شرح زاد المستقنع كتاب العدد [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [فصل].

هذا الفصل يشتمل على جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بدخول عدة في عدة، ودخول النكاح في العدة، وما الحكم إذا وطئ رجل امرأة وهي في عدتها؟

وهذا الفصل مهم جداً؛ لأنه قد يحصل الخطأ فيقع الوطء بالشبهة، وقد يقع الوطء في نكاح فاسد، وللمرأة في كل حال عدتها، ومن هنا يرد السؤال: هل العدة الأولى تلغى ثم تستأنف وتعتد من جديد، أم أنها تنقطع عن هذا النكاح الفاسد ثم بعد ذلك تبني على العدة؟!

أي: تنقطع العدة بدخول النكاح الفاسد ثم يفرق بينهما -يعني: بين الزوج والزوجة المعتدة- ثم تبني على عدتها القديمة؟

قال رحمه الله: [ومن مات زوجها الغائب أو طلقها: اعتدت منذ الفرقة وإن لم تحد]

من هنا أتانا العلماء والأئمة -رحمهم الله- ببيان حكم هذه المسألة، وصدر المصنف رحمه الله هذا الفصل بمسألة أخرى مهّد بها للكلام على ما ذكرناه من المسائل، وهي مسألة: طلاق المرأة من زوجها الغائب، أو وفاة زوجها عنها، ولا تعلم بالوفاة ولا بالطلاق إلا بعد مضي المدة، فالسؤال: هل تحتسب عدة الوفاة من حصول الوفاة الحقيقية، أم أنها تحتسب عدة الوفاة منذ بلوغها الخبر، حيث تبدأ وتشرع في العدة؟

قد بيّن -رحمه الله- أن من مات عنها زوجها الغائب ولم تعلم بوفاته فإنها تعتد من حين الوفاة، فلو وقعت الوفاة في أول شهر محرم ثم مضت مدة العدة أربعة أشهر وعشراً، وعلمت بعد مضي هذه المدة، فقد خرجت من عدة الوفاة.

إذاً: كونه بلغها الخبر متأخراً، أو بلغها أثناء عدة الوفاة، كأن يمضي شهر أو شهران أو ثلاثة أشهر، سواء مضى أكثر العدة، أو نصف عدة الوفاة، أو أقل عدة الوفاة، فالحكم واحد، وتحتسب عدتها من اليوم الذي مات فيه، وفي هذه المسألة مذهبان، ومذهب جمهور العلماء رحمهم الله: أنها تبتدئ بيوم الوفاة وتعتد بيوم الوفاة، حتى ولو بلغها الخبر بعد تمام عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، فإنه يحكم بكونها قد خرجت من العدة.

المسألة الثانية المفرعة على هذا الحكم، وهي: أن يطلقها زوجها، ثم يكتمها الطلاق ولا يراجعها حتى تخرج من عدتها، أو يطلقها زوجها ثم يكتب لها الكتاب وهو في قرية أو مدينة بعيدة ولا يصل إليها الكتاب إلا بعد مضي ثلاث حيضات -على القول بأن عدة المطلقة بالحيضات، أو ثلاثة أطهار على القول بأن عدة المطلقة بالأطهار- فيحكم بخروجها من عدة الطلاق، وعلى كل حال: سواء مضت عدة الطلاق أو الوفاة كاملة، أو مضى بعضها وهو الأكثر أو الأقل أو في منتصف الوقت علمت فالحكم في جميع هذه الصور واحد، وقالوا: إن العبرة في العدة أن يحصل الاستبراء وقد حصل؛ لأنه مضت مدة بعد الطلاق ولم يجامعها فيها زوجها، وحصل الاستبراء وخلو الرحم، فمقصود الشرع من العدة موجود، وقالوا: هي معتدة محكوم بكونها في حداد وإن لم تحد حقيقة، فهناك شيء يسمونه: الحكمي والحقيقي، وقد تقدم معنا غير مرة، فهي في عدة الوفاة حكماً لا حقيقة، لأنها لم تنوِ ولم تقصد، ولكن يحكم وكأنها اعتدت عدة الوفاة، قالوا: وعذرت لعدم علمها وجهلها بوفاة زوجها، وقال بعض العلماء: إن العدة لها معنى تعبدي، وأن مقصود الشرع أن تتعبد وتتقرب إلى الله، وكنت أرجح هذا القول سابقاً وأفتي به في بعض المسائل، ولكن تبين لي رجحان مذهب الجمهور، وأن العبرة في عدة الطلاق بحين صدور الطلاق سواء بلغها الخبر بعد انتهاء العدة أو قبل انتهائها.

فائدة الخلاف: مثلاً: طلقها محمد ووقع طلاقه في أول محرم، ومضت حيضتان، وعلمت في الحيضة الثالثة، فمن حقه أن يراجعها -بلا إشكال- لأنها إذا علمت قبل الحيضة الثالثة، في هذه الحالة لو راجعها عند الجميع زوجها، وهذا في الطلقة الأولى والطلقة الرجعية، لكن الإشكال ومحل الخلاف: أنه لو طلقها، فمضت الثلاث الحيضات، ثم علمت بعد مضي الثلاث الحيضات فعلى القول الثاني المرجوح استأنفت وحل له أن يراجعها، لأنها لم تتم العدة على قول الجمهور يحكم بأنها خلو، وخرجت من عصمة زوجها، وهو القول الأول الراجح، وحينئذ لا بد وأن يعقد عليها من جديد إن بقيت له طلقات.

قال رحمه الله: [وعدة موطوءة بشبهة أو زنا أو بعقد فاسد كمطلقة]،

(وعدة موطوءة بشبهة) امرأة أخطأ رجل فظنها زوجة له، فوطئها وكانت تظنه زوجاً لها، أو حصلت الشبهة، وقد تقع الشبهة من الطرفين وقد تقع من طرف دون الآخر، فيكون الوطء لشبهة بالنسبة للطرفين، وكل منهما يظن أنه زوجه -الزوجة تظن أنه زوج، والزوج يظن أنها زوجة- فوطئها وتبين أنها ليست زوجته وأنه ليس بزوجها، ففي هذه الحالة يسمى: وطء الشبهة، أي: أن الأمر اشتبه وظنها زوجة له أو ظنها حلالاً؛ لأن الشبهة تشمل الاشتباه بكونها زوجة له، والاشتباه بأنها حلال، والتي هي شبهة الحكم وشبهة المحل، ففي هذه الحالة إذا وطئ تكون الشبهة من الطرفين، وقد تكون من أحدهما دون الآخر، مثلاً -والعياذ بالله- يأتي الرجل الفاجر يخدع المرأة وتظنه زوجاً لها، ويأتيها موهماً أنه زوجها، وليس بزوجها، فالشبهة الآن للمرأة، وهو في هذه الحالة لبس عليها والتبس عليها الأمر، فإذا وقع عليها هذا الوطء، فالمرأة في عصمة الزوج الأول، وهذا الوطء يختلط فيه ماء الرجل الثاني بماء الرجل الأول، فإن كانت المرأة بعد طهرها ولم يجامعها زوجها الأول، فلا بد وأن تعتد عدة الطلاق، حتى نتحقق من أن الرحم لم يحصل فيه ذلك الماء بالحمل، يعني: لم ينتج عنه حمل، وحينئذ تتحقق براءة الرحم وسلامته.

و(أو زنا) أما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- لو أن المرأة أكرهت على الزنا، فزنت ثم أرادت أن تتزوج، فنقول: لا يحق لك أن تتزوجي حتى يحصل الاستبراء للرحم، وحتى تحصل العدة بعد الوطء المحرم، فتعتد عدة الطلاق، وهذا تقدم معنا، وسيأتينا إن شاء الله، وتقدم معنا في موانع النكاح الإشارة إلى هذا، وهو أن الزانية لا يجوز نكاحها ولا يحق للمسلم أن يتزوجها إلا بشرطين: الشرط الأول: توبتها من الزنا، والشرط الثاني: أن تعتد. يعني: يتبين لنا براءة رحمها عن طريق العدة، وهنا يرد السؤال: هل يحصل الاستبراء بحيضة أو حيضتين أو بعدة الطلاق؟ قالوا: إنها تعتد بعدة الطلاق سواء بسواء، على التفصيل الذي مضى معنا في عدة الطلاق.

بناء على ذلك: -مثلاً- لو أن امرأة خانت زوجها -والعياذ بالله- وزنت، فلا يجوز لزوجها أن يأتيها بعد هذا الزنا، حتى تقع العدة وتكون كعدة الطلاق، أو تستبرئ عند من يقول: إنه يكفي فيه الاستبراء.

إذاً: لا بد من العدة صيانة للفروج، وصيانة للحلال عن الحرام حتى لا يختلط، لأن الله عز وجل جعل للحلال حكماً وللحرام حكماً، ولا يجوز الخلط بينهما، ويجب على المسلم أن يسلم لأوامر الله سبحانه وشرعه، فما كان حلالاً من الأولاد من وطء النكاح له حكمه، وما كان من الأولاد من زنا وسفاح -من حرام وبغي- فإنه يفصل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا الواجب هو تمييز الحلال من الحرام.

قال رحمه الله: [وإن وطئت معتدة بشبهة أو نكاح فاسد، فرق بينهما وأتمت عدة الأول، ولا يحتسب منها مقامها عند الثاني، ثم اعتدت للثاني، وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين]:

(وإن وطئت معتدة بشبهة) امرأة في عدتها من الطلاق، طلقها زيد فجلست تعتد، فجاء رجل وجامعها يظنها زوجة له على وطء شبهة، ففي هذه الحالة يرد السؤال -ونحن قد أثبتنا أن للطلاق الشرعي عدة، وللوطء بشبهة عدة، وللوطء المحرم عدة، فإذا دخلت العدد على بعضها كما ذكرنا في صدر الفصل- ما الحكم؟!! في هذه الحالة حينما اعتدت من زوجها الأول، ومضى الثلث منها كحيضة، ثم حصل وطء الشبهة بعد مضي الحيضة الأولى، وقبل الحيضة الثانية، فالحيضة الثانية في هذه الحالة ستأتي بعد وطء الشبهة فلا تحتسب من حيضة الأول، ويفرق بينهما، هذا بالنسبة لوطء الشبهة. ويلحق ذلك ما ذكره -رحمة الله- بقوله: (أو نكاح فاسد)، وطئها في نكاح فاسد مثل نكاح الشغار، نكح امرأة شغاراً وهي في عدتها فما الحكم؟! (فرق بينهما)، يعني: فرق بين الواطئ والموطوء -المعتدة- وهذا الحكم الأول أن يفرق بينهما.

(وأتمت عدة الأول)، إذا حصل فراق حكمنا بأنها تبني على ما مضى من عدة الأول، إذاً: يفرق بين الواطئ للشبهة وبين موطوءته، ويفرق بين الواطئ والموطوءة بالنكاح الفاسد -هذا الحكم الأول- فلا يجمع بينهما، وهذا لأجل استبراء الرحم من عدتين، وبعد الفراق تبتدئ بالعدة الأولى، فقلنا: إنه مضت حيضة، فتستقبل الحيضة الثالثة في هذه الحالة، وتتبعها للعدة الأولى، لأن الوطء فصل بين جزئي العدة.

قوله: (وما يحتسب منها مقامها عند الثاني)، يعني: مثلاً: إذا فرضنا أن عدتها بالأشهر، فلا تحسب المدة التي مكثتها عند الثاني، مثلاً: لو كانت تعتد فمضى شهر، ثم عقد عليها الثاني بنكاح فاسد -ينتبه لهذه المسألة- فلا تزال في عدة الأول حتى يطأها الثاني، أي: أن النكاح وحده لا يكفي بل لا بد من وجود الوطء، فيحدث الخلل بدخول الثاني على الأول إذا حدث جماع ودخول، لكن لو أنه عقد ثم تبين له أن العقد فاسد، ألغي العقد واستمرت على عدتها، مثلاً: كانت تعتد بالأشهر فاعتدت شهر محرم ثم عقد عليها عقداً فاسداً في أول صفر، ثم منع من هذا العقد الفاسد وتبين له، ولم يمكن من الدخول، فحينئذ تبني على أنها لا تزال في عدتها، وتحتسب أيام صفر من عدتها، حتى ولو كانت تجلس معه ولم يحدث جماع، يعني: تختلي معه وتظن أن هذا جائز لها، ثم تبين أنه لا يجوز، فهذه المدة تحتسب من العدة، فتبني على الأشهر التي مضت من عدتها.

(ثم اعتدت للثاني) إذاً: تبني على عدة زوجها الأول ودخول وطء الثاني يمنع، فإذا فرق بينهما بُني على عدة الأول؛ لأن الأصل مستصحب وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين.

قلنا: إن الحكم أنه يفرق بينهما، وهذا الإشكال فيه، متى ؟! إذا حدث الوطء، وأما إذا فرق بينهما قبل الوطء، فحينئذ لا إشكال أن العدة سارية ويحتسب فيها المدة التي مكثتها عند الثاني، ما دام أنه لم يقع جماع، فلا يؤثر عقد الثاني إلا بالجماع كما ذكرنا.

الحكم الثاني: تتم عدتها من الأول، وهذا الذي يسمى: البناء، يعني: تبني على عدة الأول، ولو مضى من عدة الأول شهر ووقعت هذه الحادثة في الشهر الثاني، ثم حصل فراق بعد منتصف الشهر الثاني، فإذا حصل جماع، فبمجرد فراقه تبتدئ من النصف الثاني، لكن إذا لم يحدث جماع، فكأنه لم يحدث شيء.

إذاً: إذا دخل الثاني بنكاح شبهة أو بنكاح فاسد، فنقول: لا يخلو الأمر من حالتين: إما أن يعقد ويدخل، وإما أن يعقد ولا يدخل، فإن عقد ولم يدخل فغير مؤثر، وهي مستمرة في عدتها، وإن عقد ودخل، فإنها في هذه الحالة تقطع المدة التي قضتها معه ولا تحتسبها، ثم تستأنف بعد فراقه لها، فإذا فارقها -مثلاً- بعد الحيضة الثانية، ففي هذه الحالة تحتسب الحيضة الثالثة، ولو فارقها قبل الحيضة الثانية، فإن الحيضة الثانية تحتسب للأول، وهذا ما يسمى بالبناء، بناء العدة، أي: تبني على عدة الأول ولا تهدمها، لأن منهم من يقول: تقطع، وهذا ما يسمى بالاستئناف، ومنهم من يقول: تبني على عدة الأول، وهذا ما يسمى بالبناء، وهو مذهب الجمهور.

قال رحمه الله: [وإن تزوجت في عدتها لم تنقطع حتى يدخل بها]:

(وإن تزوجت في عدتها) تزوجت رجلاً في عدتها، والمرأة أثناء العدة لا يجوز أن يعقد عليها أحد، ولا أن يدخل بها، وهذا حكم مجمع عليه بين أهل العلم رحمة الله عليهم؛ فإن الله تعالى شرع العدة لحق الزوج الأول، وحقه مستصحب حتى تتم هذا الحق، وتتم العدة الثانية.

(وإن تزوجت في عدتها) منهم من يخص ذلك بالنكاح الصحيح، ومنهم من يلغيه، لكن في الصور التي ذكرنا يستقيم الحكم، فإذا تزوجت بنكاح صحيح، أي: ظاهره الصحة، في أثناء عدة الأول، فما الحكم؟! قالوا: فيه تفصيل على الصورة التي ذكرناها: إن عقد ولم يدخل لم يؤثر، وإن عقد ودخل فإن هذا الدخول يقطع المدة التي مكثتها بعد دخوله بها، وما بين دخوله وفراقه هذا لا يحتسب، وفراقه: يعني: التفريق بينهما، ولا يحكم بكونه تابعاً للعدة الأولى، فلو جلست معه شهرين سقطت الشهران من العدة، وبنت من قبل الشهرين، وهكذا لو كانت من ذوات الحيض، كما تقدم معنا.

قال رحمه الله: [فإذا فارقها بنت العدة من الأول، ثم استأنفت العدة من الثاني]،

عندنا عدتان: عدة قطعت، وعدة تأتي مستقيمة تامة، فالعدة التي قطعت هي عدة الزوج الأول، لأن الناكح الثاني والعاقد الثاني قد جار وظلم في حق الزوج الأول، أما إذا كان مستحيلاً فهذا ما فيه إشكال أنه زنا، إذ لا يجوز نكاح المرأة في عدتها والعقد عليها، فهذا تلاعب بشرع الله عز وجل، واستهزاء بحكمه، لكن قد يقع في بعض الأحيان وتقع بعض الشبهات، وقد تخدع المرأة الرجل، وقد تجهل المرأة، ويقع هذا في بيئة ليس فيها علماء، ويجهلون الأحكام الشرعية، فيعقد للمرأة وهي في عدتها، يعقد لها أبوها أو أخوها، وهو يظن أن هذا حلال، ثم يزوجها وهي لا زالت في عدة الأول، يعني: لا زالت في عصمة زوجها الأول، وقد بينا أن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة.

قال رحمه الله: [وإن أتت بولد من أحدهما، انقضت منه عدتها به، ثم اعتدت للآخر]:

(وإن أتت بولد من أحدهما، أنقضت منه عدتها به):

إذا كان الثاني عقد عليها ودخل بها، وهي حامل من الأول، فمعنى ذلك: أنه قد دخل أثناء عدة الأول التي ينبغي أن تقيد بالحمل، وتعرفون أن الحامل عدتها -كما تقدم معنا تفصيله- وضع الحمل، ففي هذه الحالة، هل يكون الولد للأول أو للثاني؟!! الولد للأول، ونحكم بكونها لا زالت في عدة الأول، ولا يحكم بخروجها، ويفرق بين الثاني وبينها، ثم تنتظر حتى تضع ولد الأول، لتخرج من عدته، لأن الولد ولده، فالحمل إذا وقع في تداخل العدتين، ينظر لمن هذا الحمل، فإن كان الحمل للأول، فحينئذ لا إشكال، وننتظر حتى تضع الحمل، وبمجرد وضعها للحمل تخرج من عدة الأول لا الثاني، لأن الولد ليس بولده، وإن كان الولد للثاني، مثل: أن تعتد من الأول وتكون -مثلاً- صغيرة، ثم بعد ذلك يظهر بلوغها، ويطؤها الثاني بعد البلوغ، ويتبين حملها -أحياناً بفارق المدة على الضابط الذي ذكرناه في نسبة الولد- فإذا مضت المدة أو كان الوطء من الثاني بعد الحيض، علمنا أن الحمل للثاني لا الأول، وإذا كان الحمل للثاني فهنا مشكلة.. ما الحل؟!

قالوا: نحتسب العدة للثاني، وتنتظر حتى تضع هذا الولد، فإذا وضعت هذا الولد خرجت من عدة الثاني، ثم بنت على عدة الأول، فلو كان عدة الأول -مثلاً- مضى عليها شهر، تصبح المسألة المشهورة: (تداخل عدة الحيض مع عدة الأشهر) فعند بعض العلماء أنها إن كانت صغيرة أثناء عدتها من الأول وحصل أنه دخل بها ثم طلقها، واعتدت فالشهر الأول بمثابة الحيضة، فإن جاءها الحيض بعد ذلك، بنت ولم تستأنف، فعلى هذا المذهب يرون أنها تبني بحيضتين؛ لأن كل شهر يقوم مقام حيضة واحدة، فنقول لها: انتظري حتى تضعي ولد الرجل الثاني فتخرجين من عدته، ثم تبني على عدة الأول، كالحال فيما إذا عقد ودخل، فقطع عقده المصحوب بالدخول عدة الأول فتستأنف بعد ذلك، فيكون هذا الولد مع وضعه بمثابة العقد مع هذا الدخول، فإنه لا تحتسب مدة هذا الحمل والوضع من عدة الأول، وإنما هي من عدة الثاني؛ لأن الولد ولده.

قال رحمه الله: [ومن وطئ معتدته البائن للشبهة، استأنفت العدة بوطئه ودخلت فيها بقية الأولى].

(ومن وطء معتدته البائن للشبهة) المرأة إذا طلقها الرجل ثلاثاً لا يحل لها وطؤها. وصورة المسألة: إذا طلق امرأة فبانت منه، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يجامعها أو أن يعاملها كالزوجة الرجعية، ولو أنه وطئها وهي بائن، فالأصل يقتضي أنه لا يجوز له الوطء، فأصبحت عندنا عدتان على الأصل: يصبح وطؤه لمرأته البائن كوطء الأجنبي أثناء عدته هو، لأنه هو كالأجنبي، فإذا طلقها طلاقاً بائناً -ثلاثاً- فقد بانت منه، وفي هذه الحالة لو حصل وطء فقد حصل منه خلل ويكون هو والأجنبي على حد سواء، ولا يفصل فيه، وإذا كان الولد ولده فالأمر أخف.

(استأنفت العدة بوطئه)، قال بعض العلماء: تتداخل العدتان، وفي هذه الحالة حكمنا أنه في حكم الأجنبي، ويقولون: إنه في حكم الأجنبي من وجه، وفي حكم الرجل الواحد من وجه آخر، فيكون في حكم الأجنبي من وجه لأننا استأنفنا العدة.

فالآن عندنا صورتان: إذا كان محمد طلق زوجته ثلاثاً، ثم أثناء عدتها من هذا الطلاق البائن وقع بها علي، هذا بالنسبة للصورة التي فيها الشرح، والتي ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الموضع، وفي هذه الحالة دخل وطء علي وهو أجنبي، فوطء علي غير وطء محمد، فيقولون: يكون وطء الإنسان لمطلقته البائن كوطء الأجنبي حينما حكمنا بالاستئناف. إذ لو قلنا: إنه وطء واحد لم يستأنف وبنى على ما تقدم، وأتمت المرأة عدتها، وقالوا: إذا استأنف، فيستأنف العدة للأمرين، ووجه ذلك، أنه بوطئه الأخير تكون حينئذ قد خرجت من عدتها، فحينئذ صار كالأجنبي من وجه، وكالشخص الواحد من الوجه الآخر.

(ودخلت فيها بقية الأولى). يعني: لو كانت اعتدت من العدة الأولى شهراً وحصل الوطء أثناء العدة، فإن هذا الوطء لو وقع في صفر، فقد مضى شهر محرم وهو ثلث العدة، فبقي من العدة الثلثان، وإذا مضت حيضة بقيت حيضتان، فإذا كان قد طلقها طلاقاً بائناً فاعتدت بحيضة، فقد مضى ثلث العدة، فحصل الوطء أثناء ذلك، فحينئذ يكون بعد مضي ثلث العدة، فيبقى ثلثان، فنقول: تستأنف بعد وطئه في صفر، وهذا الاستئناف تدخل فيه الحيضتان. إذاً: ستستأنف بثلاث حيضات، وستستأنف بعدة كاملة، وإذا استأنفت بعدة كاملة اندرج تحتها ما بقي من الأولى غالباً، كأن يبقى شهران أو حيضتان، أو أقل العدة كأن يمضي شهران ويبقى شهر واحد، أو النصف إذا كانت العدة بالأشهر.

قال رحمه الله: [وإن نكح من أبانها في عدتها، ثم طلقها في عدتها قبل الدخول بانت].

(وإن نكح من أبانها في عدتها) وهو الطلاق الرجعي، فنحن قلنا: إن الرجعي يلحقه طلاقه وظهاره، مثلما ذكرنا في مسائل الطلاق.

(وإن نكح من أبانها في عدتها). يعني: عقد عليها أثناء عدتها، (ثم طلقها في عدتها قبل الدخول بانت)؛ لأنه في هذه الحالة ما حصل دخول، ونحن قلنا: إن شرط العقد المؤثر أن يحصل الدخول، وبناء على ذلك لا تستأنف وإنما تبني، والفرق بين المسألتين: أن المسألة الأولى: يطلق ثم يجامع، وهي مطلقة ثلاثاً وهي التي يسمونها البائن بينونة كبرى.

المسألة الثانية: يطلق طلاقاً بائناً ثم يعقد، وهناك فرق بين الاثنين، هناك وطء وهنا عقد، فالعقد هذا عقد فاسد، لأن المرأة المطلقة ثلاثاً أو التي بانت في عدتها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، فالنكاح هذا ملغي، وفي هذه الحالة لو حصل عقد -وهو مراد المصنف- على البائن دون دخول، فهل الحكم كما تقدم معنا في المسائل الماضية؟ الجواب: نعم، قال: إنها تبني ولا تستأنف، لأن عقده عليها لم يحصل فيه وطء، وقد ذكرنا أن المؤثر أن يحصل الدخول والوطء حتى نحكم بالاستئناف، وبناء على ذلك إذا حصل منه العقد ولم يحصل منه الدخول، فإنه لا يحكم بوجوب الاستئناف؛ لأنه يبني، أما إذا حصل العقد والدخول، فحينئذ يستأنف، وتدخل بقية العدة الأولى في العدة الثانية الكاملة.

الفرق بين الطلاق والفسخ

السؤال: ما الفرق بين الطلاق والفسخ عند الفقهاء رحمهم الله؟

الجواب: فسخ النكاح يأتي على صور عديدة، والأصل أن العصمة إذا ثبتت فلا يحكم بزوالها إلا على وجه معتبر شرعاً، وهو الطلاق أو الفسخ، ويفسخ النكاح أحياناً بطلب من المرأة، كما إذا ضاع حق من حقوقها، ومن أمثلة ذلك: إذا ظهر عيب في الرجل، كما لو كان الرجل يقوم بحقوقها الزوجية ثم أصبح عنيناً أو أصبح مجنوناً أو أي إعاقة، وتضررت المرأة فحينئذ تطلب فسخ النكاح، وترفعه إلى القاضي، وتطلب منه أن يفسخ نكاحها من هذا الرجل.

ولو أنه كان عاقلاً ثم فجأة جن فتضررت من جنونه، فرفعت أمرها إلى القاضي، وقالت: أريد فسخ النكاح؛ لأن المجنون لا يمكن أن يطلق، فينظر القاضي ويحكم بفسخ نكاحها من هذا الزوج. والفسخ لا يمكن أن يكون إلا عن طريق القاضي، فهو الذي يقدر وينظر هل من حق المرأة أن تفسخ النكاح بينها وبين زوجها أم لا؟ وفي بعض الأحوال إذا حصل الضرر، قد يتولى القاضي الفسخ في بعض الصور الخاصة، ويحكم بزوال العصمة، وارتفاع قيد النكاح، واختلف العلماء في مسألة الخلع في النكاح، وقالوا: هل هو طلاق أو فسخ؟ والصحيح: أن الخلع طلاق وليس بفسخ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقه) والأصل في الطلاق أن يكون للرجل، وقد يقوم القاضي مقامه، أو ولي المجنون أو ولي الصبي، وكذلك الوكيل ينزل منزلة موكله، لكن الفسخ في أعظم صورة يكون عن طريق القضاء، والفسخ والطلاق قد يجتمعان وقد يختلفان، مثلاً: يكون الطلاق رجعياً، ويكون بائناً، فلو طلقها قبل الدخول فهو طلاق بائن، ولا يمكن الرجعة فيه، لكن في الفسخ في جميع صوره إذا حكم بالفسخ فإنه لا يملك الارتجاع إلا بعقد جديد، وأما في الطلاق فيمتلك الارتجاع إذا دخل بها فطلقها طلقة واحدة أو طلقتين، ولم تخرج من عدته، ويملك ارتجاعها بدون عقد، سواء شاءت أو أبت، ولذلك هذا الذي جعل بعض العلماء يقول: إن الخلع فسخ، وليس بطلاق، لأنه لو قلنا: إنه طلاق، كان من حق الرجل أن يراجعها، والمقصود من الخلع: أن تدفع المرأة ضرر الزوج عنها، فتعطيه ماله وتخالعه، فلو قلنا: إنه طلاق. كان من حقه بعد ما تخالعه أن يعود ويراجعها، فخرجوا من هذا الإشكال، وقالوا: الخلع طلقة بائنة، كما أنه لو طلقها طلقه قبل الدخول فإنه في هذه الحالة يحكم بكونه لا يحل له إرجاعها إلا بعقد جديد، وهي البينونة الصغرى، ومن الفوارق أيضاً: أن الفسخ لا يحتسب في الطلاق. أي: إذا فسخ النكاح لا يحتسب، لكن إذا طلق احتسبت، وأيضاً من الفوارق: أن الفسخ يهدم النكاح، والطلاق قد لا يهدم، مثلما ذكرنا في الرجعية، وعلى كل حال: فإن الفسخ أقوى من الطلاق -في بعض الصور- ولذلك لا يمكن أنه يحكم بانفساخ النكاح، إلا في صورة خاصة فيما يتعلق بالقضاء.

حكم الائتمام بالمؤتم المسبوق بعد سلام إمامه

السؤال: جماعة ائتمت بمأموم -ظنته إماماً- وهو في الحقيقة يقضي ركعات فاتته مع إمامٍ آخر، فما حكم صلاة الجميع؟

الجواب: أولاً: لا يجوز للإنسان أن يصير مأموماً لمن هو مؤتم بالغير، فإذا جئت ووجدت إنساناً يصلي وراء إمام معه أو بعده قابلاً لصلاته، فلا يجوز لك أن تأتم به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به)، فجعل المأموم مؤتماً بالغير، وجعل الإمام غير مؤتم، فإذا ائتم بالمأموم صير المأموم إماماً، والنبي صلى الله عليه وسلم جعله مؤتماً، وصير المؤتم إماماً، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله تابعاً، وبناء على ذلك: لا يجوز الائتمام بالمأموم، وقد اتفق العلماء وأجمعوا على أنه لو كان الإمام يصلي والمأموم وراءه يصلي أثناء الاقتداء بجماعة فإنه لا يجوز الائتمام ولا تحتسب الجماعة، ونبهت طائفة من العلماء إلى أنه إذا بطلت الجماعة وقد نواها بطلت الصلاة ولم تصح ولو توفرت فيها شروط صحتها، ويحكم ببطلان الصلاة ووجوب الإعادة عليه.

ومن العلماء -وهو مذهب ضعيف ولكن في بعض الصور يقوى- يرى أنه ينقلب منفرداً، وتصح الصلاة له منفرداً، يعني: لا ينال أجر الجماعة على القول بصحتها منفرداً، ولا يمكن أبداً إيقاع هذا الحكم في صلاة الجمعة، فإنه لو ائتم في الجمعة بشخص يظنه الإمام وتبين أنه مأموم، ففي هذه الحالة يجب أن يعيدها ظهراً، لأنه لا يصح أن تنقلب له الجمعة منفردة، فيرجع إلى الأصل من صلاته -وهو أربع ركعات- وكونه يصلي بآخرين أثناء ائتمامه بإمام هذا لا يجوز له بالإجماع، لكن اختلفوا لو أن الإمام سلم وبقيت لك ركعة أو ركعتان، وقمت تقضي، وجاء أناس وائتموا بك، ففي هذه الحالة هناك وجه ضعيف عند بعض العلماء يقول به بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمهم الله: أنه يجوز لهم أن يأتموا به، وهذا ضعيف لظاهر السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من ارتبطت صلاته بالإمام مؤتماً على كل حال، ولذلك قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ولذلك نجد المأموم مؤتماً بإمامه بعد سلامه، ويبني على صلاته مع إمامه، ولا ينقطع عنها، وبناء على ذلك لا يصح أن يقتدي بالمأموم بعد أن قام للقضاء، لكن لو أنه لا يدرك مع الإمام شيئاً، وجاء في التشهد الأخير ودخلتما معاً المسجد، وقلت له: إذا سلم الإمام فائتم بي أو سأأتم بك فلا بأس في ذلك في قول طائفة من أهل العلم، لأنه ليس بمأموم من جهة الإدراك، لأن قوله : (إنما جعل الإمام ليؤتم به) من جهة الإدراك، ولذلك لا يحكم بكونه مؤتماً على الحقيقة إلا بإدراك ركعة فأكثر، ومن هنا لو أن هذا المأموم دخل في يوم الجمعة والإمام قد رفع رأسه من الركعة الأخيرة، فإنه يتمها أربع ركعات؛ لأنه لم يدرك الجمعة، فدل على أن الإدراك الحقيقي شيء، والإدراك الحكمي شيء آخر، فمن أدرك حكم الجماعة فضلاً ليس كمن أدرك حكمها حقيقة، فلا يؤتم بالمدرك حقيقة، لأنه مرتبط بإمامه، ويؤتم بالمدرك الحكمي التقديري على أصح قولي العلماء رحمهم الله، لأن الأصل في قوله: (إنما جعل الإمام) أن يراد به المدرك، ويحمل على المدرك الحقيقي لا غيره، والله تعالى أعلم.

حكم دخول المرأة الحائض المسجد

السؤال: كثير من الأخوات حريصات على حضور الدروس والمحاضرات التي تقام في المساجد.. فهل يجوز للمرأة إذا جاءتها الحيضة أن تحضر الدرس والمحاضرات وتجلس عند الدرج أو عند موضع الأحذية -أكرمكم الله- وهي عند مصلى النساء. أي: داخل الباب من جهة المصلى أو من جهة المسجد؟

الجواب: لا شك أن المرأة المؤمنة التي تطلب العلم وتريد وجه الله سبحانه وتعالى، وتخاف الله عز وجل في خروجها لطلب العلم بعيداً عن الفتنة، لا شك أن الله أراد بها خيراً، وخير ما يوصى به النسوة اللاتي وفقهن الله لحضور مجالس العلم: الإخلاص لله عز وجل، والبعد عن الفتنة ما أمكن، فإذا أراد الله عز وجل أن يعظم الأجر والمثوبة لطالبة العلم، وفقها إلى هذين الأصلين العظيمين: إخلاص لوجه الله، وبعد عن الفتنة في القول والعمل.

وأما ما ورد السؤال عنه من دخول المرأة الحائض المسجد، فإن المرأة الحائض لا تدخل إلى المسجد إذا كانت حال حيضها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة : (ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك)، فدل على أن الأصل عدم دخول الحائض، بدليل أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما قال لها:(ناوليني الخمرة؛ قالت: إني حائض)، فامتنعت من الدخول واعتذرت بكونها حائضاً، فدل على أن هذا كان معمولاً به في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها لا تنشئ الأحكام من عندها، وقد قال لها عليه الصلاة والسلام ذلك صريحاً في قوله: (اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت) حينما حاضت في حجة الوداع، فالذي على المرأة أن تلتزم به: أن لا تدخل مسجداً إذا كانت حائضة والله يأجرها ويكتب ثوابها، فوالله ما من مؤمنة حرصت على مجلس علم، وما من مؤمن حرص على مجلس علم، وواظب عليه ثم جاءه العذر إلا كتب الله أجره، ولو مضى في العذر سنوات، وهذه فائدة المداومة على الطاعة، فكم من رجل مشلول مقعد، تكتب له ملايين الحسنات في اليوم، لأنه نشأ نشأة صالحة، وجاءته تلك المصيبة والنقمة والبلية، وهو على طاعة الله ومرضاته، فلو أنه حصل لك أي ظرف أو أي عذر كتب أجرك كاملاً، فالشخص يصلي ويقوم ويتهجد بالليل فيأتيه العذر، فإذا جاءه مرض أو سافر واتبع السنة وترك فيها القيام، كتب أجر ما يقوم به، ولو كان يختم القرآن كل ثلاث ليال، كتب الله له أجر ختم القرآن إذا سافر ثلاثة أيام وكأنه مقيم حاضر، فإنه يعامل الكريم سبحانه وتعالى، ومن أكرم من الله سبحانه وتعالى؟ الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار، لا تغيضها نفقة جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومع هذا كله حتى إن كرمه جعله لكبير السن الذي كان في شبابه محافظاً على الطاعة، ثم جاءه الشيب فإنه يكتب الله له الأجر كاملاً غير منقوص، فإن كان في شبابه يجلس مجالس الذكر ثم لما كبر ضعف عنها، كتب له الله أجر مجالس الذكر، ولو كان في أيام شبابه حريصاً على أن يذهب للرحم بنفسه، حريصاً على أن يفرج كرباتهم، حريصاً على أن يقف مع المكروبين والمنكوبين، ويذهب بنفسه للإصلاح بين الناس، كتب الله له الأجور، فما وقف أحد على بابه، وسأله المسألة، فقال له: والله لو قدرت لفعلت، إلا كتب الله له الأجر كاملاً، الأول للعمل، والثاني للعذر، قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:6]، يعني: غير منقطع.

قال بعض أهل العلم في تفسيرها -وهو قول طائفة من المفسرين- (لهم أجر غير ممنون) أي: أن الله يكتب لهم أجر الشباب تاماً كاملاً غير منقطع، فلو عمر مائة سنة وكان خلال الخمسين سنة الأخيرة، عاجزاً ولو كان مشلولاً مقعداً فيكتب له الأجر تاماً غير منقوص، وهذا فضل عظيم، بفضل الله والمواظبة على الطاعة، وليس هناك أكرم منه جل جلاله، ولا أتم رحمة بخلقه، ولذلك وصف نفسه سبحانه فقال تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14]،الود: خالص الحب، تقول: يا فلان! إني أودك، ليس كقولك: إني أحبك، فالود خالص الحب، فالله يتودد لعباده سبحانه وتعالى، وهو أغنى ما يكون وهم أفقر ما يكونون إليه، فمن وده ولطفه ومحبته لخلقه، وإحسانه لهم: أن العبد ما حافظ على خصلة من خصال الخير إلا أدركها، وهذه فائدة المحافظة على السنة والأذكار.

قال بعض العلماء: حتى إن الرجل يكون على طاعة وخير ثم يسري به الجنون فجأة، فيزول عقله -يأتيه حادث فيصبح مجنوناً- فيكتب له الأجر كاملاً، وقالوا -والعياذ بالله-: يخشى على من كان على المعاصي ثم التزم بالدين، وما حال بينه وبين المعصية إلا العذر، لكن الصحيح: أنه لا يأثم، وهناك أشياء يسمونها التقديرات ذكر منها العز بن عبد السلام في قواعد: (التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود والموجود منزلة المعدوم)، قالوا: المجنون الآن ليس بمسلم لأنه لا يقدر أن يتلفظ بالشهادتين ولا يعرف، ولا يعقل، فقالوا: نحكم بإسلامه لأنه كان قبل جنونه مسلماً، فنزلنا المعدوم منزلة الموجود استصحاباً للأصل الذي كان عليه، ونقول: فلان صالح ولو أنه بعد جنونه وبعد سحره اقترف المعاصي، لأنه لا يشعر بنفسه، استصحاباً للأصل الذي عرف عنه، وكل هذا فضل وكرم من الله سبحانه وتعالى، فالمرأة الصالحة التي تحافظ -هذا محل الشاهد- على دروس العلم، لا تحضر المسجد في أيام الحيض، ولا يقولن أحدكم هذا تشديد عليها، فهذا حكم الشرع، والشارع لا يحكم إلا بحكم ترى في ظاهره الرحمة، فانظر إليها تجلس في قعر دارها ويكتب لها الأجر كاملاً، وفي هذه الحالة تجلس خارج المسجد عند باب المسجد وتسمع، لكن لا تدخل، ولها أن تدني رأسها وتصغي -لكن: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن لا تذل ولا يذل طالب علم ولا طالبة علم إلا أعزه، وأن لا يهين نفسه في العلم إلا أكرمه.

وكان أحد العلماء لما وقف موقفاً ظاهره ذل لأجل طلب علم، قال: (ذل في مقام عز). فطالبة العلم التي تأتي -كما ذكر في السؤال- عند الحذاء -وهذا شيء كبير جداً- وتجدها امرأة وابنة ناس لو سفك دمها ما أهانت نفسها، لكنها للعلم تهين نفسها، وتجد الرجل ابن أناس لكنه على أبواب العلماء يزاحم ويجلس ويذل، وليس للعالم ولكن لله فبخ بخ للمرأة الصالحة في التجارة الرائحة، الغنيمة الرابحة، وعند الله رائجة، ولا شك في عظم ثوابها وأجرها عند ربها سبحانه وتعالى، حينما تتحمل هذه المشاق، والمرأة أكثر شؤماً من الرجل، وعلى كل حال قد أغنى الله بوجود الأشرطة إذا حصل عذر، فالأمر قد يكون أيسر، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم التوفيق للجميع، ويستثنى من هذه المسألة أن تكون هناك غرفة خارج المسجد، فإذا كانت هناك غرفة خارج المسجد إذا اقتطع جزء من المسجد، فهو جزء من المسجد -لكن لو أنها بنيت غرفة خارج المسجد، على أنها مكتبة، أو على أنها غرفة استراحة، أو على أنها غرفة ضيوف يستقبل فيها، والحفلات الخاصة تفعل فيها، ففي هذه الحالة يجوز للمرأة أن تدخل في هذا الملحق، وهو أرفق بالنساء، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة من توضأ بماء قد تغير طعمه مع عدم علمه بسبب التغير

السؤال: من توضأ لمدة أسبوع بماء قد تغير طعمه بسبب مياه المجاري، علماً بأنه لم يعلم سبب تغير طعم الماء إلا بعد أسبوع وصلى، فهل يعيد هذه الصلوات؟

الجواب: الماء إذا تغير طعمه ولونه، هذان الوصفان هما أقوى أوصاف التأثير، والرائحة قد تكون أضعف لكنها مؤثرة، فإنه يحكم بما غيره، فإن كان تغير لون الماء بمادة طاهرة فهو طاهر لا طهور، كالسدر -مثلاً- فإنه يصير طاهراً لا طهوراً، ولو تغير بنجس حكمنا بكونه نجساً، ولذلك يقولون: المتغير يأخذ حكم ما غيره، يعني: إن كان نجساً فنجس، وإن كان طاهراً فطاهر، أما الدليل على ثبوت القسم الثاني فظاهر السنة، وإن كان القرآن قد دل على ذلك من جهة اللفظ، فإن الله تعالى يقول: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، ولم يقل "طاهراً"، وطهور (فعول) في لغة العرب، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم، يؤكد هذا حينما قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فلما بين عليه الصلاة والسلام أن البحر طهور، ولم يقل: (هو الطاهر ماؤه)، وإنما قال: (هو الطهور ماؤه)، فأثبت كون الماء طهوراً، إذا كان على أصل خلقه، وكيف نقول: إن هناك فرق بين الطاهر والطهور ولمسنا هذا من حديث أبي هريرة ، وهو مذهب جمهور العلماء، وذلك أن الصحابي رضي الله عنه، قال لرسول الله: (يا رسول الله: إنا نركب البحر، ومعنا القليل من الماء، إن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر) لأن ماء البحر رائحته متغيرة، ولونه متغير لطول المكث، فمن هنا دل على أن أي شيء يتغير ولو كان متغيراً بطاهر، فإنه حينئذ ينتقل عن الأصل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، فجعل الماء الباقي على أصل خلقته طهوراً، وهذا الماء الطهور يكون على أوجه: كأن يستقر في الأرض، قال تعالى: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون:18]، وحينئذ تقول: كل ماء سكن في الأرض، واستخرج كماء العين، أو كماء البئر، أو خرج بنفسه كماء العين، فهو طهور، لأن الله وصف أصله بأنه طهور -وهو الذي نزل من السماء- ووصفه بأنه طهور يأتي على وجهين في الأرض: إما أن يسكن في باطن الأرض، وإما أن يجري على وجهها، فإن سكن في باطنها فماء بئر وعين، وإن جرى على وجهها، فماء سيل ونهر، فإذا كان ماء بئر أو ماء عين أو ماء سيل أو ماء نهر، فهو طهور، لأنه باقٍ على أصل خلقته، فالبحر لما كان في أصله طهوراً لكنه تغير دل على أن الطهور إذا تغير ينظر في حال ما غيره، إن كان نجساً فنجس وإن كان طاهراً فطاهر، ومن هنا قال جمهور العلماء: يقسم الماء إلى ثلاثة أقسام، وهناك من قال بأنه قسمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من قصعة فيها أثر العجين، وهذا متغير، والحقيقة أن هناك فرقاً بين قول الصحابي: (فيها -يعني: في القصعة- أثر العجين)، ومن يقول: (فيه أثر العجين)، وأنتم تعلمون من أكل عصيدة، وأكل عجين، يعرف أن العصيدة تيبس في الإناء، ولا تتحلل، فلا ينقلب الماء أبيض إلا بعد فترة، فمعنى: (فيها أثر العجين) أي: فيها شيء يابس باق، ثم بعد ذلك صب عليه الماء، وليس معنى ذلك أنه كان في القصعة عجين فصب الماء عليه، فلا يمكن هذا، وبناء على ذلك لا يقوى هذا الدليل على معارضة الأصل الذي ذهب إليه جمهور العلماء، والله تعالى أعلم. ففي هذه الحالة إذا كان الماء الذي ذكر ماءً نجساً وهو ماء المجاري، فيلزمه أن يعيد الصلوات، لأنه كان المنبغي عليه لما وجد أن الماء قد تغير طعمه أن يبحث، أما أن الشخص يتوضأ بماء تتغير طعمه وتتغير رائحته، ثم يأتي بعد أسبوع ويسأل عن حكمه -لا- هو الذي قصر، ولذلك لا يقال إن مثل هذا يعذر، الواجب عليه أن يبحث عن الأصل، ولو كان يشرب هذا الماء، كان بمجرد أن يجد طعمه متغيراً يذهب ويفتش ويبحث، وعلى كل حال: لا بد أن يعيد هذه الصلوات؛ لأنه تبين أنه يصلي بغير وضوء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ولأن الوضوء الشرعي يكون بالماء الطهور وليس بالماء المتنجس.

حكم المأموم إذا أدرك سجدة السهو مع الإمام

السؤال: من أدرك مع الإمام سجدة من سجدتي السهو، فهل إذا سلم الإمام يسجد المأموم الثانية؟

الجواب: اختلف العلماء -رحمهم الله- في المأموم إذا لم يدرك السهو مع الإمام -إذا لم يدرك نفس السهو- هل هو ملزم بسجود السهو أو ليس بملزم؟!، فعلى القول: بأنه ليس بملزم، فهذه السجدة الثانية ليست بواجبة عليه، وحينئذ إذا سلم الإمام قام وصلى، أما على القول بأنه ملزم بسجود السهو، سواء أدرك السهو أو لم يدركه، فحينئذ هناك إشكال؛ لأنه لم يدرك نفس الصلاة، وإنما أدرك سجود السهو، وهناك فرق بين إدراك الصلاة أو جزء الصلاة حتى يحكم بوجوب السجدتين عليه، وبين إدراك جزء سجود السهو، فإذا أدرك جزء سجود السهو -وهي السجدة الثانية- فالأشبه فيه أنه لا تلزمه السجدة الثانية، لأنه مأمور بالقيام بالركن، وهو إتمام صلاته والقيام بفعل الركعة الأولى، فلا يشتغل بشيء مشتبه على هذا الوجه، وإنما يقوم ويتم صلاته على الوجه المعتبر، والله تعالى أعلم.

نصائح في شكر النعم

السؤال: قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وقوله: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، كيف نشكر نعم الله علينا ونحن لا نستطيع حصرها، وكيف نعد جواب سؤال هذه النعم؟

الجواب: ظاهر أن هناك تعارض بين الآيتين، فالله أمر بشكر النعم ولا يمكن للإنسان أن يحصي النعم، فكيف يكون شاكراً؟ والجواب: إن تكاليف الشرع مبنية على القدرة، والله عز وجل كلف الإنسان بما في وسعه وقدرته، وما ليس في وسعه وقدرته فليس بمكلف به، ولذلك يحمد الله ويشكره على ما ظهر وما بطن من النعم، وما سبق وما لحق من النعم، وله سبحانه الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وسراً وجهاراً، وهو المحمود على كل حال، المشكور على النعم سبحانه وتعالى، وله أن يشكر شكراً عاماً، الذي هو: (اللهم أني أحمدك وأشكرك على نعمتك) فهذا كرم من الله عز وجل، قبل القليل وأعطى الكثير، إذا قال: "اللهم أني أحمدك على نعمك"، ولو قال: "أحمدك على جميع نعمك"، ما بقيت نعمة إلا ودخلت في هذا الحمد، خفيفة على اللسان لكنها ثقيلة في الميزان، وقد تنوء بها الملائكة من كثرتها، وقال صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: (حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه) قال: (والذي نفسي بيده، لقد رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يصعد إلى السماء) وهذا يدل على فضل الحمد والشكر، وهناك شكر خاص على النعم الخاصة، فإذا تجددت النعم تجدد الشكر، فإذا خرج من بيته، فسلمه الله من آفة في جسده، أو آفة في أهله وماله وولده، لهج لسانه بذكر الله عز وجل، ووالله إن الإنسان ليحار، كم تجد من النعم المرسلة والمقيدة، والظاهرة والباطنة، ومع ذلك الإنسان في غفلة عظيمة عن هذا، ولو أنه نظر فقط إلى طرفة هذه العين التي يحركها، طرفة العين تبعد عنه من البلاء، وقال تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [الشورى:19]، وما قال: "إني لطيف بعبادي"، قال: (الله) بلفظ الجلالة، وجاء بالاسم الظاهر (الله) لأنه وحده الذي له هذه النعمة، وهذا من كرمه سبحانه وتعالى، وقلما تجد شخصاً إذا دخل البيت تذكر نعمة الله عز وجل، حينما يجد سربه أمناً وأهله وجدهم ولم يفقدهم، فكم من خارج من البيت كان آخر عهده بأهله وولده، فما رآهم بعد ذلك، ماتوا وهلكوا، وكم من إنسان يأتي ويدخل إلى بيته، ويرى من النعم التي حفظ الله بها أهله، كالكهرباء لو حصل أي اختلال لأهلكته ودمرته وحصل منها من البلاء ما الله بها عليم، وينام تحتها وينال خيرها ويحفظ من شرها، فسبحان الله العظيم، والإنسان يركب الطائرة، وهم ممكن في أقل من طرفة عين يدمرون ولا يبقى منهم أحد، فحملهم في البر والبحر، وحملهم في السماء والأرض، برحمة منه، ولطف منه، وإحسان منه، ويمرون في المخاطر الشديدة والأهوال الأكيدة، فمن الذي كان يحلم أنه يطوف في السماء؟ وليس الواحد ولا الاثنين، ولكن أمة من الناس، ولا تحمل فقط، ولكن تأكل وتشرب وتنام، ومع هذا كله، إذا أصابها الحر بردت، فهي في البَّراد، وإن كان في شدة البرد فهي في الدفء والراحة، ولذلك لو حوسب الخلق على هذه النعمة لهلكوا، فمن منا الآن إذا نزل في المطار وقد انتهى من الرحلة شكر الله حق شكره؟ ومن منا قبل أن يخرج رجله من هذه الطائرة تذكر أين كان، ومن الذي كلأه بعنايته ورحمته سبحانه وتعالى?

تصور لو أن إنساناً تعرض للخطر في طريقه في البر وليس في السماء، وجاء شخص وقف عليه فقط دقيقة أو دقيقتين، لعد أن حياته كأنها دين لهذا الشخص، ولله المثل الأعلى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، أي: بسبب أمر الله، أو يحفظونه من الأمر الذي قدره الله، فتبارك الله وجل الله.

ومن عرف الله يعرف نعمته؛ لأن طريق المعرفة بالله أن تعرف نعمته سبحانه وتعالى، ولذلك كان أكمل الخلق معرفة بنعم الله هم أنبياء الله ورسله، وكانوا أشد الناس وأعظمهم شكراً لله، حتى أن الواحد منهم إذا رأى النعمة بين يديه كان أول ما يلهج به الثناء على الله عز وجل، فلا يزهو ولا يختال، ولا يتجبر ولا يتكبر، وإنما ينكسر لربه غاية الانكسار، ويسند الفضل كل الفضل لله وحده لا شريك له، سليمان عليه السلام في وسط البحار -وأين العلم وأين التقدم الحديث؟- انظر إلى الذي قال له: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي [النمل:40]، انظر إلى قوله: (مِنْ فَضْلِ رَبِّي)، فما استوجب على الله فضل، فالفضل هو الزيادة كما في لغة العرب (من فضل ربي). يعني: أعطاني الله عز وجل فضلاً منه وتكرماً، فأنا مربوب لله عز وجل، فمن أنا لولاه؟!

ثم قال: (ليبلوني) من أجل أن يبلوني ويختبرني، فعرف الهدف من النعم، وهو ابتلاء العباد بشكرها، فإذا امتلأت القلوب بذكر ربها ولهجت الألسن بالثناء على خالقها سعد العبد، فأصبح يمسي ويصبح وهو ينظر في نعم الله التي يتقلب فيها، فهو من شكر إلى شكر، ومن حمد إلى حمد، ويعتقد في قرارة قلبه أن الفضل كل الفضل لله، حتى إذا لهج لسانه بالشكر والثناء على الله اعتقد من قرارة قلبه، أن الله تفضل عليه بشكره سبحانه وتعالى، وهناك ينال العبد المراتب العلى، فلا يزال لسانه شاكراً حتى يكتبه الله من الشاكرين، ويجعله في ديوان الذاكرين، ثم يتأذن له بالرحمات والباقيات الصالحات، ويجعل له أول بشارة على شكر الله جل جلاله فيضع له البركة في رزقه، فالشيء الذي تشكر الله عليه ترى بركته وترى خيره، ولذلك تجد كبار السن في القديم الشخص منهم يضع الكسرة من الخبز، فيقول: يا رب! لك الحمد والشكر، تجد الواحد منهم يشرب الشربة القليلة بكف ماء من نهر مليء بالطين، ويقول: يا رب! لك الحمد والشكر، ومع ذلك تجد البركة فيها، وهذا الطين الذي يحمل البكتريا اليوم، وتجد فيه من الوسوسة، حتى أن الواحد يخاف أن تكون بجوار البيت، فكيف بهؤلاء وهم يضعونه بداخل أجوافهم؟ ومع هذا كانوا أصح الناس أبداناً وأصلحهم حالاً بالشكر لله جل جلاله، وترى العبد اليوم شبعان تغدق عليه النعم، حتى إنه يجلس على المائدة، ونظر إلى أصناف الطعام التي فيها، جاءته من مشارق الأرض ومغاربها بما لا يحصيه إلا الله وحده، ولا ندري هل ذكر الله أم لا؟ ثم يقوم فيتسخط من هذا الطعام ويعد مثالب هذا الطعام أو يلمز هذا الطعام، وكل ذلك كفر بنعم الله، ونسيان لفضله.

اللهم لا تجعلنا من الغافلين، ولا تسلك فينا سبيل المجرمين، اللهم اجعلنا من الشاكرين، إنك ولي ذلك وأنت أرحم الراحمين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.