فقه أحاديث الصيام [4]


الحلقة مفرغة

المقدم: الحمد لله حق حمده, والصلاة والسلام على رسوله وعبده.

أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيهلاً بكم إلى لقاء جديد من لقاءات برنامجكم اليومي فقه أحاديث الصيام, أرحب في مطلع هذا اللقاء بضيف البرنامج صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أرحب به باسمكم وباسم فريق العمل, فأهلاً وسهلاً بكم صاحب الفضيلة.

الشيخ: حياكم الله شيخ ناصر وحيا الله المستمعين والمستمعات.

المقدم: إذاً حيا الله شيخنا الكريم وحياكم الله أينما كنتم.

بعد الحديث حول أحكام تبييت النية، نود أن نعرف شيئاً من التفصيل في شأن الصبي إذا بلغ والمجنون إذا أفاق، هل هناك من تفصيل في حكمهما؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أجمع أهل العلم على أنه يلزم الصوم على كل مسلم مكلف قادر، وعلى هذا فالكافر لا يلزمه أداء العبادة، وإن كان مكلفاً من حيث إنه سوف يعاقب عليها, أما من حيث أداء العبادة فإنه لا يصح منه ذلك، وكذلك المكلف، والمكلف: هو العاقل البالغ, فالمجنون لا يصح منه الصوم ولا ينفعه ذلك؛ لأنه لم يكن عاقلاً, وقد جاء عند الإمام أحمد و أبي داود من حديث علي بن أبي طالب ، وجاء أيضاً من حديث عائشة رضي الله تعالى عن الجميع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ, وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق ).

وعلى هذا فالمجنون إذا كان بالغاً فأفاق في أثناء النهار فإنه يلزمه أن يمسك بقية يومه، ولا يلزمه أن يقضي ذلك اليوم؛ لأنه لم يكن مكلفاً، ويقال مثل ذلك في حق الكافر إذا أسلم وعلم الأحكام فإنه يمسك بقية يومه, ولا يلزمه أكثر من ذلك, ولكن يصوم الأيام الباقية.

وقد جاء ما يدل على ذلك كما في حديث سفيان بن عبد الله بن ربيعة قال: (حدثنا وفد من الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام ثقيف قال: وقدموا عليه في رمضان, فضرب لهم قبة في المسجد, فلما أسلموا صاموا ما بقي عليهم من الشهر)، والحديث رواه ابن ماجه وإن كان في سنده بعض الكلام, لكن هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بأن يقضوا الأيام الأخرى, وكذلك لم يأمرهم أن يقضوا ذلك اليوم الذي صاموا في أثنائه.

ويقال: كذلك في حق الصبي إذا بلغ في أثناء النهار, مثل أن يكون قد نام فاحتلم, أو كان بلغ بعلامة من العلامات المعروفة كما في كيفية بلوغ الصبي والجارية، فعلى كل حال إذا بلغ الصبي فإنه يلزمه أن يمسك بقية يومه, ولا يلزمه أن يقضي ذلك اليوم.

أما المسلم الذي لم يعلم بالبينة إلا في أثناء النهار فهذا يختلف عن الكافر؛ لأنه مسلم ويختلف عن الصبي؛ لأنه بالغ، ويختلف عن المجنون؛ لأنه عاقل فهذا يلزمه أن يمسك بقية يومه، وأن يقضي ذلك اليوم كما هو مذهب الأئمة الأربعة، خلافاً لـأبي العباس بن تيمية رحمه الله، ولا يمكن أن يستدل لـأبي العباس بقصة الربيع بنت معوذ في قصة يوم عاشوراء, ذلك أن يوم عاشوراء لم يفرض إلا في أثناء النهار, وأما رمضان فهو مفروض على العبد قبل ذلك، وهناك فرق بين هذا وذاك، وعلى هذا فنحن نقول للصبي إذا بلغ: إنه يلزمه أنه يمسك بقية يومه وكذلك الكافر إذا أسلم والمجنون إذا أفاق.

وهناك مسألة أود أن أذكرها, وهي مسألة: تعويد الصبيان على الصوم, فإن الحنابلة رحمهم الله أمروا الولي أن يأمر صبيه إذا بلغ عشراً أن يصوم، واستدلوا على ذلك بأن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: ( حينما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه, قالت: فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله تعالى، ونجعل لهم اللعبة من العهن, فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها ), وهذا يدل على أن هذا الأمر شائع بينهم.

بل جاء عند البخاري أن عمر رضي الله عنه أتي إليه بنشوان -والنشوان هو السكران- فلما رآه عمر رضي الله عنه قال: ويلك وصبياننا صيام؟! فهذا يدل على أن الصبيان كانوا يعتادون الصيام وكان المسلمون والصحابة يصومونهم، وهناك فرق كبير بين ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين زماننا هذا، فإن الابن أحياناً يدرس الأولى متوسط أو الثاني متوسط وإن لم يبلغ لكن تجد أن أهله يتساهلون في ذلك بحجة أنه لم يبلغ، والعلماء رحمهم الله قالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر الولي أن يأمر ابنه وهو ابن سبع سنين أن يصلي، ويضربه عليها وهو ابن عشر, فمن بلغ عشر سنين فإنه ينبغي أن يأمره بالصيام حتى يعتاد ذلك وحتى يألفه. والله تبارك وتعالى أعلم.

المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، حديث الربيع بنت معوذ ألا يمكن أن ينسحب هذا الحكم إلى صيام رمضان, لا سيما أن المسلم الذي كان في منطقة نائية قد بذل وسعه وطاقته في أخذ الحيطة والحذر لكن لم يبلغه شأن الصيام، ألا يفهم من نص الحديث أن هذا حكم عام ليس فيه تقييد بيوم عاشوراء؟

الشيخ: لعلي أشرت إلى هذا في أثناء جوابي على السؤال السابق وقلت: إن يوم عاشوراء إنما فرض في ذلك اليوم الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يصوموه، وهذا فرق بينه وبين شهر رمضان الذي هو ثابت فرضه، والمسلم إنما نقصد أن يعلم بالبينة في أثناء النهار، أما صوم عاشوراء فإنما علموا بفرضه أثناء النهار، وفرق بين من علم بفرضه أثناء النهار وبين من قامت البينة بدخول شهر رمضان مع وجوبه قبل ذلك، فهنا فرق بين الأمرين؛ ولهذا ذهب الأئمة الأربعة إلى أن من قامت البينة في أثناء النهار وهو أهل لوجوب الصوم فإنه يلزمه الصوم والقضاء، هذا قول الأئمة الأربعة في المشهور عنهم خلافاً لـأبي العباس بن تيمية، ولا يمكن أن يحتج لذلك بحديث الربيع بنت معوذ ؛ لأنه إنما فرض في أثناء النهار، وفرق بين هذا وذاك. والله أعلم.

المقدم: هل يفهم من هذا -صاحب الفضيلة- أن قصة الحديث إنما تحكي يوم فرض صيام عاشوراء؟

الشيخ: نعم هو فرضيته في أثناء النهار, فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار في فرضيته، وأما في رمضان فالفرض ثابت لكن قامت البينة في أثنائه.

والعلماء رحمهم الله يذكرون مسألة معروفة عند علماء الأصول يقولون: هل الفرض والوجوب من حين علم المرء بالخطاب، أو من فرضية الخطاب, أو من حين العلم إذا كان فيه نسخ أم لا؟ ثلاثة أقوال أشار إليها أبو العباس بن تيمية , والصحيح وقد قواه أبو العباس بن تيمية كما في مجموع الفتاوى المجلد الواحد والعشرين: أن الفرض إنما يكون من حين العلم بالخطاب، وهذا الفرض ثابت في رمضان وأنه واجب عليه، لكن سبب وجوب الصوم فهذا إنما علمه في أثناء النهار، أما في عاشوراء فإن فرض الوجوب أصلاً لم يثبت إلا في أثناء النهار وفرق بين الأمرين، والله تبارك وتعالى أعلم.

المقدم: أحسن الله إليكم! الحديث في هذه المسألة بالذات صيام الصبي إذا بلغ، نعلم أن الحياء قد يغلب فتيات الإسلام عن أن يظهرن شيئاً مما يعتري النساء, فتخجل الفتاة أو تواري ما قد يحصل لها من تغير في البلوغ من نزول دم الحيض ونحوه، ماذا عن تأخير الصيام أو أحياناً صيامها حال حيضها، قد تكون الفتاة صغيرة, وأحياناً يمر عليها رمضان أو أكثر من رمضان وما زالت في حيائها، لم تخبر والدتها، ولم تذكر حتى تلكم الأيام أو تحصيها بدقة متناهية، ما التوجيه لتلك الفتاة، وأيضاً لأمها وللمسلمين عموماً تجاه هذه القضية؟

الشيخ: صحيح، لو نظرنا إلى الصحابة رضي الله عنهم وإلى الصحابيات, فكانت الجواري الصغار يجلسن مع الكبيرات ويذكرن همومهن، فكانت أسماء بنت أبي بكر تبعث إلى الحج بجوارٍ معها، فتخبرهن بالأحكام الشرعية التكليفية الواجبة عليهن، وكذلك عائشة رضي الله عنها كانت النساء الكبيرات والصغيرات يأتينها بالقطن الذي تضعه المرأة في مكان الدم يسألنها هل بلغت الطهر أم لا؟ يأتين بالكرسف وفيها الدم وفيها البياض، فتقول عائشة : انتظرن حتى ترين القصة البيضاء، وهذا يدل على أن الأمهات كن قريبات من بناتهن، والعجب أن الأم أحياناً ترى ابنتها قد كبرت بظهور علامات مثل انتفاخ صدرها أو خشونة صوتها، أو علامات البلوغ، ومع ذلك تتهاون أو تستحي وتخجل من إخبار ابنتها عن هذا الأمر.

ولكن الواجب أن نبين لبناتنا وأن نبين لأولادنا جميعاً ما الواجب عليهم إذا بلغوا, وأن هذا ليس حياءً، فـ(الحياء خير كله)، ولكن هذا خجل، فإن الحياء ليس فيه شيء يمنع الإنسان من بيان الحكم الشرعي؛ ولأجل هذا تكثر الأسئلة بعد أن تبلغ البنت وتتزوج، تسأل وتقول: كنت في زمن البلوغ أستحي أن أخبر أهلي, وأستحي أن أبين لهم ولا أعلم كم عدد الأيام؛ فلأجل هذا كان من الواجب على الوالدين أن يهتموا بهذا الأمر, وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته )، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر وقد قال الله تعالى قبل ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، ومن أعظم الوقاية هو إخبار الأولاد بالأحكام الشرعية المناطة بهم. نسأل الله التوفيق والتسديد.

المقدم: أحسن الله إليكم، في مثل هذه الحالات إذا جهلت هذه الأيام, بما تنصح؟

الشيخ: إذا قالت البنت: أنا ما أعلم كم الأيام التي تركتها؟ نحن نقول لها: الواجب إبراء ذمتك، فإذا كنت تقولين: هي عشرة أيام أو أحد عشر يوماً، نقول: اجعليها أحد عشر يوماً، وإذا قلت: هي خمسة عشر يوماً أو عشرون يوماً, نقول: اجعليها عشرين يوماً، لماذا؟ لأن العبد يجب عليه ألا يترك الحكم الشرعي؛ بحيث لا يكون عليه شيء من الواجبات، والواجبات إنما تسقط في حقه مع العلم واليقين، وإبراء الذمة مطلب شرعي، ولا تنتهي إلا باليقين الذي يقطع به العبد أنه قد صام, وعلى هذا يبني على غلبة الظن، ويبني على اليقين. والله أعلم.

المقدم: أحسن الله إليكم، وأثابكم الله على هذا التوجيه والبيان، وأسأله جل في علاه أن يوفق فتياتنا لأداء نسكهن، سواء كان حجاً أو عمرة وحتى أداء الفرض من صيام وصلاة وغيرها على وفق هدي النبي عليه الصلاة والسلام، واهتداء بهدي أمهات المؤمنين فقد أمرنا بالاهتداء بهديه عليه الصلاة والسلام.

أختم هذا اللقاء بمثل ما بدأت به، بالشكر والعرفان لشيخنا الجليل ضيف هذا البرنامج بعد الشكر لله جل في علاه, فأشكر صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي , الأستاذ المشارك في معهد الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، شكراً له وشكراً لكم، وإلى اللقاء إلى غد بإذن الله وأنتم على خير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.