شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الطلاق [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ومن أُكرِه عليه ظلماً بإيلام له]

قوله: (ومن أكره عليه) الإكراه يَفسُد به الاختيار، فالشخص المُكْرَه يُصْرَف إلى الشيء بدون اختياره ورضاه؛ ولذلك قالوا: الإكراه يفسد الاختيار.

وقوله: (ومن أكره عليه) أي: من أكره على الطلاق ظلماً فلا يقع، لأن الشريعة أسقطت تأثير الإكراه في أعظم الأشياء -الردة- وحد الردة حق لله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فلما أكره عمار -رضي الله عنه وعن أبيه- وقال كلمة الكفر وتلفَّظ بها وقلبه مطمئنٌ بالإيمان؛ أَسقط الشرع تأثير هذا اللفظ بوجود الإكراه.

فدل على أن الإكراه يُفْسِد ويمنع المؤاخذة، وهذا أصل عند العلماء.

ولذلك قال الإمام ابن العربي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: إنها أصلٌ عند أهل العلم في إسقاط المؤاخذة عن المكره؛ لأنه إذا لم يؤاخذ بالردة وهي أعظم ما يكون فمن باب أولى ألا يؤاخذ على غيرها.

لكن الإكراه له ضوابط وله شروطٌ لا بد من توفرها لكي نحكم بكون الإنسان مكرهاً، وقد جعل العلماء مسألة طلاق المكره مسألة مميزة في كتب العلم وكتب المطولات في الفقه، يذكرون فيها شروط الإكراه وأحواله ومتى يُحكم بكون الإنسان مكرهاً، ومتى يحكم بكونه غير مكره، فمسائل الإكراه في أبواب الفقه كلها مربوطة بشروط الإكراه؛ ولذلك لا نحكم في مسألة طلاق المكره حتى نعرف ما هي شروط الإكراه التي ينبغي توفرها للحكم بكون الإنسان مكرهاً.

حكم الإكراه بحق على الطلاق

فقال رحمه الله: (ومن أكره عليه) أي: على الطلاق، (ظلماً) فالإكراه ينقسم إلى قسمين:

إكراهٌ بحق، وإكراه بغير حق، فالإكراه بالحق: أن يُهَدَّد ويُضغط عليه حتى يطلق المرأة وقد وجب عليه طلاقها، هذا إكراه بحق، مثل القاضي في حال الإيلاء، حينما يقول للزوج: إما أن تكفر عن يمينك وترجع إلى زوجتك وإما أن تطلقها؛ فإنه إذا طلَّقها في مجلس القضاء بالضغط عليه؛ فإنه مُكرَه، لكنه مكرَه بأمر الله ورسوله، فهو إكراه بحق.

وهكذا لو ثبت عند القاضي أن هذا الزوج أضر بالزوجة وظلمها ظلماً بيِّناً بحيث يستحق مثلها أن تطلَّق عليه، كما لو أقر أنه أتاها في دبرها أو فعل بها فعلاً تستحق به أن تُطَلَّق فسألت طلاقها، فجاءت إلى القاضي، فقال: لا أُطَلِّق، يُلزِمه القاضي بالطلاق، فأكرَهَه على الطلاق وألزَمَه به بحق.

أما بالنسبة لمن أكره عليه ظلماً، كرجل لا تستحق امرأته أن تطلق عليه، وهُدِّد إضراراً به أو إضراراً بالزوجة لكي يطلقها، كرجلٍ يريد أن ينكح امرأةً وهي مزوجة، فجاء لزوجها وهدَّده أن يطلقها، وطلقها تحت تهديده وضغطه، فأكرهه على الطلاق فهذا مكرِه وظالم، فعندنا مُكْرَه ومُكْرِه، وشيءٌ يتحقق به الإكراه، فالمكرِه -وهو اسم الفاعل- ينبغي أن يكون ظالماً حتى نُسقِط الطلاق.

أما إذا كان بحق، فلا نسقِط، فلو أن أخا المرأة جاء إلى زوج أخته التي أضر بها وظلمها ظلماً تستحق معه أن تُطَلَّق وهدده قال: الآن تطلقها، وطلقها نفذ عليه الطلاق؛ لأنه مكرَه بحق، هذا بالنسبة لقضية الإكراه بحق؛ لكن بعض العلماء يقولون: الإكراه بحق لا يقع إلا في حكم القضاء.

قوله: (ظلماً بإيلامٍ له) الشرط الأول: أن يكون الإكراه بغير حق، والشرط الثاني: أن يكون ما هُدِّد به مؤلماً، بحيث لا بد أن يكون هذا الشخص الذي هو الزوج وصل إلى درجة الإكراه، وهذا يقتضي تعذيبه في نفسه أو ولده أو من يتعذب به، كمالِه يُتلف ويُحرق أو نحو ذلك، فيُهَدد بشيء فيه ضرر، لكن لو هُدِّد بشيء ليس فيه ألم ولا ضرر عليه، كأن يقال له: طلِّق امرأتك وإلا أخذت هذا الريال منك، فأين الريال من طلاق المرأة؟ فقال: أنا مكرَه، نقول: هذا ليس بإكراه؛ لأن الريال ليس بضرر بالنسبة له؛ لكن لو كان الريال له قيمة عظيمة في بعض الأزمان وله شأن فهذا شيءٌ آخر، لكن إذا كان أمراً لا يصل إلى حد الإيلام فلا يتحقق الإكراه، فلا بد وأن يكون مؤلماً.

أحوال الإكراه من جهة الوقوع وعدمه

الإكراه في الحقيقة له حالتان:

الحالة الأولى: أن يجعل الشخص تحت الألم ويحس بالألم، فهذه الحالة لا يُشك أنه صار فيها مكرهاً.

الحالة الثانية: أن يُهَدد بشيء، فهناك صورتان:

الصورة الأولى: يُهدد، ويكون تحت نار العذاب مثل أن يُخنق، وخُنق ووجد ألم الخنق، وغلب على ظنه أنه إذا استمر الخنق مات، وهلك، فهذا مكرَه، ولا نقول: انتظر حتى تصير في الغرغرة أو تقارب الموت؛ لأنه إذا صار في الغرغرة قد لا يستطيع أن يتكلم؛ ولذلك قالوا: لا يشترط في الضرورة والإلجاء أن يصير إلى حد الهلاك، بل يكفي غلبة الظن كما قرره ابن جزي في قوانين الأحكام وبعض أئمة التفسير في آيات الميتة.

فأنت إذا غلب على ظنك حصول ما هددت به فهذه حالة، أما إذا كنت تحت الوضع الذي فيه الألم، مثل أن يسخن الحديد في النار ويوضع على جسده فيتألم فحينئذٍ أصابه الألم فإذا قيل له: طلق فطلَّق، فهذا هو الذي وقع لـعمار فمُسّ بعذاب، فإن وصل المكرَه إلى حالة الإكراه بمس العذاب فهو مكرَه، وجهاً واحداً عند العلماء، على تفصيل في العذاب الذي يعذب به أو يكره بسببه.

الصورة الثانية: أما لو هُدِّد ولم يُفعل به شيء ففيه خلاف، جاء عن أحمد ما يدل على أنه ليس بمكره؛ ولذلك لما وقعت فتنة خلق القرآن، امتنع -رحمه الله برحمته الواسعة- وأصرّ على قول الحق، وذاق ما ذاق من الصبر على السنة والحق، وكان الإمام أحمد قبل ذلك ليست له تلك الشهرة، وإن كان إماماً عظيماً معروفاً -رحمه الله برحمته الواسعة- بإمامته وجلالة قدره، لكن لما حدثت الفتنة، وسُئِل الناس والعلماء وفتنوا بها، أخذ بعض العلماء بالرخصة، فمنهم من كان يُوَرِّي، ومنهم من كان يظن أنه مكره فيتلفظ باللفظ وهو منكِرٌ بقلبه، ومنهم من يقول: الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن هذه مخلوقة ويشير إلى أصابعه الأربعة، ويقصد أنها مخلوقة ولا يقصد القرآن، وهذه تَورِيَة فيمضي لحاله ويسلم؛ لأنهم يأخذون منه بظاهره.

ومنهم من كان يعتبر أنه مُكرَه فيقولون: القرآن مخلوق؟ يقول: القرآن مخلوق. فأخذ على أنه مُكرَه وأنه إذا لم يقل بذلك سيُضَر، وأصر الإمام أحمد رحمةُ الله عليه، وأُوذِي وذاق من العذاب ما ذاق، فجعل الله عز وجل الناس كلها تنتظر ماذا يقول الإمام أحمد ، يعني نُسِي غيره وبقي الإمام أحمد ، حتى أنه لما أتاه بعض أصحابه يراجعه في ضيقه رحمه الله ويقول له: خذ بالتوسعة والرخصة، فقال له: قُم، فقام فأراه الناس وهم في السكك قد يقاربون المائة ألف ينتظرون فتوى الإمام أحمد ، وما أوذي أحدٌ في طاعة الله عز وجل إلا أقامه الله مقام أعز من ذلك المقام كما قال عروة : (والله ما أوذي أحدٌ في حق الله عز وجل إلا أقامه الله عز وجل مقاماً خيراً منه).

فالشاهد أنه رحمه الله أصر على قوله، فلما دخلوا عليه في الفتنة، وجاء ابن معين فسلَّم عليه، فرد عليه السلام وأعرض عنه وأشاح بوجهه، فصار يقول: حديث عمار .. حديث عمار ، أي: إننا مكرهون، فلما لم يجبه الإمام أحمد بشيء، قام ابن معين من عنده وصار عند الباب، فسمع الإمام أحمد يقول: يقولون: حديث عمار ، إن عمار مُسَّ بعذاب ولم يُمسُّوا به، فقال ابن معين: ما تحت أديم السماء أفقه منه -يعني: من الإمام أحمد - رحمةُ الله على الجميع.

وقد ضبط العلماء الإكراه بقولهم: أنه ما ينعدم به الرضا ويفسد به الاختيار، فالإكراه حالةٌ ينعدم معها رضا الإنسان بالشيء ويفسد اختياره له، فالذي يُكره على الطلاق ليس براضٍ به؛ وكذلك يفسد اختياره وهو لا يطلب ذلك الشيء ولا يحبه ولا يرغب فيه، وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- جملةً من الشروط لا بد من توفرها لكي نحكم بكون الإنسان مكرهاً، وطلاقه آخذاً حكم طلاق المكره، وهذه الشروط منها ما يرجع إلى الشخص المُكْرَه، ومنها ما يرجع إلى الشخص الْمُكْرِه، وهو الذي يهدد ويطلب الطلاق، ومنها ما يرجع إلى اللفظ الذي يتلفظ به الْمُكْرَه.

أحوال الإكراه من جهة الإلجاء وعدمه

إذا وصفت الإنسان بكونه مكرهاً فهناك حالتان:

الحالة الأولى: أن يكون مكرهاً على وجهٍ لا يمكن بحالٍ أن ينصرف عنه إلى غير المطلوب منه، وهذا يسميه العلماء: الإكراه التام، والإكراه الملجئ، بمعنى: أن يوقع الشيء الذي يُطلب منه ولا يستطيع أن ينفك عنه بحال، وذكروا لذلك مثالاً: لو أن شخصاً رُبطت يداه وكتف ولم يستطع الحركة، ثم رُمي على غيره فمات، فإنه قد قتل غيره بدون اختيار، والإكراه في هذه الحالة ملجئ وتام؛ لأنه ليس للشخص أي حيلة في دفع ما طُلِب منه وما أكره عليه.

الحالة الثانية: الإكراه الناقص، فيكون عنده نوع اختيار ويطلب منه شيء ويهدد بشيء، ولا يكون فيه إكراه إلا إذا كان الشيء الذي يُهدد به ويقهر به مؤلماً ومضراً، أو متلفاً لجزء من أجزاء بدنه، متلفاً لماله، متلفاً لولده، متلفاً لمصلحة من مصالحه، بشرط أن تكون هذه المصلحة فواتها أعظم من الطلاق، فهي مؤلمة أو مضرة؛ لكنه يستطيع أن يصبر عليها، فهو بين الأمرين بين أن يطلق وبين أن يرضى بالضرر، فهو ليس بإكراه ملجئ، يعني: ليس كالشخص الذي ينصرف انصرافاً تاماً إلى ما هدد به، وإنما عنده نوع من الخيار، فهو خيارٌ في الظاهر لكن وجود الألم والقهر يفسد الاختيار الطبيعي؛ ولذلك قال رحمه الله: (بإيلامٍ).

إذاً لا يكون الإكراه إلا إذا كان هناك شيءٌ مهددٌ به، وهذا الشيء يشترط فيه أن يكون له وقع ضرر؛ ثم فصل العلماء وقالوا: الضرر يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فلربما هُدد شخصٌ بضرر في زمان يكون يسيراً وفي زمان يكون عظيماً.

فلو أن شخصاً في مجاعة قيل له: إذا لم تفعل هذا الشيء؛ فإننا نأخذ طعامك، فإنه لا شك أنه ضررٌ عظيم، ولكن إذا كان هناك بديل وأمكنه أن يصبر وهو في شبعه وريه، فيكون الإكراه أخف.

فإذاً: لا تستطيع أن تحدد شيئاً معيناً إلا بالضابط، فتقول: الضابط في ذلك وجود الضرر؛ وهذا الضرر يشترط فيه أن يكون أكبر وأكثر من الطلاق، يعني: أضراره ومفاسده وشروره أعظم من الطلاق.

قوله رحمه الله: (بإيلامٍ) كأن يجرح بسلاح ونحوه؛ لأن السلاح له ألم، فالألم إما أن يكون حالاً أو يكون متوقع الوقوع، كأن يخير بين أن يطلق أو يضرب ضرباً، ويحصل له الضرب، فهذا هدد بإيلامٍ وطلب منه الطلاق، وتألم فعلاً ودخل في حكم الْمُكْرَه، وتارةً يهدد بالضرر يقال له: إذا لم تطلقها نضربك، ففي حالة إذا كان مهدداً بشيء يوقع عليه، فينبغي ويشترط أن يغلب على ظنه أنه يقع به ذلك الشيء، فلو علم أنه يمكنه الفكاك أو أن الشخص الذي هدده لا يفعل إنما يتكلم فقط؛ فإنه لا يكون في هذه الحالة مكرهاً، وقد سبق التنبيه على ذلك.

قوله: (ولولده)

هناك شيءٌ يستضر به الإنسان ليس في نفسه، وإنما قد يكون في أهله وولده كزوجته وأبنائه وبناته؛ بل إن من الناس من يتألم لولده أكثر من تألمه لنفسه، ومن الناس من إذا أوذي واستضر في بدنه صبر واصطبر وتحمل المشاق العظيمة؛ لكن ما إن يُمس بشعرة في ولده إلا وضعف أمام ذلك، فإذاً لا يقتصر الحكم على أن يكون الضرر في نفسه، بل يشمل أن يكون في أهله وولده.

قوله: (أو أخذ مالٍ يضره)

أن يُؤخذ منه المال، وحينئذٍ يقع عليه ضرر، وتصيبه مصيبة فادحة، يقال له: إن لم تطلق زوجتك؛ نحرق مالك أو نفسده، أو لا نعطيك مالك، وهم قادرون على ذلك فإنه يكون مهدداً بالمال، فإن كان المال يسيراً، وله عنه غناء، لكونه غنياً مليئاً لم يقع الإكراه، يقال له: إن لم تطلق زوجتك نأخذ منك عشرة آلاف وهذا لا يؤلمه؛ لأن العشرة الآلاف عنده كالشيء اليسير، فمثل هذا لا يكون مكرهاً بهذا الشيء، وفوات هذا الشيء ليس بذاك، فإذاً لا بد وأن يكون الضرر له وقعٌ في النفس، فكما أن الألم الحسي ينبغي أن يكون له وقعٌ في النفس، كذلك الألم المعنوي.

قوله: (أو هدده بأحدها قادرٌ يظن إيقاعه به).

يشترط هذا الشرط الذي يتعلق بالمهدد، فعندنا: مُكْرَه وهو المطلوب منه الطلاق، وعندنا مُكْرِه وهو الذي يطلب الطلاق ويهدد، وعندنا شيءٌ يتحقق به الإكراه وهو الضرر، هذه ثلاثة أمور ينبغي التنبه لها.

وفي الأخير يأتي اللفظ الذي يتلفظ به ويقوله من الطلاق، فأما بالنسبة للشيء الذي يُهدَد به أو الشيء الذي يكون به الإنسان مكرهاً مما يهدد به فقلنا: ضابطه الضرر، وأما بالنسبة للشخص الذي يهدِد وهو اسم الفاعل الْمُكْرِه، فهذا يشترط فيه: إما أن يفعل بداية الإكراه، كأن يمس بعذاب، فإن فعل ذلك لا إشكال، وإن لم يفعل فبعض العلماء يقول: ليس بمكره حتى يبدأ بالفعل وهذا مذهبٌ ضعيف، وإذا لم يفعل فالصحيح: أنه إذا غلب على ظن الإنسان أنه سيفعل؛ فإنه يكون في حكم من فعل، فالشخص إذا كان -مثلاً- شريراً، أو شخصاً معروفاً بالضرر والأذية، وأنه إذا قال فعل، فمثل هذا بمجرد أن يهدد فإن تهديده كافٍ للحكم بكون الْمُكْرَه مكرَهاً، وعلى هذا فلا يشترط أن يُمس بعذاب.

قوله: (قادرٌ) فلو أن امرأةً قالت لزوجها: طلقني، وأمسكت بسلاحٍ يعلم أنها لا تحسن القتل به، فقالت: إن لم تطلقني قتلتك، وهي لا تحسن الرمي به، ولا تعرف كيف تستعمله، ولربما فزعت لو أنها استعملته، فمثل هذا يعد تهديداً من غير قادرٍ، فالمهدِد والْمُكْرِه ينبغي أن يكون قادراً على فعل ما هدد به.

فإذا كان غير قادرٍ في نفسه أو غير قادرٍ لقدرتك عليه، كأن يكون هذا الشخص الْمُكْرِه في وضع يمكنك أن تدفع ضرره، أو في وضعٍ يمكنك أن تنجو منه بإذن الله عز وجل، فلا تكون مكرَهاً، فلو أن شخصاً هدد شخصاً أن يطلق زوجته، وهدده بقتله وأمكنه أن يفرَّ عنه، أو يستغيث بالغير فيغيثه بإذن الله عز وجل فإنه ليس بمكرَه. إذاً لا بد أن يكون قادراً على الفعل، ولا يمكنك الفكاك ودفع الضرر الذي يهدد به.

حكم طلاق المكره والدليل عليه

قال رحمه الله: [فطلق تبعاً لقوله].

أي: وقع الْمُكْرَهْ في الطلاق، (تبعاً). بمعنى: وقعت هذه الأمور واستوفيت هذه الشروط فطلق (تبعاً لقوله)، يعني: لا يزيد ولا ينقص، وبناءً على ذلك لو قال له: طلق زوجتك تطليقة، فطلقها طلقتين أو طلقها ثلاثاً؛ فإنه يقع عليه الطلاق الزائد، وقيل: يقع جميع الطلاق؛ لأنه لما زاد؛ دل على أنه راغبٌ في الطلاق، وصارت قرينة صارفةً للإكراه.

أيضاً نستفيد من قوله: (تبعاً) أن يكون في طلاقه الظاهر تابعاً للطالب وهو الْمُكْرِه، ولكنه في قرارةِ قلبه غير راضٍ، فإذا طلق وقلبه مطمئنٌ بالطلاق راضٍ به وقع عليه الطلاق.

إذاً يشترط أن يكون تبعاً، وألا يكون منه قصداً، فلو أن رجلاً يكره زوجته -والعياذ بالله- لا يحبها، ولا يرغب فيها، وينتظر الساعة التي ينجيه الله منها، فجاءه رجل وهدده وقال: طلق زوجتك، فقال: الحمد لله على الفرج، ثم طلقها، فهل هذا مكره؟ نقول: لا يكون طلاقه واقعاً بإجماع العلماء؛ لأن الله يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، إذاً معنى ذلك أن ننظر إلى الإكراه في الظاهر لا في الباطن، فيكون طلاقه تبعاً للمكره، وليس مستقلاً بذاته.

قوله: (لم يقع) هذا قول أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين من الأئمة المهديين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال به من الصحابة: عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع، وبه أفتى مجاهد وطاوس بن كيسان ، وعطاء بن أبي رباح ، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمةُ الله عليهم: أن من أكره وتحققت فيه شروط الإكراه أنه لا يحكم بطلاقه، ولا يحتسب بتلك الطلقة، واستدلوا بدليل الكتاب والسنة والعقل؛ أما دليلهم من الكتاب: فإنه سبحانه وتعالى قال: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أسقط عن المكره الردة بالقول، وهي لفظٌ من الألفاظ، وأعظم ما يتلفظ به الردة، قال الإمام ابن العربي وغيره من أئمة التفسير: إن هذه الآية الكريمة أصلٌ في إسقاط مؤاخذة المكره في كل ما يقول ويفعل، فإذا كانت الردة لا تقع وقلبه مطمئنٌ بالإيمان، فمن باب أولى غيرها من الألفاظ، وعلى هذا فالآية الكريمة واضحة الدلالة على أن المكره لا يؤاخذ بقوله، وجاءت السنة تؤكد ما دل عليه القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن ماجة والحاكم وصححه غير واحدٍ من العلماء: (إن الله وضع لأمتي)، وفي روايةٍ: (رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وفي هذا دليل على أن الله وضع ورفع عن المكره المؤاخذة، فدل على أنه إذا طلق لا ينفذ طلاقه، وأكدوا هذا بما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق في إغلاق)، رواه الإمام أحمد وأبو داود بسندٍ حسن.

المغلق: هو الشخص الذي استغلق عليه الأمر، فأصبح ليس عنده أي مجال لأن ينصرف عن الشيء الذي هو فيه، فقال بعض أئمة اللغة كالإمام أبي عبيد القاسم بن سلام وغيره من أئمة اللغة رحمةُ الله عليهم: إن هذا يشمل المكره، والإغلاق يحتمل ويشمل من كان مكرهاً؛ لأنه استغلق عليه الأمر، فأصبح لا مجال له إلا أن يطلق فحينئذٍ: (لا طلاق في إغلاق)، وقد استغلق على المكره، وأصبح متلفظاً بلفظ الطلاق بدون اختيارٍ وبدون رضا، ووجود هذا الطلاق وعدمه على حدٍ سواء، ولا يوجب الحكم بالطلاق.

أما دليل العقل: فقد قال العلماء رحمهم الله: لا يقع طلاق المكره، كما لا يقع طلاق المجنون، بجامع عدم وجود القصد والاختيار في كليهما، فالمجنون كما أنه إن طلق لا ينفذ طلاقه، كذلك المكره لا ينفذ طلاقه؛ فإن المكرَه في حكم المجنون، فالمجنون يتلفظ بدون اختيار وبدون شعور وبدون رضا، والمكره يتلفظ بما أكره عليه بدون رضا واختيار، وكلٌ منهما فاسد الاختيار ومنعدم الرضا، فكما لا ينفذ طلاق المجنون فكذلك لا ينفذ طلاق المكره.

وأصول الشريعة تدل دلالة واضحة على رجحان هذا القول.

وقد خالف في هذه المسألة طائفةٌ من السلف منهم سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري ، والإمام أبو حنيفة النعمان -على الجميع شآبيب الرحمة والغفران- فقالوا: إن طلاق المكره يمضي عليه، واعتدوا به، واستدلوا بالأصول، وأن الأصل أن من طلق ينفذ عليه طلاقه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والعتاق)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أربع جائزات إذا تُكُلّم بهن: النكاح والطلاق والعتاق والنذر)، قالوا: فهذه الأدلة تدل على أن من تلفظ بالطلاق مضى عليه ولو لم يكن قاصداً.

فهم يجعلون الهازل الذي هزل بالطلاق، مؤاخذاً به، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد - وذكر منها-: الطلاق)، فالهازل إذا طلق يمضي عليه الطلاق، مع أنه غير راض وغير مختار للطلاق، فيمضي عليه الطلاق.

قالوا: فدل على أن الشريعة لا تلتفت إلى كونه قاصداً أو غير قاصد، مختاراً أو غير مختار، إنما تلتفت إلى وجود اللفظ، فلفظ الطلاق لفظٌ خطير إذا تلفظ به أُخِذ به. وهذا القول مرجوح وضعيف؛ لأن هناك فرقاً بين الهازل وبين المكره، فإن الهازل مختارٌ للفظ وطالبٌ له، وراضٍ به؛ لكنه غير راضٍ بالإيقاع، وفرقٌ بين من تلفظ بهذا الشيء راضياً به ولم يرد إيقاعه، وبين من لم يرض ولم يختر وألجئ إليه بدون اختياره، فالفرق بينهما واضح، وعلى هذا فإن طلاق المكره لا يقع، وهو الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.

فقال رحمه الله: (ومن أكره عليه) أي: على الطلاق، (ظلماً) فالإكراه ينقسم إلى قسمين:

إكراهٌ بحق، وإكراه بغير حق، فالإكراه بالحق: أن يُهَدَّد ويُضغط عليه حتى يطلق المرأة وقد وجب عليه طلاقها، هذا إكراه بحق، مثل القاضي في حال الإيلاء، حينما يقول للزوج: إما أن تكفر عن يمينك وترجع إلى زوجتك وإما أن تطلقها؛ فإنه إذا طلَّقها في مجلس القضاء بالضغط عليه؛ فإنه مُكرَه، لكنه مكرَه بأمر الله ورسوله، فهو إكراه بحق.

وهكذا لو ثبت عند القاضي أن هذا الزوج أضر بالزوجة وظلمها ظلماً بيِّناً بحيث يستحق مثلها أن تطلَّق عليه، كما لو أقر أنه أتاها في دبرها أو فعل بها فعلاً تستحق به أن تُطَلَّق فسألت طلاقها، فجاءت إلى القاضي، فقال: لا أُطَلِّق، يُلزِمه القاضي بالطلاق، فأكرَهَه على الطلاق وألزَمَه به بحق.

أما بالنسبة لمن أكره عليه ظلماً، كرجل لا تستحق امرأته أن تطلق عليه، وهُدِّد إضراراً به أو إضراراً بالزوجة لكي يطلقها، كرجلٍ يريد أن ينكح امرأةً وهي مزوجة، فجاء لزوجها وهدَّده أن يطلقها، وطلقها تحت تهديده وضغطه، فأكرهه على الطلاق فهذا مكرِه وظالم، فعندنا مُكْرَه ومُكْرِه، وشيءٌ يتحقق به الإكراه، فالمكرِه -وهو اسم الفاعل- ينبغي أن يكون ظالماً حتى نُسقِط الطلاق.

أما إذا كان بحق، فلا نسقِط، فلو أن أخا المرأة جاء إلى زوج أخته التي أضر بها وظلمها ظلماً تستحق معه أن تُطَلَّق وهدده قال: الآن تطلقها، وطلقها نفذ عليه الطلاق؛ لأنه مكرَه بحق، هذا بالنسبة لقضية الإكراه بحق؛ لكن بعض العلماء يقولون: الإكراه بحق لا يقع إلا في حكم القضاء.

قوله: (ظلماً بإيلامٍ له) الشرط الأول: أن يكون الإكراه بغير حق، والشرط الثاني: أن يكون ما هُدِّد به مؤلماً، بحيث لا بد أن يكون هذا الشخص الذي هو الزوج وصل إلى درجة الإكراه، وهذا يقتضي تعذيبه في نفسه أو ولده أو من يتعذب به، كمالِه يُتلف ويُحرق أو نحو ذلك، فيُهَدد بشيء فيه ضرر، لكن لو هُدِّد بشيء ليس فيه ألم ولا ضرر عليه، كأن يقال له: طلِّق امرأتك وإلا أخذت هذا الريال منك، فأين الريال من طلاق المرأة؟ فقال: أنا مكرَه، نقول: هذا ليس بإكراه؛ لأن الريال ليس بضرر بالنسبة له؛ لكن لو كان الريال له قيمة عظيمة في بعض الأزمان وله شأن فهذا شيءٌ آخر، لكن إذا كان أمراً لا يصل إلى حد الإيلام فلا يتحقق الإكراه، فلا بد وأن يكون مؤلماً.

الإكراه في الحقيقة له حالتان:

الحالة الأولى: أن يجعل الشخص تحت الألم ويحس بالألم، فهذه الحالة لا يُشك أنه صار فيها مكرهاً.

الحالة الثانية: أن يُهَدد بشيء، فهناك صورتان:

الصورة الأولى: يُهدد، ويكون تحت نار العذاب مثل أن يُخنق، وخُنق ووجد ألم الخنق، وغلب على ظنه أنه إذا استمر الخنق مات، وهلك، فهذا مكرَه، ولا نقول: انتظر حتى تصير في الغرغرة أو تقارب الموت؛ لأنه إذا صار في الغرغرة قد لا يستطيع أن يتكلم؛ ولذلك قالوا: لا يشترط في الضرورة والإلجاء أن يصير إلى حد الهلاك، بل يكفي غلبة الظن كما قرره ابن جزي في قوانين الأحكام وبعض أئمة التفسير في آيات الميتة.

فأنت إذا غلب على ظنك حصول ما هددت به فهذه حالة، أما إذا كنت تحت الوضع الذي فيه الألم، مثل أن يسخن الحديد في النار ويوضع على جسده فيتألم فحينئذٍ أصابه الألم فإذا قيل له: طلق فطلَّق، فهذا هو الذي وقع لـعمار فمُسّ بعذاب، فإن وصل المكرَه إلى حالة الإكراه بمس العذاب فهو مكرَه، وجهاً واحداً عند العلماء، على تفصيل في العذاب الذي يعذب به أو يكره بسببه.

الصورة الثانية: أما لو هُدِّد ولم يُفعل به شيء ففيه خلاف، جاء عن أحمد ما يدل على أنه ليس بمكره؛ ولذلك لما وقعت فتنة خلق القرآن، امتنع -رحمه الله برحمته الواسعة- وأصرّ على قول الحق، وذاق ما ذاق من الصبر على السنة والحق، وكان الإمام أحمد قبل ذلك ليست له تلك الشهرة، وإن كان إماماً عظيماً معروفاً -رحمه الله برحمته الواسعة- بإمامته وجلالة قدره، لكن لما حدثت الفتنة، وسُئِل الناس والعلماء وفتنوا بها، أخذ بعض العلماء بالرخصة، فمنهم من كان يُوَرِّي، ومنهم من كان يظن أنه مكره فيتلفظ باللفظ وهو منكِرٌ بقلبه، ومنهم من يقول: الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن هذه مخلوقة ويشير إلى أصابعه الأربعة، ويقصد أنها مخلوقة ولا يقصد القرآن، وهذه تَورِيَة فيمضي لحاله ويسلم؛ لأنهم يأخذون منه بظاهره.

ومنهم من كان يعتبر أنه مُكرَه فيقولون: القرآن مخلوق؟ يقول: القرآن مخلوق. فأخذ على أنه مُكرَه وأنه إذا لم يقل بذلك سيُضَر، وأصر الإمام أحمد رحمةُ الله عليه، وأُوذِي وذاق من العذاب ما ذاق، فجعل الله عز وجل الناس كلها تنتظر ماذا يقول الإمام أحمد ، يعني نُسِي غيره وبقي الإمام أحمد ، حتى أنه لما أتاه بعض أصحابه يراجعه في ضيقه رحمه الله ويقول له: خذ بالتوسعة والرخصة، فقال له: قُم، فقام فأراه الناس وهم في السكك قد يقاربون المائة ألف ينتظرون فتوى الإمام أحمد ، وما أوذي أحدٌ في طاعة الله عز وجل إلا أقامه الله مقام أعز من ذلك المقام كما قال عروة : (والله ما أوذي أحدٌ في حق الله عز وجل إلا أقامه الله عز وجل مقاماً خيراً منه).

فالشاهد أنه رحمه الله أصر على قوله، فلما دخلوا عليه في الفتنة، وجاء ابن معين فسلَّم عليه، فرد عليه السلام وأعرض عنه وأشاح بوجهه، فصار يقول: حديث عمار .. حديث عمار ، أي: إننا مكرهون، فلما لم يجبه الإمام أحمد بشيء، قام ابن معين من عنده وصار عند الباب، فسمع الإمام أحمد يقول: يقولون: حديث عمار ، إن عمار مُسَّ بعذاب ولم يُمسُّوا به، فقال ابن معين: ما تحت أديم السماء أفقه منه -يعني: من الإمام أحمد - رحمةُ الله على الجميع.

وقد ضبط العلماء الإكراه بقولهم: أنه ما ينعدم به الرضا ويفسد به الاختيار، فالإكراه حالةٌ ينعدم معها رضا الإنسان بالشيء ويفسد اختياره له، فالذي يُكره على الطلاق ليس براضٍ به؛ وكذلك يفسد اختياره وهو لا يطلب ذلك الشيء ولا يحبه ولا يرغب فيه، وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- جملةً من الشروط لا بد من توفرها لكي نحكم بكون الإنسان مكرهاً، وطلاقه آخذاً حكم طلاق المكره، وهذه الشروط منها ما يرجع إلى الشخص المُكْرَه، ومنها ما يرجع إلى الشخص الْمُكْرِه، وهو الذي يهدد ويطلب الطلاق، ومنها ما يرجع إلى اللفظ الذي يتلفظ به الْمُكْرَه.

إذا وصفت الإنسان بكونه مكرهاً فهناك حالتان:

الحالة الأولى: أن يكون مكرهاً على وجهٍ لا يمكن بحالٍ أن ينصرف عنه إلى غير المطلوب منه، وهذا يسميه العلماء: الإكراه التام، والإكراه الملجئ، بمعنى: أن يوقع الشيء الذي يُطلب منه ولا يستطيع أن ينفك عنه بحال، وذكروا لذلك مثالاً: لو أن شخصاً رُبطت يداه وكتف ولم يستطع الحركة، ثم رُمي على غيره فمات، فإنه قد قتل غيره بدون اختيار، والإكراه في هذه الحالة ملجئ وتام؛ لأنه ليس للشخص أي حيلة في دفع ما طُلِب منه وما أكره عليه.

الحالة الثانية: الإكراه الناقص، فيكون عنده نوع اختيار ويطلب منه شيء ويهدد بشيء، ولا يكون فيه إكراه إلا إذا كان الشيء الذي يُهدد به ويقهر به مؤلماً ومضراً، أو متلفاً لجزء من أجزاء بدنه، متلفاً لماله، متلفاً لولده، متلفاً لمصلحة من مصالحه، بشرط أن تكون هذه المصلحة فواتها أعظم من الطلاق، فهي مؤلمة أو مضرة؛ لكنه يستطيع أن يصبر عليها، فهو بين الأمرين بين أن يطلق وبين أن يرضى بالضرر، فهو ليس بإكراه ملجئ، يعني: ليس كالشخص الذي ينصرف انصرافاً تاماً إلى ما هدد به، وإنما عنده نوع من الخيار، فهو خيارٌ في الظاهر لكن وجود الألم والقهر يفسد الاختيار الطبيعي؛ ولذلك قال رحمه الله: (بإيلامٍ).

إذاً لا يكون الإكراه إلا إذا كان هناك شيءٌ مهددٌ به، وهذا الشيء يشترط فيه أن يكون له وقع ضرر؛ ثم فصل العلماء وقالوا: الضرر يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فلربما هُدد شخصٌ بضرر في زمان يكون يسيراً وفي زمان يكون عظيماً.

فلو أن شخصاً في مجاعة قيل له: إذا لم تفعل هذا الشيء؛ فإننا نأخذ طعامك، فإنه لا شك أنه ضررٌ عظيم، ولكن إذا كان هناك بديل وأمكنه أن يصبر وهو في شبعه وريه، فيكون الإكراه أخف.

فإذاً: لا تستطيع أن تحدد شيئاً معيناً إلا بالضابط، فتقول: الضابط في ذلك وجود الضرر؛ وهذا الضرر يشترط فيه أن يكون أكبر وأكثر من الطلاق، يعني: أضراره ومفاسده وشروره أعظم من الطلاق.

قوله رحمه الله: (بإيلامٍ) كأن يجرح بسلاح ونحوه؛ لأن السلاح له ألم، فالألم إما أن يكون حالاً أو يكون متوقع الوقوع، كأن يخير بين أن يطلق أو يضرب ضرباً، ويحصل له الضرب، فهذا هدد بإيلامٍ وطلب منه الطلاق، وتألم فعلاً ودخل في حكم الْمُكْرَه، وتارةً يهدد بالضرر يقال له: إذا لم تطلقها نضربك، ففي حالة إذا كان مهدداً بشيء يوقع عليه، فينبغي ويشترط أن يغلب على ظنه أنه يقع به ذلك الشيء، فلو علم أنه يمكنه الفكاك أو أن الشخص الذي هدده لا يفعل إنما يتكلم فقط؛ فإنه لا يكون في هذه الحالة مكرهاً، وقد سبق التنبيه على ذلك.

قوله: (ولولده)

هناك شيءٌ يستضر به الإنسان ليس في نفسه، وإنما قد يكون في أهله وولده كزوجته وأبنائه وبناته؛ بل إن من الناس من يتألم لولده أكثر من تألمه لنفسه، ومن الناس من إذا أوذي واستضر في بدنه صبر واصطبر وتحمل المشاق العظيمة؛ لكن ما إن يُمس بشعرة في ولده إلا وضعف أمام ذلك، فإذاً لا يقتصر الحكم على أن يكون الضرر في نفسه، بل يشمل أن يكون في أهله وولده.

قوله: (أو أخذ مالٍ يضره)

أن يُؤخذ منه المال، وحينئذٍ يقع عليه ضرر، وتصيبه مصيبة فادحة، يقال له: إن لم تطلق زوجتك؛ نحرق مالك أو نفسده، أو لا نعطيك مالك، وهم قادرون على ذلك فإنه يكون مهدداً بالمال، فإن كان المال يسيراً، وله عنه غناء، لكونه غنياً مليئاً لم يقع الإكراه، يقال له: إن لم تطلق زوجتك نأخذ منك عشرة آلاف وهذا لا يؤلمه؛ لأن العشرة الآلاف عنده كالشيء اليسير، فمثل هذا لا يكون مكرهاً بهذا الشيء، وفوات هذا الشيء ليس بذاك، فإذاً لا بد وأن يكون الضرر له وقعٌ في النفس، فكما أن الألم الحسي ينبغي أن يكون له وقعٌ في النفس، كذلك الألم المعنوي.

قوله: (أو هدده بأحدها قادرٌ يظن إيقاعه به).

يشترط هذا الشرط الذي يتعلق بالمهدد، فعندنا: مُكْرَه وهو المطلوب منه الطلاق، وعندنا مُكْرِه وهو الذي يطلب الطلاق ويهدد، وعندنا شيءٌ يتحقق به الإكراه وهو الضرر، هذه ثلاثة أمور ينبغي التنبه لها.

وفي الأخير يأتي اللفظ الذي يتلفظ به ويقوله من الطلاق، فأما بالنسبة للشيء الذي يُهدَد به أو الشيء الذي يكون به الإنسان مكرهاً مما يهدد به فقلنا: ضابطه الضرر، وأما بالنسبة للشخص الذي يهدِد وهو اسم الفاعل الْمُكْرِه، فهذا يشترط فيه: إما أن يفعل بداية الإكراه، كأن يمس بعذاب، فإن فعل ذلك لا إشكال، وإن لم يفعل فبعض العلماء يقول: ليس بمكره حتى يبدأ بالفعل وهذا مذهبٌ ضعيف، وإذا لم يفعل فالصحيح: أنه إذا غلب على ظن الإنسان أنه سيفعل؛ فإنه يكون في حكم من فعل، فالشخص إذا كان -مثلاً- شريراً، أو شخصاً معروفاً بالضرر والأذية، وأنه إذا قال فعل، فمثل هذا بمجرد أن يهدد فإن تهديده كافٍ للحكم بكون الْمُكْرَه مكرَهاً، وعلى هذا فلا يشترط أن يُمس بعذاب.

قوله: (قادرٌ) فلو أن امرأةً قالت لزوجها: طلقني، وأمسكت بسلاحٍ يعلم أنها لا تحسن القتل به، فقالت: إن لم تطلقني قتلتك، وهي لا تحسن الرمي به، ولا تعرف كيف تستعمله، ولربما فزعت لو أنها استعملته، فمثل هذا يعد تهديداً من غير قادرٍ، فالمهدِد والْمُكْرِه ينبغي أن يكون قادراً على فعل ما هدد به.

فإذا كان غير قادرٍ في نفسه أو غير قادرٍ لقدرتك عليه، كأن يكون هذا الشخص الْمُكْرِه في وضع يمكنك أن تدفع ضرره، أو في وضعٍ يمكنك أن تنجو منه بإذن الله عز وجل، فلا تكون مكرَهاً، فلو أن شخصاً هدد شخصاً أن يطلق زوجته، وهدده بقتله وأمكنه أن يفرَّ عنه، أو يستغيث بالغير فيغيثه بإذن الله عز وجل فإنه ليس بمكرَه. إذاً لا بد أن يكون قادراً على الفعل، ولا يمكنك الفكاك ودفع الضرر الذي يهدد به.

قال رحمه الله: [فطلق تبعاً لقوله].

أي: وقع الْمُكْرَهْ في الطلاق، (تبعاً). بمعنى: وقعت هذه الأمور واستوفيت هذه الشروط فطلق (تبعاً لقوله)، يعني: لا يزيد ولا ينقص، وبناءً على ذلك لو قال له: طلق زوجتك تطليقة، فطلقها طلقتين أو طلقها ثلاثاً؛ فإنه يقع عليه الطلاق الزائد، وقيل: يقع جميع الطلاق؛ لأنه لما زاد؛ دل على أنه راغبٌ في الطلاق، وصارت قرينة صارفةً للإكراه.

أيضاً نستفيد من قوله: (تبعاً) أن يكون في طلاقه الظاهر تابعاً للطالب وهو الْمُكْرِه، ولكنه في قرارةِ قلبه غير راضٍ، فإذا طلق وقلبه مطمئنٌ بالطلاق راضٍ به وقع عليه الطلاق.

إذاً يشترط أن يكون تبعاً، وألا يكون منه قصداً، فلو أن رجلاً يكره زوجته -والعياذ بالله- لا يحبها، ولا يرغب فيها، وينتظر الساعة التي ينجيه الله منها، فجاءه رجل وهدده وقال: طلق زوجتك، فقال: الحمد لله على الفرج، ثم طلقها، فهل هذا مكره؟ نقول: لا يكون طلاقه واقعاً بإجماع العلماء؛ لأن الله يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، إذاً معنى ذلك أن ننظر إلى الإكراه في الظاهر لا في الباطن، فيكون طلاقه تبعاً للمكره، وليس مستقلاً بذاته.

قوله: (لم يقع) هذا قول أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين من الأئمة المهديين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال به من الصحابة: عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع، وبه أفتى مجاهد وطاوس بن كيسان ، وعطاء بن أبي رباح ، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمةُ الله عليهم: أن من أكره وتحققت فيه شروط الإكراه أنه لا يحكم بطلاقه، ولا يحتسب بتلك الطلقة، واستدلوا بدليل الكتاب والسنة والعقل؛ أما دليلهم من الكتاب: فإنه سبحانه وتعالى قال: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أسقط عن المكره الردة بالقول، وهي لفظٌ من الألفاظ، وأعظم ما يتلفظ به الردة، قال الإمام ابن العربي وغيره من أئمة التفسير: إن هذه الآية الكريمة أصلٌ في إسقاط مؤاخذة المكره في كل ما يقول ويفعل، فإذا كانت الردة لا تقع وقلبه مطمئنٌ بالإيمان، فمن باب أولى غيرها من الألفاظ، وعلى هذا فالآية الكريمة واضحة الدلالة على أن المكره لا يؤاخذ بقوله، وجاءت السنة تؤكد ما دل عليه القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن ماجة والحاكم وصححه غير واحدٍ من العلماء: (إن الله وضع لأمتي)، وفي روايةٍ: (رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وفي هذا دليل على أن الله وضع ورفع عن المكره المؤاخذة، فدل على أنه إذا طلق لا ينفذ طلاقه، وأكدوا هذا بما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق في إغلاق)، رواه الإمام أحمد وأبو داود بسندٍ حسن.

المغلق: هو الشخص الذي استغلق عليه الأمر، فأصبح ليس عنده أي مجال لأن ينصرف عن الشيء الذي هو فيه، فقال بعض أئمة اللغة كالإمام أبي عبيد القاسم بن سلام وغيره من أئمة اللغة رحمةُ الله عليهم: إن هذا يشمل المكره، والإغلاق يحتمل ويشمل من كان مكرهاً؛ لأنه استغلق عليه الأمر، فأصبح لا مجال له إلا أن يطلق فحينئذٍ: (لا طلاق في إغلاق)، وقد استغلق على المكره، وأصبح متلفظاً بلفظ الطلاق بدون اختيارٍ وبدون رضا، ووجود هذا الطلاق وعدمه على حدٍ سواء، ولا يوجب الحكم بالطلاق.

أما دليل العقل: فقد قال العلماء رحمهم الله: لا يقع طلاق المكره، كما لا يقع طلاق المجنون، بجامع عدم وجود القصد والاختيار في كليهما، فالمجنون كما أنه إن طلق لا ينفذ طلاقه، كذلك المكره لا ينفذ طلاقه؛ فإن المكرَه في حكم المجنون، فالمجنون يتلفظ بدون اختيار وبدون شعور وبدون رضا، والمكره يتلفظ بما أكره عليه بدون رضا واختيار، وكلٌ منهما فاسد الاختيار ومنعدم الرضا، فكما لا ينفذ طلاق المجنون فكذلك لا ينفذ طلاق المكره.

وأصول الشريعة تدل دلالة واضحة على رجحان هذا القول.

وقد خالف في هذه المسألة طائفةٌ من السلف منهم سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري ، والإمام أبو حنيفة النعمان -على الجميع شآبيب الرحمة والغفران- فقالوا: إن طلاق المكره يمضي عليه، واعتدوا به، واستدلوا بالأصول، وأن الأصل أن من طلق ينفذ عليه طلاقه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والعتاق)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أربع جائزات إذا تُكُلّم بهن: النكاح والطلاق والعتاق والنذر)، قالوا: فهذه الأدلة تدل على أن من تلفظ بالطلاق مضى عليه ولو لم يكن قاصداً.

فهم يجعلون الهازل الذي هزل بالطلاق، مؤاخذاً به، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد - وذكر منها-: الطلاق)، فالهازل إذا طلق يمضي عليه الطلاق، مع أنه غير راض وغير مختار للطلاق، فيمضي عليه الطلاق.

قالوا: فدل على أن الشريعة لا تلتفت إلى كونه قاصداً أو غير قاصد، مختاراً أو غير مختار، إنما تلتفت إلى وجود اللفظ، فلفظ الطلاق لفظٌ خطير إذا تلفظ به أُخِذ به. وهذا القول مرجوح وضعيف؛ لأن هناك فرقاً بين الهازل وبين المكره، فإن الهازل مختارٌ للفظ وطالبٌ له، وراضٍ به؛ لكنه غير راضٍ بالإيقاع، وفرقٌ بين من تلفظ بهذا الشيء راضياً به ولم يرد إيقاعه، وبين من لم يرض ولم يختر وألجئ إليه بدون اختياره، فالفرق بينهما واضح، وعلى هذا فإن طلاق المكره لا يقع، وهو الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع