شرح زاد المستقنع باب الرجعة [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان مسائل الاختلاف في الرجعة، وهذه المسائل في الحقيقة ترجع إلى كتاب القضاء، يختصم فيها الزوج مع زوجته، هل وقعت الرجعة أو لم تقع الرجعة؟

وكان ينبغي أن تُذكر هذه المسائل في كتاب القضاء؛ لأنها راجعة إلى المسألة المشهورة: من هو المدعي ومن هو المدعى عليه؟

وقد ذكرنا غير مرة أن من عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم يذكرون مسائل الاختلاف في كل باب من أبواب المعاملات بحسبه، فمسائل الاختلاف في البيع تُذكر في كتاب البيع، ومسائل الاختلاف في الإجارة تذكر في باب الإجارة، وهكذا بالنسبة لمسائل الاختلاف في باب الأنكحة، فذكر المصنف رحمه الله اختلاف الزوج مع زوجته وسيذكر جملة من الصور التي اختلف فيها العلماء رحمهم الله.

هل نصدق الزوجة ونحكم بكونها خرجت من العدة، أو يبقى الزوج على الأصل من أنها رجعية وأنها في عدتها، ويحكم بقوله قضاءً؟

هذه المسألة فيها تفصيل:

من حيث الأصل: إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً، وادعت المرأة أن العدة قد انتهت، فإنها إما أن تكون من ذوات الحيض، أو تكون من ذوات الحمل، أو من ذوات الأشهر.

فالعدة إما أن تكون بالحيض (بالأقراء)، وإما أن تكون بالأشهر كالصغيرة والآيسة من الحيض، وإما أن تكون بوضع الحمل، فإن كانت المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً من ذوات الأقراء، فإنه حينئذٍ ينظر في الشيء الذي تدعيه، إن كان الوقت الذي ادعت فيه أنها قد خرجت من عدتها يمكن في مثله أن تخرج، حُكِمَ بقولها إلا إذا دل الدليل على خلافه.

فإذا ادعت أنها خرجت من عدتها وكان قد طلقها قبل شهر نظرنا إلى أقل الحيض، يكون فقه المسألة أنها دعت أنها قد حاضت ثلاث حيضات، أو طهرت ثلاثة أطهار، على الخلاف هل العدة ثلاثة أطهار أو ثلاثة حيضات؟

إذا ادعت أنها خرجت من العدة وكان وقت الطلاق قد مضى عليه ثلاثة أشهر، فحينئذٍ لا إشكال؛ لأن الغالب صدقها، وهذا لأن الأصل أنها في كل شهر تحيض حيضة.

لكن الإشكال أن تدعيه في غير المعتاد، كأن يمضي شهر على الطلاق، أو يمضي شهر ونصف على الطلاق، فهل يمكن لمثلها أن تحيض ثلاث حيضات أو تطهر ثلاثة أطهار في هذه المدة؟

الجواب: نرجع إلى المسألة التي تقدمت معنا في باب الحيض، فننظر إلى أقل الحيض وأقل الطهر، فنضيف أقل الحيض إلى أقل الطهر ونكرره ثلاث مرات في الأطهار، وثلاث مرات في الحيضات مع الطُهر.

فإذا قلنا على قول الحنابلة والشافعية رحمهم الله: إن أقل الحيض يوم وليلة، وقالت: إنها حاضت الحيضة الأولى في اليوم الأول وطهرت مباشرة ثم قالت: إنها طهرت ننظر في الطهر، فإذا وافق أقل الطهر الذي هو ثلاثة عشر يوماً أضفناها لليوم الذي هو يوم الحيض.

ففي يوم الرابع عشر تم طهرها الأول، وتدخل في الحيضة الثانية، فإذا قالت: رأيت الدم في اليوم الخامس عشر، واليوم الخامس عشر هو الحيضة الثانية، فإذا قالت: انقطع الدم بتمام مدته أضفنا ثلاثة عشر يوماً فصار الكل ثمانية وعشرين يوماً فتكون قد دخلت في الحيضة الثالثة في التاسع والعشرين؛ فإذا قلنا: إنها قد دخلت بدخول التاسع والعشرين فأضف يوماً واحداً لحيضتها الثالثة، فبتمام اليوم التاسع والعشرين تكون قد أتمت الحيض، ثم قالت: إنها طهرت. فبداية طهرها أن تضيف على اليـوم التاسع والعشرين لحظة لكي تدخل في الطهر الثـالث.

فإذا دخلت في الطهر الثالث فقد حلت على القول بتمام الحيض.

وكذلك بالنسبة للمذهب قلنا: إن هذا القول وهو أن أقل الحيض يوم وليلة وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً استند إلى قضية شريح رحمه الله مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.

فإن امرأة ادعت أنها قد خرجت من عدتها في شهر، فرفعت القضية إلى علي رضي الله عنه فقال: شريح لهذا، وقال: ( إن جاءت ببينة من أهلها يشهدون بصدقها حكمت) يعني: بخروجها من عدتها، فقال له علي رضي الله عنه: (قالون) أي: أحسنت، أو كلمة ثناء بالفارسية.

فدل هذا على أنه إذا مضت تسعة وعشرون يوماً ولحظة أنه يمكن أن يحكم بخروج المرأة من عدتها.

أما إذا قلنا: إن الحيض لا حد لأقله فالأمر أخف وأقل؛ لأنه يتحقق ولو بلحظة واحدة كما هو مذهب المالكية، وتضيف إليها ثلاثة عشر يوماً طهراً، ويكون حينئذٍ الشهر زمن الإمكان من حيث الأصل.

على كل حال المصنف رحمه الله اختار أنه تسعة وعشرون يوماً ولحظة، فإذا ادعت المرأة وكانت من ذوات الأقراء أنها قد طهرت خلال شهر أو خلال هذه المدة فأكثر، حكم بتصديقها من حيث الأصل؛ لأنه زمن الإمكان.

هكذا لو كان الزوج يقر أن زوجته عادتها مثلاً ستة أيام، وتطهر في العادة أربعة عشر يوماً، فحينئذٍ يحسب لها عشرون يوماً ثم عشرون يوماً ثم عشرون يوماً، فلو ادعت بعد شهرين حكم بخروجها من العدة.

وتقاس على هذا المسائل الأخر؛ لأن هذه المسألة أصل من جهة أقل الحيض وأقل الطهر؛ وإلا إذا ادعت المرأة أنها خرجت من عدتها في زمن يمكن أن تخرج فيه من عدتها وكانت من ذوات الحيض حكمنا بصدق قولها ما لم يقم الدليل على خلافه، هذا بالنسبة لذوات الأقراء.

وإذا كانت المرأة من ذوات الأشهر كالصغيرة والآيسة من الحيض فعدتها ثلاثة أشهر، فحينئذٍ لا يكون الاختلاف في نهاية العدة مشكلاً إذا كان هناك اتفاق على بداية الطلاق.

فإذا اتفقا على اليوم الذي وقع فيه الطلاق لم يقع إشكال في خروجها؛ لأنها تضاف ثلاثة أشهر كاملة، ولو ادعت دون الثلاثة الأشهر لم يلتفت إلى قولها؛ لكن الإشكال في هذا النوع من النساء أنه يختلف الزوج مع زوجته في زمن وقوع الطلاق.

فيقول مثلاً: إن الطلاق كان يوم الخميس، وتقول هي: كان الطلاق يوم الأربعاء، فالزوج يدعي الطلاق في الخميس، والزوجة تدعي الطلاق في الأربعاء.

فالفرق بينهما يوم واحد فإذا كان قد راجعها في هذا اليوم، فهل تكون قد خرجت من عدتها أو لم تخرج؟ فحينئذٍ يحكم بالأصل.

وسيأتي إن شاء الله بيان أن الأصل بقاء الزوجية إلى يوم الخميس؛ لأنها قالت: طلقت يوم الأربعاء، فأنا الآن حل للأزواج وقد خرجت من عدتي، فقال: بل طلقتك يوم الخميس ولا زلت في عصمتي، وقد راجعتك في هذا اليوم الأخير.

فاليوم المختلف فيه الذي هو تمام الستين يوماً على قوله، وزيادة اليوم على قولها، ترجع إلى مسألة أخرى، وهي أن الزوج حينما قال: طلقتك يوم الخميس. وقالت هي: طلقتني يوم الأربعاء، فالأصل واليقين أن الزواج باق إلى الخميس؛ لأن الأصل أنها زوجته وهو الذي أوقع الطلاق.

الأمر الثاني أنه من حيث الأصل: أننا يوم الأربعاء متفقون على أنها كانت زوجته من حيث الأصل حتى وقع طلاقها، فيقولون: نستصحب الأصل.

ولذلك فطائفة من العلماء يفرعون هذه المسألة على مسألة (اليقين لا يزال بالشك)، وهي إحدى القواعد الخمس التي ذكرناها، والتي قام عليها الفقه الإسلامي، ومن فروعها: ( الأصل بقاء ما كان على ما كان ).

فالأصل أنها زوجته إلى يوم الخميس حتى يدل الدليل على سبق الطلاق، فإذا جاءت بشهود أنه طلقها يوم الأربعاء خرجت من عدتها وأصبحت حلالاً للأزواج، ولا يملك ارتجاعها إلا بعقد جديد، فهما إذا اختلفا وقالت: طلقتني يوم الأربعاء وأنا الآن حل وليس لك عليّ سلطان؛ لأني قد خرجت من عدتي.

وقال: بل طلقتك يوم الخميس. حكمنا بقوله، فإن شهد الشهود أنه وقع طلاقه لها يوم الأربعاء حكم بكونها أجنبية ولا تحل له إلا بعقد جديد على الأصل الذي ذكرناه في الرجعية إذا خرجت من عدتها.

أما ذات الحمل إذا طلقها وكانت حاملاً فالعلماء اختلفوا فيها على وجهين:

من أهل العلم من قال: لا يمكن أن يحكم بخروجها من عدتها إلا إذا وضعت جنينها، ويكون الوضع المعتبر، وحينئذٍ لابد من مضي ستة أشهر؛ لأن الستة الأشهر هي تمام الحمل.

وتقدير الحمل بستة أشهر تتفرع عليه مسائل مهمة جداً منها:

مسألة شق بطن المرأة إذا ماتت وفي بطنها جنين، فلا يجوز إلا إذا تمت له ستة أشهر، وحكم الأطباء بوجوده حياً، فحينئذٍ يشق بطنها ويستخرج، أما إذا كـان دون ستـة أشهر فلا يشـق.

كذلك مسألة: إذا ادعت أنها وضعت حملها قبل ستة أشهر لا يحكم، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15] فبيّن سبحانه أن حمل الجنين وفصاله عن الرضاع يتم في خلال ثلاثين شهراً.

وقد بيّن نص القرآن أن الرضاع في الأصل يكون حولين كاملين، والحولان أربع وعشرون شهراً، فإذا كان الحمل مع الرضاعة التامة بنص القرآن يكون ثلاثين شهراً، فمعنى ذلك أن أربعة وعشرين شهراً منها للرضاعة، ويبقى ستة أشهر هي للحمل، وهذا يدل على أن أقل الحمل هو ستة أشهر.

إذا ثبت هذا وادعت أنها وضعت حملها، فقد اختلف العلماء فبعض العلماء يقول: ينظر إلى تمام الحمل وذلك بستة أشهر ولا يلتفت إلى ما دونه، ومن أهل العلم من قال: السقط إذا كان بعد مدة التخلق وتصويره حكم بخروجها من العدة إذا ألقته ولو كان سقطاً.

وفرعوا على ذلك مسائل منها: أنه يستتبع الدم ويحكم بكونه آخر حكم دم النفاس، كما اختاره بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله عليهم.

وبناءً على ذلك يقولون: إذا تمت ودخلت في الأربعين الثانية هي التي ينتقل فيها من النطفة إلى العلقة، ثم ألقته، حكم بخروجها من العدة، والصحيح ما ذكرناه أنه لابد من تمام مدة الحمل حتى يحكم بخروجها من العـدة، كما سيـأتي تفصيـله في بـاب العـدد.

بالنسبة لقوله: [ إن أمكن ] أي: زمان الإمكان لا نقبل من كل امرأة أن تدعي خروجها من عدتها؛ لأن هذا يفوت على الزوج إرجاعها، فالأصل أنها إذا طلقت طلقة واحدة أو طلقتين وكانت مدخولاً بها، فإن زوجها أحق بارتجاعها.

فإذا ادعت أنها خرجت من العدة فقد فوتت على زوجها حقه، وحينئذٍ يترتب عليه أنه ربما عقد عليها رجل آخر، فعقد على امرأة في عصمة غيره.

فهذا يدعو العلماء رحمهم الله إلى بيان الحد المعتبر للحكم بخروج المرأة، والقول المعتبر من المرأة إذا ادعت تمام عدتها وخروجها من حكم الرجعية.

أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن ممكن انقضاؤها فيه

قال المصنف رحمه الله: [ وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه ].

فقوله: (وإن ادعت انقضاء عدتها) أي: من طلاقها الرجعي (في زمن يمكن انقضاؤها فيه) بأن قالت ذات حمل: مضت ستة أشهر، وأيضاً إذا قالت أنها ألقت جنينها أو ولدت.

وكذلك ادعت انقضاء عدتها في شهر على القول الذي ذكرناه في أقل الحيض، أو ادعت أنها خرجت من عدتها وكان الطلاق قد وقع قبل ثلاثة أشهر، إن كانت من ذوات الأشهر، فحينئذٍ يحكم بقولها.

قوله: [ في زمن يمكن ] فلو انعكس الأمر وكان في زمن لا يمكن، فادعت ذات الأشهر أنها خرجت من عدتها بعد شهرين لم يقبل قولها؛ لأنها قالت: طلقني في أول رجب ثم جاءت في نهاية شعبان تقول: إنها خرجت من عدتها.

هذا زمن لا يمكن فيه خروجها من العدة؛ لأن الله عز وجل بين أن الآيسة من الحيض والصغيرة التي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا ادعت الشهرين أو ادعت الشهرين والنصف وعدتها ثلاثة أشهر لم يقبل قولها قطعاً.

وكذلك أيضاً لو ادعت أنها حاضت وطهرت، وحاضت وطهرت، وحاضرت وطهرت في أقل من شهر كأن تقول في عشرين يوماً، فهذا ليس بزمن إمكان، وحينئذٍ لا يعتد بقولها.

هناك قول آخر: إنه ينظر إلى أكثر الحيض ويعتد بأكثره، ويلزمها هذا الأكثر، وحينئذٍ تكون الصورة على خلاف مسألتنا كما هو مذهب الحنفية رحمهم الله؛ لأنهم يحتاطون خاصة في مسألة حلها لزوج، وخروجها من عصمة الزوج الأول.

قال رحمه الله: [ أو بوضع الحمل الممكن ] أي: أنها مضى لها ستة أشهر فأكثر، فهذا ممكن أنها تضع فيه حملاً، ويحكم بخروجها من عدتها بالوضع، وقال تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] فإذا ادعت أنها خرجت من عدتها وكانت حاملاً، ومضى على طلاقها ستة أشهر، فإننا نحكم بكونها أجنبية عنه وقد خرجت من عدتها.

قال رحمه الله: [ وأنكره فقولها ].

مفهوم (أنكره) أنها إن صدقها في زمن الإمكان فلا إشكال، لكن إذا أنكر فالقول قولها، ومعنى كون القول قولها أن الزوج لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على كذبها وعدم صحة ما ذكرته.

وهذا يختلف بحسب اختلاف الدعاوى، فالمسألة فيها خصومة بين الزوج وزوجته، فيأتي الزوج الأول ويجد أن زوجته قد عقد عليها زوج غيره فحينئذٍ يقول: هذه المرأة لا زالت في عصمتي. فقالت: قد خرجت من عدتي ولم تراجعني.

أو قال مثلاً: راجعت وأنت ما زلت في العدة الآن فكيف تنكحي، كل هذه المسائل تحتاج إلى فصل، وكل هذا الخصومات والنـزاعات تحتاج إلى قطع.

فبيّن المصنف رحمه الله أننا ننظر إلى دعوى المرأة، فإن كانت دعواها أنها خرجت من العدة وافقت أصلاً صحيحاً، بحيث مضى زمن يمكن أن يصدق فيه قولها حكمنا بأنها أجنبية، وأنه لا حـق للزوج إلا إذا أقـام بينـة.

فالأصل أن العلماء رحمهم الله ذكروا هذه المسائل لبيان هل خرجت المرأة من العدة أو لم تخرج؟ مما يترتب عليها من الحقوق والحكم ببطلان نكاح الثاني إذا وقع نكاحه، فإن المرأة في بعض الأحيان بمجرد ما تخرج من عدتها من الزوج الأول يعقد عليها في اليوم الثاني.

وحينئذٍ يقع شيء من الخصومة، وربما حصل بين الناس شرور، ففصل بينهم بأن القول قول المرأة إذا مضى زمن يمكن أن يصدق فيه دعواها فيقبل قولها ويقال له: أحضر البينة على صدق ما تقول.

فلو أقام البينة على أنها لا زالت في عصمته على صور مختلفة في ذوات الأقراء والحمل والأشهر حكم بقوله؛ لأن البينة حجة قاطعة للدعاوى.

أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن غير ممكن

قال رحمه الله: [وإن ادعته الحرة بالحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة لم تسمع دعواها]:

إذا ادعته الحرة من ذوات الحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة، فإذا ادعت هذا كان خلاف زمن الإمكان كما ذكرنا، ويُحكم ببطلان دعواها؛ لأن الدعوى إذا كذبها الحس لم تقبل.

فالدعوى لها شروط وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في كتاب القضاء، فالقضاء لا يقبل كل دعوى، فشرط قبول الدعوى أن تكون صادقة أي: يصدقها الواقع ولا يكذبها الحس.

لو أن شخصاً جاء عند القاضي وقال: أدعي أنني أملك مكة كلها، أو أني أملك المدينة كلها، أو أملك جدة، هذه لا يصدقها الحس وتكون دعوى باطلة من أصلها.

الدعاوى الباطلة من أصلها لا تقبل، المرأة إذا ادعت أنها خرجت من عدتها في زمن لا يمكن أن تخرج فيه من عدتها كذبها الواقع والحس، فترد هذه الدعوى ولا تسمع.

خلاف الرجل والزوجة في إثبات الرجعة ونفيها

قال رحمه الله: [ وإن بدأته فقالت: انقضت عدتي فقال كنت راجعتك ].

هذه المسألة ترجع إلى مسألة من المدعي والمدعى عليه؟ من أهل العلم من قال: إن المدعي كل من خالف الأصل والظاهر والعرف، فإذا خالف قوله الأصل أو خالف الظاهر أو خالف العرف فإنه يُحكم بكونه مدعياً ويطالب بالبينة.

ويكون خصمه مدعىً عليه، فيكون القول قول خصمه حتى يقيم هو الدليل، ولا شك أنك حينما تكون مدعىً عليه أفضل من أن تكون مدعياً؛ لأن المدعى عليه الأصل أنه بريء، وأن القول قوله حتى يثبت ما يخالف هذا الأصل.

فإذا كانت المرأة في مسائل الاختلاف هنا ابتدأته فقالت: خرجت من عدتي فقال: كنت قد راجعتك، فإذا قالت: خرجت من عدتي فلا شك أن الزوج يسلم، واليقين أنها الآن قد خرجت من العدة، لكن عنده دعوى أنه راجع.

فاختلف العلماء رحمهم الله، هل الذي يطالب البينة الزوجة؟ لأن الأصل أنها زوجته ما دام أنه قد ادعى رجعتها فنقبل قوله ويكون إنكارها للرجعة دعوى تحتاج إلى بينة.

نحن قلنا: المدعي من كان قوله يخالف الأصل أو يخالف العرف أو يخالف الظاهر، وهناك ضابط آخر عند بعض العلماء: أن المدعي هو الذي يقول: حصل، والمدعى عليه الذي يقول: لم يحصل، أي أن المدعى عليه هو الذي ينفي، والمدعي الذي يثبت.

تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا

المدعي من قوله مجرد من أصل او عرف بصدق يشهد

وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه ادعى

فهو هنا يقول: كنت راجعتك، قالت: ما راجعتني، فبعض العلماء يقول: القول قوله لأنه يثبت أصلاً مستصحباً من كونها زوجة.

وبعض العلماء كما درج عليه المصنف يقول: القول قول الزوجة؛ لأننا على يقين أنها أجنبية؛ لأن الزوج لابد أن يسلم أنها انتهت عدتها، وأنها قد خرجت من وقت الرجعة؛ فحينئذٍ لا نشك أنها أجنبية؛ فإذا جاء يدعي أنه راجع كانت دعواه خلاف الأصل والظاهر.

ومن هنا نقبل الظاهر من أنها أجنبية ونلغي دعوى الرجعية حتى يقيم الدليل.

ويلاحظ كل طالب علم أن الإشكال هنا ما لم تقم البينة، فلو قامت البينة زال الإشكال، فلو أن الزوجة ادعت ولو بعد سنتين أنها خرجت من عدتها، وجاء وأثبت بالشهود أنه راجعها قبل خروجها من عدتها فإننا نحكم بكونها زوجته.

إذا قامت البينة أو صدقته فلا إشكال، والأصل أن الزوج إذا أقام البينة وأثبت أنه راجعها رجعت إلى زوجها وأصبحت في حكم زوجاته.

لكن الإشكال إذا وقع الخلاف بين الزوج والزوجة، أو تزوجها رجل آخر، فهل نهدم النكاح الثاني ونحكم بكونه دخل على امرأة محصنة، والله عز وجل حرم المحصنات لأنها زوجة للغير، ولا يحل نكاح زوجة الغير؟ وقد أفتى بهذا الأئمة، وعلي رضي الله عنه كان يقضي بهذا، ويقضي أنها للزوج الأول مطلقاً سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل؛ فإذاً الإشكال عندنا في هذه المسألة، هل نصدق قول الزوج بناءً على أنه يستصحب أصلاً سابقاً للخروج من العدة، أو نصدق قول الزوجة؟

المصنف رحمه الله وطائفة من أهل العلم وأئمة السلف يقولون: القول قول الزوجة مطلقاً، سواء بدأت أو بدأها هو بالكلام فالقول قولها، ومن أهل العلم من قال: القول قول الزوج.

ومنهم من قال: القول قول من سبق منهما بالدعوى، ويكون من خالفه خالف الأصل، فالزوج إذا قال: راجعتك كان مدعىً عليه بنفي الرجعة عندما تقول: ما راجعتني وإنني أجنبية، أو خرجت من عدتي ولم تراجعني، والعكس لو أن المرأة قالت: أنا أجنبية وقد خرجت ولم تراجعني، فقال: راجعتك. يكون هو المدعي.

فإذاً هذه ثلاثة أوجه عند العلماء، والأقوى والأصح إن شاء الله: أن القول هو قول الزوجة؛ لأن الظاهر والثابت عندنا هو أن يسلم أنها قد خرجت من العدة.

والصورة هذه وقع فيها الخلاف والمرأة قد خرجت من العدة، فليس الخلاف في أنها لا زالت في العدة أو لم تزل، لو كان الخلاف في أنها خرجت من العدة أو لم تخرج لرجعنا إلى أن الأصل أنها في عدتها، ويكون موقف الزوج قوياً من هذا الوجه.

لكن عندما يكون الطرفان متفقين على خروجها من العدة، وهو يدعي أنه قد راجعها قبل خروجها، فهناك شيء يسمى الظاهر، وهو أنه لم يراجعها؛ لأنه لو راجع لما نكحت، ولو راجع لقام الدليل على مراجعته فهذا يسمى عند العلماء بالظاهر.

فهناك شيء يسمى الأصل، وهناك شيء يسمى الظاهر؛ وهناك شيء يسمى العرف، فمثل الظاهر لو أن شخصين راكبان على بعير فقال أحدهما: البعير بعيري، وقال الثاني: بل هو بعيري، فإنا نقول: الذي في المقدمة الظاهر أنه يملك هذا البعير؛ لأن ظاهر الحال أنه ما يقود البعير إلا صاحبه، فنقول: البعير له.

ولو أن اثنين اختصما في بيت أحدهما داخل البيت، والثاني خارجه فأحدهما يقول: البيت بيتي فاخرج من بيتي، وقال الآخر: البيت بيتي ولست بخارج منه، فحينئذٍ نحكم للذي بداخل البيت أنه بيته؛ لأن دليل الظاهر يشهد بأن البيت بيته.

فإذا ثبت هذا فإن الظاهر أنها أجنبية، وإذا ثبت عندنا كونها أجنبية فنقدم هذا الظاهر ونحكم به، ونعتبرها مدعىً عليها حتى يقيم الزوج الدليل والبينة على أنه راجعها.

فإذا قالت: قد خرجت من عدتي ولم تراجعني، وقال: بل راجعتك، فقال القاضي: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، فهنا يقول القاضي: إذاً ليس لك إلا يمينها، فإذا قلنا: القول قولها فمعناه أنها تحلف اليمين عند عجز المدعي عن إقامة البينة.

والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه

والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين

فيطالب المدعى عليه بأن يحلف اليمين وتقول: والله لم تراجعني، بناءً على أن هذا هو الظاهر، وتشهد بالله أنه ما راجعها؛ لأنها ما سمعته يراجعها، ولا ثبت عندها بينة أنه راجعها، ويجوز للمسلم أن يحلف على غلبة الظن.

فلو أن شخصاً استلفت منه عشرة آلاف ريال، وغلب على ظنك أنك رددت له العشرة آلاف ريال فمن حقك أن تحلف اليمين، ولو قال لك: احلف لي بالله أنك رددتها -وعندك غلبة ظن- فإنه يجوز لك أن تحلف على غالب الظن.

ومن هنا فرع العلماء جواز حلف اليمين على الأمر الظاهر، فلو أن شخصاً ادعى على ورثة أن له على ميتهم مائة ألف ريال فقالوا: ما نعرف لك هذا، أحضر لنا بينة تثبت أن لك على مورثنا مائة ألف ريال، قال: ما عندي بينة ولكن احلفوا أنتم أنه ليس لي في ذمة أبيكم مائة ألف ريال.

فهل من حقهم أن يحلفوا؟

نعم؛ لأن عندهم دليل الظاهر، وهو أن مورثهم لو كان في ذمته شيء لأخبر ورثته وكتب ذلك، ولو فتح هذا الباب لكان كل شخص يدعي على الورثة أن له على مورثهم حقوقاً، فتؤكل أموال الناس بالباطل.

فإذاً من حقها أن تحلف على الظاهر وتقول: والله ما راجعتني، بناءً على أنها لم تسمع برجعته، فهو يقول لها إنه راجعها وهي لم تر منه فعلاً يوجب الرجعة، ولم تقم البينة والدليل على ثبوت رجعته، فهي على يقين من أنها أجنبية، فيجوز لها الحلف على ذلك.

قال رحمه الله: [ أو بدأها به ] هكذا الحكم لو بدأها، فالمصنف اختار هذا القول سواء بدأها هو بالقول أو هي بدأته، وبعض العلماء يقول: القول قول الزوجة، وبعضهم يقول: العبرة بمن بدأ، كما ذكرنا.

وهناك وجه رابع أشار إليه الإمام النووي وغيره رحمهم الله برحمته الواسعة وقالوا: إنه يقرع بينهما، ومن خرجت له القرعة فالقول قوله؛ لأن كلاً منهما له أصل.

فكل منهما له دليل قد يوجب أن يكون مدعياً من وجه ومدعىً عليه من وجه آخر، فنقول: يقرع بينهما لاستواء حقيهما، فمن خرجت له القرعة حكم بأن القول قوله.

لكن المصنف اختار هذا القول الذي مشى عليه طائفة من العلماء رحمهم الله، أن القول قول الزوجة ما لم يقم زوجها الدليل والبينة على صدق ما ادعى.

[ فأنكرته فقولها ].

أي قالت: ما راجعتني. فالقول قولها لما ذكرناه.

قال المصنف رحمه الله: [ وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه ].

فقوله: (وإن ادعت انقضاء عدتها) أي: من طلاقها الرجعي (في زمن يمكن انقضاؤها فيه) بأن قالت ذات حمل: مضت ستة أشهر، وأيضاً إذا قالت أنها ألقت جنينها أو ولدت.

وكذلك ادعت انقضاء عدتها في شهر على القول الذي ذكرناه في أقل الحيض، أو ادعت أنها خرجت من عدتها وكان الطلاق قد وقع قبل ثلاثة أشهر، إن كانت من ذوات الأشهر، فحينئذٍ يحكم بقولها.

قوله: [ في زمن يمكن ] فلو انعكس الأمر وكان في زمن لا يمكن، فادعت ذات الأشهر أنها خرجت من عدتها بعد شهرين لم يقبل قولها؛ لأنها قالت: طلقني في أول رجب ثم جاءت في نهاية شعبان تقول: إنها خرجت من عدتها.

هذا زمن لا يمكن فيه خروجها من العدة؛ لأن الله عز وجل بين أن الآيسة من الحيض والصغيرة التي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا ادعت الشهرين أو ادعت الشهرين والنصف وعدتها ثلاثة أشهر لم يقبل قولها قطعاً.

وكذلك أيضاً لو ادعت أنها حاضت وطهرت، وحاضت وطهرت، وحاضرت وطهرت في أقل من شهر كأن تقول في عشرين يوماً، فهذا ليس بزمن إمكان، وحينئذٍ لا يعتد بقولها.

هناك قول آخر: إنه ينظر إلى أكثر الحيض ويعتد بأكثره، ويلزمها هذا الأكثر، وحينئذٍ تكون الصورة على خلاف مسألتنا كما هو مذهب الحنفية رحمهم الله؛ لأنهم يحتاطون خاصة في مسألة حلها لزوج، وخروجها من عصمة الزوج الأول.

قال رحمه الله: [ أو بوضع الحمل الممكن ] أي: أنها مضى لها ستة أشهر فأكثر، فهذا ممكن أنها تضع فيه حملاً، ويحكم بخروجها من عدتها بالوضع، وقال تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] فإذا ادعت أنها خرجت من عدتها وكانت حاملاً، ومضى على طلاقها ستة أشهر، فإننا نحكم بكونها أجنبية عنه وقد خرجت من عدتها.

قال رحمه الله: [ وأنكره فقولها ].

مفهوم (أنكره) أنها إن صدقها في زمن الإمكان فلا إشكال، لكن إذا أنكر فالقول قولها، ومعنى كون القول قولها أن الزوج لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على كذبها وعدم صحة ما ذكرته.

وهذا يختلف بحسب اختلاف الدعاوى، فالمسألة فيها خصومة بين الزوج وزوجته، فيأتي الزوج الأول ويجد أن زوجته قد عقد عليها زوج غيره فحينئذٍ يقول: هذه المرأة لا زالت في عصمتي. فقالت: قد خرجت من عدتي ولم تراجعني.

أو قال مثلاً: راجعت وأنت ما زلت في العدة الآن فكيف تنكحي، كل هذه المسائل تحتاج إلى فصل، وكل هذا الخصومات والنـزاعات تحتاج إلى قطع.

فبيّن المصنف رحمه الله أننا ننظر إلى دعوى المرأة، فإن كانت دعواها أنها خرجت من العدة وافقت أصلاً صحيحاً، بحيث مضى زمن يمكن أن يصدق فيه قولها حكمنا بأنها أجنبية، وأنه لا حـق للزوج إلا إذا أقـام بينـة.

فالأصل أن العلماء رحمهم الله ذكروا هذه المسائل لبيان هل خرجت المرأة من العدة أو لم تخرج؟ مما يترتب عليها من الحقوق والحكم ببطلان نكاح الثاني إذا وقع نكاحه، فإن المرأة في بعض الأحيان بمجرد ما تخرج من عدتها من الزوج الأول يعقد عليها في اليوم الثاني.

وحينئذٍ يقع شيء من الخصومة، وربما حصل بين الناس شرور، ففصل بينهم بأن القول قول المرأة إذا مضى زمن يمكن أن يصدق فيه دعواها فيقبل قولها ويقال له: أحضر البينة على صدق ما تقول.

فلو أقام البينة على أنها لا زالت في عصمته على صور مختلفة في ذوات الأقراء والحمل والأشهر حكم بقوله؛ لأن البينة حجة قاطعة للدعاوى.