شرح زاد المستقنع باب إحياء الموات [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب إحياء الموات]:

الحي ضد الميت، والإحياء لا شك أنه مما اختص به سبحانه وتعالى، فهو وحده لا شريك له الذي يحيي الموتى، لكن التعبير بالإحياء هنا نسبي، ويكون في الجمادات، حيث يقوم المكلف باستحداث العمران فيها، بناءً، أو غرساً، أو استصلاحاً، ويعتبر هذا إحياءً نسبياً، فلذلك يقول العلماء: باب إحياء الموات، فإذا كان الإحياء مما اختص به الله سبحانه وتعالى فلماذا يعبر العلماء بهذا التعبير؟ والجواب: تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال في الحديث الصحيح عنه: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) فعبر بالإحياء ولهذا توسع فيه العلماء؛ لأن المراد به: الإحياء النسبي.

وقوله رحمه الله: إحياء الموات: المراد بالموات: الأراضي البور. والأراضي التي تحيا ويحكم بإحيائها فيها تفصيل، فقد تكون الأرض ميتة لكنها ملك للغير فلا يصح إحياؤها، فالمراد بقوله: الموات: موات مخصوص؛ فهو إحياء لشيء مخصوص على صفة مخصوصة من شخص مخصوص، فليس على إطلاقه. والأصل في هذا الباب حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وجاء عن غيرها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـجابر رضي الله عنه عند أحمد في المسند، وأبي داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، وفي رواية من حديث عائشة ( وليس لعرق ظالم حق)، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول على مشروعية إحياء الأرض الميتة، وقوله: (من أحيا) صيغة من صيغ العموم، فيشمل الصغير، والكبير، والذكر، والأنثى.

ويختلف الإحياء بحسب اختلاف الأراضي وما يقصد منها، فتارة يكون الإحياء بالبناء، فإذا كان بالبناء فلا بد من وجود شيء يصدق عليه أنه إحياء بالبناء كما سيأتي، وتارة يكون بالغرس، فيغرس الأرض بالنخل أو الزروع، ويكون هذا إحياءً بالزراعة، وتارة يكون الإحياء بحفر البئر، فإذا حفر بئراً في مكان فقد أحياه، وهذه البئر قد تحفرها القبيلة من أجل سقي الدواب، وقد يحفرها الإنسان من أجل سقي دوابه، أو سقي مزرعته، حتى ولو كانت بعيدة عن مزرعته، فيكون لها حريم، وتكون لها حرمة.

وقوله: (من أحيا أرضاً): أرضاً نكرة، والنكرة تفيد العموم، وبناءً عليه أخذ بعض العلماء من ذلك عموم الأراضي، لكن المسألة فيها تفصيل كما ذكرنا، فهذه الصيغة الدالة على العموم قد جاء ما يخصصها، ويفيد أن الحكم ليس على العموم من كل وجه، وهو قوله: (ليس لعرق ظالم حق) فدل على أن الأرض إذا كانت ملكاً للغير وهي ميتة، ثم جاء شخص وأحياها، وهو يعلم أنها ملك لفلان فقد ظلمه، أو لم يعلم ثم علم واستمر مالكاً لها، فقد ظلم ببقائه، فليس له فيها حق، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس لعرق ظالم حق)، العروق تنقسم إلى أربعة أقسام -كما ذكرنا في باب الغصب- عرقين ظاهرين، وعرقين باطنين. فمن اعتدى على أرض ميتة، لأخيه المسلم، فأحياها وهو يعلم أنها ملك لأخيه المسلم، فيكون العرق منه ظالماً إما بظاهر وإما بباطن، فالعرق الظاهر الظالم يكون بشيئين: بالبناء فيها- وهذا اعتداء-، وبالغرس فيها -وهذا اعتداء-، والعرق الباطن الظالم يكون بشيئين: بحفر البئر في الأرض، وبإجراء النهر من الآبار والعيون ونحوها، فهذا كله يعتبر لاغياً شرعاً، وبينا الأحكام المترتبة على اغتصاب الأرضين، وذكرنا الوعيد الشديد الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

فالشاهد من هذا أن إحياء الأرض يشترط فيه ألا تكون الأرض ملكاً للغير، وهذا الشرط الأول.

والشرط الثاني: أن تكون الأرض خالية عن الاختصاصات، والاختصاصات المراد بها: المصالح والمرافق العامة للمسلمين، التي تعلقت بها مصالح خاصة؛ مثل الطرقات فقد تعلقت بها مصلحة المسلمين بالمشي عليها، ومثل الأماكن التي يتجمع فيها الناس داخل المدن أو حتى خارج المدن في بعض الأحيان، ومثل أن يكون هناك مكان مختص بشيء، كأن تكون هناك أماكن لرمي النفايات خارج المدينة، وهي أرض ميتة، فلا يجوز لأحد إحياؤها؛ لأنه تعلق بها مصلحة جماعة المسلمين، فلابد أن تكون الأرض ميتة بوراً، ويكون الإحياء -كما ذكرنا- بالغرس، والبناء، والحفر. ويجري مجرى الإحياء: كف الماء عن الأرض، وهذا يقع عند الفيضانات من النهر أو السيل إذا غطى المناطق الصحراوية، فقام أحد بسحب هذا الماء من منطقة منها، وهيأها حتى أصبحت صالحة للزراعة، فهذه التهيئة إحياء. وفي حكم هذا تحجير الرياض، والمراد بالرياض: الروضات التي تكون في القرى، فيتخذون فيها أماكن لزرع الحبوب على الجبال ونحوها، ويحجرونها، ولا يبنون عليها ولا يزرعونها زرعاً ثابتاً كالنخيل ونحوه، بل زراعتهم تكون موسمية في مواسم المطر، فيحجرونها بتنظيف الأرض، ويضعون بجوانبها الحجار، فهذا نوع من الإحياء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا) يشمل هذا كله.

ومعنى قول المؤلف رحمه الله (باب إحياء الموات): أي: سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بإحياء الأرض الميتة، وما يترتب لمن أحياها إذا ثبت إحياؤه لها، من حيث انتفاعه بها ومليكته لها.

وهذا الباب اعتنى به المحدثون، واعتنى به الفقهاء، فكثير من كتب الحديث اعتنت به، وأعني بكتب الحديث غير الصحيحين، التي ذكر مصنفوها حديث: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، وهم من كان هذا الحديث على شرطه، فهناك بعض الأبواب لا يوجد فيها إلا حديث واحد، فإذا لم يوجد فيها إلا حديث واحد فإن الأبواب تكون بحسب شرط المخرج، فهو ينظر إلى الحديث هل هو من شرطه أو لا؟ فإذا كان من شرطه ذكره، وإلا فلا.

قال رحمه الله تعالى: [وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم].

أي: هي الأرض المنفكة التي لا تعلق فيها بالاختصاصات، مثل الطرق، والأماكن التي يخرج الناس إليها في حال نزول المطر، والأماكن التي تكون قريبة من المدن يتنزهون فيها، والأماكن التي يرمون فيها نفاياتهم، ولذلك يقولون: هناك حريم للمدن، وحريم للبيوت، وحريم للآبار، فحريم المدن: أماكن يمنع أن يستغلها شخص لمصلحته حتى لا يضر بمصلحة الجماعة، فالأماكن التي وضعت -مثلاً- لرمي النفايات لا نقول عنها: هي ميتة، ولو جاء شخص وزرع فيها أو بنى عليها فقد أحياها! لكن نقول: فيها تعلق بمصلحة جماعة المسلمين، فلا يصح إحياؤها، وكذلك الطرق التي يمشون عليها، فقد تكون هناك طرق من أراضٍ ميتة تعتبر مسالك لنقل الناس في أسفارهم أو نقلهم داخل المدن، فلا يجوز إحياؤها، ولا يجوز التسلط عليها بحجة الإحياء، والاختصاصات تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ففي القديم كانت هناك مراعٍ، والمراعي التي تكون لإبل الصدقة تسمى حمى، يخصها ولي الأمر لدواب المسلمين؛ لأنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله فيحتاج بيت مال المسلمين إلى توفير الخيل والإبل، بحيث لو حدث حادث تكون الظهر -الخيل والإبل- جاهزة، فمثلاً لو كان بيت المال فيه ألف ناقة، فهذه الألف تحتاج إلى مرعى لتأكل منه، ولا يمكن أن تكون قريبة من المدينة إلا إذا هيئت لها أرض محمية يمنع منها الناس، فيمنع منها الخاصة لمنفعة العامة، وعلى هذا ذكروا القاعدة المشهورة: يحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، فهنا تدفع مضرة عامة بإحداث الحمى. والأصل في ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حمى النقيع، وهو على مسافة أكثر من ثلاثين فرسخاً من المدينة، وبعضهم يقول: من جهة النقيعة المعروفة الآن، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه حمى الربذة، وهي المشهورة الموجودة الآن، ومن الحمى الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم العطن الموجود في المدينة، وهو بجوار مسجد السبق، فهذه المنطقة كان يفيض عليها شعب من شعاب جبل سلع، وكانت مرتعاً مخضراً، فكان يحميها لإبل الصدقة، وهل إبل بيت مال المسلمين، فهذه كلها اختصاصات، فلو جاء أحد يحيي شيئاً من هذه الأماكن فقد عطل مصالح بيت مال المسلمين، فلا يجوز الإحياء في مثل هذا المكان الذي تعلقت به مصالح بيت مال المسلمين، كالطرقات ونحوها.

وقوله: (وملك معصوم) أي: لا يتعلق به ملك معصوم، فإذا كانت الأرض التي يراد إحياؤها ليست ملكاً لأحد، خالية عن الاختصاص؛ جاز إحياؤها، لكن إذا كانت ملكاً لأحد؛ فإما أن تكون ملكيته لها بالشراء، وإما أن تكون ملكيته لها بالإحياء، فلو أن شخصاً جاء إلى أرض بيضاء وبنى عليها أو غرس فيها، ثم تبين أنها ملك لغيره، فلا نقول ببطلان الإحياء إلا بالتفصيل، فإن كانت هذه الأرض ملكها السابق بالشراء فحينئذ الإحياء لاغٍ؛ لأن يده ثبتت عليها بالشراء والملك، لكن لو كان السابق ملكها بالإحياء، ثم عطلها حتى ماتت، ثم جاء الثاني وأحياها؛ ففيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، هل يبطل الإحياء الثاني الإحياء الأول أم لا؟ فعند بعض العلماء وبعض أئمة السلف رحمهم الله كالإمام مالك وغيره من فقهاء المدينة: أن من أحيا أرضاً، ثم تخلى عنها حتى رجعت بوراً، رجعت كما كانت لعامة المسلمين، فمن سبق إليها وأحياها فهي ملك له. وهذا القول من يتأمل فيه يجد أن فيه مصلحة عظيمة، خاصة في هذا الزمن الذي تجد الشخص فيه يأتي ويتكلف حتى يحيي الأرض ويأخذ الصك عليها، ثم بعد ذلك يتركها، والشريعة ما شرعت الإحياء لفراغ، وإنما شرعته لمصالح الجماعة؛ كي تحفز الناس لما فيه مصلحتهم، فيبني الرجل مثلاً بيتاً، أو يجعل له مزرعة فينفع وينتفع، لكن أن يأتي ويعطل هذه الأرض، فيقيم عليها مسكناً أو بناءً ثم يأخذ الصك، ثم تصبح الأرض جرداء بيضاء ما فيها شيء، ثم كل من جاء ليحييها يقول له: لا؛ هذه الأرض لي، وقد قضى القاضي لي بها، فهذا يضر بمصالح الناس، ويخرج مقصود الشرع من الإحياء، فمقصوده عمران المدن، ووجود الزرع، أما هذا الإحياء فهو تعطيل للناس، وإذا قلنا: إذا ماتت الأرض المحياة فتبقى في ملك من أحياها، فهذا القول فيه نظر، وظاهر الدليل: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له). يقوي القول بأنه يملكها، لكن الأمر لا يخلو من نظر لما ذكرناه من جهة المعنى.

بينا المراد بإحياء الموات، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإذن بإحياء الموات، وقد قصدت الشريعة الإسلامية من تمليك المحيي للأرض مساعدة الناس ومعونتهم، والرفق بهم، وإحياء الموات يعين على حصول الخير لعموم المسلمين وخصوصهم، فيحصل الخير لعمومهم بإحياء الأراضي بالزراعة، فيستغني المسلمون عن غيرهم بوجود الزرع والنبات، وكذلك يكون فيه منفعة خاصة للمحيي، كما لو بنى بيتاً ليسكنه، ويستر عورته، ويكون فيه الرفق له ولأهله.

ومن عادة العلماء رحمهم الله في هذا الباب أن يبينوا بعض المسائل التي تفرعت عن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إحياء الموات، وهذه الأحاديث منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف، والضعيف منها شهدت الأصول باعتباره، أو جرى عمل السلف رحمهم الله به، ولذلك يعتنون ببيان أمور منها:

أولاً: من الذي يحيي الأرض؟ ومن له حق الإحياء؟

ثانياً: ما هي الأرض التي يجوز إحياؤها، وإذا أحياها إنسان حكم بملكيته لها؟

ثالثاً: ما هي حقيقة الإحياء التي اشترطها عليه الصلاة والسلام للحكم بملكية المحيي؟

كما يبينون حقيقة الإحياء؛ لأنها تختلف بحسب اختلاف المقاصد، فإحياء الأرض بالزراعة يحتاج إلى ضوابط، وإحياء الأرض بالبناء يحتاج إلى ضوابط؛ ومن هنا لزم بيان هذه المسائل في باب إحياء الموات.

وبعض أهل العلم يلحق بمسائل إحياء الموات مسائل (الاختصاصات)، كمن جلس في مكان عام لكل الناس لمصلحة مثل المسجد؛ فمتى يحكم بكونه أحق بالجلوس في هذا المكان؟ وهكذا من جلس في طريق، فوضع بضاعته ليبيعها، وعرضها وبسطها على الأرض؛ فمتى يكون أحق بهذا المكان من غيره؟

ونحو ذلك من المسائل، التي يذكرونها في باب إحياء الموات؛ لأنها وإن كانت استحقاقاً خاصاً لمدة معينة، فهي في حكم الإحياء من جهة الاستحقاق.

حكم إحياء الكافر للموات

قال رحمه الله: [ فمن أحياها ملكها ].

فمن أحيا الأرض الميتة بالزراعة -وسنبين كيف يكون الإحياء بالزراعة- أو بالبناء فيها فقد ملكها، أي: حكم له بها، فيكون مالكاً لها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، فدل قوله: (فهي له) على أنه يملكها.

وقد ذكر المصنف القاعدة العامة: (من أحياها ملكها) أي: حكم الشرع له بملكيتها، فلو نازعه أحد بعد إحيائه إياها، وثبوت ملكيته لتلك الأرض؛ فإنه لا يستحق شيئاً من تلك الأرض، وإنما هي ملك لمن أحياها.

قال رحمه الله: [ من مسلم وكافر ].

(من) بيانية، أي: سواء كان المحيي مسلماً أو كافراً، والمسلم إذا أحيا مواتاً في أرض المسلمين فلا إشكال في ملكيته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، لكن هل يجوز للكافر الإحياء في بلاد المسلمين؟ والبلاد التي يكون فيها كفار معاهدون أهل ذمة، فأحيا أحدهم أرضاً مواتاً فيها، فهل يملكها؟

اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، فمنهم من يقول: الكافر لا يحيي في أرض المسلمين ألبتة، وليس له حق إحياء أرض في أرض المسلمين حتى ولو كان من أهل الذمة؛ لأن المسلمين قد فتحوا هذه الأرض وأصبحت تابعة للمسلمين، فلا إحياء لكافر؛ لأن مقصود الشرع أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فأحل الله لأهل الكتاب إذا صالحوا المسلمين أن يبقوا في ديارهم، وأن يتركوا على ما هم عليه، لكن لا يتوسعوا وتصبح لهم شوكة بسبب إكثارهم من ملكية الأراضي، وأشد من هذا وأعظم إذا جاءوا إلى بلاد المسلمين، وأرادوا الإحياء فيها، وبالأخص في جزيرة العرب، فإن النص فيها واضح؛ ولذلك لم يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر اليهود حينما كانوا بخيبر، ولم يحكم لهم بإحياء، بل قال عليه الصلاة والسلام ليهود خيبر -كما في الصحيحين- لما عاملهم على سقي الأرض: (نقركم فيها ما شاء الله)؛ فلم يجعلهم ثابتي اليد على الأرض، ولم يجعل لهم سلطاناً عليها.

وعلى هذا: فالقول بأن الكافر لا إحياء له قول صحيح، وهو مذهب الشافعية وطائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، ومقاصد الشريعة تدل على ذلك؛ لأن من مقصود الشرع: أن يكون الكافر تحت المسلم، وألا يكون له سلطان على المسلم، ولو فتح لهم مثل هذا -خاصة في بلاد المسلمين- فإن الشوكة تكون لهم، وتكون لهم القوة، وقد يضر ذلك بمصالح المسلمين، وقد يضيق هذا على من يريد الإحياء من المسلمين؛ وعلى هذا لا يفتح لهم الباب، والقول بمنعهم هو الأوجه والأرجح.

ومن أهل العلم من أحل لهم الإحياء مطلقاً، وهو قول المصنف رحمه الله، ومن أهل العلم من قيد ذلك فقال: إذا أذن لهم الإمام أن يحيوا في ديارهم فلهم ذلك، ولهم أن يملكوا، وإذا لم يأذن لهم فإنهم لا يملكون. والقول بعدم فتح باب الإحياء لهم أصح، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قال: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه)، وهم إذ ذاك أهل ذمة وتحت سلطان المسلمين، وقد فصلنا هذه المسائل في باب أحكام الذمة، وبينا أن مقصود الشريعة التضييق عليهم حتى يسلموا، فإذا نظرت إلى حكمة الشرع في أن الذمي إذا كان تحت حكم المسلمين لا يبدأ بالسلام، وإذا مشى في الطريق اُضطُر إلى أضيقه، ولا يرفع داره فوق دار المسلمين، ولا يكون لهم شعار ظاهر، فيصبح الشعار والظهور كله للإسلام؛ فيحس الذمي بالذلة والصغار، وهذا هو مقصود الإسلام؛ ولذلك قال تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، فإذا شعروا بالذلة والصغار فإن ذلك يدفعهم لاعتناق الإسلام، وينفر ذلك المسلم عن الردة، حتى حديثي الإسلام يتألف قلوبهم إلى الإسلام بما يكون من حسن المعاملة، والتضييق عليهم إنما جاز للضرورة، وقد نبه على هذا الإمام ابن القيم رحمه الله في كلامه على بعض المسائل التي اختلف فيها في مساواة الذمي بالمسلم.

فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يكون للكفار ملك بالأحياء في بلاد المسلمين.

ومن أجازوا ذلك استدلوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، والعموم يخصص بالشريعة العامة، وخاصة في هذا الزمان، فلا يشك المسلم بحصول الضرر لحرص الكفار على التمكن من ديار المسلمين، ولا مانع من تخصيص العموم، إذ أن العموم خوطب به المسلمون، وإذا كان المخاطب به هم المسلمون فالحكم يكون لهم، وعلى هذا: لا يدخل أهل الذمة في هذا العموم، فهو عام مخصص بعرف الشرع أي: أن الشرع جعل الخطاب للمسلمين وقال: (من أحيا)، ومما يؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) أي: بشرط ألا يكون فيها حق لمسلم، وأراضي المسلمين التي لم تحيا وهي في بلادهم ملك لعامة المسلمين، وإذا مكن الكافر منها فلا شك أنه يخالف مقاصد الشريعة العامة، فالعموم هنا لا يخلو من نظر كما ذكرنا.

قال رحمه الله: [ بإذن الإمام وعدمه ].

أي: سواء أذن الإمام أو لم يأذن.

قال رحمه الله: [ في دار الإسلام وغيرها ].

أي: سواء أحيا في دار الإسلام أو في غير دار المسلمين كدار الحرب، فإذا كان الكفار ممن وقع بينهم وبين المسلمين حرب، وأحيا مسلم داراً فيها؛ فإنه يملكها.

وقد ذكرنا مسألة: إذا فتحنا بلاد الكفار، وكان فيها ملك للمسلمين، فهل ترتفع عنها يد المسلم لكونها صارت مفتوحة عنوة أو لا؟ فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الجهاد.

قال رحمه الله: [ والعنوة وغيرها ].

أي: سواء فتحت عنوة أو فتحت صلحاً.

ضوابط إحياء الموات

قال المصنف رحمه الله: [ ويملك بالإحياء ما قرب من عامر إن لم يتعلق بمصلحته ].

الأراضي التي يقع عليها الإحياء الأصل أنها تكون خارج المدن، أما ما داخل المدن فالغالب فيها أنها مملوكة أو أنها من مصالح المسلمين ومرافقهم العامة، فالمناطق التي تحيا غالباً تكون في ضواحي المدن، وضواحي المدن تنقسم إلى قسمين: ما قرب من المدينة، وما بعد عنها. أما القريب منها فلا مجال لإحيائه إن كان هذا القريب متصلاً بالمدينة، وتتعلق به مصالح أهلها، فلا يفتح باب الإحياء فيه، ولا يُمكَّن أحد من الإحياء فيه، مثل الأماكن القريبة من المدن التي يرمي فيها الناس الفضلات والنفايات، أو الأماكن التي للفروسية والسباق بالخيول كما كان في القديم، أو أماكن اعتاد الناس أن يخرجوا ويتنزهوا فيها، وعرف أنها متنزه للناس، وقد كان العقيق -مع أنه داخل حدود المدينة- متنزهاً للصحابة رضي الله عنهم، وكانوا إذا نزل الغيث خرجوا إليه، وأثر هذا عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قريب من المدينة، لكنه يعتبر متنزهاً ومتنفساً للناس فلا يملك؛ لأن تمليكه لمن يحييه يضر بمصالح المسلمين، فكل ما كان قريباً لا يمكن تمليكه لمن يحييه إذا أضر بالمصالح.

ومن هنا نعلم أنه لا يصح الإحياء في عرفات بالنسبة لأهل مكة، مع أنها خارج حدود الحرم، وهذا مبني على أنها مشعر، وإحياؤها يضر بمصالح المسلمين، وهكذا منى ومزدلفة، فجمهرة العلماء رحمهم الله سلفاً وخلفاً على أنها لا تملك، ولا يملك أحد أرضاً فيها مهما كان، ولو ادعى أنه يريد إحياؤها فلا ملكية له ولا عبرة بهذا الإحياء؛ لأن منى مناخ من سبق، وتمليكها يضر بالناس في مشاعرهم؛ لأنها هيئت وأعدت من أجل أداء المناسك، فلا يملك أحد فيها ألبتة، واختار هذا القول سماحة الشيخ العلامة الإمام الجليل محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله برحمته الواسعة كما في فتاويه، ونبه أنه لا ملكية لأحد في هذه المشاعر، ولا يثبت لأحد استحقاق الملك فيها، ولا شك أن هذا القول هو القول الحق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (منى مناخ من سبق)، فيتضرر بالإحياء فيها الحاج الذي يؤدي المناسك، فلا يملك أحد شيئاً في هذه المواطن؛ لأنها جعلت لعموم المسلمين، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه أحيا شيئاً فيها؛ لأنها ليست من جنس ما يمكن الإحياء فيه.

وهل هناك مصلحة في مضايقة من يؤدي هذا الركن العظيم من أركان الإسلام؟! فلذلك لا شك أن المشاعر ليست من الأماكن التي يحيا فيها، وهكذا بالنسبة للمتنزهات، ومواقف السيارات القريبة من المدن، ونحو ذلك، فهذه كلها لا تملك بالإحياء، ومن أراد الإحياء فليذهب إلى غيرها، وهذا مبني على القاعدة التي نبه عليها العلماء، وهي: الضرر يزال، فلو أننا قلنا بشرعية الإحياء مطلقاً لتضرر من يرتفق بهذه المصالح، والضرر لا يسمح به، بل الشريعة تأمر بزواله، ومما يدخل في هذه القاعدة -كما ذكر العلماء- أن يكون هناك مرفق لجماعة المسلمين، فيريد شخص مصلحةً خاصة من هذا المرفق بحيث يضر بالجماعة، فهي مصلحة فرد تضر بالجماعة، فهل نقدم مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة أم نقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد؟ لا شك أن حكم الله عز وجل أن تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، فكيف إذا كانت مصلحة الجماعة دينية شرعية؟! فالحكم بها أولى وأحرى، ومما يدخل في هذه القاعدة ما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات أنه إذا رخّص التاجر سعر السلعة وحصل الإضرار بالسوق، فلا يقر؛ فهي مصلحة فرد يحصل بها الضرر للجماعة، فلا تقر الشريعة هذه المصلحة الخاصة بضرر عام، وإنما تدفع الضرر العام بالضرر الخاص، ومن قواعدها: إذا تعارضت مفسدتان إحداهما أعظم من الأخرى روعيت العظمى بارتكاب الصغرى.

قال رحمه الله: [ فمن أحياها ملكها ].

فمن أحيا الأرض الميتة بالزراعة -وسنبين كيف يكون الإحياء بالزراعة- أو بالبناء فيها فقد ملكها، أي: حكم له بها، فيكون مالكاً لها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، فدل قوله: (فهي له) على أنه يملكها.

وقد ذكر المصنف القاعدة العامة: (من أحياها ملكها) أي: حكم الشرع له بملكيتها، فلو نازعه أحد بعد إحيائه إياها، وثبوت ملكيته لتلك الأرض؛ فإنه لا يستحق شيئاً من تلك الأرض، وإنما هي ملك لمن أحياها.

قال رحمه الله: [ من مسلم وكافر ].

(من) بيانية، أي: سواء كان المحيي مسلماً أو كافراً، والمسلم إذا أحيا مواتاً في أرض المسلمين فلا إشكال في ملكيته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، لكن هل يجوز للكافر الإحياء في بلاد المسلمين؟ والبلاد التي يكون فيها كفار معاهدون أهل ذمة، فأحيا أحدهم أرضاً مواتاً فيها، فهل يملكها؟

اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، فمنهم من يقول: الكافر لا يحيي في أرض المسلمين ألبتة، وليس له حق إحياء أرض في أرض المسلمين حتى ولو كان من أهل الذمة؛ لأن المسلمين قد فتحوا هذه الأرض وأصبحت تابعة للمسلمين، فلا إحياء لكافر؛ لأن مقصود الشرع أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فأحل الله لأهل الكتاب إذا صالحوا المسلمين أن يبقوا في ديارهم، وأن يتركوا على ما هم عليه، لكن لا يتوسعوا وتصبح لهم شوكة بسبب إكثارهم من ملكية الأراضي، وأشد من هذا وأعظم إذا جاءوا إلى بلاد المسلمين، وأرادوا الإحياء فيها، وبالأخص في جزيرة العرب، فإن النص فيها واضح؛ ولذلك لم يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر اليهود حينما كانوا بخيبر، ولم يحكم لهم بإحياء، بل قال عليه الصلاة والسلام ليهود خيبر -كما في الصحيحين- لما عاملهم على سقي الأرض: (نقركم فيها ما شاء الله)؛ فلم يجعلهم ثابتي اليد على الأرض، ولم يجعل لهم سلطاناً عليها.

وعلى هذا: فالقول بأن الكافر لا إحياء له قول صحيح، وهو مذهب الشافعية وطائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، ومقاصد الشريعة تدل على ذلك؛ لأن من مقصود الشرع: أن يكون الكافر تحت المسلم، وألا يكون له سلطان على المسلم، ولو فتح لهم مثل هذا -خاصة في بلاد المسلمين- فإن الشوكة تكون لهم، وتكون لهم القوة، وقد يضر ذلك بمصالح المسلمين، وقد يضيق هذا على من يريد الإحياء من المسلمين؛ وعلى هذا لا يفتح لهم الباب، والقول بمنعهم هو الأوجه والأرجح.

ومن أهل العلم من أحل لهم الإحياء مطلقاً، وهو قول المصنف رحمه الله، ومن أهل العلم من قيد ذلك فقال: إذا أذن لهم الإمام أن يحيوا في ديارهم فلهم ذلك، ولهم أن يملكوا، وإذا لم يأذن لهم فإنهم لا يملكون. والقول بعدم فتح باب الإحياء لهم أصح، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قال: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه)، وهم إذ ذاك أهل ذمة وتحت سلطان المسلمين، وقد فصلنا هذه المسائل في باب أحكام الذمة، وبينا أن مقصود الشريعة التضييق عليهم حتى يسلموا، فإذا نظرت إلى حكمة الشرع في أن الذمي إذا كان تحت حكم المسلمين لا يبدأ بالسلام، وإذا مشى في الطريق اُضطُر إلى أضيقه، ولا يرفع داره فوق دار المسلمين، ولا يكون لهم شعار ظاهر، فيصبح الشعار والظهور كله للإسلام؛ فيحس الذمي بالذلة والصغار، وهذا هو مقصود الإسلام؛ ولذلك قال تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، فإذا شعروا بالذلة والصغار فإن ذلك يدفعهم لاعتناق الإسلام، وينفر ذلك المسلم عن الردة، حتى حديثي الإسلام يتألف قلوبهم إلى الإسلام بما يكون من حسن المعاملة، والتضييق عليهم إنما جاز للضرورة، وقد نبه على هذا الإمام ابن القيم رحمه الله في كلامه على بعض المسائل التي اختلف فيها في مساواة الذمي بالمسلم.

فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يكون للكفار ملك بالأحياء في بلاد المسلمين.

ومن أجازوا ذلك استدلوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، والعموم يخصص بالشريعة العامة، وخاصة في هذا الزمان، فلا يشك المسلم بحصول الضرر لحرص الكفار على التمكن من ديار المسلمين، ولا مانع من تخصيص العموم، إذ أن العموم خوطب به المسلمون، وإذا كان المخاطب به هم المسلمون فالحكم يكون لهم، وعلى هذا: لا يدخل أهل الذمة في هذا العموم، فهو عام مخصص بعرف الشرع أي: أن الشرع جعل الخطاب للمسلمين وقال: (من أحيا)، ومما يؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) أي: بشرط ألا يكون فيها حق لمسلم، وأراضي المسلمين التي لم تحيا وهي في بلادهم ملك لعامة المسلمين، وإذا مكن الكافر منها فلا شك أنه يخالف مقاصد الشريعة العامة، فالعموم هنا لا يخلو من نظر كما ذكرنا.

قال رحمه الله: [ بإذن الإمام وعدمه ].

أي: سواء أذن الإمام أو لم يأذن.

قال رحمه الله: [ في دار الإسلام وغيرها ].

أي: سواء أحيا في دار الإسلام أو في غير دار المسلمين كدار الحرب، فإذا كان الكفار ممن وقع بينهم وبين المسلمين حرب، وأحيا مسلم داراً فيها؛ فإنه يملكها.

وقد ذكرنا مسألة: إذا فتحنا بلاد الكفار، وكان فيها ملك للمسلمين، فهل ترتفع عنها يد المسلم لكونها صارت مفتوحة عنوة أو لا؟ فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الجهاد.

قال رحمه الله: [ والعنوة وغيرها ].

أي: سواء فتحت عنوة أو فتحت صلحاً.

قال المصنف رحمه الله: [ ويملك بالإحياء ما قرب من عامر إن لم يتعلق بمصلحته ].

الأراضي التي يقع عليها الإحياء الأصل أنها تكون خارج المدن، أما ما داخل المدن فالغالب فيها أنها مملوكة أو أنها من مصالح المسلمين ومرافقهم العامة، فالمناطق التي تحيا غالباً تكون في ضواحي المدن، وضواحي المدن تنقسم إلى قسمين: ما قرب من المدينة، وما بعد عنها. أما القريب منها فلا مجال لإحيائه إن كان هذا القريب متصلاً بالمدينة، وتتعلق به مصالح أهلها، فلا يفتح باب الإحياء فيه، ولا يُمكَّن أحد من الإحياء فيه، مثل الأماكن القريبة من المدن التي يرمي فيها الناس الفضلات والنفايات، أو الأماكن التي للفروسية والسباق بالخيول كما كان في القديم، أو أماكن اعتاد الناس أن يخرجوا ويتنزهوا فيها، وعرف أنها متنزه للناس، وقد كان العقيق -مع أنه داخل حدود المدينة- متنزهاً للصحابة رضي الله عنهم، وكانوا إذا نزل الغيث خرجوا إليه، وأثر هذا عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قريب من المدينة، لكنه يعتبر متنزهاً ومتنفساً للناس فلا يملك؛ لأن تمليكه لمن يحييه يضر بمصالح المسلمين، فكل ما كان قريباً لا يمكن تمليكه لمن يحييه إذا أضر بالمصالح.

ومن هنا نعلم أنه لا يصح الإحياء في عرفات بالنسبة لأهل مكة، مع أنها خارج حدود الحرم، وهذا مبني على أنها مشعر، وإحياؤها يضر بمصالح المسلمين، وهكذا منى ومزدلفة، فجمهرة العلماء رحمهم الله سلفاً وخلفاً على أنها لا تملك، ولا يملك أحد أرضاً فيها مهما كان، ولو ادعى أنه يريد إحياؤها فلا ملكية له ولا عبرة بهذا الإحياء؛ لأن منى مناخ من سبق، وتمليكها يضر بالناس في مشاعرهم؛ لأنها هيئت وأعدت من أجل أداء المناسك، فلا يملك أحد فيها ألبتة، واختار هذا القول سماحة الشيخ العلامة الإمام الجليل محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله برحمته الواسعة كما في فتاويه، ونبه أنه لا ملكية لأحد في هذه المشاعر، ولا يثبت لأحد استحقاق الملك فيها، ولا شك أن هذا القول هو القول الحق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (منى مناخ من سبق)، فيتضرر بالإحياء فيها الحاج الذي يؤدي المناسك، فلا يملك أحد شيئاً في هذه المواطن؛ لأنها جعلت لعموم المسلمين، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه أحيا شيئاً فيها؛ لأنها ليست من جنس ما يمكن الإحياء فيه.

وهل هناك مصلحة في مضايقة من يؤدي هذا الركن العظيم من أركان الإسلام؟! فلذلك لا شك أن المشاعر ليست من الأماكن التي يحيا فيها، وهكذا بالنسبة للمتنزهات، ومواقف السيارات القريبة من المدن، ونحو ذلك، فهذه كلها لا تملك بالإحياء، ومن أراد الإحياء فليذهب إلى غيرها، وهذا مبني على القاعدة التي نبه عليها العلماء، وهي: الضرر يزال، فلو أننا قلنا بشرعية الإحياء مطلقاً لتضرر من يرتفق بهذه المصالح، والضرر لا يسمح به، بل الشريعة تأمر بزواله، ومما يدخل في هذه القاعدة -كما ذكر العلماء- أن يكون هناك مرفق لجماعة المسلمين، فيريد شخص مصلحةً خاصة من هذا المرفق بحيث يضر بالجماعة، فهي مصلحة فرد تضر بالجماعة، فهل نقدم مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة أم نقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد؟ لا شك أن حكم الله عز وجل أن تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، فكيف إذا كانت مصلحة الجماعة دينية شرعية؟! فالحكم بها أولى وأحرى، ومما يدخل في هذه القاعدة ما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات أنه إذا رخّص التاجر سعر السلعة وحصل الإضرار بالسوق، فلا يقر؛ فهي مصلحة فرد يحصل بها الضرر للجماعة، فلا تقر الشريعة هذه المصلحة الخاصة بضرر عام، وإنما تدفع الضرر العام بالضرر الخاص، ومن قواعدها: إذا تعارضت مفسدتان إحداهما أعظم من الأخرى روعيت العظمى بارتكاب الصغرى.

قال رحمه الله تعالى: [ ومن أحاط مواتاً ].

إحاطة الأرض وزراعتها

هنا فصل المصنف رحمه الله حقيقة الإحياء، فكأن سائلاً سأل: كيف يكون الإحياء؟ فقال رحمه الله برحمته الواسعة: (ومن أحاط مواتاً)، فالأرض إذا كانت على طبيعتها مواتاً، فلابد من فصلها عن غيرها، فالإحاطة تكون بالسور، أو برفع الأرض، أو بالتحجير بوضع جدار من الحجارة بعضها على بعض، أو من الخشب، أو الإحاطة بالأسلاك الشائكة الموجودة في زماننا، أو غير الشائكة من الزنك أو الحديد أو غير ذلك مما تحصل به الإحاطة، والمقصود فصل ما يريد إحياءه عما هو من أصل الموارد، فلابد أن يفصل أرضه؛ لأنه سيحكم له بملكية هذه الأرض، والملكية تنصب على معين لا على مجهول، فلابد -لكي نحكم له بالملكية- أن يحدد ما يحييه، ويكون التحديد -كما ذكرنا- بالإحاطة، والإحاطة قد تكون من جنس الأرض نفسها كرفع العقوم، وهو أن يرفع عقم التراب، فيحيط أرضاً مثلاً مائة متر في مائة متر، فهذه الإحاطة بالتراب نوع من الإحياء، لكن ليست كل الإحياء، فهناك مرحلتان للإحياء: المرحلة الأولى: تهيئة الأرض للإحياء، والمرحلة الثانية: إثبات الإحياء بالغرس أو البناء أو نحو ذلك، فإذا رفع عقوم الأرض، وبين عقومها، فحينئذ يشرع في الإحياء، وإذا سوى الأرض وجعلها مستوية، فجعل أعلاها مستوياً مع أسفلها، وساوى الأرض، فهذا شروع في الإحياء، وكذلك الرياض التي تكون على الجبال، وعلى مجاري الأنهار أو العيون إذا حجرها ووضع الحجارة حولها بحيث إذا جاء الماء ينحبس في نصيبه حتى يسقيه، ثم يرسل ما زاد عن حاجته، فهذا نوع من الشروع في الإحياء، وهذا الشروع في الإحياء لا يثبت الملكية، فلا يكون مالكاً بمجرد بناء سور أو بناء عقم؛ لأن من بنى سوراً على أرض لم يحيها حقيقة، إذ لو فتح هذا الباب فقد يأتي شخص إلى أرض واسعة (كيلو في كيلو)، ويبني عليها سوراً ويقول: أحييت هذه الأرض كلها!

إنما يكون الإحياء إما بالزراعة وإما بالبناء، أو نحو ذلك مما يقصد به الإحياء، ومن الإحياء أن يجمع بين زراعتها وبنائها، أو يجعلها مستودعات أو نحو ذلك، لكن مجرد بناء السور أو الإحاطة لا يكفي.

فإذا أحاط الأرض وقلنا: لا يملك بمجرد الإحاطة، فيرد سؤال: ما هي فائدة قولنا: إن الإحاطة شروع في الإحياء؟

نقول: إنه بهذه الإحاطة يكون له حق السبق، بحيث لو جاء منافس يريد أن يحيي نفس الأرض نمنعه منها، ونقول لمن أحاطها: يا فلان! أحي هذه الأرض وإلا مكنا غيرك منها.

إذاً: التحجير والإحاطة دون وجود إحياء فعلي في نفس الأرض لا يقتضي الحكم بالملكية، بل لابد من وجود الإحياء الحقيقي بزراعة أو استغلال يثبت بمثله الإحياء، فلو أنه حجر الأرض ونازعه غيره؛ قلنا: إن هذا التحجير يوجب الحكم بالسبق.

يرد سؤال: لو أن شخصاً بنى سوراً على أرض كبيرة، ولم يحدث فيها بناءً ولا زرعاً، ولم يحيها إحياءً يثبت بمثله الملكية، وتم هذا البناء للسور ومكث مدة، ثم جاء أحد يريد أن يحيي هذه الأرض، فقال له: أنا بنيت الجدار، لكنه لم يحدث شيئاً، فهل يبقى الوضع هكذا على مر السنين والدهور مع أنه قد يفعل هذا حيلة فيبني الجدار ويحجر؟

هذا يسمى التحجير، ويروى فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -وفي سنده الحسن بن عمارة ضعيف- أنه قضى فيمن حجر أرضاً ثلاث سنين، ثم لم يفعل خلال الثلاث السنوات شيئاً، أنه يمكن غيره من الإحياء، ويرفع الأول يده، فنقول له: خلال الثلاث السنوات إذا أحييت ملكت، وأما إذا لم تحي فغيرك أحق، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يؤجّل ثلاث سنوات لإحيائها بالزراعة أو نحو ذلك.

وهذا القول لا شك أنه يقفل باب الضرر الموجود في زماننا، فقد يأتي الشخص ويرفع عقم الأرض، ولا يحدث فيها شيئاً ألبتة، ويأتي الثاني ويبني جداراً على أرض ولا يحدث فيها أي إحياء، ثم يمتنع من تمكين غيره منها، فلا شك أن في هذا إضراراً وتضييقاً على المسلمين؛ وتصوّر المدينة أو القرية إذا أصبح كل شخص يبني سوراً طال أو قصر، وإذا بالناس يتباعدون، ولو أراد شخص أن يخرج خارج المدينة ليرتفق لا يجد مرفقاً أو منتزهاً إلا بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين كيلو متراً! فكأنهم حُبسوا في مدنهم! فهذا تضييق على الناس؛ ولذلك: لابد من وضع ضوابط شرعية، فلا يستغل كل شخص قضية الإحياء حتى يضيق على المسلمين في مصالحهم.

إذاً: الإحاطة لا تكفي في الإحياء، بل هذا تحجير.

حفر بئر في أرض موات

قال المصنف رحمه الله: [ أو حفر بئراً فوصل إلى الماء، أو أجراه إليه من عين ونحوها ].

الآبار على نوعين:

النوع الأول: ما يقوم على الجمة، وهي الآبار التي تكون في الأراضي الغنية بالماء، بحيث لو حفرت متراً أو مترين أو ثلاثة أمتار تمتلئ؛ لأن الأرض مليئة بالماء، فإذا حفر هذا القدر جاءت الجمة واجتمعت في البئر، فإذا نزحت الماء عادت مرة ثانية، فمثل هذا الماء إذا كان كافياً لإحياء الأرض، وكان نصف البئر المحفور يكفي ماؤه لإحياء الأرض فلا إشكال، فيحفر ويحيي الأرض، لكن إذا كان الماء قليلاً لا يكفي لإحياء الأرض، وكان من يعرف الزراعة يعرف أن هذا الماء لا يُمكِّن صاحبه أن يزرع الأرض؛ فلا يكفي هذا للحكم بإحياء الأرض.

النوع الثاني: الآبار الجوفية، فهذه ماؤها غير ماء الأولى، الأولى لو حصل جفاف -كما لو قل المطر أو قحط الناس- انقطعت مياهها لأنها سطحية، ولذلك مثل هذه الآبار السطحية خاصة في المناطق النائية التي يقل فيها الماء، لا يكون مثلها موجباً للحكم بالإحياء، وعلى القاضي أن يحتاط في مثل هذا؛ لأنه ربما خدع في وقت امتلاء البئر، فيظن أن الأرض يمكن إحياؤها بهذا القدر من الماء، والواقع أن مثل هذا لا يكفي، لكن المياه الجوفية التي يكون الماء موجوداً فيها غالباً، فإنها سبب لحياة الأرض، فمثل هذه الآبار لا شك أنها تثبت الملكية بها.

وللبئر حريم سيبينه المصنف، لكن نحن نتكلم هنا على أن حفره للبئر في الأرض التي سورها نوع من الإحياء، فإذا أرادها للزراعة أو للسكنى وحفر فيها بئراً؛ فهذا نوع من الإحياء، والبئر ينتفع بها حتى إذا كانت الأرض للسكنى، فيكون البئر للبيت كما في القديم أو للزراعة، ويكون إحياؤها بذلك الماء.

وقوله: (أو أجراه إليه من عين ونحوها) أي: أو أجرى الماء إلى الأرض المحياة من عين، أو من غيرها، كأن يحفر في مكان تتوافر فيه المياه، ويجري الماء عن طريق القناطر أو عن طريق المواسير -كما هو موجود في زماننا- إلى هذا الموضع الذي ليس فيه ماء، وقد كانوا في القديم يستقون من العيون، بواسطة القناطر والمجاري التي تأتي من العيون والخيوف وتسقي المزارع، وتجري القنطرة من بئر بعيدة أو من عين بعيدة، فإذا حفر بئراً بعيدة، وأوصل ماءها إلى نفس المكان المحيا، فإنه نوع من الإحياء.

نزح الماء عن أرض مغمورة وحبسه عنها

قال رحمه الله: [ أو حبسه عنه ].

هنا الصورة عكسية، في الأول الأرض يابسة، وهنا الأرض مليئة مغمورة، فإذا كانت الأرض مغمورة كواد في النيل أو الفرات أو دجلة، فغمر النهر الأرض، فيقوم المحيي فيحول بين الماء وبين الأرض، فيحبس الماء عن أرضه، ويضع الحواجز التي تمنعه، فتنكشف الأرض، وتصلح للزراعة، وتكون خصبة، فهذا نوع من الإحياء، فهو يكشف الماء ثم بعد ذلك يدخره حتى يستقي منه، لكن بشرط: ألا يضر بالنهر، فإذا أضر به كأن يدفن جزءاً منه فلا يحق له ذلك؛ لأن هذا التضييق سيضر بالطرف الثاني من النهر، وإذا ضاق مجرى النهر قوي دفعه على ما بعده، فيكون دفعه شديداً كحال الفيضانات والأمطار ومثل هذا اعتداء، ولذلك يحكم العلماء بأن النهر لابد له من حمى عن يمينه وعن يساره، وهما ضفتا النهر أو ضفتا الوادي، فهذه حمى لا يجوز لأحد أن يدخل فيها فيضيق مجرى النهر، ولذلك قالوا: لا يملك بالإحياء ما كان داخل مجاري السيول؛ لأنه إذا دخل مجاري السيول فإما أن يعرض نفسه للخطر، فيغرق وتغرق دوابه ويفسد ماله ويذهب زرعه، وهذا موجود، ومن سنن الله عز وجل أن من غلب على الماء في مجاري الأنهار والسيول أن الله عز وجل يسلط عليه السيول الجارفة، وإما أن يضيق مجرى النهر أو مجرى الوادي، فإذا ضيق مجرى النهر أو مجرى الوادي أضر بمن هو أعلى منه، وبمن هو دونه، فإذا كان مجرى الوادي مائة متر، فضيقه بدخوله فيه حتى صار خمسين متراً، فمعنى ذلك: أن الماء سينحبس، فإذا جاء السيل فإنه سيضر بالناس ويؤذيهم؛ ولذلك لا يجوز الإحياء بسحب الماء أو الدخول على المجاري، فهذا هو مقصود المؤلف رحمه الله، أنه لا يضر بالنهر ولا يضر بمن يستقي من النهر.

قال رحمه الله: [ ليزرع ].

اللام: للتعليل، أي: يحوط الأرض، ويحفر فيها، أو يجري لها الماء من بعيد بقصد الزراعة، فهذا إحياء للزراعة، كذلك من الإحياء للزراعة حراثة الأرض، وتنظيف الأرض من الحجارة، وتنظيفها من الشجر حتى يزرع فيها، وتكون صالحة للزرع، وكل هذا يعتبر من الإحياء.

قال رحمه الله: [ فقد أحياها ].

أي: إذا حصل منه هذا فإنه يكون محيياً لها؛ لأنه إحياء خاص، وهو الإحياء بالزراعة.