أرشيف المقالات

اتهموا الرأي فإنها وصية سهل

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
اتهموا الرأي فإنها وصية سهل

 
سهل بن حنيف رضي الله عنه صحابي جليل شهِد صلح الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي عُدَّ حينها قبولًا بالدنية في الدين، أو بتعبير أوضح خضوعًا للعدو؛ حيث نظر إلى ظاهر شروطه المجحفة، وفي حقيقته كان فتحًا مبينًا.
 
وانسياقًا مع الظاهر أنكره كثير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عن ذلك الصلح فيما يرويه الإمام مسلم في صحيحه بعدما رأى وشاهد بنوده الصعبة على نفوس المؤمنين قال: يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على باطل؟ قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال ففيما نعطي الدنيَّة في ديننا ونرجع ولَمَّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيِّعني أبدًا، قال فانطلق عمر فلم يصبر متغيِّظًا، فأتى أبابكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحق وهم على باطل...
فقال له كما قال للرسول صلى الله عليه وسلم، فرد أبو بكر قائلًا: إنه رسول الله ولن يضيِّعَه الله أبدًا، قال: فنزل القرآن على رسول الله بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إيَّاه، فقال: يا رسول، الله أوَ فتح هو؟ قال نعم، فطابت نفسه ورجع..
ا.هـ؛ يروي سهل رضي الله عنه هذه القصة وذلكم الحدث والحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والفاروق عمر رضي الله عنه، لما رأى الفتنة أطلَّت برأسها بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، حينما دعوا إلى الصلح والتصالح، فقبِله علي رضي الله عنه وردَّه بعنف بعض أصحابه، فذكَّرهم سهل بن حنيف رضي الله عنه بموقف الفاروق عمر وردِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر عليه، وكيف جاء القرآن مؤيدًا للرسول صلى الله عليه وسلم وأُنزلت سورة الفتح.
 
وحيث قد اشتدت الأزمة في يَمَنِ الإيمان والحكمة، ولوحِظ تمسك كل طرف بمواقفه المثالية، ومحاولة إرغام الآخر على قبول شروطه أجدها فرصة لأذكِّر الجميع بقول سهل رضي الله عنه: يا أيها الناس، اتهموا الرأي على دينكم، وتأملوا صلح الحديبية وبنوده الصعبة على النفوس، وها هي بعض بنود صلح الحديبية للتأمل والعضة:
 
رفض المشركون أن يُكتَب في الصحيفة محمد رسول الله - بأبي هو وأمي - فقالوا: اكتب محمد بن عبد الله باسمه المجرد عن الرسالة، فاستجاب لهم ونزل عند رغبتهم، وكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله.
 
ومنها: رفضُ المشركين إتمامَ عُمرة المسلمين الذين جاؤوا مُحرمين بها، وهدْيهم مقلد لم يبلغ محلَّه، على أن يقضوا تلك العمرة العام القادم، فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بالتحلل.
 
ومنها: ألا يأتي رجلٌ مسلم مهاجرٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ردَّه إليهم، وفي المقابل إذا ارتدَّ مسلم فلا يلزمهم ردُّه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فوافق وقبِل ذلك، مع أن في ظاهره عدم المساواة، بل ضيم وحيف، لماذا؟ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد وضع لنفسه هدفًا عظيمًا هو تعظيم حرمات الله، فقال: (والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة رشد يعظمون بها حُرمات الله، إلا أجبتهم إلى ذلك)، فمن أجل تحقيق ذلك الهدف العظيم قبل تلك الشروط المجحفة.
 
إذا تأملنا نحن بنود تلكم الاتفاقية (صلح الحديبية)، رأيناها بنودًا مجحفة وقاسية، ومن الصعب تقبُّلها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلها، فكان فتحًا مبينًا، وثمة هدف آخر مهم وهو حقن دماء المؤمنين، أخَّر الله فتح مكة قرابة سنتين لأجله؛ قال تعالى: ﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح: 25].
 
انظروا إلى قيمة الدم المسلم كيف فُدي هذا الدم لمجموعة من المسلمين المنتشرين بين المشركين، كيف فدي بهذا الفداء الكبير بقبول تلك الشروط المجحفة، وتأخير الفتح تلك المدة الطويلة، وإغضاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى سرى الحنق الذي أدى إلى الاعتراض إلى قادتهم وسادتهم أمثال عمر رضي الله عنه.
 
إن من أصعب شيء على القادة - وخصوصًا أثناء الأزمات - إغضاب الأتباع عامة، فكيف إذا كان من يغضب أمثال عمر بن الخطاب؟ ومع ذلك لم يتردد رسول الله صلى الله عليه وسلم في فعل ما رآه محقِّقًا للأهداف العليا غير آبهٍ بما يكون في نفوس أصحابه، وهنا أرجو أن تكون للأطراف المتنازعة في اليمن الأُسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم من التجرد لتحقيق أعظم الأهداف، وهو الحفاظ على دماء اليمنيين وأعراضهم وأموالهم، الحفاظ على البيئة الصالحة للاستقرار والتنمية، الحفاظ على مكانة اليمن، فيعزمون على خطوات تحفَظ ذلك، وإن خالفت هوى النفوس، وإن خالفت هوى الجماهير، وهوى الأتباع الذين ربطوا وجودهم ومصالحهم ببقاء فلان أو رحيل فلان، عليهم أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما عزم وتوكَّل على الله بعد أن رأى أن الإقدام خيرٌ من إرضاء الأصحاب والأخذ برأيهم، مع أنه من أكثر الناس تقيدًا بالشورى، ولكنه هذه المرة أخذ بقوله تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، فهل يعزم قادة الرأي من أهل يمن الإيمان والحكمة هذه المرة بهذا المبدأ، هل سيعزمون على إخراج البلاد والعباد من هذه الأزمة، ويتوكلون على الله، ويتمردون على ضغط الأتباع؟ مع أنهم في أكثر أحيانهم لا يأبهون بالرأي العام، ولا بضغط الشارع اليمني ورغباته، عندما يكون التمرد على ذلك موافقًا لأهوائهم، فهل يفعلونها هذه المرة ويتمردون على هذا الضغط للمصلحة العليا؟ أرجو ذلك.
 
يا أيها الساسة - الرئيس ومناوئِوُه من أحزاب اللقاء المشترك وأبنائي الشباب المعتصمين في الساحات العامة - كلنا مع التغيير للأفضل والأحسن، ولكن عليكم الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ومنها هذا الصلح وبنوده، فكيف تنازل الرسول عن صفة ومنزلة ومرتبة لا تدانيها مرتبة اليوم، وذلك في سبيل الصلح والاتفاق، وحقن دماء المؤمنين، مع أن الطرف الآخر مشرك كافر، فكيف وأنتم المسلمون اليمانيون الذي وصفكم رسول الله بأصحاب الأفئدة الرقيقة وأصحاب الحكمة والرأي السديد، فهل تتجلى تلك الحكمة عمليًّا لتنزع فتيل الفتنة؟ وهل تصغي الآذان إلى رجع صدى صوت سهل بن حنيف، أرجو ذلك.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢