شرح زاد المستقنع باب الهبة والعطية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف -رحمه الله-: [باب الهبة والعطية]

هذا الباب قصد المصنف -رحمه الله- أن يبين فيه المسائل والأحكام التي تتعلق بالتبرعات، ولما كان الوقف نوعاً من أنواع التبرع ناسب أن يذكر أحكام الهبة والعطية بعده، فمناسبةُ باب الهدية والعطية لباب الوقف من هذا الوجه ظاهرةٌ.

وقد دلت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على مشروعية الهبة والعطية، فالآيات التي وردت في استحباب الإحسان وبذله إلى الناس، والآيات التي دلت على الترغيب في المعروف، وإسداء الخير إلى الناس من حيث الأصل، تعتبر دالةً على مشروعية الهبة والعطية، خاصةً وأن الهبات والعطايا قد يراد بها وجه الله عزَّ وجل حينما يهب المسلم لأخيه المسلم شيئاً مما يملكه حتى تزداد المحبة بينهما، وتقوى أواصر الأخوة ووشائج الإسلام التي تربط بين المسلم وإخوانه، فتكون الهبة والعطية عبادةً من هذا الوجه.

وأما بالنسبة للسنة فقد دلت أحاديث كثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم على مشروعية الهبة، بل رغَّب عليه الصلاة والسلام فيها كما في حديث السنن عن أبي هريرة وعائشة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تهادوا تحابوا).

فقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث في الهدية وإعطاء المسلم لأخيه المسلم على سبيل المحبة، وبين حسن العاقبة في ذلك، وأنها تزيد من المحبة والألفة، وهذا مقصود شرعاً، فكل ما يدعو إلى قوة المحبة بين المسلمين مندوب إليه وتحصيله مرغوب فيه.

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: (لو أهدي إلي كراعاً لقبلت)، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام حيث بين أنه لو كانت الهدية له عليه الصلاة والسلام كراعاً لقبلها عليه الصلاة والسلام ولم يردها، وهذا يشير إلى أن الهدايا تختلف باختلاف الناس، فلا تحتقر الهدية، خاصةً إذا جاءتك من الضعيف الفقير والذي ليس عنده طَوْل ولا عنده مال، فتعلم أن المقصود هو التودد إليك والمحبة، فلا تكسر له خاطراً، بل تجبر بخاطره، وتقبل هديته، ولو كانت شيئاً يسيراً، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها ولو فِرْسن شاةٍ)، وهذا يدل على فضل العطية والإحسان خاصةً من الجار لجاره.

حتى كان بعض العلماء رحمهم الله يقول: يا ليت كل مسلم كلما مرت فترة أو مر زمان يسأل نفسه: هل قدَّم لجاره شيئاً؟!

كذلك أيضاً ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَبِل الهدية حتى من الكافر، كما في قصة المقوقس .

وثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح أنه أهدى إلى النجاشي رحمه الله، وتوفي النجاشي قبل أن تبلغه هدية النبي صلى الله عليه وسلم.

لأجل هذا أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الهدية والعطية؛ لأن سنةَ النبي صلى الله عليه وسلم وهديَه دالة على مشروعيتها، بل قد جاء في صفته عليه الصلاة والسلام في الكتب السماوية أنه يقبل الهدية ويرد الصدقة.

وقال العلماء رحمهم الله: إن الهدية مشروعة لما فيها من جلب المصالح ودرء المفاسد.

أما المصالح التي تحققها الهدية فمن أعظمها أنها تزيد المحبة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تهادوا تحابوا).

وأما درء المفاسد فإنها تقطع سوء الظنون، وتزيل من النفوس الإحَن والشحناء، وكذلك ربما أزالت الحسد وأطفأت ناره من القلب؛ لأن الإنسان إذا رأى أخاه في نعمة وحسده عليها، إذا بالمحسود يقدم هدية وعطية ويشارك ذلك الحاسد فيعطيه شيئاً، فإن هذا يكسر قلبه، ويطفئ نار الحسد التي في نفسه، نسأل الله السلامة والعافية.

إضافةً إلى أن الهدية إذا كانت إلى المحتاج والمسكين تكون قربة لله عزَّ وجلَّ وطاعةً لله سبحانه وتعالى.

يقول المصنف رحمه الله: [باب الهبة والعطية] هناك فرق بين الهبة والعطية، يقال: وهب الشيء يهبه هبةً إذا منحه للغير.

والعطية في معنى الهبة؛ لكن العلماء رحمهم الله يفرقون بين الهبة والعطية، فهناك هبة وهناك هدية وهناك عطية، وهناك صدقة.

فأما بالنسبة للهدية فهي الشيء الذي يحمله الإنسان للغير إكراماً له وإجلالاً، فإذا أعطى إنسانٌ إنساناً شيئاً وحمل الشيء إليه، فإن هذا هدية.

لكن الهبة لا تُحمل، يقول له: خذ هذا الشيء، أي: وهبته لك.

فإذاً: الهدية فيها معنىً زائدٌ عن الهبة، فالهبة من حيث الأصل تمليك، ويُقصَد بها تمليكُ الغيرِ المالَ الذي يملكه الواهب على سبيل المعروف والإحسان، لا معاوضة فيه، فإذا وهبت الشيء وحملته للموهوب فهذا هو معنى الهدية، وأما إذا قلت له: خذ هذا الشيء، وارفع هذا الشيء، وهذا الشيء لك، فقد وهبته.

وأما بالنسبة للعطية: فالعطية تكون لما بعد الموت، يهبه ويعطيه الشيء لما بعد موته، مسنداً لما بعد موته.

وأما بالنسبة للصدقة: فالهبة والهدية إذا أعطاها الإنسان غالباً ما تكون لحظوظ الدنيا، وقد يكون فيها معنى العبادة كما ذكرنا؛ لكن الصدقة تُعطَى وتُبذَل ويُراد بها وجه الله سبحانه وتعالى، ويطلب المتصدق والمعطي ما عند الله عزَّ وجل، بخلاف الهبة والهدية فإن الهدية قد يعطيها من باب كسب القلب، وهذا أمر قد يكون دنيوياً، خاصةً إذا كان يخشى شر الإنسان فأعطاه الهدية ونحو ذلك، فهذه كلها مقاصد دنيوية، لكن الصدقة تكون العطية فيها مراداً بها وجه الله سبحانه وتعالى، ويُقصَد منها التقرب إليه جلَّ وعَلا.

أما بالنسبة للأركان التي تقوم عليها الهبة، فإنها تقوم على أربعة أركان: الواهب، والموهوب له، والشيء الموهوب، والصيغة، هذه الأربعة أشياء إذا وُجِدَت، وُجِدَت الهبة.

أما الواهب: فهو الشخص الذي يملك الشيء الموهوب، ويقوم ببذله وإعطائه للغير.

ويشترط فيه: أن يكون جائز التصرف، وذلك يتحقق بملكيته للشيء الذي يريد هبته، ويأذن له الشرع بالبذل والهبة.

وبناءً على ذلك يكون: مالكاً، حراً، رشيداً، بالغاً، عاقلاً.

فإذاً: لا بد من توفر هذه الشروط، فلا تصح الهبة من مجنون أو من صبي، أو من السفيه والمحجور عليه سواء كان لفَلَسٍ أو غيره، ولا يصح أن يهب شيئاً هو ملك لغيره، أو يهب شيئاً ليس بملك له أصلاً، أو لا تدخله الملكية، فإذا فعل ذلك فإنها لا تكون هبةً، ولا تسري عليها أحكام الهبة.

وأما بالنسبة للحرية فإن المملوك تقدم معنا أنه هو وما مَلَكَ مِلْكٌ لسيده، إلا أن يأذن له السيد بالتصرف فهذا مستثنى.

أما بالنسبة للشيء الموهوب: فيُشترط فيه أن يكون مالاً قابلاً للتمليك.

فقوله: (أن يكون مالاً) يخرج ما ليس بمال ولا في حكم الأموال، ومن هنا لا تصح هبة أعضاء الآدمي، وهي مفرَّعة على هذا الأصل؛ لأن أعضاء الآدمي ليست فيها ملكية، إذ مِن شَرْطِ صحة الهبة والعطية أن يكون الواهب مالكاً للشيء الذي يهبه.

فلو قال قائل: إن الله عزَّ وجل مكَّن الإنسان أن يستفيد من كليته أو يده أو رجله ونحو ذلك.

نقول: إن هذا التمليك على سبيل الإذن والإباحة، والتمليك معنىً زائدٌ على الإذن والإباحة، وهناك فرق بين أن يؤذن للشخص بأن ينتفع بالشيء ويرتفق به، وبين أن يُمَلَّك هذا الشيء بحيث يصح أن يبذله للغير.

مثلاً: المصالح العامة، كالمواقف ونحوها، هذه مأذون لك أن تنتفع بها شأنك شأن سائر الناس؛ لكن لا يصح أن تبيعها لغيرك؛ لأن الإذن بانتفاعك بها لا يستلزم ملكيتك لها، والله عزَّ وجل أذن للمخلوق أن ينتفع بجسده وهو ليس بمالك له، ومما يدل على ذلك أنه لا يجوز له أن يبيع نفسه، فلو كان مالكاً لنفسه لصح أن يبيع نفسه؛ وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن كل ما جاز بيعه جاز هبته.

وبناءً على ذلك: فالأعضاء ليست محلاً للملكية، وإنما هي من خلق الله عزَّ وجل الذي أذن للإنسان أن ينتفع بها.

هذا مذهب من يقول بعدم صحة التبرع بالأعضاء، ويقيم هذا على هذا الأساس الذي دلت عليه الأصول الشرعية.

ومما يقوي هذا: أن من يقول بالهبة وجواز هبة الأعضاء يقول: لا يجوز بيعها، وهذا تناقض؛ لأنه إذا أُذِن بالهبة فمعناه أن الهبة فرع على الملكية، ومَن مَلَك شيئاً جاز له أن يبيعه.

وهناك مسألة مهمة وهي أنه حتى ولو قيل: إن الإنسان يملك أعضاءه فإن هناك فرقاً بين الملكية والتمليك، فقد يكون الشيء ملكاً للإنسان ولا يصح أن يملِّكه للغير، ومن أمثلة ذلك: أم الولد، فإن الجارية إذا ملكها الإنسان بتمليك الله عزَّ وجل له، واشتراها وأصبحت ملكاً شرعياً له، ووطئها وتسرَّاها، فحملت وأنجبت وأصبحت أم ولد، فعلى القول بعدم صحة بيعها كما ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها حينئذٍ ملكٌ للإنسان لا يصح أن يُمَلِّكها للغير، ولذلك قال: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، وبالإجماع أنها ملكٌ له، ولذلك تَعْتِق عليه بعد موته.

ومن هنا مذهب من قال بعدم صحة هبة الأعضاء يفرِّعها على الأصول المقررة في الشريعة: أنه لا تصح الهبة إلا لشيء يملكه الإنسان، فالواهب يُشترط فيه أن يكون مالكاً للشيء الذي يهبه، فلا يصح أن يهب مال غيره.

أما الركن الثاني وهو الشيء الموهوب، فتشترط فيه شروط: أن يكون مالاً كما ذكرنا، وأن يكون مملوكاً للواهب أو مأذوناً له بالتصرف فيه.

وإذا قلنا: أن يكون مالاً، خرج ما لا قيمة له في الشرع، كالميتة والخمر والخنزير والأصنام، فهذه الأشياء لا تصح هبتها، ولذلك لو أنه أخذ حيواناً محنطاً غير مُذَكَّىً فإنه نجس وميتة، فلو وهبه، فإن هذا ليس بمحلٍ للهبة وليست بهبة شرعية.

وأما الموهوب له فهو الطرف الثالث الذي تصرف الهبة إليه، وهذا الطرف يشمل الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والأمر في الموهوب له أوسع من الواهب.

وأما بالنسبة للصيغة فهي: الإيجاب والقبول.

الإيجاب قوله: وهبتُك سيارتي أو داري أو أرضي.

وأما القبول: أن يقول: قبلتُ الهبة، وسيأتي -إن شاء الله- بيانهما.

ويحل محل الإيجاب والقبول ما دل عليهما، فإذا جرى العرف بالدلالة على الهبة مثل ما يجري مثلاً في الزواج؛ يأتي الشخص بهدية ويحملها إلى صاحب الزواج أو الزوج ويعطيه هذه الهدية دون أن يتكلم، ويقبض الآخر هدية أخيه دون أن يقول الواهب: وهبتك، ويرد الموهوب له بقوله: قبلت هديتك، لكن جرى العرف أن هذا الفعل من المعاطاة دال على الهبة والهدية.

ولا شك أنه ينبغي أن يراعى في الشيء الموهوب والهدية أن يكون معلوماً، ولا تصح هبة الأشياء المجهولة، وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه الشروط وبيانها.

يقول المصنف رحمه الله: [باب الهبة والعطية] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالهبات والعطايا.

قال -رحمه الله تعالى: [وهي التبرع بتمليك مالِه المعلومِ الموجودِ في حياته غيرَه]

أي: الهبة والعطية.

قوله: [التبرع] وهو بذل الشيء للغير، والتبرع لا يكون إلا في الشيء الذي لا مقابل له، فخرج بهذا القيد البيع؛ لأن البيع ليس بتبرع، وإنما معاوضة، فيعطيه داره لقاء مائة ألف، أو يعطيه سيارته بعشرة آلاف، فهو لم يتبرع له، ولم يعطِها على سبيل الإحسان، وإنما أعطاه إياها على سبيل المعاوضة، وهذا النوع من العقود لا يدخل في الهبات والعطايا.

قوله: [بتمليك مالِه المعلومِ] هذا محل التبرع، تبرَّع بماله المعلوم على سبيل التمليك، فخرج ما إذا تبرع بمنفعته على سبيل العارية والقرض.

فالشخص -مثلاً- إذا أعطى مائة ألف ريال لرجل ديناً، فإنه تبرع له وتنازل له بإعطاء المبلغ مدةً معلومة، فهو لم يتنازل له بالإعطاء على سبيل التمليك، وإنما أعطاه ذلك على أساس أن يرد عوضاً عنه.

والعارية: لو أنه أعطاه ماله -كسيارة- وقال له: خذ هذه السيارة شهراً، أو إني مسافر وهذه سيارتي تبقى عندك أسبوعاً وأذنت لك أن تتصرف فيها أو تذهب بها. فلا يدخل هذا في باب الهدايا والعطايا.

قوله: [الموجودِ] فخرج ما ليس بموجود، كأن يهبه ثمرة بستانه للسنة القادمة، أو يهبه ثمرة البستان سنين، أو يهبه ما تحمله هذه الدابة وليس فيها حمل، فهذه هبة لشيء غير موجود، فيشترط في صحة الهبة أن تكون في شيء موجود، والشيء الغير موجود لا تصح هبته.

قوله: [في حياته] خرج بما بعد الموت -كما ذكرنا- العطايا والوصايا.

قوله: [غيرَه] وهو الموهوب له: والغير هنا نكرة، يعني: يشمل كل ما عدا الإنسان الواهب، حتى ولو من ولده، فلو وهب بنته أو ابنه، فإنه داخل في الغير، ويشمل الصغير والكبير.

فالهبة تصح في هذا كله، والغير يعتبر طرفاً ثانياً عن الشخص نفسه.

قوله: [فإن شَرَط فيها عوضاً معلوماً فبيعٌ]

الهبة تنقسم إلى قسمين:

- إما أن يهب الإنسان الشيء ولا يريد عوضاً عليه.

- وإما أن يهب الشيء ويريد عليه العوض.

فالنوع الأول: هو مطلق الهبة، يقال: هذه هبة، والنوع الثاني: يقال له: هبة الثواب. تقيَّد؛ لأنها مقصودة، ويراد منها أن يرد الموهوب له هذه الهبة.

أما بالنسبة للنوع الأول فغالباً ما يكون من الكبير للصغير، كالأغنياء إذا وهبوا الفقراء، فإنها تكون هبة، والأمر فيها واضح، أن الغني إذا أعطى الفقير غالباً لا يريد شيئاً منه في مقابل هذه الهبة، وهبة الوالد لولده ونحو ذلك، هذه كلها هبات مطلقة.

لكن هبة الثواب أن يعطي الهدية يريد أحسن منها أو مثلها، وهذا النوع من الهبات حرمه الله عزَّ وجل على نبيه، وذلك في قوله سبحانه: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] أي: لا تهب الهبة تريد ما هو أكثر منها؛ لأن هذا هو شأن الضعفاء.

وهذا النوع وهو هبة الثواب جائز، وشبه الإجماع منعقد عليه؛ لكنه محرم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الأشياء التي اختُص النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمها، وغيره من سائر الأمة لا يدخل في هذا، وحرمه الله عزَّ وجل على نبيه؛ لأنه فيها منقَصَة.

وتعرف هبة الثواب: إما بالشرط، وإما بالعرف.

بالشرط: يشترط عليه أن يرد عليه هديته، فيقول له: هذه السيارة هدية، فإن جاءتك سيارة من نوع كذا وكذا فهبها لي، هذه لها أحكام خاصة.

العرف: يدل على هبة الثواب، ومن أمثلته: ما يجري في الزواج، وهذا موجود من القديم أن الشخص يأتي في زواج قريبه ويعطيه هدية بهذه المناسبة، وجرى العرف أنه إن تزوج الواهب فإن الموهوب له يرد له هديته.

في هذه الحالة عموماً، هبة الثواب: إما أن يعطيه مثلما أعطى، أو يعطيه أفضل مما أعطى، لكن لا يعطي الأقل.

ومما يدل على هبة الثواب بالعرف: الهبة للعظماء والكبراء، إذا كانت من الضعفاء.

فمثلاً: إذا كان الإنسان غنياً ثرياً وجاءه فقير وأعطاه هدية، فإنه واضح أنه يريد منه مكافأةً، ويريد منه رداً لهذا الجميل والمعروف، فيكون حكمه حكم هبة الثواب.

والسبب في التفريق: أن هبة الثواب فيها حقوق، وجرى العرف بأن فيها حقاً للشخص الذي يهب، فلو امتنع الموهوب له وقال: لا. ما أرد، فإنه حينئذٍ يُلزم، لأن لها حكماً خاصاً بخلاف الهبة العامة، فإذا كانت الهبة جرى العرف أنها تُرَد، تردُّها وتكافئ من وهبك وأعطاك؛ سواء كان ذلك للمناسبات مثل الزواجات ومثل المولود إذا وُلد، يُعطى والده.

وفي الحقيقة: هي عادة طيبة ومحمودة؛ لأن الإنسان في زواجه قد لا ترضى نفسه أن يأخذ من الناس شيئاً على سبيل الصدقة، ولا ترضى نفسه أن يطلب ويسأل الناس، فمثل هذه الهبات والهدايا تعينه وتساعده على الزواج وإعفاف نفسه، إضافةً إلى أنها تزيد من المحبة بين الناس حتى ولو وقع من بعضهم تفريط فإنه تحت وجود وطأة هذه الأعراف يحس أنه مضطر إلى أن يحضر هذا الزواج والنكاح، وفي هذا أيضاً تحقيق لمقصود الشرع من إجابة الوليمة والدعوة.

فهبة الثواب لها حكم خاص، وسواء وقعت بالشرط أو بالعرف فإنها تكون في حكم البيع، وتكون هبة معاوضة، تتفرع عليها مسائل، سيأتي بيانها -إن شاء الله- عند تقرير المصنف -رحمه الله- أنها في حكم البيع.

على كل حال الهبة تنقسم إلى هذين القسمين: الهبة المحضة، والهبة بقصد الثواب.

وتُعْرَف الهبة بقصد الثواب: إما بالشرط، وإما بالعرف.

فإذا وقعت بالشرط فلا إشكال، يهبه ويشترط عليه الرد، وأما إذا كانت الهبة للثواب بالعرف فإنها تأخذ أيضاً حكم البيع، أما إذا كانت هبة مطلقة فلا إشكال فيها.

قوله: (فإن شَرَط فيها عوضاً معلوماً فبيع) العوض هو: المقابل، عاوض الشيءَ بالشيء إذا جعله مقابلاً له.

قال: وهبتُك هذا العسل على أن تعطيني -مثلاً- كتابك الفلاني أو على أن تعطيني كذا وكذا. وسمَّى شيئاً معلوماً، فحكمها حكم البيع.

فائدة: كوننا نحكم أنها كالبيع: أنه لو وهبه سيارةً واشترط عوضاً لها شيئاً آخر، فأعطاه ذلك الشيء ثم تبين أن السيارة الأولى معيبة، فهل يستحق الرد؟

هذه المسألة قال بعض العلماء: يستحقه. وهو الصحيح، أنها إن جرت مشارَطَةً أو أخذت حكم البيع وظهر العيب، قال له: وهبتك ساعتي على أن تهبني ساعتك. فقال: خذ ساعتي. فصارت ساعة بساعة، ثم تبين أن إحدى الساعتين فيها عيب. فيستحق الرد.

فإذاً: إذا أخذت حكم البيع جرى عليها ما يجري على البيع من أحكام، ويكون فيها الخيار على القول واللزوم.

فبيانه -رحمه الله- أن المشارطة فيها: للعوض المعلوم، ولذلك يشترط أن يكون العوض معلوماً؛ لأن البيع لا يصح بالمجهول، كما تقدم.

قوله: [ولا يصح مجهولاً إلا ما تعذر علمُه] أي: ولا تصح هبة المجهول إلا ما تعذر علمُه.

فلو قال له: وهبتُك شيئاً، فإنها لا تصح، ولا تنعقد الهبة؛ لأننا لا ندري ما هو هذا الشيء، فلا بد أن تكون الهبة بالشيء المعلوم.

إذا قال: وهبتُك سيارتي هذه، فحينئذٍ يكون وهبه معيناً، أو يهبه شيئاً يصفه وصفاً يخرجه عن الجهالة، ومن أمثلة ذلك: كانوا في القديم -مثلاً- يقول أحدهم: وهبتُك ما تنجبه جاريتي، فإن الذي تحمله الجارية وتضعه لا يُدرَى أذكر هو أو أنثى، أحي أو ميت، هذا مجهول.

وكذلك لو قال له: وهبتُك ما في بطن هذه الناقة، فإنه مجهول الوجود ومجهول السلامة ومجهول الصفات، فاجتمعت فيه الجهالة من كل هذه الأوجه.

مجهول الوجود: لأنه قد تكون الناقة منتفخة البطن ليس فيها حمل، فيكون مرضاً، وليس بحمل حقيقي.

حتى لو تأكدنا أنه جنين، فإننا لا ندري أحي هو أو ميت.

كذلك لا ندري هل يبقى حياً إلى الولادة.

ثم إذا خرج حياً بعد أن تلد الناقة، فإننا لا ندري أكامل الصفات يخرج أو ناقصها.

وبناءً على ذلك: لا تصح الهبة على هذا الوجه.

حكم جريان الربا في هبة الثواب

السؤال: هل يجري الربا في هبة الثواب حيث إنها مبادلة مال بمال؟

الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

أما بعد:

فمن حيث الأصل إذا وقعت على صورة الصرف يجري فيها، وهكذا إذا كانت مبادلةً بالمكيل والموزون، على الأصل الذي قررناه في باب الربا والصرف، فتجيء من هذا الوجه أخذاً لأحكام البيع.

فإذا حصل فيها ما يدل على الربا أخذت حكمه، وهذه ليست بعقود بيع؛ لكنها تئول إلى حكم البيع، ويجري فيها حكم الربا والبيع من الوجوه كلها على الأصل.

ومن أمثلة ذلك: لو صالحه بعوض عن مال أقرَّ به، وكان مما يدخله الصرف، وجب أن يكون يداً بيد، وأن يكون القبض في مجلس الصلح، ولا يكون هناك تأخيرٌ أو نَسَأٌ. والله تعالى أعلم.

حكم صدقة الزوجة من مال زوجها

السؤال: الزوجة إذا أعطاها زوجها مالاً للبيت والأبناء، فهل لها أن تتصدق من هذا المال أو تهديه دون إذن الزوج؟

الجواب: المرأة الرشيدة إذا أعطاها زوجها المال عليها أن تتقي الله في نفسها وفي بيتها، فتبدأ أول ما تبدأ بمن تعول، ولا يجوز لها أن تخاطر بأولادها وببيت زوجها من حيث الأصل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) فإذا كانت النفقة على حدود الحاجة ولا يمكن التصدق معها، فلا يجوز للمرأة أن تتصدق، لما في ذلك من إضاعة الحق الواجب، وحينئذٍ يُمنع ويُحظر عليها البذل والمعروف.

أما إذا كان المال في سعة وزيادة وفائض ويمكن أن تتصدق منه ولا يستضر الأولاد بذلك، فإنها تؤجر على ذلك إذا كان بالمعروف، وبشيء مقبول، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذَكَر أن الخادم الأمين والرجل المؤتمن إذا تصدق بالمعروف أُجِر كأجر صاحب المال.

فالمرأة الصالحة إذا أنفقت من مال زوجها تحتسب النفقة عند الله عزَّ وجل لا رياء ولا سمعة ودون إضرار بحقوق البيت، فإنها مأجورة كزوجها. والله تعالى أعلم.

حكم من ترك الصلاة لمرض ثم مات

السؤال: والدي -رحمه الله- قبل أن يتوفى ترك صلاة عشرة فروض لمرضه، فقد نُصِح من قِبَل الأطباء بعدم الحركة، فما الحكم، مع العلم أنه كان محافظاً على الصلاة ولا يتركها؟ أثابكم الله.

الجواب: الله المستعان! لا يجوز للمسلم أن يترك الصلاة، ولا يجوز له أن يخرجها عن وقتها إلا إذا أُذِنَ له شرعاً بذلك، كما في حالة الجمع إذا كان ممن يُرَخَّص له أن يجمع بين الصلاتين وأخَّر الأولى إلى وقت الثانية، أما غير هؤلاء فلا يجوز لهم أن يؤخروا الصلاة عن وقتها، كما قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، توعدهم الله بـ(ويل)، حتى قال بعض أئمة السلف: إنه وادٍ في جهنم لو سُيِّرَت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره، فما أضعف الإنسان أن يطيق عذاب الله عزَّ وجل!

فأمر الصلاة عظيم! لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، فضلاً عن تركها بالكلية.

أما بالنسبة للمريض: فإن أمكنه أن يصلي على حالته يصلي، في القيام والركوع والسجود، ويفعل أركان الصلاة، وأما إذا لم يمكنه فإنه يؤدي الصلاة على قدر طاقته، حتى ولو بالإيماء برأسه، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فقد قال صلى الله عليه وسلم لـعمران بن حصين -رضي الله عنه- لما ابتُلي بالبواسير: (صَلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]).

فعلى المرضى وعلى قرابة المرضى أن ينبهوهم أنهم إذا عجزوا عن أفعال الصلاة أنهم يصلون ولو بالإيماء، ولا يكلفهم الله عزَّ وجل إلا ما في وسعهم.

وأما بالنسبة للوالد فلا تملك إلا أن تدعو الله له؛ خاصةً أنك لم تتبيَّن هل صلى فعلاً أو لا؛ لأن حكمك عليه بعدم الصلاة يحتاج أن يخبرك أنه لم يُصَلِّ، فلربما كان المريض لا يتحرك ولا يتكلم، ولكنه يصلي في قرارة نفسه، ويعلم هذا الحكم، خاصةً وأنه كان محافظاً على الصلاة، ونسأل الله العظيم أن يجعل الأمر كذلك، أنه صلى ولم تستطع أن تحكم عليه بعدم الصلاة؛ لأنه كان ممنوعاً من الحركة.

أما إذا كان أخبرك بأمره، وكان يظن أن الصلاة ساقطة عنه لمكان المرض، فهذا جهلٌ، ويجعل بعضُ العلماء مثل هذه المسألة من المسائل التي يُستثنى ويُعذر فيها للجهل، وحينئذٍ يكون الحكم فيه أن أمره إلى الله تعالى، ولا يلزم الورثة في هذا الأمر شيء؛ لأن الصلاة لا تدخلها النيابة، ولا يمكن أن تُقضى عن الأموات. والله تعالى أعلم.

كيفية الجمع بين قاعدة: (قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم) وقاعدة: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)

السؤال: كيف نجمع بين هاتين القاعدتين: (قضايا الأعيان لا تَصْلُح دليلاً للعموم) و(العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)؟

الجواب: اختصاراً: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) أي: إذا نزلت آية في كتاب الله، أو حكم عليه الصلاة والسلام بحكم وكان في حادثة معينة، وجاء لفظ الآية ولفظ حكمه عليه الصلاة والسلام عاماً فإن العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه، الذي من أجله جاءت هذه الحادثة.

فمثلاً: قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، هذه الآية الكريمة -كما في الصحيحين- نزلت في كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه حيث قال: (حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنتُ أُرَى أن يبلغ بك الجهدُ ما أَرَى. ثم قال له عليه الصلاة والسلام: أطعم فَرَقاً بين ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة) أي: اذبح ذبيحة.

هذا اللفظ الذي جاء في الآية الكريمة عام، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً [البقرة:196]؛ ولكن السبب خاص؛ لأن كعب بن عجرة رضي الله عنه فرد من أفراد الأمة والحكم نزل له خاصاً وبسببه.

فنقول: العبرة بعموم اللفظ، أي: لفظ الآية، لا بخصوص سبببها.

وهكذا قضية المرأة لما جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها رضي الله عنها وأرضاها، واشتكت إلى الله، فنزلت آية الظهار، فآيات الظهار وكفارة الظهار نزلت بسبب خاص وهي قضية ثعلبة رضي الله عنه لَمَّا ظاهَر من امرأته؛ لكن لفظها عام، الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2].

فهذا عام ويأخذ حكم العموم، فـ(العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).

الخلاصة: هذه القاعدة الأولى تدل على أنه ينبغي علينا في التشريع أن نجعل الألفاظ العامة عامةً للأمة، وتشمل جميع الأمة، إلا ما خصة الشرع وأخرجه من هذا العموم.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104] هذا كله من ألفاظ العموم، مَنْ كَانَ مِنْكُمْ [البقرة:232]، وَعَلَى الَّذِينَ [البقرة:184] هذه كلها عامة.

وإذا نظرنا إلى هذه القاعدة، فإنه يشترط فيها طبعاً أن يكون هناك لفظ عام، فإذا جاء اللفظ خاصاً ومخاطَباً به المكلف بنفسه فهذا شيء آخر.

أما القاعدة الثانية: (قضايا الأعيان لا تَصْلُح دليلاً للعموم) فهذا النوع -في الحقيقة- فِعلاً يُشْكِل.

(قضايا الأعيان): القضية التي وقعت لصحابي بعينه، أو صحابية بعينها، لا تصلح دليلاً للعموم.

لما وقعت قضية اليهودي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد خزيمة بن ثابت رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته له بالدرع بشهادة رجلين، وحكم بها، مع أن الله تعالى فرض علينا في الحقوق المالية وما في حكمها شهادة الرجلين من الرجال أو عن كل رجل امرأتان.

فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة رجل واحد؛ لكنها في قضية معينة، وهي قضية خزيمة بن ثابت وقال له: (ما الذي حملك على ذلك؟ قال: أصدقك في وحي السماء ولا أصدقك في درع!) أي: إذا كنت في وحي السماء أصدقك أفلا أصدقك في درع؟! فشهد له بذلك، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.

لكن هل كل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم نجعل شهادته بشهادة رجلين؟

نقول: لا. (قضايا الأعيان لا تَصْلُح دليلاً للعموم).

هنا يتنازع العلماء ويختلفون: هل هذا الحديث نجعله قضية عين أو نجعله عاماً؟

ومن أمثلتها: مسألة رضاع الكبير. سالم مولى أبي حذيفة صحابي تربى عند أبي حذيفة وزوجته، ونشأ منذ الصغر عندهما، ولما كبر أصبح أجنبياً، وهو مولى من موالي أبي حذيفة رضي الله عنه وأرضاه، فلما أخذت أبا حذيفة الحمية، جاءت زوجته تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (ما كنا نعد سالماً إلا كواحد منا -يعني: كأولادنا- وإنه حدث ما ترى -أي: أنه أصبح أجنبياً- فقال صلى الله عليه وسلم: أرضعيه خمساً تحرمي عليه).

هذا الحديث من العلماء من يقول فيه: قضية عين لا تَصْلُح دليلاً للعموم، فليس غيرُ سالم مشاركاً لـسالم في هذا الحكم، فلا يصح للكبير أن يرتضع من امرأة.

ومنهم من قال: لا. بل الحديث أصل في أن رضاع الكبير يؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه)، فجعل المحرمية مركبة على الرضاع، والرضاع أثبت الشرع به المحرمية، فإذا ثبتت للصغير ثبتت للكبير؛ لأن النص اعتبرها للكبير.

فعندي أصل أن الرضاع يوجب التحريم، كأنه يقول: جعلته محرماً لك بالرضاع، وهذا يدل على أن العبرة بوصول اللبن، يستوي فيه الكبير والصغير؛ لأنه كما أثر في الصغير سيؤثر في غيره.

فكل من ارتضع من امرأة أو شرب لبن امرأة خمساً حرُمت عليه. هذا رأي من يقول: إنها ليست بقضية عين؛ لأنه يرى أن العلة صالحة للتعميم.

والذين توسطوا قالوا: قضية سالم فيها حرج ومشقة، وهناك أصل عام: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، قد جعل أمد الرضاعة في الحولين، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الرضاعة من المجاعة) أي: أن الرضاعة في الصغر، وقال: (ما أنشز العظم وأنبت اللحم)، وهذه كلها أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بينت أن الرضاعة تنشز العظم وتنبت اللحم، وهذا يكون في الصغر لا في الكبر.

إذاً: كيف يجعلونها قضية عين؟

من فوائد المشايخ رحمة الله عليهم أنهم ضبطوا قضية العين أن يكون هناك أصل يعارضها، فالأصل عندنا أن الرضاعة للصغير، فلما جاءت الرضاعة للكبير على خلاف الأصل استثنيت وصارت قضية عين وما في حكمه، بحيث تقول: من كان مثل سالم فله أن يفعل مثل فعل سالم .

وهذا -والله- تطمئن إليه النفس؛ لأن الكبير كابن الخال أو العم إذا نشأ في بيت خاله أو عمه، ويرى أن زوجة خاله أو عمه كأمه، ينشأ عنده شعور أنه ينظر لها بهذا المعنى، كأنها أمه وكأنه والده، فتبعُد الفتنة.

لكن لا يؤتى بشاب ويرتضع من شابة فإنه لا يؤمن أن يقعا في الحرام، ولذلك يُنْظَر إلى مقتضى الشرع؛ أن المرأة تحرجت من كون هذا كواحد من أولادها، وأنه كان بينهم من الود والتواصل والإحسان لهذا الولد ووجود الحرج للزوج، فجاء حكم الله عزَّ وجل رحمةً وتيسيراً، فنقول: كل من نشأ في بيت وتربى فيه وهو ينظر إلى هذه المرأة كأم، وينظر إلى هذا الرجل كأب، كما يحدث في الأيتام وأبناء الجيران وأبناء العمومة والخَئولة ونحوهم، فإنه يمكن أن يرتضع من هذه المرأة أو من بنت المرأة حتى يصير محرماً لهذه المرأة؛ لأنه ينزلها منزلة الأم، فيتحاشى بناتها؛ لأنهن كأخوات له، والشعور والمعنى موجدان فيه.

إذاً نقول: هذه قضية عين.

فانظر كيف يحدث الخلاف بين العلماء في قضية سالم لأنه قال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه).

لكن كيف تطبق قاعدة (العبرة بعموم اللفظ ...) ممن يقول بذلك في هذا الحديث؟

يقولون: لأن العلة دلت على التعميم، العلة هي وجود الرضاعة، كأنه يقول: المحرمية مرتبة على علة وهي الرضاع، وقد قال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه)، فصارت جملةُ (تحرمي عليه)، التي هي جملة حكمية، حكمتُ بالمحرمية لأنكِ أرضعتيه خمساً، وهذا كما ذكرنا يستوي فيه الصغير والكبير.

كذلك أيضاً الاشتراط في الحج والعمرة.

ضباعة رضي الله عنها أرادت أن تحج وهي مريضة، والأصل يقتضي أن المريض لا يحل من إحرامه من حيث الأصل؛ لأنه تعالى قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196]، فأوجب الله على المريض الفدية، فكيف يكون المرض عذراً في الفسخ، والأصل يقتضي إتمام الحج والعمرة؛ لأن الله يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]؟ فلما جاءت هذه المرأة وقالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) ذكرت في سؤالها أمراً لا يمكن اسقاطه، وهو قولها: (شاكية) معناه: أن عندها حالاً يصعب معه الحج، ومع ذلك تجشمت الحج مع وجود هذا العذر، بخلاف الذي طرأ عليه المرض بعد الدخول في الإحرام وإلزام نفسه.

فطائفة من العلماء توسطوا في هذا وقالوا: هذه قضية عين لا تصلح دليلاً على العموم، كل امرأة جاءت تحج تقول: حبسني حابس. فإذا جاء عذرها ولت وتركت إحرامها لو كان هذا سائغاً.

وقضية ضباعة وقعت قبل الإحرام في ذي الحليفة؛ لأنها وقعت بالمدينة -وهذا بالإجماع- قبل خروجه عليه الصلاة والسلام إلى ذي الحليفة؛ لأنه قال: (أهِلِّي واشترطي)، وقد خاطَبَتْه في المدينة تسأله: هل تحج أو لا تحج؟ ووقع هذا في حجة الوداع، فإذا كان قبل الحج قال لها: (أهِلِّي واشترطي إن حبسك حابس) ولَمَّا جاء عليه الصلاة والسلام إلى الميقات - كما في الصحيح من حديث عائشة - قال: (أيها الناس! من أراد منك أن يهلَّ بحج فليهلَّ، ومن أراد منكم أن يهلَّ بعمرة فليهلَّ، ومن أراد منكم أن يهلَّ بحج وعمرة فليهلَّ) وما قال: فليشترط، مع أن الناس يحتاجون للشرط؛ لاحتمال أن يحدث طارئ، والمرأة قد يصيها العذر وقد يطرأ عليها شيء؛ ولكنه لم يذكر الشرط، فهمنا من هذا أن هناك معنىً في كون المكلف يحرم بالحج أو بالعمرة مع أنه مريض ولا يتحمل صعوبة النص الذي يُلزم بإتمام الحج أو العمرة على ما هو عليه.

ونقول: الأصل في كل مسلم أن يتم حجه وعمرته لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، ونرخص في من أحرم مريضاً أن يترخص برخصة الله عزَّ وجل ويشترط.

فلا يرون إلحاق غير المريض بالمريض؛ لأنها قضية عين لا تصلح دليلاً للعموم.

وبعض العلماء يقول: قضية العين يشترط أن تكون للصحابي نفسه كما في حديث خزيمة .

لكن مثلما ذكرنا يدخل فيها نوع من التخصيص بالصورة التي ذكرناها.

وعلى هذا: فالقاعدة الأولى عامة، والقاعدة الثانية تختص ببعض المسائل بشرط وجود أصل يدل على عدم إرادة التعميم.

والله تعالى أعلم.

حكم من دخل المسجد قبل أذان الفجر ولم يوتر ولا يتسع الوقت إلا لركعة واحدة

السؤال: إذا دخلتُ المسجد قبل صلاة الفجر ولم أوتر، فهل أصلي تحية المسجد أو الوتر، علماً أن الوقت لا يتسع إلا لركعة واحدة؟

الجواب: في هذه الحالة تصلي الوتر ركعة واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (صلاة الليل مثنىً مثنىً، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة)، فأمر مَن خشي الفجر أن يوتر، وبناءً على ذلك: توتر.

هنا سؤال: هل يكون الوتر مُسْقِطاً لركعتي التحية على القول بالتداخل؛ لأن بعض العلماء يرى أن مقصود الشرع ألَّا تجلس حتى تصلي، ولما كان أقل ما يُصَلِّيه المكلفُ ركعتين من حيث الأصل العام استثنيت هذه الحالة؛ لأنه أُمِر بالوتر في هذه الحالة فيصلي، فيكون في هذه الحالة مُخَرَّجاً على هذا الوجه.

وكان بعض مشايخنا يقول: يصلي الوتر ثم إذا انتهى من وتره قام، وتكون جلسته الخفيفة من أجل السلام كجلسة الخطيب يوم الجمعة إذا جلس عند أذان المؤذن، لورود الإذن الشرعي به.

بعض العلماء يقول في خطبة الجمعة: كل خطبة عن ركعة، فإذا خطب الخطبة الأولى وجلس صار كمن أدى ركعة وجلس طبعاً.

والإشكال في هذا أنه جلس قبل الخطبة؛ لكن بالنسبة للجلسة الثانية بعض العلماء يرى أن الخطبتين قائمتان مقام الركعتين، ولذلك لا يتكلم فيهما وأُمِر بالإنصات، وترتبت عليها أحكام أشد من غيرها من الخُطَب الأُخَر، كخطبة العيد التي خفف فيها النبي صلى الله عليه وسلم ووسع فيها على الناس، لمن شاء أن ينصرف ولمن شاء أن يجلس.

حكم مخالعة الرجل لزوجته إذا لم يشترط عوضاً

السؤال: إذا طلبت المرأة من زوجها الخلع، فطلقها زوجُها بغير شرط، فهل المهر للرجل أو للمرأة؟

الجواب: الخُلع له أحكام خاصة، إذا كانت المرأة التزمت بحل عصمة الزوجية عن طريق الخُلع، يجب عليها رد المهر كاملاً.

وأما إذا طلقها الزوج بدون عوض وبدون خُلع فلا يجب عليها أن تدفع شيئاً.

مثال الصورة الأولى: تقول له: لا أريدك، فيقول لها: خالعيني، فتقول: أدفع لك مهرك، فيطلقها عند القاضي.

فهذه المسألة مسألة خُلع، ترد له المهر كاملاً.

والطلاق في حال عدم المخالعة أن تقول له: طلقني.

فيقول: لا أطلقك، فتقول: طلقني، فيطلقها، فلا يستحق شيئاً؛ لأنه لم يقع بينهما ارتباط ومعاقدة على الخُلع.

وبناءً على ذلك: فالزوج إذا طلق بمحض اختياره، أو تضرر من الزوجة فإنه لا مهر له.

ولا يجوز للمرأة أن تسأل طلاقها من زوجها -نسأل الله السلامة والعافية- بدون عذر؛ لأن في هذا وعيداً شديداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة عليها حرام، نسأل الله السلامة والعافية.

فالمرأة تتقي الله عزَّ وجل في ذلك وتبتعد عن هذه الأمور، وتطلب الخُلع بالمعروف على الوجه الذي بيَّنه الله عزَّ وجل وبينته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

حكم دخول تكاليف الزواج ضمن المهر عند المخالعة

السؤال: هل تدخل تكاليف الزواج في المهر إذا خالَعَت المرأة؟

الجواب: هذا ليس بصحيح، تكاليف الزواج لا تدخل في المهر، وهذا من أقبح ما يكون، أنهم في هذه العصور المتأخرة، يقولون: تكاليف الزواج، لأننا لم نعرف في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في قضاء الصحابة ولا في كتب أهل العلم من نص على أن تكاليف الزواج تُدفع.

تكاليف الزواج -وهذا معروف- تصل في بعض الأحيان إلى مائة ألف، وقد أخذ عوضها من الناس الذين دعاهم إلى الزواج عن طريق الهبات والهدايا، فكيف يأخذ تكاليف الزواج؟!

والحق الشرعي الذي أثبته الله عزَّ وجل في كتابه، وأثبته النبي صلى الله عليه وسلم في سنته أن المرأة لا تدفع له إلا مهرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)، هذا حكم الله عزَّ وجل، ولا جناح عليهما فيما افتدت به من زوجها.

أما تكاليف الزواج فهذا مما لا أعرف له أصلاً، لا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكل من نظر في الإجحاف الواقع على النساء بمطالبتهن بتكاليف الزواج لا يشك أن هذا تعطيل لشرع الله، فإن المرأة تتزوج في زماننا بما لا يقل عن مائة ألف في بعض الأحيان بسبب العزائم والولائم للنساء وللرجال، وقصور الأفراح وغير ذلك من الأمور الباهظة في الثمن التي تصل إلى مئات الألوف، وإذا قيل لها: ادفعي هذا المال، فإنها لن تستطيع أن تدفع ذلك.

وبناءً على ذلك: عُطِّل شرع الله بخلاصها من زوجها، والشرع جعل لها الخلاص.

وينبغي علينا أن نتأمل ونكون بعيدي النظر، فإن الزوج قد استمتع بها وأصابها واستحل فرجها، ولكن الله تكرُّماً منه وتفضُّلاً أعطاه المهر، ومع ذلك يطلب ما هو زائد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فلها المهر بما استحل من فرجها)، فجعل المهر لقاء الاستمتاع، ولذلك كان السلف والعلماء يحددون للزوج أن يترك شيئاً من المهر ولو كان من باب الكرم والفضل، حتى إن العلماء الذين أجازوا أخذ الزائد عن المهر -وأنا لا أرى جوازه- قالوا: هذا من صنيع اللئام، أما الكريم فلا يفعل هذا، ولا يقبل أن يأخذ فوق مهره ألبتة.

لكن -مع هذا- ندعو أولياء النساء إذا كان الرجل تزوج امرأة ودفع لها مهراً، وعنده ضيق في المال، والمرأة لا تريده، ودخل عليها وتكلف بعض الأشياء، فالله عزَّ وجل يقول: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، فولي المرأة إذا نظر إلى أن بنته أو أخته تسببت في الضرر عليه فلا بأس أن يساعده بالمعروف ويقف معه، فهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فيقول له: يا أخي! هذا مهرك، وهذه عشرة آلاف مني أو عشرة آلاف منا أو نحو ذلك تقديراً لظروف الزوج، فهذا شيء آخر من باب الفضل والإحسان لا من باب الفرض والإلزام. والله تعالى أعلم.

وضع اليد على الوجه عند الأذان

السؤال: هل من السنة وضع اليد على الوجه عند الأذان؟ أثابكم الله.

الجواب: ليس هناك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على سنية وضع اليدين على الوجه أو إحدى اليدين على الوجه أثناء الأذان.

والذي استحبه العلماء عملاً بما في حديث السنن: أن يضع إصبعيه في أذنيه؛ لأنه أبلغ في قوة الصوت وبلوغه، وأكثر عوناً له على ذلك. والله تعالى أعلم.

حكم القصر والجمع في المطار الذي في داخل المدينة

السؤال: لو كان المطار في داخل المدينة، فهل يجوز للمسافر أن يقصر ويجمع؟

الجواب: رُخَص السفر لا تستباح إلا بعد الخروج من آخر عمران المدينة، فإن كان الإنسان على سفر، ونوى السفر ولم يخرج من المدينة فليس بمسافر؛ لأن الضرب في الأرض الذي نص الله عزَّ وجل عليه -وهو الأصل في السفر- يقتضي الظهور والخروج، فلا يوصف الإنسان بكونه ضارباً في الأرض، ولا بكونه مسافراً إلَّا إذا أسفر، والعرب تقول: أسفر إذا ظهر، ومنه قولهم: أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته وأظهرته، وأسفر الصبح إذا بان ضوءه، كما قال تعالى: وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ [المدثر:34].

فإذا ثبت هذا فإنه لا يُحكم بجواز الرخص المتعلقة بالسفر إلا بعد الخروج من آخر عمران المدينة، فلا يجوز أن يجمع ولا أن يقصر الصلاة إلا إذا تحقق هذا الشرط، فلو أذن المؤذن قبل أن يخرج من آخر عمران المدينة لزمته الصلاة أربع ركعات، ولزمته صلاة الظهر في وقتها، فلا يصح أن يؤخرها إلى وقت العصر جمعاً؛ لأن رخصة الجمع لا يستبيحها المقيم في هذه المسألة؛ لأنه في حكم المقيم، وعلى هذا فلا بد أن يخرج من آخر العمران.

وما ورد عن بعض السلف في مسألة الصيام أنهم كانوا يفطرون وهم في داخل المدينة، أجاب عنه الإمام ابن قدامة وغيره بأن هذا اختيار منهم واجتهاد؛ لكن جماهير السلف -رحمهم الله- من الصحابة والتابعين والأئمة على أن رخص السفر لا تستباح إلَّا بعد الظهور والبروز. والله تعالى أعلم.

حكم استعمال الزيت لتنعيم وتطويل الشعر

السؤال: ما حكم استعمال زيتٍ فيه دواءٌ لتنعيم الشعر للمرأة أو تطويله؟

الجواب: لا بأس للمرأة أن تستعمل الدهون الطاهرة والمباحة لتسريح شعرها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرجِّل شعره، وكما في حديث النسائي ، قال عليه الصلاة والسلام: (اكتحلوا ...) وهو حديث ضعيف؛ لكن هناك حديث أقوى منه في تسريح الشعر: : (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم) أي عليه ألَّا يَدَّهن كل يوم، ولا يسرح شعره كل يوم لما فيه من المبالغة في الترف.

وإذا ثبت هذا، فمن حيث الأصل يجوز، والتي تحظر هي الدهون النجسة، المشتقة من الميتات، أو التي تكون من المخدرات كالحشيش، فإن زيوت الحشيش تؤثر في الشعر، تجعله ناعماً، وهي محرمة، ونحوها من الزيوت المحظورة، لأنها مواد نجسة أو مخدِّرة، وكلها لا يجوز استعماله.

إضافةً إلى أن الأطباء ذكروا أن تسريح الشعر؛ لأن الجلد يمتص هذه الأشياء، ولذلك -والعياذ بالله- قد يسبب الإدمان في بعض الأحيان، كما ذكر لي بعض الأطباء أن زيت الحشيش ينفذ إلى الجسم، حتى إن بعض من يستعمله ويداوم لو تركه يوماً من الأيام يصيبه الصداع، وتحدث له أعراض قريبة من أعراض الإدمان.

فتُتَّقَى مثل هذه الأنواع من الزيوت والمستحضرات التي لا يجوز استعمالها ولا استخدامها.

والله تعالى أعلم.

نصيحة للزوجة التي تتضجر من زوجها لطلبه العلم

السؤال: ما نصيحتكم للزوجة الملتزمة التي تتضجر من زوجها أثناء طلبه للعلم، وتتمنى لو لم تتزوج طالب علم وتقف أمامه عائقاً في طلبه؟

الجواب: لا -والله- ليست بملتزمة! فالملتزم بشرع الله هو المحب لله والمحب لطاعة الله والمحب لكل شيء يحبب في طاعة الله عزَّ وجل، فلا توصف هذه بأنها ملتزمة صادقة في التزامها!

وهل هناك أفضل وأكرم وأحب إلى الله بعد الأنبياء من العلماء العاملين؟!

وهل هناك سبيل للعلم إلا بطلب العلم؟!

فتضجرها من العلم وكراهتها له وقولها بلسانها أنها تتمنى أنها لم تتزوج طالب علم -نسأل الله السلامة والعافية ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان- ينافي التزامها.

والمحروم من حُرِم الثواب: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله عزَّ وجل ما يلقي لها بالاً).

ما هو العلم؟!

العلم: قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام.

فإذا كانت قالت: يا ليتني لم أتزوج بعالم أو طالب علم، فإن هذا من أعظم العقوق من الزوجة لزوجها؛ لأن هذه الكلمة تخرج من المرأة ولا تدري ما الذي يترتب عليها، من تحقير ما أمر الله بتوقيره، وإذلال ما أمر الله بإعزازه، وتحطيم لنفسية طالب العلم؛ لأنها تدمره من خلال هذه الكراهية، ومن خلال هذه الكلمات القاسية التي ربما فتنته في دينه.

فلا شك أنها كلمة عظيمة، وهذا الشأن في كل شيء فيه طاعة الله عزَّ وجل ومرضاته.

لا يجوز لأحد أن يقول مثل هذه الكلمات.

فمثلاً: لو كان عنده عامل يعمل ومحافظ على الصلوات، يقول: يا ليتني لم آتِ بك، كما يقول بعض مَن بلَغَنا عنهم من أصحاب المؤسسات الذين لهم مصالح دنيوية، إذا تخلف عمالهم في صلاة الجمعة أو الجماعة، وهو تخلف يسير ليس فيه تلاعب، أما التخلف الذي فيه تلاعب فينبغي أن نعلم أنه ليس من الصلاة، إنما هو من نفس العامل الذي ليست عنده أمانة يحفظ بها الوقت، ويأخذ الضرورة بقدر حاجتها وبقدر وقتها، فيقول: يا ليتني لم آتِ بهؤلاء العمال المسلمين. حتى يتمنى أن يكون جاء بعمال كافرين.

اللهم إنا نعوذ بك من عمى البصيرة، فمن زاغ أزاغ الله قلبه والعياذ بالله، وهذا من الزيغ؛ أن يتهكم الإنسان من طلاب العلم من أولياء الله عزَّ وجل، خاصةً إذا عُرِفوا بالتمسك بالدين وبطاعة الله عزَّ وجل أو نفع الله بهم الأمة وصلحت أحوالهم بالعلم، فهؤلاء ينبغي أن يُكْرَمُوا وأن يُجَلُّوا وأن يُعانُوا على طلبهم للعلم، وأن تُبْذَلَ كلُّ الأسباب التي تثبت أقدامهم على هذا الطلب؛ لأن الله تعالى أمر نبيه فقال له: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52]، ومن فوق سبع سماوات يعاتب نبيَّه عليه الصلاة والسلام في طالب علم: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:1-3] ما جاء للدنيا إنما جاء لطلب العلم، فعاتب الله نبيه عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سماوات في طالب علم، وعاتبه في مجلس واحد، فكيف بامرأة كلما دخل عليها زوجها تذمرت وإذا حضر مجالس العلم تسخطت وضاقت?!

إن لذة الدنيا عاجلة فانية، ولو مكث الزوج عند قدمها، وأعطاها حقها وحقوقها واستمتعت به ما شاءت، فإنه لا خير في تلك الشهوة إذا لم يباركها الله عزَّ وجل، ولا بركة في زواج ولا في شهوة ولا في لذة ما لم تكن بطاعة الله عزَّ وجل، وكم من طالب علم يُحبَس عن أهله ويُحبَس عن ولده ويُحبَس عن حقوق أهله، ولكن الله يضع البركة له في عمره وفي وقته بما لم يخطر له على بال.

فالله تولى هؤلاء، خاصةً طلاب العلم الذين عُرِفوا بالصلاح والخير ومحبة العلم محبة صادقة؛ فلا يجوز لأحد أن يخذِّلهم، حتى في المجلس، بأن تأتي تجلس فتزاحمه أو تؤذيه، فربما يكون حجرة عثرة؛ لأنه بدل أن يأتي المجلس منشرح الصدر ينقبض من تصرفاتك، حتى ولو كان بأي شيء، ولو أن تزعجه في المجلس بأصوات (الجوال)، أنا لا أبالغ، أقول هذا حقيقة، فأي إنسان كدر على طالب العلم، فسيسأله الله يوم القيامة عن ذلك؛ لأنه في روضة من رياض الجنة، والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، ووجبت محبة الله لطلاب العلم الذين جلسوا له سبحانه وتعالى ومن أجله ومن أجل طاعته سبحانه وتعالى.

فأمثال هؤلاء يُكْرَمُون ولا يُهانُون، ويُعَزُّون ولا يُذَلُّون، ويُرْفَعُون ولا يُوْضَعُون.

فلا يجوز للمرأة أن تقول هذا الكلام، وعليها أن تتوب إلى الله، وأن تستغفر الله عزَّ وجل.

وأوصي زوجاً تجرؤ امرأتُه على التهكم بالعلم واحتقاره وأذية العلماء أن يوصيها أن تلتزم بالأدب وإلا طلقها وأبدله الله خيراً منها، فإن الله تعالى أنزل من فوق سبع سماوات آيات معلومة في المنافقين الذين استهزءوا بالقراء.

فينبغي للإنسان أن يتقي أمثال هؤلاء.

وطالبُ العلم الذي يجلس مع امرأة بهذا الشكل وهو يعظها ويذكرها بالله عزَّ وجل ولم تتعظ بل زاد تمردها، وأصبح ديدناً لها، فإنه لن يستطيع أن يبقى على طلب العلم، ومسئوليات العلم بعد العلم أعظم من مسئولياته وهو طالب علم.

فغداً ستخذِّله عن الدعوة إلى الله وعن الخطب والمحاضرات وعن التضحية للناس، وحينئذٍ تُمْحَق بركة علمه إن أطاعها.

فنسأل الله العظيم أن يهدينا إلى سواء السبيل.

ثم هنا وصية أخيرة أختم بها: أنه لا يعني هذا أن نُغْفِل جانب حقوق النساء، فعلى طالب العلم أن يكون دَيِّناً تقياً يؤدي حقوق أهله، فمع طلبه للعلم يوفر لها حاجتها ولا يحوجها لأحد حتى تكره طلبة العلم، وعليه أن يرتب وقته وينظمه.

ففي بعض الأحيان يغفل الرجل عن امرأته إلى درجة أن تخشى على نفسها الحرام والفتنة، فحينئذٍ هو الذي يأثم، وعليه أن يتقي الله عزَّ وجل، وأن يحفظ للمرأة حقوقها، وأن يجمع بين طلبه للعلم وقيامه بحقوق أهله وولده.

انظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثاني رجل في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه كان يتخلف عن نصف العلم؛ لأنه كان يشهد يوماً، ويذهب إلى أهله وعمله في اليوم الثاني، وهذا لا يضر الإنسان شيئاً؛ لأن هناك حقوقاً لو ضيعها الإنسان فربما وقع في الفتنة، وضاع عليه علمُه وعملُه.

نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. وصلى الله وسلم على نبيه محمد.