شرح زاد المستقنع كتاب الوصايا [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت، فتصح تنفيذاً].

بين المصنف رحمه الله في هذه الجملة أن الوصية لا تصح فيما زاد على الثلث، وقد بيّنا أن الأصل في هذه المسألة حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) ومن هنا أخذ العلماء دليلاً على أنه لا يملك الإنسان في وصيته ما زاد على الثلث، وإذا فعل ذلك فإنه يطالب الورثة بالإذن أو الامتناع، فإن شاءوا امتنعوا فتُلغى الوصية فيما زاد على الثلث، وإن شاءوا وافقوا فتمضي، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، أن الذي يملكه الإنسان في صدقته ووصاياه في حدود الثلث.

وفي هذا حكمة من الله عظيمة؛ لأن الإنسان إذا حضره الأجل عظُم خوفه من الآخرة، وانكشفت له حقائق الأمور، وزال عنه اللهو والغرور، وأصبح مقبلاً على آخرته، فعندها لو مكّن الله الإنسان من جميع ماله لتصدّق بجميع ماله؛ لأنه يريد أن يفتدي من عذاب الله عز وجل، وأن يَسلم من تبعات الأموال التي جمعها، والخيرات التي حصَّلها؛ فإذا وقف على آخر الدنيا فإنه يغلِّب مصلحة نفسه على مصلحة ورثته، ولو فُتح هذا الباب لما أبقى ميت لورثته شيئاً، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الثلث، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، أي: عند الوفاة، حتى تكون من وصية الإنسان لآخرته يستصلح بها ما فسد، ويتدارك بها ما فات؛ فيصل بها رحمه، ويجعل بها صدقة جارية عليه بعد موته، فهذا من الخير والرحمة التي جعلها الله عز وجل لعباده المؤمنين.

قال رحمه الله: (ولا تجوز بأكثر من الثلث)

أي: لا تصح الوصية في الشيء الزائد على الثلث، فالثلث نستخرجه من جميع ما تركه الميت؛ سواءً كان من النقود أو من غيرها، فمثلاً: لو كان قد ترك سيولة من النقد ما يقارب مائة ألف، وترك (عمائر) وأراضي وعقارات وأموراً أخرى، ففي هذه الحالة لو قال: أَوصيت بمائتي ألف، فالسيولة تُعادل المائتي ألف، فإننا لا نقول: إنه قد أوصى بكل ماله، وإنما ننظر كم قيمة العقارات التي تركها والسيارات التي كان يملكها، ولو كان عنده أطعمة في بيته، مثل أكياس الأرز التي للتجارة،ونحوها، فإذا كانت تجارات ونحوها فإنها تُقوَّم وتنظر قيمتها، ثم ينظر المبلغ الذي وصى به هل يعادل ثلث جميع التركة أو لا يعادلها؟

فلو أننا وجدنا العقارات تساوي مليوناً، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فلا شك أن المائتين نافذة؛ لأنها دون الثلث، فتصح وصيّته وتمضي، ولكن إذا كانت العقارات مجموعها يُعادل مائة ألف، كأن يكون مجموع ما عنده من الأراضي -مثلاً- أربع قطع، وكل قطعة تساوي خمسة وعشرين ألفاً، فهذه مائة ألف، ثم هو قد أوصى بمائتي ألف، فالمائتان تعادل ثلثي التركة، فحينئذٍ تَصِح في المائة، وتبقى المائة الزائدة ويسأل عنها الورثة: هل يمضونها أم لا؟

وينبغي أن يكون إمضاء الورثة بدون إحراج، فبعض الورثة قد يُضايق بعضاً في إنفاذ وصية الوالد والوالدة فيما زاد على الثلث، وهذا أمر لا ينبغي؛ لأن الذي يخرج بوجه الحياء وبالإكراه لا خير فيه، وربما أن هذا المال إذا أخذه الإنسان على هذا الوجه فقد يكون منزوع البركة، فتأتي العاقبة الوخيمة لمن أخذه من صاحبه بدون رضاه ولا بطيب نفس منه.

فينبغي ألا يضايق بعض الورثة بعضاً في هذا، فيقول مثلاً: إن الوالدة قد وصّت بالمائة ألف لكي نخرجها، وفي ذلك إضرار، فقد يكون بعض الورثة مديوناً، وقد يكون معسراً، وقد يكون عنده من العيال والضعفة ما يجعله يحتاج إلى أن يأخذ من الإرث حتى يواسيهم، أو يُصلح من شئونهم، فينبغي النظر في مثل هذه الأمور، وعدم تغليب العواطف على الأمور الشرعية المقررة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المواريث والفرائض التي قسمها الله من فوق سبع سماوات أمرها عظيم، وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تصل الحقوق إلى أهلها.

وقد تترك الوالدة -مثلاً- حلياً، وهذا الحلي في بعض الأحيان يعادل أربعين ألفاً، وفي بعض الأحيان يعادل مائة ألف، وبعض النساء قد يعادل حليها عشرات الآلاف أو مئات الآلاف، فتجد بعض الورثة يقول: نأخذ حليها ونتصدق به، فلا ينبغي هذا؛ بل ينبغي وضع الأمور في نصابها، ومعرفة ما الذي خلّفه الميت، وما الذي ينفذ من وصاياه إلزاماً، وما الذي ينفذ اختياراً، أي: باختيار الورثة وموافقتهم، وينبغي الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم في مثل هذا، وعدم تغليب العواطف في هذه الأشياء؛ حتى يكون الإنسان على السنن، وتكون طاعته لله عز وجل على بصيرة ونور.

توقف إمضاء الوصية بما زاد على الثلث على قبول الورثة

وقوله: (ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذاً(

قوله: (إلا) استثناء أي: إلا أن يجيز الورثة ما زاد عن الثلث، فنسأل الورثة ونقول: هذا الزائد عن الثلث هل نمضيه أو لا نمضيه؟ فمثلاً: لو كان الثلث مائة ألف، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فحينئذٍ نسأل الورثة عن المائة الزائدة؛ لأن الوصية تصح في المائة الأولى، وتبقى المائة الثانية موقوفة على إجازة الورثة، فإذا سألنا الورثة فإن جوابهم لا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يتفقوا.

الحالة الثانية: أن يختلفوا.

وإذا اتفقوا فإما أن يتفقوا على الإمضاء، وإما أن يتفقوا على الإلغاء، فإذا اتفقوا على الإمضاء، وقالوا: رضينا ما وصى به والدنا، أو ما وصت به الوالدة، فحينئذٍ تمضي المائتان، وتنفذ الوصية في المبلغ كاملاً، في المائة الأولى استحقاقاً للميت، والمائة الثانية إما تنفيذاً وإما ابتداءً.

وأما إذا اتفقوا على إلغاء الوصية، كأن يكون الورثة فقراء ضعفاء، ووالدهم ترك لهم مائتي ألف، وتصدّق بما زاد على الثلث فقال: نصف مالي صدقة، أو أُوصي أن نصف مالي يُتصدق به، فنسأل الورثة فيما زاد: هل توافقون؟ فإن قالوا: نحن أحوج، ونريد هذا المال، ولا نريد إمضاء هذا الزائد على الثلث، فنقول: هذا من حقكم، ولا تثريب عليكم، وهذا ليس بعقوق للوالدين، فلا يظن أحد أن هذا عقوق، ولو كان عقوقاً لما أمر الله به، ولما أحله من فوق سبع سماوات، ولكن قد ينظر الوالد شيئاً لحظ نفسه، وأيضاً الوارث ينظر لحظ نفسه، فالوالد ينظر إليه تطوعاً وتفضلاً، والوارث يراه لحظ نفسه واجباً وإلزاماً؛ فلو كان -مثلاً- أحد أولاده عليه ديون أو حقوق، ورأى أن والده أوصى لغيره، فلو أنه أمضى وصيته فيما زاد على الثلث لتضرر هو فيما يكون من استحقاقه من الإرث، فعند ذلك من حقه أن يقول: لا أمضيها، تقديماً لحقوق أولاده؛ لأن الأولاد لهم حق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، فجعل بعد النفس من يعول، ففي هذه الحالة إذا اتفقوا على الإمضاء أو اتفقوا على الإلغاء فلا إشكال. الحالة الثانية: أن يختلفوا، فيقول بعضهم: نمضي، ويقول بعضهم: لا نمضي.

فمثلاً: لو أنه ترك ابناً وبنتاً، فوصّى بما زاد على الثلث، ثم سألنا الابن والبنت، فقالت البنت: أنا أُجيز ما أمضاه والـدي، وقال الابن: لا أُجيز، فحينئذٍ تنفذ بقدر ثلث ما زاد على الثلث؛ لأن الزائد على الثلث استحقاق للابن والبنت، والابن له مثل حظ الأنثيين، فمعنى ذلك: أن للابن سهمين فيما زاد على الثلث، وللبنت سهم واحد فيما زاد على الثلث، فإن أمضت البنت مضى ثلث ما زاد على الثلث، وإن أمضى الذكر مضى ثلثا ما زاد على الثلث.

فلو كان الذي زاد على الثلث ثلاثة آلاف ريال، فسألنا البنت فقالت: أمضوه، وقال الولد: أنا محتاج، فحينئذٍ نمضي ألفاً ونبقي ألفين، فصحت في الألف والتغت في الألفين.

وعلى هذا فإنه يُنظر إلى نصيب كل وارث، فإن اختلفوا فيصح في استحقاق كل ذي حق بقدر نصيبه من ذلك الزائد على الثلث.

وقوله: (ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذاً(

قوله: (إلا) استثناء أي: إلا أن يجيز الورثة ما زاد عن الثلث، فنسأل الورثة ونقول: هذا الزائد عن الثلث هل نمضيه أو لا نمضيه؟ فمثلاً: لو كان الثلث مائة ألف، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فحينئذٍ نسأل الورثة عن المائة الزائدة؛ لأن الوصية تصح في المائة الأولى، وتبقى المائة الثانية موقوفة على إجازة الورثة، فإذا سألنا الورثة فإن جوابهم لا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يتفقوا.

الحالة الثانية: أن يختلفوا.

وإذا اتفقوا فإما أن يتفقوا على الإمضاء، وإما أن يتفقوا على الإلغاء، فإذا اتفقوا على الإمضاء، وقالوا: رضينا ما وصى به والدنا، أو ما وصت به الوالدة، فحينئذٍ تمضي المائتان، وتنفذ الوصية في المبلغ كاملاً، في المائة الأولى استحقاقاً للميت، والمائة الثانية إما تنفيذاً وإما ابتداءً.

وأما إذا اتفقوا على إلغاء الوصية، كأن يكون الورثة فقراء ضعفاء، ووالدهم ترك لهم مائتي ألف، وتصدّق بما زاد على الثلث فقال: نصف مالي صدقة، أو أُوصي أن نصف مالي يُتصدق به، فنسأل الورثة فيما زاد: هل توافقون؟ فإن قالوا: نحن أحوج، ونريد هذا المال، ولا نريد إمضاء هذا الزائد على الثلث، فنقول: هذا من حقكم، ولا تثريب عليكم، وهذا ليس بعقوق للوالدين، فلا يظن أحد أن هذا عقوق، ولو كان عقوقاً لما أمر الله به، ولما أحله من فوق سبع سماوات، ولكن قد ينظر الوالد شيئاً لحظ نفسه، وأيضاً الوارث ينظر لحظ نفسه، فالوالد ينظر إليه تطوعاً وتفضلاً، والوارث يراه لحظ نفسه واجباً وإلزاماً؛ فلو كان -مثلاً- أحد أولاده عليه ديون أو حقوق، ورأى أن والده أوصى لغيره، فلو أنه أمضى وصيته فيما زاد على الثلث لتضرر هو فيما يكون من استحقاقه من الإرث، فعند ذلك من حقه أن يقول: لا أمضيها، تقديماً لحقوق أولاده؛ لأن الأولاد لهم حق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، فجعل بعد النفس من يعول، ففي هذه الحالة إذا اتفقوا على الإمضاء أو اتفقوا على الإلغاء فلا إشكال. الحالة الثانية: أن يختلفوا، فيقول بعضهم: نمضي، ويقول بعضهم: لا نمضي.

فمثلاً: لو أنه ترك ابناً وبنتاً، فوصّى بما زاد على الثلث، ثم سألنا الابن والبنت، فقالت البنت: أنا أُجيز ما أمضاه والـدي، وقال الابن: لا أُجيز، فحينئذٍ تنفذ بقدر ثلث ما زاد على الثلث؛ لأن الزائد على الثلث استحقاق للابن والبنت، والابن له مثل حظ الأنثيين، فمعنى ذلك: أن للابن سهمين فيما زاد على الثلث، وللبنت سهم واحد فيما زاد على الثلث، فإن أمضت البنت مضى ثلث ما زاد على الثلث، وإن أمضى الذكر مضى ثلثا ما زاد على الثلث.

فلو كان الذي زاد على الثلث ثلاثة آلاف ريال، فسألنا البنت فقالت: أمضوه، وقال الولد: أنا محتاج، فحينئذٍ نمضي ألفاً ونبقي ألفين، فصحت في الألف والتغت في الألفين.

وعلى هذا فإنه يُنظر إلى نصيب كل وارث، فإن اختلفوا فيصح في استحقاق كل ذي حق بقدر نصيبه من ذلك الزائد على الثلث.

وقوله: (ولا لوارث بشيء).

فلا يصح أن يوصي لوارثه بشيء، فلو خص بعض الورثة وقال: أوصي بأن يُعطى فلان من أولادي الثلث أو الربع، أو يُعطى مائة ألف من التركة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم هذا ومنعه، حيث قال: (لا وصية لوارث)، وجاء في حديث ابن عباس -وقد سبقت الإشارة إليه- إلا أن العلماء اختلفوا في قوله: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)، فهذا يدل على أن الوارث لا يُوصى له.

والعبرة بالوارث هو ما يكون بعد الموت، فإذا كان غير وارث حين الوصية، ثم أصبح وارثاً بعد الموت، أو كان وارثاً حال الوصية ثم أصبح غير وارث عند موته، فهذا كل سيأتي بيانه إن شاء الله.

أما من حيث الأصل فلا يجوز للميت أن يُوصي لمن يرثه، سواءً كان من الذكور أو من الإناث، وفي هذا حكمة عظيمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قسم المواريث وأعطى كل ذي حق حقه من التركة، فينبغي أن لا تترك القسمة؛ لأنها هي العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.

فإذا جاء يوصي وقال: بناتي، أو أبنائي أريد أن أزيدهم، فكأنه يستدرك على الشرع، ولذلك قُطع من هذا ومُنع.

كما أن الوصية للوارث توغر صدور الورثة بعضهم على بعض، وتوغر صدورهم أيضاً على مورثهم، سواءً كان من الرجال أو من الإناث، كما حرّم الله عز وجل تخصيص بعض الورثة بالعطيَّة دون بعضهم كما تقدم معنا.

توقف إمضاء الوصية للوارث على إجازة الورثة

وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذاً)

قوله: (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، (إلا بإجازة الورثة لها) وإجازة الورثة لأمرين:

الأمر الأول: لما زاد على الثلث، وقد تقدم بيانه.

الأمر الثاني: إذا خص بعض الورثة بشيء ما، كأن يكون واحد من أبنائه معاقاً ويحتاج إلى المال أكثر، فخصّه بشيء، فقال: سيارتي، أو بيتي الفلاني، أو عمارتي الفلانية لهذا الابن المعاق، أو نظر إلى ابنته ولها أطفال، ولها وضع معين، وأراد أن يستسمح الورثة، فوافقوا في حياته أو بعد موته؛ فإن هذا يمضي ولا إشكال فيه؛ لأن الحق حقهم، وإذا كان الحق لهم، فإنهم كما يملكون بذله يملكون إمضاء وصية والدهم أو وصية والدتهم إذا وصى أحدهما بذلك.

الفرق بين التنفيذ والابتداء في إجازة الوصية للوارث أو ما زاد على الثلث

وقوله: (تنفيذاً) إذا وصى لوارثٍ واتفق الورثة على إمضاء الوصية، أو وصّى بما زاد على الثلث واتفق الورثة على إمضاء هذا الزائد، فهل هذا الذي أمضَوه يُعتبر ابتداءً أو تنفيذاً؟

بعض العلماء يقول: إذا أمضى الورثة وصية مورثهم للوارث، فهذا تنفيذ للوصية، وإذا كان تنفيذاً؛ فحينئذٍ إذا وقع القبول من الموصى إليه في زمانٍ، ثم أجاز الورثة بعد ذلك، كأن أجازوا مثلاً بعد شهر أو شهرين؛ فإن قلنا: إنه تنفيذ، وخلال الشهر والشهرين أُجِّرت الدار، وهذه الدار إجارتها بألف أو ألفين، أو أجرت السيارة أو أجرت الدابة، وحصل منها دخل، فإن قلت: إجازة الورثة تعتبر تنفيذاً لما وصَّى به الميت؛ فحينئذٍ الأجرة مستحقة لمن أوصي له، والذي وُصِّي له يستحق هذه الأجرة؛ لأن ملكيته تثبُت بمجرد أن يجيزوا، فتثبُت بقبوله -كما سنبينه إن شاء الله- إذا قبل بعد الموت، فلو حصل قبوله في أول شهر محرم، فقالوا: إن أباك قد وصَّى بهذه السيارة لك، فقال: قبلت -أي: جاءه بعد وفاة والده- وحصل هذا في أول محرم، ثم حصل للورثة ما حصل من أخذ وعطاء، فرتّبوا أمورهم، فلما جاءوا إلى وصية وارثه قالوا: إن والدكم أوصى بهذه السيارة فهل تجيزون ذلك؟ فقالوا: نجيز، وهذا حدث بعد شهرين، فخلال هذين الشهرين لو حصل زيادة في الشيء الذي وُصِّي به أو نماء؛ فإنه يكون في ملك هذا الشخص الذي وُصِّي له.

وأما إذا قلنا: إنها ابتداء، فحينئذٍ يستحق الورثة الأجرة لما بين إجازتهم وبين قبوله؛ فإنها تكون في ملكهم، ولا تكون في ملك من وُصِّي له.

وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت) بعض العلماء يقول: إذا أخذ رضا الورثة في حياته فإنه يكون هذا مسقطاً للإثم من ناحية تخصيص بعض الورثة، لكن الوصية أصلاً لا تنفذ ولا تُعتبر -كما سيأتي- إلا بالموت، وعلى هذا فإنه لا بد أن يكون قبول الورثة وإجازتهم بعد موت المورِّث الذي وصَّى، فعليه إذا وقعت الإجازة من الورثة على هذا الوجه بعد موت مورثهم، بأن اتفقوا، أو قال بعضهم بإجازتها وامتنع البعض؛ صحَّت بحسب الحال الذي ذكرناه، فإما أن تصح كلاً إذا كان الجميع قد وافقوا، وإما أن تصح بالجزء الذي وافق صاحبه.

وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذاً)

قوله: (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، (إلا بإجازة الورثة لها) وإجازة الورثة لأمرين:

الأمر الأول: لما زاد على الثلث، وقد تقدم بيانه.

الأمر الثاني: إذا خص بعض الورثة بشيء ما، كأن يكون واحد من أبنائه معاقاً ويحتاج إلى المال أكثر، فخصّه بشيء، فقال: سيارتي، أو بيتي الفلاني، أو عمارتي الفلانية لهذا الابن المعاق، أو نظر إلى ابنته ولها أطفال، ولها وضع معين، وأراد أن يستسمح الورثة، فوافقوا في حياته أو بعد موته؛ فإن هذا يمضي ولا إشكال فيه؛ لأن الحق حقهم، وإذا كان الحق لهم، فإنهم كما يملكون بذله يملكون إمضاء وصية والدهم أو وصية والدتهم إذا وصى أحدهما بذلك.

وقوله: (تنفيذاً) إذا وصى لوارثٍ واتفق الورثة على إمضاء الوصية، أو وصّى بما زاد على الثلث واتفق الورثة على إمضاء هذا الزائد، فهل هذا الذي أمضَوه يُعتبر ابتداءً أو تنفيذاً؟

بعض العلماء يقول: إذا أمضى الورثة وصية مورثهم للوارث، فهذا تنفيذ للوصية، وإذا كان تنفيذاً؛ فحينئذٍ إذا وقع القبول من الموصى إليه في زمانٍ، ثم أجاز الورثة بعد ذلك، كأن أجازوا مثلاً بعد شهر أو شهرين؛ فإن قلنا: إنه تنفيذ، وخلال الشهر والشهرين أُجِّرت الدار، وهذه الدار إجارتها بألف أو ألفين، أو أجرت السيارة أو أجرت الدابة، وحصل منها دخل، فإن قلت: إجازة الورثة تعتبر تنفيذاً لما وصَّى به الميت؛ فحينئذٍ الأجرة مستحقة لمن أوصي له، والذي وُصِّي له يستحق هذه الأجرة؛ لأن ملكيته تثبُت بمجرد أن يجيزوا، فتثبُت بقبوله -كما سنبينه إن شاء الله- إذا قبل بعد الموت، فلو حصل قبوله في أول شهر محرم، فقالوا: إن أباك قد وصَّى بهذه السيارة لك، فقال: قبلت -أي: جاءه بعد وفاة والده- وحصل هذا في أول محرم، ثم حصل للورثة ما حصل من أخذ وعطاء، فرتّبوا أمورهم، فلما جاءوا إلى وصية وارثه قالوا: إن والدكم أوصى بهذه السيارة فهل تجيزون ذلك؟ فقالوا: نجيز، وهذا حدث بعد شهرين، فخلال هذين الشهرين لو حصل زيادة في الشيء الذي وُصِّي به أو نماء؛ فإنه يكون في ملك هذا الشخص الذي وُصِّي له.

وأما إذا قلنا: إنها ابتداء، فحينئذٍ يستحق الورثة الأجرة لما بين إجازتهم وبين قبوله؛ فإنها تكون في ملكهم، ولا تكون في ملك من وُصِّي له.

وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت) بعض العلماء يقول: إذا أخذ رضا الورثة في حياته فإنه يكون هذا مسقطاً للإثم من ناحية تخصيص بعض الورثة، لكن الوصية أصلاً لا تنفذ ولا تُعتبر -كما سيأتي- إلا بالموت، وعلى هذا فإنه لا بد أن يكون قبول الورثة وإجازتهم بعد موت المورِّث الذي وصَّى، فعليه إذا وقعت الإجازة من الورثة على هذا الوجه بعد موت مورثهم، بأن اتفقوا، أو قال بعضهم بإجازتها وامتنع البعض؛ صحَّت بحسب الحال الذي ذكرناه، فإما أن تصح كلاً إذا كان الجميع قد وافقوا، وإما أن تصح بالجزء الذي وافق صاحبه.

قال رحمه الله: [وتكره وصية فقير وارثه محتاج]

تقدَّم معنا أن الوصية تعتريها الأحكام التكليفية، فقد تكون محرمة، أو مكروهة، أو واجبة، أو مندوبة، وبيّنا هذه الصور كلها وأدلة كل صورة، وهنا يقول المصنف: (تكره) أي: تكره الوصية من الشخص الفقير، والفقر والغنى أمرٌ عرفي، فيُرجع في ذلك إلى العرف، فلو كانت عنده خمسة آلاف ريال، والعرف يقول: من عنده خمسة آلاف ريال فهو في حكم الفقير، فهو فقير، فمثله يُكره له أن يوصي؛ بشرط أن يكون له وارث محتاج.

إذاً: لابد من أمرين:

أولاً: أن يكون المال الذي يتركه قليلاً، بحيث يُوصَف معه بالفقر والحاجة.

ثانياً: أن يكون وارثه محتاجاً إلى هذا المال.

فإذا تحقق الشرطان فالوصية مكروهة، وبعض العلماء يقول: إنها خلاف الأولى، وبعضهم يقول: مكروهة، وقد اختلف علماء الأصول: هل خلاف الأولى يعتبر مكروهاً أم لا؟

أما كونها خلاف الأولى، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا بالدليل الصحيح، فإن ميمونة رضي الله عنها أخذت جارية من جواريها فأعتقتها، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لو أنك أعطيتِها لأخوالك لكان أعظم لأجرك)، مع أن الإنسان إذا أعتق لوجه الله عُتِق كل عضوٍ منه بما أَعتق، حتى ينجو من النار بهذا العتق، إذا وقع على الوجه المقبول عند الله سبحانه وتعالى، خالصاً لوجهه الكريم، ومع هذا يقول لها: لو أبقيتِها على الرق ووهبتِها لأخوالك فوصلتِ بها الرحم؛ لكان أعظم لأجرك. فجعل العِتق خلاف الأولى، ووجه ذلك أنها تصدقت على غريب، مع وجود حاجة القريب.

وبناءً عليه: أخذ العلماء أن البداءة بالغريب مع وجود حاجة القريب خلاف الأولى، وهل خلاف الأولى مكروه؟ حينئذٍ ترد المسألة الأصولية التي ذكرناها، لكن بعض العلماء يقول: إن الورثة قد بين النبي صلى الله عليه وسلم تأكد الأمر في حقهم بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فهو فقير، والمال ليس بذاك، ومعناه: أنه إذا لم يترك لأولاده هذا المال، فالغالب أن أولاده سيحتاجون، وعلى ذلك قالوا: إنه يكره، ولا شك أن القول بالكراهة له وجهه وله قوته؛ لأنه لا شك يُضيِّق على الورثة، ويجحف بهم، وعلى ذلك تكون صدقته على الورثة خيراً له من أن يعطي المال للغريب، ولو كان ذلك الغريب محتاجاً؛ بل إن تركه للمال نوع من الإحسان ونوعٌ من الصلة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلة يبدأ بها الإنسان بأدنى الناس منه، ولذلك قال: (ثم أدناك أدناك)، وعلى هذا فيبدأ بورثته قبل أن يبدأ بالناس.

قال رحمه الله: [وتجوز بالكل لمن لا وارث له].

يرد هنا سؤال: لو أن شخصاً ليس له وارث، وأراد أن يوصي صدقة وبراً بجميع ماله، فهل يصح ذلك وتمضي صدقته، أم أنها لا تصح وصيته إلا في حدود الثلث؟

في المسألة قولان للعلماء:

قال بعض العلماء: إنه إذا أوصى بماله كله وليس له وارث، مثل: شخص أسلم وقرابته كلهم كفار، وليس له من وارث، ثم حضرته المنيّة وعنده أموال، فقال: جميع أموالي من بعدي تكون في بناء المساجد، أو في تشييد الأربطة، وغير ذلك من أعمال البر والإحسان، وهذه الوصية قد شملت جميع المال، فقال أصحاب هذا القول: إذا وصَّى بجميع ماله ولا وارث له صحت وصيته، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا القول مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يرى أنه إذا وصَّى بجميع ماله فله ذلك، فهو أحق الناس بماله.

وأيضاً: أكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة هي وجود الورثة حين قال: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، قالوا: فجعل هذا بمثابة التعليل للأمر.

وخالف هذا القول طائفة من أهل العلم، وهو القول الثاني في المسألة فقالوا: تصح في الثُّلث، والزائد على الثلث يُرد إلى بيت مال المسلمين، وهذا القول اختاره جمهور العلماء رحمهم الله، والسبب في هذا:

أولاً: أن من لا وارث له فوارثه بيت مال المسلمين.

ثانياً: أن بيت مال المسلمين هو الذي يُكفنه لو لم يترك مالاً، فلو أنه لم يترك مالاً فمن أين سيُكفَّن؟ ومن أين سيُقام على مئونة تجهيزه وحوائجه إلا من بيت مال المسلمين، فكما أن المسلمين غرموا؛ فكذلك يغنمون في حال وصيته على هذا الوجه، فقالوا: يرجع الثلثان إلى بيت مال المسلمين رداً.

ويكون هذا أيضاً فيه إحسان إلى عموم المسلمين، فالإحسان به مقدم على الإحسان إلى بعضهم، وهذا القول الثاني من القوة بمكان؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، جاء من باب الوصف، ولم يجئ من باب التقييد بالحكم، بمعنى: أنه إذا لم يكن لك ورثة فإنه يجوز لك أن تفعل بمالك ما شئت.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال له سعد : (يا رسول الله! لي مال كثير ولا وارث لي إلا ابنة، أفأتصدق بمالي كله؟)، فلو كان الأمر فيه سعة في حالة عدم وجود الوارث؛ لضيق النبي صلى الله عليه وسلم الأمر في حدود عدم الإضرار بالابنة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الرد إلى الثلث.

وأكد أصحاب القول الثاني هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، فدل على أن الذي يملكه هو الثلث، وحينئذٍ إذا تصدق وليس له وارث بما زاد على الثلث فقد تصدق بما لا يملكه؛ لأن المال في هذه الحالة يكون رداً إلى بيت مال المسلمين، فكما أنه إذا زاد على الثلث في حال وجود الوارث دخل في ملك الغير، فكذلك في حال صدقته بجميع ماله ولا وارث له دخل على بيت مال المسلمين، فتكون وصيته في حدود الثلث إعمالاً للأصل؛ لأن الحديث الذي ذكرناه: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) من حيث المنطوق أقوى من حديث: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء..) لأنه ربما يكون بمثابة الوصف -كما ذكرنا- لا من باب التقييد بالعلة.

قال رحمه الله: [وإن لم يف الثلث بالوصايا فالنقص بالقسط]

بعد أن بيّن لنا ما الذي يُشرع من جهة المقدار، وهو أن يكون في حدود الثلث؛ بيّن حكم ما زاد على الثلث، وحكم ما نقص عن الثلث أنه ماض، فورد سؤال: لو أن شخصاً وصَّى وازدحمت الأشياء التي وصَّى بها، وأصبح الثلث لا يسعها، فوصّى بمبلغ معين لشخص، ثم بمبلغ ثانٍ لشخص آخر من قرابته غير الوارثين، فأصبح ما وصّى به زائداً على الثلث، فازدحم الشخصان.. وللتوضيح أكثر: شخصٌ توفي وترك تسعة آلاف ريال -مثلاً- فمعنى ذلك: أن ثلث التركة هو ثلاثة آلاف ريال، وفي وصيته قال: أَعطوا محمداً -الذي هو المحتاج- ألفين، وأعطوا صالحاً -المحتاج الثاني- ألفين، فأصبح مجموع ما يُعطاه الشخصان يعادل أربعة آلاف ريال، والثلث ثلاثة آلاف ريال، فكيف نقسم الثلاثة آلاف ريال على أربعة آلاف ريال؟

بيّن المصنف رحمه الله أنها تكون بالقسط، وهذه المسألة في الحقيقة فيها تفصيل:

ازدحام الوصايا مع كونها متساوية

أولاً: إذا ازدحمت الوصايا، فلا تخلو إما أن تكون مستوية أو أن تكون مختلفة، وازدحام الوصايا المستوية مثل أن تكون في حقوق واجبة، أو في أمور مستحقة استوت من جهة الاستحقاق.

فمثلاً: لو أن رجلاً وصَّى أن يُحج عنه، والحج كان واجباً عليه فماطل وتأخر، فوصَّى أن يُخرج من ماله ما يحج به عنه، وأيضاً وصَّى بكفارات، وهذه الكفارات عِدْلُها -مثلاً- ألف ريال، والحج عنه يكون بألف ريال، والثلث ألف ريال، فحينئذٍ لا يمكن للألف ريال التي هي ثلث ماله أن تستوعب الوصية بالحقين، والحق الأول واجب، والحق الثاني واجب كذلك، فازدحم حقان واجبان لله عز وجل.

ازدحام الوصايا مع كونها مختلفة

الحالة الثانية: أن يكون الازدحام عند الاختلاف، مثل أن يُوصِي بحق واجب كالحج، ويوصي بمستحب، فيقول مثلاً: أخرجوا من الثلث ما يُحج به عني حجة فريضة، وأخرجوا من الثلث عشرة آلاف ريال لفلان صدقة مني عليه، فعندما جئنا ونظرنا وإذا بثلثه لا يمكن أن يُحج عنه وتُخرج العشر آلاف ريال، أي: لا يستوعب الأمرين، فوجدنا أن الحج عنه فريضة واجبة لازمة، والعشرة آلاف صدقة مستحبة، فازدحمت الوصيتان إحداهما واجبة والثانية مستحبة.

وهذه كلها تُعرف عند العلماء بمسائل الازدحام في الوصية، فإذا ازدحمت الوصايا وكانت كلها واجبة؛ فمذهب بعض العلماء رحمهم الله أنه يُنظر إلى صفة الوجوب من حيث اللزوم، مثل الحج في لزومه وفرضيته آكد من غيره.

وبعض العلماء يقول: لا يُنظر إلى مثل هذا، وإنما تُقدم الكفارات لأنها دين، والحج لا يجب مع الدين، بمعنى: أن الحج يسقط مع الدين، فإذا كان الشخص مديوناً فالحج يسقط، فحينئذٍ حقوق الكفارات الواجبة عليه مقدمة على الحج؛ لأنه لو كان حياً وأراد أن يسأل لقلنا له: أدِّ الكفارات الواجبة عليك ثم حج؛ لأن الحج لا يجب على من عليه دين، فقُدِّمت الكفارات والنذور والأيمان من هذا الوجه، وهذا القول عند النظر والتأمل أقوى.

أما بالنسبة لازدحام الواجب مع المستحب والمندوب فلا إشكال، فلو أنه وصى بالحج وبالصدقة، حججنا عنه ثم نتصدق بما بقي.

فمثلاً: لو كان الحج عنه بألفي ريال، ووصّى بعشرة آلاف ريال لرجل صدقة، فلنفرض أن الثلث ثمانية آلاف ريال فنخرج منه ألفين للحج عنه، وندفع الستة آلاف الباقية للشخص الذي وصّى له، ويكون له ما فضل عن الواجب، فتكون المستحبات استحقاقُها في الوصية عند الازدحام مع الواجبات فيما فضل وزاد.

هذا بالنسبة لازدحامها، أما في حال الاجتماع بالاستواء مثل: المستحبات، فلو كانت وصاياه كلها مستحبة، كأن يقول: أعطوا محمداً ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا زيداً ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا عمراً ثلاثة آلاف ريال، فهذه تسعة آلاف ريال، وثلث التركة ثلاثة آلاف ريال، فكيف تقسم ثلاثة آلاف على تسعة؟

في هذه الحالة ننظر إلى سهم كل واحد منهم من أصل مسألة في مجموع الوصايا، فإذا وصى لكل واحد من الثلاثة بثلاثة آلاف ريال، فمعناه: أن نصيبهم مستوٍ، فتنظر إلى عدد رءوسهم وهم ثلاثة، فتُعطي كل واحدٍ منهم ثلث الثلث، وهذا هو معنى: بالقسط وبالحساب.

وعلى هذا: ننظر إلى الرءوس واستحقاقها بنسبة المال الذي وصّى به، فلو اختلفت فقال: أعطوا محمداً ألفين وزيداً ألفاً وعمراً ألفاً، فحينئذٍ تكون متفاوتة؛ لكن بين الألفين والألف تناسب، فتكون مقسومة على أربعة، فيصبح لمحمد نصف الثلث، ولزيد ربع الثلث، ولعمرٍ الربع الآخر، فلو كان الثلث يعادل أربعة آلاف ريال، فنقول في هذه الحالة: يمضي نصف الثلث لمحمد -وهي الألفان- ثم لزيدٍ ألف ولعمرٍ ألف؛ لأنها تعادل ربع الثلث.

ومسألة أن تجزِّئ بالأقساط هي مسألة مفرعة على مسألة العَوْل في الفرائض، ومسألة العَوْل في الفرائض حُكِي فيها إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، والأصل في ذلك قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المرأة لما تُوفِّيت وقد تركت أختين وزوجاً، فالزوج له النصف، والأختان لهما الثلثان، فأصبح لا يمكنك أن تُعطي نصف التركة للزوج؛ لأنك إذا أعطيته النصف بقي النصف، ولو أعطيت الأختين الثلثين بقي الثلث، والزوج يريد النصف، فحينئذٍ ماذا يُفعل؟

لما وقعت هذه الحادثة في زمان عمر بن الخطاب جمع الصحابة رضوان الله عليهم وشاورهم في هذا الأمر، وكان عمر رضي الله عنه إذا نزلت به النازلة يبدأ بأفاضل الصحابة والسابقين للإسلام، ويُقدِّم المهاجرين، ثم الأنصار، ثم يشاور عموم الناس بعد ذلك، ولا يشاور قبل أهل العلم أحداً أبداً، فيبدأ أولاً بأهل العلم فيُشاورهم، فإن وجد عندهم حلاً أمضاه؛ لأنهم هم أمناء الأمة، وأعلم بدين الله وشرعه، وهم أتقى لله وأقرب إلى الإخلاص، والبصيرة فيهم نافذة بتوفيق الله سبحانه وتعالى لهم.

فشاور رضي الله عنه فقهاء الصحابة وأجلاءهم، وكان فيهم الزبير رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا أمير المؤمنين! ما أرى هذه المسألة إلا كرجل توفي وعليه دين عشرة وترك أقل من ذلك، فننظر نصيب كل واحد من أصلها).

ومراده بذلك: أننا ننظر إلى ما تركه الميت ويُجزأ، ويكون النقص داخلاً على كل شخص بقدر سهمه، فإذا كان الثلثان مع النصف فتعول المسألة إلى سبعة، فبدلاً من أن نقسمها على ستة نقسمها على سبعة، وحينئذٍ يكون للأختين الثلثان أربعة، ويكون للزوج النصف ثلاثة، ويقسم النصيب فينقص صاحب النصف بقدر مناسب لصاحب الثلثين، ويدخل النقص على الجميع بقدر السهم، كما سيأتي إن شاء الله بيانه وتفصيله في كتاب الفرائض.

وهذه المسألة عندما وقعت بين الصحابة صارت أصلاً عند العلماء في النماء والفضل إذا ترك التركات والمال، وصارت أصلاً -أيضاً- في العد والنقص، ففي هذه الحالة لو ازدحمت الوصايا وعيّن وقال: لفلان ألفان، والثاني له ألفان، والثالث له ألفان، وترك ثلاثة آلاف، فحينئذٍ نُدخل النقص على كل واحدٍ بقدر حصته من أصل المسألة، وهذا شبه إجماع بين الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة، وقد فرّع العلماء رحمهم الله عليها مسائل الازدحام.