فقه أحاديث الصيام [3]


الحلقة مفرغة

المقدم: بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحباً بكم إلى لقاء جديد يتجدد بكم وبتواصلكم عبر برنامجكم: فقه أحاديث الصيام.

أرحب في مطلع هذا اللقاء بالضيف الدائم صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي , الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, أهلاً بكم صاحب الفضيلة!

الشيخ: حياكم الله شيخ ناصر , وحيا الله المستمعين والمستمعات.

المقدم: إذاً: حيا الله شيخنا الكريم، وحياكم الله أينما كنتم، وحيث ما يصلكم أثير إذاعتكم.

الحديث معكم حول مسائل الصيام، وبالأخص حول النية وتبييتها في صيام الفرض والنفل، فما الفرق بين تبييت النية في صيام الفرض والنفل؟ ثم هل ورد ما يثبت مثل هذا الحكم من هدي النبي عليه الصلاة والسلام؟

الشيخ: نعم، أقول: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى وجوب تبييت النية من الليل في صوم الفرض، وكذلك النذر إذا كان على الإنسان نذر فإنه يجب أن يبيته من الليل، وهو قول عامة الصحابة بل لم يعرف أن واحداً من الصحابة خالف في ذلك، فهو قول عائشة رضي الله عنها، وقول ابن عمر وقول حفصة وروي عن ابن عباس وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

والعمدة في هذا الباب هو ما رواه أهل السنن والإمام أحمد من حديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لم يبيت النية من الليل فلا صيام له )، وهذا الحديث روي من طرق كثيرة، ولكن هذه الأحاديث لا تثبت مرفوعة, فإن أكثر أهل العلم من أصحاب الحديث يضعفونه مرفوعاً، وذلك أن الصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عمر وموقوف على حفصة , كذا قال الإمام البخاري ، والإمام أحمد ، وكذلك الدارقطني و النسائي و البيهقي وكذلك أشار إليه أبو داود وغير واحد من أئمة السلف، فإنهم رأوا أن حديث: ( من لم يبيت النية من الليل فلا صيام له ), أنه حديث لا يصح مرفوعاً، وهو من حديث ابن عمر ومن حديث حفصة ومن حديث عائشة , والصواب أنه موقوف على حفصة وعلى ابن عمر .

ولكن القرآن الكريم يشهد لذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، ولا يصح للإنسان أنه يقال فيه: صائم إلا إذا نوى هذه المدة، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به, يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ), فمن أمسك في مثل هذه الأيام، في رمضان ولم ينو لله تعالى صيام الفرض, فإنه لا يصح ولم يكن قد استكمل هذا الأمر, خلافاً للحنفية فلهم تفصيل في ذلك.

وعلى هذا فالصحيح والله تبارك وتعالى أعلم: أنه يجب على المسلم أن ينوي من الليل، ولا فرق بين أول الليل ولا وسطه ولا آخره، ولو أتى بعده بناقض مثل لو أنه أتى أهله من الليل وهو ناوٍ أن يصوم من الفجر فكل ذلك جائز كما كان الصحابة رضي الله عنهم يصنعون.

وهنا فرق بين النفل وبين الفرض؛ وهو أن النفل لا بأس أن ينوي به من النهار، وقد جاء ما يقوي هذا، فقد روى الجماعة إلا البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم من شيء؟ فقلنا: لا، فقال: فإني إذاً صائم, ثم أتانا يوم آخر فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس قال: أرنيه فلقد أصبحت صائماً فأكل )، فهذا الحديث رواه الجماعة إلا البخاري وهو يدل دلالة واضحة على أن المسلم له أن يمسك بالصيام في أثناء النهار إن كان نفلاً، سواء كان قبل الزوال أو بعده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمسك وقال: ( فلقد أصبحت صائماً )، لم يبين عليه الصلاة والسلام هل كان ذلك قبل الزوال أو بعده، ولو كان ثمة فرق بينهما لبينه عليه الصلاة والسلام، كيف وهو الذي مات وقد بين للأمة دينها؟ ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

المقدم: أحسن الله إليكم! هل يفهم من قوله عليه الصلاة والسلام: ( إني أصبحت صائماً ), أنه عليه الصلاة والسلام لم يأكل من الصباح، أو أنه ينوي لتوه وفي فترة الصباح؟

الشيخ: الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( هل عندكم من شيء؟ قالوا: لا, قال: فإني إذاً صائم ), ثم قال في الحديث الآخر: ( أرنيه! فلقد أصبحت صائماً ), يعني: أنني صائم أو ناوٍ للصيام، المهم أنه لم يأكل عليه الصلاة والسلام, فإذا كان الإنسان لم يأكل شيئاً من أذان الفجر -إذا كان المؤذن يؤذن في الوقت- فإن له أن يمسك بقية يومه, وعلى هذا نقول لمن نام حتى قام بعد الظهر أو بعد العصر والعياذ بالله: لو نوى الإمساك فإنه يصح صومه.

ولقد اختلف الفقهاء رحمهم الله هل يصح هذا؟ أي: هل إذا صحت هذه النية هل يكون ثوابها من أول النهار, أم يكون من حين نيته؟

نقول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المرء إذا نوى الصيام في أثناء النهار في صوم التطوع أياً كان ذاك التطوع, سواء كان تطوعاً مطلقاً أم تطوعاً مقيداً أن ذلك يجزئه، ولكن ثوابه من حين نيته؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى ), خلافاً لبعض الفقهاء الذين قالوا: يثاب من أول النهار، وهذا ليس بصحيح؛ لأن النية تتبع العمل فليس هناك عمل وليس هناك نية، فمن كان هناك منه عمل ولا نية فإنه لا يثاب على ذلك؛ لأن النية هي التي يثاب عليها المرء، والله تبارك وتعالى أعلم.

المقدم: أحسن الله إليكم! الكثير من الناس يسألون فيقولون: هل يلزمني أن أنوي في كل ليلة, أم تكفي الليلة الأولى التي نويت فيها صيام رمضان فتكون مستمرة معي طيلة الليالي؟

الشيخ: أولاً: أجمع الفقهاء على أنه يجب على المسلم أن ينوي أن يصوم من رمضان، وهذه النية شيء، والنية التي قبل ذلك اليوم شيء آخر.

فذهب الأئمة الأربعة كما ذكر ذلك ابن هبيرة في كتاب الإفصاح إلى أن الأئمة اتفقوا على أنه ينوي أنه من رمضان، لكن هل ينوي من الليل أم لا؟

قلنا: مذهب الجمهور ينوي من الليل، ومذهب الحنفية لا يلزم من ذلك، والصحيح قلنا: مذهب الجمهور.

المسألة الثانية : هل ينوي كل ليلة؟

اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك رحمه الله وهو رواية عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى إلى أنه إذا كان دخل عليه رمضان ونواه من الليل, ثم كان اليوم الثاني فإنه كما يقول ابن تيمية : أنه من حين أن يتعشى يعني: يتسحر فإنه ناوٍ أنه يصوم غداً, إلا أن يقطعه بفاصل, مثل أن يكون قد سافر, فإذا رجع فإنه لا بد أن يكون هناك نية تامة.

وأما النية الحكمية فإنها تنفع لمن كان في رمضان مقيم أو مسافر وهو ينوي الصوم، فإنه يصح، ولا يلزم أن ينوي كل ليلة, لماذا؟ لأن النية تتبع العلم كما قال ابن تيمية ، فمن علم أن غداً اليوم الثاني أو الثالث أو السابع أو العاشر أو الخامس عشر من رمضان, فإنه من حين أن يتعشى فقد صح صومه، وهذه تكون نية حكمية, وعلى هذا فلا يلزم أن يقصد ويعزم أنه سيصوم غداً، فلو كانت نيته لم تخرم على أنه سوف يسافر أو غير ذلك, فإن ذلك بإذن الله يجزئه.

وهناك مسألة أيضاً يا شيخ ناصر ! وهي: أن بعض الناس يقول: أنا إن سافرت أفطرت، وإن لم أسافر فإنني سوف أصوم، هذا نية يسميها العلماء: معلقة, هل تنفع أم لا؟

الذي يظهر والله أعلم أن ذلك لا يضره، ولا يؤثر في النية، وهو مذهب أبي حنيفة ومذهب الإمام أحمد رحمه الله، وقد اختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى، وهذا كثير جداً لمن كان يريد أن يأخذ عمرة في رمضان فيقول لجماعته: إن سافرنا فإننا سوف نفطر، ثم يسافرون ولا يفطرون فهذا الصحيح أن صومهم صحيح؛ لأن النية المعلقة لا تؤثر وهذا جائز.

ثم إن بعض الناس يقول: غداً أنا لا أعلم أنه من رمضان أو لا؟ ويكون أحياناً في البادية, وأحياناً يكون بمنأى عن الناس، فهل هذا إذا قال: أنا صائم غداً إن كان من رمضان فأنا مستمر على صومي, وإن كان غداً ليس من رمضان فإنني سأفطر، هل ينفعه؟

نقول والله أعلم: إن ذلك ينفعه, كما هو رأي بعض الحنابلة وبعض الحنفية, وقد اختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وقال رحمه الله: إن النية تتبع العلم, فمن علم أن غداً من رمضان فلا بد من التعيين في هذه الصورة، فإن نوى نفلاً أو صوماً مطلقاً لم يجزئه؛ لأن الله أمره أن يقصد أداء الواجب وهو شهر رمضان، فإذا لم يفعل الواجب لم يكن قد أدى الواجب الذي أمره الله سبحانه وتعالى، وأما إذا لم يكن قد علم أن غداً من رمضان مثل الذي يكون بعيداً عن الناس، يقول ابن تيمية : وأما إذا كان لا يعلم أن غداً من رمضان فإنه لا يجب عليه التعيين، ومن أوجب التعيين مع عدم العلم فقد أوجب الجمع بين الضدين، وهذا يقوي أن الإنسان له أن ينوي نية معلقة وهذا لا بأس به، والله تبارك وتعالى أعلم.

المقدم: أحسن الله إليكم! من كان في منأى عن المدينة أو ما حولها, قد لا تصله الأخبار, أو يكون في الطريق أو تائه, ما القول إذا تبين وقامت لديه البينة بأن هذا اليوم أو هذا النهار هو أول نهار في رمضان, هل له أن يعقد النية من حين علمه؟

الشيخ: ذهب الأئمة الأربعة إلى أن من قامت لديه البينة في أثناء النهار يجب عليه الإمساك والقضاء، فيجب عليه أن يمسك بقية يومه , ويجب عليه أن يقضي هذا اليوم؛ لأنه لم ينوه أنه من رمضان من أول اليوم، هذا قول الأئمة الأربعة.

وقد خالف أبو العباس بن تيمية في هذا فقال رحمه الله: إن من ثبتت له البينة في أثناء النهار, فإنه يلزمه أن يمسك بقية يومه ولا يلزمه أن يقضي هذا اليوم.

والصحيح: التفريق، وهو أنه إذا كان كافراً فأسلم, أو صبياً فبلغ في أثناء النهار, فإنه يلزمهما أن يمسكا بقية يومهما, ولا يلزمهما أن يقضيا هذا اليوم, لماذا؟ لأنهما لم يكونا مكلفين في بداية أداء هذا الواجب، أما المسلم المكلف الذي لم يعلم بالبينة إلا أثناء النهار فإنه يجب عليه أن يمسك بقية يومه، وأن يقضي ذلك اليوم؛ لأنه لم يصمه على الوجه الذي فرضه الله عليه, وقد استدل أبو العباس بن تيمية على أنه لا يلزمه بحديث الربيع بنت معوذ وحديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( بعث أناساً غداة عاشوراء أن من لم يأكل فليمسك بقية يومه، ومن أكل فليمسك فإن اليوم يوم عاشوراء ), قال ابن تيمية : إن إمساكهم هنا بعد ثبوت البينة دليل على أنه لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضوا، وثمة فرق كبير بين هذا وذاك؛ وذلك بأن الذين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتهم وجوب الصيام، إلا في أثناء النهار, فكان أول النهار لم يعلموا بفرضه أصلاً، أما في رمضان فهم يعلمون وجوب صومه ولكنهم لم تثبت البينة.

ويمكن أن يستدل في هذا الحديث على الكافر الذي أسلم، والصبي الذي بلغ، لا المسلم الذي لم يعلم البينة إلا في أثناء النهار، وهذا يدل على أنه يجب عليه أن يمسك بقية يومه وأن يقضي, أما الكافر الذي أسلم والصبي الذي بلغ فيلزمهما الإمساك دون القضاء كما هو مذهب مالك و أبي حنيفة رحمهما الله وغيرهما، والله تبارك وتعالى أعلم.

المقدم: أحسن الله إليكم! وشكر الله لكم، بهذا نصل إلى ختم هذه الحلقة من حلقات برنامجكم: فقه أحاديث الصيام.

الشكر في الختام بعد شكر الملك العلام لضيف البرنامج صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي , الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، شكراً له وشكراً لكم، وإلى اللقاء بإذن الله في الحلقة القادمة وأنتم على خير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه أحاديث الصيام [12] 2920 استماع
فقه أحاديث الصيام [11] 2390 استماع
فقه أحاديث الصيام [8] 1857 استماع
فقه أحاديث الصيام [6] 1849 استماع
فقه أحاديث الصيام [4] 1623 استماع
فقه أحاديث الصيام [5] 1472 استماع
فقه أحاديث الصيام [9] 1372 استماع
فقه أحاديث الصيام [10] 1173 استماع
فقه أحاديث الصيام [7] 1019 استماع
فقه أحاديث الصيام [2] 835 استماع