الدية، وهو ذو الرحم المحرم.

وأيضاً عندهم وجه ثان من التغليظ، وهذا وجه قليل من يقول به، وهو التغليظ بغير الصفات، فهم يرون أن قتل المحرم تغلظ فيه الدية.

وكل هذه الأقوال الصحيح أنها مرجوحة، وأنه لا تغليظ إلا في قتل العمد وشبه العمد، كما ذكر المصنف رحمه الله؛ وذلك لأنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غلظ، ولما جاء قضاء الصحابة مخالفاً للمرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمل الاجتهاد منهم بقينا على الأصل، وقلنا: إن الحجة فيما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب العمل به، والأصل أن مال المسلم حرام حتى يدل الدليل على استباحته، وليس عندنا دليل صريح واضح بهذا التغليظ.

فلا تغلظ الدية إلا في المسألة التي ذكرها المصنف وهي قتل العمد وقتل شبه العمد: لو أن شخصاً والعياذ بالله قتل شخصاً عمداً، ورفع إلى القاضي لأجل الحكم عليه، فقيل لأولياء المقتول: تقتلونه أو تعفون؟ قالوا: نعفو. فعدلوا إلى الدية، فإذا عدلوا إلى الدية فإنها تغلظ الدية عليه.

هذا التغليظ فيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله في المذاهب الأربعة:

القول الأول: كما ذكر المصنف أن تغليظ الإبل أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وقد فصلنا في كتاب الزكاة أسنان الإبل وبينا المراد بها.

ويجب عليه أن يأتي بها على هذه الصفة، كما يجب أن تكون حالة ويحضرها دون تأجيل كما تقدم معنا في دية العمد.

هذا القول اختاره المصنف رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وهو مذهب المالكية والحنفية رحمة الله على الجميع، كما هو مروي عن بعض السلف.

القول الثاني: وهو مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب الشافعية، ورواية أيضاً عن الإمام أحمد : أن التغليظ للدية يكون أثلاثاً: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة -حوامل- في بطونها أولادها، فيرون أنه يجب عليه أن يحضر الإبل على هذه الصفة.

والذين قالوا بالقول الأول -والذي اختاره المصنف رحمه الله وأشار إليه- احتجوا بحديث الزهري عن السائب بن يزيد قال: (كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعاً، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة -طروقة الفحل- وخمس وعشرون جذعة) فأصبح المجموع مائة.

وأصحاب القول الثاني استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن قتل القتيل فأهله بخير النظرين؛ إن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا أخذوا الدية؛ ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها) .

هذا نص واضح دل على تغليظ الدية، فمن قتل له قتيل فأهله بخير النظرين: (إما أن يقتلوه) هذا يدل على أنه في العمد وليس في الخطأ، إما أن يقاد، والقود لا يكون إلا في العمد، وإما أن يدفع الدية، ثم بين الدية، فلما جعل الدية بدلاً عن القتل فهمنا أن هذا في العمد، وأنه عليه الصلاة والسلام شدد في الإبل وجعلها على هذه الصفة.

فنقول: يجب عليه أن يأتي بها على هذه الصفة، وهذا القول الثاني أقوى وأرجح إن شاء الله؛ لأن الحديث حسنه الإمام الترمذي وغيره، وهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بروايته في هذه المسألة، وهو نص في موضع النـزاع، حيث بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقوى ثبوتاً من رواية الزهري عن السائب .

ولذلك يقدم العمل بتثليث الدية كما هو مذهب الشافعية، ويحكى عن أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اختاروا هذا القول، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس؛ أنها ثلاثون حقة -استحقت أن يطرقها الفحل وأن يحمل عليها وأن يركب -وثلاثون جذعة- وهي التي تقدمت معنا في الأضاحي والزكاة- وأربعون في بطونها أولادها.

هذا بالنسبة لقتل العمد وقتل شبه العمد.

قوله: [ففي قتل العمد وشبهه]: الدية تنقسم إلى نوعين:

النوع الأول: الدية المغلظة.

والنوع الثاني: الدية المخففة، أو مطلق الدية، كما يقول بعض العلماء رحمهم الله.

التغليظ في الدية: التشديد والتعظيم، وأصل الشيء الغليظ هو: الشديد والعظيم، وبعض العلماء يرى أنه يُشرع تغليظ الدية، ومنهم من لا يرى التغليظ، والذين يرون التغليظ يختلفون:

المذهب الأول: منهم من يحصر التغليظ على صفة القتل، فيقول: إذا قتلَ قتل عمد أو شبه عمد فإنه تُغلظ عليه الدية، ولا يسوى بين دية الخطأ المحض وبين دية العمد وشبه العمد.

والمذهب الثاني يقول: إن الدية تغلظ؛ فتغلظ في صفة القتل، وتغلظ بالزمان وتغلظ بالمكان، وتغلظ بالشخص المقتول، فيغلظونها إذا كانت في حرم مكة، واختلف في حرم المدينة هل تغلظ أو لا؟ فتغليظها في حرم مكة مأثور عن خليفتين راشدين عن عمر حكاية، وعن عثمان رواية صحيحة، وفي شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف.

فهذا التغليظ أُثر عن عمر ، وعثمان ، وعبد الله بن عمر ، وصار التغليظ إلى ثلث الدية، يعني يجب عليه دية مع زيادة الثلث، وهذا كما ذكرنا صح عن عثمان رضي الله عنه، ويلاحظ أن التغليظ هنا ليس في الإبل، وإنما هو في النقد، ويشمل الإبل والنقد ولا ينحصر في الإبل وحدها.

قضى عمر بن الخطاب في رجل وطئ في الطواف في البيت بدية وثلث، يعني زاد على الجاني ثلث الدية تعظيماً للحرم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً.

قالوا: فهذا يدل على أن الدية داخل الحرم تغلظ، وهذا مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وخالف هذا القول قول آخر فقال: إن الدية لا تغلظ في الحرم. والقول الأول عند الشافعية، وعند الحنابلة قول به، وهو رواية عن الإمام أحمد ، ولكن الرواية التي عليها ظاهر مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وهو مذهب الحنفية وأهل الرأي، وقول فقهاء المدينة السبعة: على أنه لا تغلظ الدية داخل الحرم.

فلو أخطأ شخص وقتل شخصاً في الحرم لا تضاعف عليه الدية، واستدلوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة، قال: (وأنتم يا خزاعة! قد قتلتم القتيل من هذيل وإني عاقله) فخزاعة قتلت الرجل من هذيل، وكانت خزاعة حلفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فتحمل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتول ولم يغلظ الدية مع أن القتل وقع داخل الحرم، وهذا يدل على أن الدية لا تغلظ لا بالزمان ولا بالمكان.

الصورة الثانية عند القائلين بالتغليظ: التغليظ بالزمان، يقولون: من قتل خطأً في الأشهر الحرم، فإننا نوجب عليه الدية وثلثاً، وهذا من باب التغليظ بالزمان.

ودليلنا على أن هذا القول مرجوح: أن الله تعالى أمر بالدية، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم الدية أنها مائة من الإبل، وغلظ في أثمان الإبل وطريقتها أثلاثاً وأرباعاً على التفصيل الذي سنذكره، ولم يذكر زيادة على الوارد الذي هو مائة من الإبل.

ولذلك نقول: هذا هو الأصل والذي دل عليه الدليل، وحرمة الزمان هذه لا دليل على التغليظ بها، فنبقى على الأصل الموجب للدية الأصلية وهي مائة من الإبل.

كذلك أيضاً عندهم التغليظ في الشخص المقتول، ويأتي على صورتين عندهم:

منهم من قال: إذا كان المقتول قريباً للقاتل، فلو قتل والعياذ بالله أخاه يغلظون الدية، وهو ذو الرحم المحرم.

وأيضاً عندهم وجه ثان من التغليظ، وهذا وجه قليل من يقول به، وهو التغليظ بغير الصفات، فهم يرون أن قتل المحرم تغلظ فيه الدية.

وكل هذه الأقوال الصحيح أنها مرجوحة، وأنه لا تغليظ إلا في قتل العمد وشبه العمد، كما ذكر المصنف رحمه الله؛ وذلك لأنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غلظ، ولما جاء قضاء الصحابة مخالفاً للمرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمل الاجتهاد منهم بقينا على الأصل، وقلنا: إن الحجة فيما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب العمل به، والأصل أن مال المسلم حرام حتى يدل الدليل على استباحته، وليس عندنا دليل صريح واضح بهذا التغليظ.

فلا تغلظ الدية إلا في المسألة التي ذكرها المصنف وهي قتل العمد وقتل شبه العمد: لو أن شخصاً والعياذ بالله قتل شخصاً عمداً، ورفع إلى القاضي لأجل الحكم عليه، فقيل لأولياء المقتول: تقتلونه أو تعفون؟ قالوا: نعفو. فعدلوا إلى الدية، فإذا عدلوا إلى الدية فإنها تغلظ الدية عليه.

هذا التغليظ فيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله في المذاهب الأربعة:

القول الأول: كما ذكر المصنف أن تغليظ الإبل أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وقد فصلنا في كتاب الزكاة أسنان الإبل وبينا المراد بها.

ويجب عليه أن يأتي بها على هذه الصفة، كما يجب أن تكون حالة ويحضرها دون تأجيل كما تقدم معنا في دية العمد.

هذا القول اختاره المصنف رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وهو مذهب المالكية والحنفية رحمة الله على الجميع، كما هو مروي عن بعض السلف.

القول الثاني: وهو مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب الشافعية، ورواية أيضاً عن الإمام أحمد : أن التغليظ للدية يكون أثلاثاً: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة -حوامل- في بطونها أولادها، فيرون أنه يجب عليه أن يحضر الإبل على هذه الصفة.

والذين قالوا بالقول الأول -والذي اختاره المصنف رحمه الله وأشار إليه- احتجوا بحديث الزهري عن السائب بن يزيد قال: (كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعاً، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة -طروقة الفحل- وخمس وعشرون جذعة) فأصبح المجموع مائة.

وأصحاب القول الثاني استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن قتل القتيل فأهله بخير النظرين؛ إن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا أخذوا الدية؛ ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها) .

هذا نص واضح دل على تغليظ الدية، فمن قتل له قتيل فأهله بخير النظرين: (إما أن يقتلوه) هذا يدل على أنه في العمد وليس في الخطأ، إما أن يقاد، والقود لا يكون إلا في العمد، وإما أن يدفع الدية، ثم بين الدية، فلما جعل الدية بدلاً عن القتل فهمنا أن هذا في العمد، وأنه عليه الصلاة والسلام شدد في الإبل وجعلها على هذه الصفة.

فنقول: يجب عليه أن يأتي بها على هذه الصفة، وهذا القول الثاني أقوى وأرجح إن شاء الله؛ لأن الحديث حسنه الإمام الترمذي وغيره، وهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بروايته في هذه المسألة، وهو نص في موضع النـزاع، حيث بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقوى ثبوتاً من رواية الزهري عن السائب .

ولذلك يقدم العمل بتثليث الدية كما هو مذهب الشافعية، ويحكى عن أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اختاروا هذا القول، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس؛ أنها ثلاثون حقة -استحقت أن يطرقها الفحل وأن يحمل عليها وأن يركب -وثلاثون جذعة- وهي التي تقدمت معنا في الأضاحي والزكاة- وأربعون في بطونها أولادها.

هذا بالنسبة لقتل العمد وقتل شبه العمد.

قال رحمه الله: [ وفي الخطأ تجب أخماساً ثمانون من الأربعة المذكورة، وعشرون من بني مخاض ]:

قوله: (وفي الخطأ): أي في قتل الخطأ.

(تجب الدية أخماساً..) أي: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، هذه ثمانون، ثم عشرون من بني مخاض من الذكور.

وهذه ورد فيها أيضاً حديث السنن وحسنه غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم، وهو نص في موضع الخلاف؛ والذي عليه طائفة من العلماء ما اختاره المصنف رحمه الله أنها تكون أخماساً، لكن عارضه قول وهو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، فإنهم يجعلون العشرين الباقية من ابن لبون ولا يجعلونها ابن مخاض، يعني: يلاحظ في قتل الخطأ أنه أوجب عليه الصلاة والسلام العشرين الخامسة من بني مخاض، والشافعية يقولون: بل يجب ما هو أعلى وهو ابن لبون.

والصحيح ما ذهب إليه المصنف رحمه الله والحنابلة، وأيضاً هو قول طائفة من أئمة السلف، ويحكى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب من بني مخاض، حتى قال بعض أهل العلم: إنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل بدل بني المخاض بني لبون، والصحيح أنه ابن مخاض، وهذا أنسب، خاصة على التخفيف، ولذلك يترجح ما اختاره المصنف رحمه الله: أن العشرين الخامسة من بني مخاض وليس من بني لبون.

قال رحمه الله: [ولا تعتبر القيمة في ذلك]:

أي: في الإبل، والقيمة هي الألف دينار والاثنا عشر ألف درهم، فهذه المسألة فيها إشكال، وإذا دفعنا الدية من الإبل فهناك حالتان:

الحالة الأولى: أن تساوي قيمة الإبل قيمة الذهب والفضة، وحينئذٍ لا إشكال عند العلماء ولا اختلاف؛ لأنه حينئذٍ صارت عدلاً، والقيمة مساوية للإبل.

الحالة الثانية: أن تكون قيمة الذهب والفضة الألف دينار، فهل تكون الإبل أغلى أو أرخص؟ تكون أرخص، بمعنى أنها لا تعادل الألف دينار، فتكون مثلاً تعادل ثمانمائة دينار -ثمانمائة مثقال- فحينئذٍ نقصت قيمة الإبل عن معادلة الذهب.

الصورة الثانية: أن تزيد قيمة الإبل على قيمة الذهب والفضة، فتكون المائة من الإبل تعادل مثلاً ألفي دينار، يعني الضعف، ولربما ألفاً وخمسمائة، فقال: سواء زادت أو نقصت العبرة بالإبل سواء كانت قيمتها غالية أو رخيصة، وهذا هو الصواب إن شاء الله؛ لأن قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدل على هذا أيضاً؛ فإنه قال: (ألا إن الإبل قد غلت).

قال بعض الأئمة كما اختاره الإمام ابن قدامة وأشار إليه: إن الإبل كانت على زمان النبي صلى الله عليه وسلم تعادل الثمانمائة دينار، ولذلك يقول عمر : (ألا إن الإبل قد غلت) ولما غلت عادلت في عهده ألف دينار، وهذا يدل على أن الزيادة والنقص لا تأثير له، وأن الإبل هي الأصل، وهذا مبني على المذهب الذي اخترناه؛ أن الإبل هي الأصل في الديات، وأن الواجب الرجوع إلى الإبل والعمل بذلك.

قال: [ولا تعتبر القيمة في ذلك بل السلامة]:

بل يجب أن تكون الإبل المدفوعة في الدية سالمة من العيوب بريئة من العيوب المؤثرة، والعيب هو: النقص، يقال: عاب فلان فلاناً إذا انتقصه، ولما كان العيب في الإنسان نقصاناً في خلقته، قيل له: عيب، من هذا الوجه.

فالعيب ينقسم إلى قسمين:

عيب مؤثر، وعيب غير مؤثر.

والعيب المؤثر ضابطه في الإبل والبقر والغنم: هو الذي يوجب نقصان المالية نقصاناً مؤثراً، بعض العلماء يضيف هذا القيد (نقصاناً مؤثراً) يعني لو أنقصها شيئاً تافهاً أو يسيراً لا يؤثر.

وبناءً على ذلك: لو -مثلاً- جئنا نأخذ دية الإبل من القاتل، أو أولياء القاتل، فأعطانا إبلاً عرجاء، أو شلاء، أو مقطوعة الأذن، أو عجفاء، أو هزيلة أو مريضة، كل هذا لا يجزئ، بل لابد وأن تكون سالمة من العيوب.

وكذلك العيب الخلقي، مثل جنون الحيوان، يقولون: يمكن أن يوصف الحيوان بالجنون، فيجن في بعض الأحيان، وليس له عقل في الأصل، لكن يقول العلماء: إنه لا يستقر ويضطرب، ففي هذه الحالة يقولون: لا يجزئ حتى في الأضاحي والزكاة، فإذا كانت معيبة عيباً مخلاً فإنها لا تجزئ في الدية، ومن حق أولياء المقتول أن يردوها.

لكن لو رضوا وقالوا: قبلنا ورضينا بها سقط حقهم، وهم في ذلك بالخيار.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.