خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع باب الوديعة [2]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويقبل قول المودَع في ردها إلى ربها أو غيره بإذنه وتلفها وعدم التفريط].
بين لنا المصنف -رحمه الله برحمته الواسعة- حقيقة الوديعة وما يجب على المودَع من حفظها ومتى نحكم بخروج يد المودَع من يد الأمانة إلى يد الضمان، وبعد أن بين -رحمه الله- ذلك شرع في بيان الأحكام المترتبة على الوديعة إذا حفظت، وهذا من باب ترتيب الأفكار، أول شيء تبين ما هي الوديعة ما هي حقيقتها، فإذا بينت أن هذه وديعة، وهذه ليست بوديعة، وعرف طالب العلم حقيقة الوديعة وضبطها، يرد السؤال: كيف تحفظ الوديعة؟ ومتى تخرج يد المودَع من يد الأمانة إلى يد الضمان؟
بعد أن تعرف هذا كله، وتعرف متى يكون ضامناً ومتى يكون يكون مؤتمناً، يرد السؤال عن الحكم الثالث من أحكام الوديعة، وهو من أهم أحكامها وهو: رد الودائع. وانظر إلى حكمة الشريعة حينما قال الله سبحانه في كتابه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]. قال : إن الله يأمركم أن تؤدوا. فجاء بالحكم الأخير وهو الأداء الذي تضمن ما قبله من أحكام؛ لأنك لا تستطيع أن تؤدي الأمانة كما هي إلا حفظتها كما هي، فإذاً مسألة أداء الأمانة مبنية على حفظ الأمانة، فلا يمكن أن نقول أن فلاناً أدى أمانته على الوجه التام والكامل إلا إذا حفظها على أتم الوجوه وأكملها، الله سبحانه وتعالى ما قال: إن الله يأمركم بحفظ الأمانات وصيانتها وكذا وكذا، وأداؤها وردها إلى أصحابها، وإنما قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]. فنبه بقوله: (الأمانات) إلى حفظها، ولما قال: تؤدوا، وقال: أهلها، أثبت يدهم والملكية لهم، دل على أنه ينبغي إرجاعها إلى أصحابها، ولا يمكن إرجاعها إلى أصحابها إلا إذا سعيت في تحصيل الأسباب من حفظها وصيانتها، حتى تردها على أتم الوجوه وأكملها.
أجمع العلماء رحمهم الله على أنه يجب على الموَدع رد الوديعة، وأنه يردها كاملة غير منقوصة، وأنه إذا حدث ضرر بلا تعدٍ ولا تفريط، فإنه لا يضمنه، كما تقدم معنا، أجمع العلماء على هذا؛ أنه يجب رد الوديعة إذا طلبها صاحبها وسواء وقع طلبه قبل المدة التي حددها، أو حين تمت المدة التي حددها، أو بعد انتهاء المدة التي حددها؛ لأنها استحقاق، ولذلك قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]. فجعلها لأهلها ومستحقها وهو صاحبها الذي استحقها بتمليك الله عز وجل.
ثانياً: بالنسبة لمسألة الأداء، الإجماع منعقد على وجوب الأداء، وأن الأداء متعين عند وجود الطلب.
ويجب عليك أن تؤدي الأمانة إذا غلب على ظنك أن بقاءها عندك سيؤدي الى تلفها وفسادها، فيجب عليك أن تبادر بإخبار صاحبها وتقول له : إن بقاءها عندي فيه ضرر ولذلك خذ أمانتك ووديعتك، وتخلي مسئوليتك من هذه الأمانة والوديعة.
مثال ذلك: لو أعطاه مثلاً ما يخشى عليه الضرر كالغنم، كالهبائم وأصبح المكان الذي هو فيه سباع، أو فيه سراق أو فيه مغتصبون، وخشي أن يعتدى على هذا المال، وغلب على ظنه أنه لا يستطيع أن يحفظه، ينبغي عليه أن يخبره، ويقول له : إني أخشى على مالك، فخذ مالك من عندي، وهذا مندرج تحت الأصل العام الذي أمر فيه المسلم بالنصيحة لأخيه المسلم، من حيث الأداء ليس عندنا إشكال في أنه يجب أداء الأمانة، ولذلك: المصنف رحمه الله لم يقل: ويجب على الموَدع رد الوديعة؛ لأن هذا أمر مفروغ منه وواضح ولا يحتاج إلى تنبيه، فسكت عنه رحمه الله، لذلك يقول العلماء رحمهم الله: الوديعة أمانة.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا لم يؤد هذه الأمانة أنه يعذب بها يوم القيامة، في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه ما من صاحب أمانة إلا صورت له يوم القيامة -صور له والله على كل شيء قدير- كبيرة كانت أو صغيرة، فإن كان خائناً للأمانة مضيعاً لها قذفت في نار جهنم ثم أمر أن يحصلها، فلا يزال يحملها حتى إذا قارب أن يخرج من نار جهنم رد على عقبه -والعياذ بالله- فتدحرجت في نار جهنم فيطلبها) فيعذب والعياذ بالله لأنه خان أمانته ولم يؤدها، فالوعيد شديد، ولذلك نص بعض العلماء على أن عدم رد الودائع من كبائر الذنوب، لورود الوعيد الشديد في الآخرة. وقد تقدم معنا أن الكبيرة من ضوابطها ورود اللعنة، أو الغضب، وكل ما سماه الله كبيرة، أو توعد عليه بغضب، أو نفي إيمان، أو حد في الدنيا، أو عقوبة في الآخرة، وهذا مما رتب الله تعالى عليه العقوبة في الآخرة. فالواجب رد الودائع؛ هذا محل إجماع.
لكن يرد سؤال؛ لو قال المودَع: رددت الوديعة، وقال صاحب الوديعة: لم ترد وديعتي: وهي مسألة اختلاف المودِع والمودَع، هل نصدق صاحب الوديعة، لأن اليقين والأصل أننا متأكدون أن الوديعة أخذها المودَع أم نصدق المودَع لأنه مؤتمن؟ الجواب: الثاني، الكلمة والقول قول المودَع مع يمينه أنه رد الوديعة، فإذا قال له:رددت عليك سيارتك، فقال: ما رددتها، قال: رددت عليك ساعتك، قلمك، كتابك… إلخ، فقال: ما رددت. نقول له -للمودَع-: احلف يميناً أنك رددت الوديعة، ويقضي القاضي بهذا، بمعنى أن القول قول المودَع مع يمينه، ما الدليل على أن القول هو قول المودَع؟ الدليل على ذلك تقدم معنا في مسألة الوكالة؛ أن الشخص إذا اختار شخصاً، وأقامه مقام نفسه وكيلاً عنه فمعنى ذلك أنه قد رضي أمانته ورضي قوله له وعليه، فيما وكله وفوضه فيه. ما معنى الوكالة؟ ليس لها من معنى إلا أنه يكون له وعليه فيما وكلته فيه، وقد بينا هذا وذكرنا كلام العلماء رحمهم الله فيه. فإذا أعطاه السيارة وديعة، فقد رضي به لهذه السيارة حفظاً ورداً، فإذا قال: رددتها، فإنه مؤتمن على ردها كما أنه مؤتمن على حفظها، لذلك جمهرة أهل العلم رحمهم الله على أن القول قول المودَع أنه رد الوديعة.
الدليل الثاني من حيث ضوابط القضاء: أن القول قول المودَع، لأنه غارم، وهذا أصل عند بعض العلماء، وإن كان هناك بعض المناقشات في هذا الأصل، أن كل غارم مدعىً عليه، فيكون في هذه الحالة من يدعي عليه هو المطالب بالبينة، فنقول لصاحب الوديعة: يجب عليك إحضار البينة إذا لم يصدقك المودَع أن الوديعة ما زالت عنده، يجب عليك إحضار البينة التي تشهد بصدق قولك أن الوديعة لم ترد.
هناك وجه ثالث يقول بعض العلماء: أنه إذا قال المودَع: رددت الوديعة، وقال الآخر: لم تردها، فهذا مثبت والآخر نافٍ، ومن الضوابط عند العلماء في معرفة المدعي والمدعى عليه وجود النفي والإثبات؛ لأن الضوابط إما الأصل وإما العرف، وإما النفي والإثبات، وقد نبهنا عليه أكثر من مرة :
تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا
فالمدعي من قوله مجرد من أصل او عرف بصدق يشهد
وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يدعى
قد كان: يعني قد رد مدعي، ولم يكن؛ لم ترد مدعى عليه.
فلذلك يقولون النفي والإثبات يدل على حقيقة الدعوى ويعتبرون الصورة هنا عكسية.
(ويقبل قول المودَع في ردها إلى ربها أو غيره بإذنه): يقبل قوله في ردها إلى صاحبها، هذا شيء.
الشيء الثاني: لو قال: أنا لم أرد الوديعة إليك، وإنما رددتها إلى شخص أنت أمرتني أن أعطيه إياها، قال: من؟ قال: فلان، قال: أنا ما أمرتك أن تعطيها فلاناً، ففي هذه الحالة، إذا قال له: أمرتك، يقبل قول المودَع، إذا قال: لم آمرك، فحينئذ يكون القول قول صاحب الوديعة، فيفرق في دفعها للأجنبي، إذا أمر صاحب الوديعة بإعطاء الوديعة إلى الأجنبي قبل قول المودَع، وإذا لم يأمر فإن الأصل أن تدفع إلى صاحب الوديعة، فصرفها إلى الأجنبي لا نقبله إلا بدليل من صاحب الوديعة أنه أذن له بصرفها إلى هذا الأجنبي، فإذا قال: لم آذن لك بصرفها للأجنبي لها حكم، وإذا قال: أذنت لك بصرفها للأجنبي لها حكم، فإن قال: وديعتك رددتها عليك، قال: ما رددت وديعتي، قال: ما رددتها عليك وإنما رددتها لمحمد، نسأل: هل أمرته أن يعطي محمداً الوديعة؟ فإن قال: نعم. نقول: القول قول المودَع، فأما لو قلنا: هل أمرته أن يعطيها محمداً؟ قال: لا. نقول: القول قولك؛ لأن الأصل أن ترد الوديعة إليك.
هنا نعتبر الأصل، وهذا ما ذكرناه أن معرفة الأصول تتميز بها الحقوق ويمكن بها إنصاف الخصوم في المنازعات.
(وتلفها وعدم التفريط): يقبل قوله، وتلفها عطف، أي يقبل قول المودَع في التلف. مثلاً أعطاه مائة رأس من الغنم، فقال له: هذه مائة رأس وديعة عندك أريدك بعد سنة أن تردها إليّ، ثم أخذ المائة ووضعها بين غنمه وميزت ووضعت عليها العلامة، ثم أذن الله تعالى أن يأتي سيل واجتاح المائة من الغنم، ثم جاءه يسأله عن غنمه، فقال له: غنمك أخذها السيل، فالسيل آفة سماوية ؛ أي ليست بيد المكلف، ونحن قلنا: كل ما كان من ضرر على الوديعة ليس للمودَع أي تصرف فإنه لا ضمان عليه، إلا إذا تعدى بإدخالها إلى مكان السيل، فهذا شيء آخر، لكن نقول: إذا لم يكن له أي تعدٍ ولا أي تصرف يفضي إلى الهلاك فلا ضمان عليه؛ فلو أن هذه الغنم اجتاحها السيل، فلما جاءه وقال له: أعطني غنمي، قال له: غنمك اجتاحها السيل، فهنا نقبل قول المودَع، ونقول له: أنت مصدق فيما تقول، فلو قال صاحب الوديعة: لا أصدقك، نقول له: القول قوله بيمينه، ونقول للمودِع: أحضر بينة أن السيل لم يجتحها، فإذا أحضر شاهدين عدلين على أن السيل جاء واجتاح القرية وأن الغنم التي وضعت وديعة عند فلان كانت في المكان الفلاني عند اجتياح السيل، وأنها سليمة ليس فيها شيء، فحينئذ نقول: القول قول صاحب الوديعة، ويجب عليك أن تغرم الغنم لصاحبها. هذا المثال في القديم.
وأما في زماننا مثلاً: لو أنه أعطاه سيارته، وقال له: هذه السيارة وديعة عندك، ثم جاء بعد شهور يطالبه بالسيارة فوجدت السيارة فيها عطل أو فيها تلف، أو تالفة بالكلية، فقال صاحب السيارة: سيارتي كانت صالحة، قال المودَع: سيارتك لم أحركها، ولم تبرح مكانها، ما تصرفت فيها بشيء، إذاً التلف قضاء وقدر، هذا بناءً على قول المودَع، وصاحب الوديعة لا نقبل قوله، فنقبل قول المودَع، فلا ضمان عليه والتلف مقبول. وسواء كانت واقفة حصل عليها ضرر أو ذهبت بالكلية، فقال: سُرقت وأنا قد حفظتها وبذلت كل الأسباب لحفظها، وكل ما يقوله مما ليس فيه تعدٍ ولا تفريط، فالقول قول المودَع؛ لأنه أمين، حتى يثبت ما يدل على خيانته وتفريطه واعتدائه، فإذا ثبت ما يدل على خيانته وتفريطه واعتدائه أوخذ بذلك وانتقلت يده من يد الأمانة إلى يد الضمان. فالقول قول المودَع في الأمرين ؛ في الرد وفي التلف. إن صدقه صاحب الوديعة فلا إشكال، وإن لم يصدقه صاحب الوديعة ورفعه الى القضاء، نقول لصاحب الوديعة: أحضر بينة، وإلا حلف المودَع اليمين وسلم.
(وعدم التفريط) وعدم التفريط كما لو قال له: هذا المسجل وديعة عندك، فأخذ المسجل وحفظه عنده، ثم تلف المسجل أو سرق، فلما حصل الضرر عليه، قال صاحب الوديعة: إنك فرطت في حفظ المسجل حتى سرق، قال المودَع: ما فرطت في ذلك، أخذت المسجل ووضعته داخل غرفتي وحفظته الحفظ الذي يستحقه، وجاء السارق وكسر القفل وسرق، فحينئذ يدعي المودَع أنه ما فرط، وصاحب الوديعة يقول: قد فرطت، أنت مفرط حتى جاء السارق وأخذه، أنت تركت الباب مفتوحاً، قال: لا. بل كان مغلقاً وكسره السارق، إذا اختلفا هل فرط أو لم يفرط نقول: القول قول المودَع حتى يثبت صاحب الوديعة أنه قد فرط. هذا بالنسبة لقوله في التلف .
قال رحمه الله: [فإن قال: لم تودعني، ثم ثبتت ببينة أو إقرار ثم ادعى رداً، أو تلفاً، سابقين لجحوده لم يقبلا ولو ببينة].
ذكر المصنف في المسائل المتقدمة أن المودَع أمين ومصدق وأن القول قوله. يبقى السؤال: هل هناك صور يمكن أن لا نقبل فيها قول المودَع أنه رد الوديعة ؟ قال: نعم. ومن هذه الصور: أن يثبت ما يدل على كذبه، فكما أنه يثبت عليه ما يدل على تفريطه واعتدائه، قد يثبت ما يدل على كذبه فينتقل إلى الضمان بجحوده، كما مثل بمسألة الجحود، فيحكم عليه بالغرم.
من أمثلة ذلك : هناك مسألتان مشهورتان عند أهل العلم. قال رحمه الله فإن قال: لم تودعني، أنكر أن تكون عنده وديعة، بعض العلماء كالشافعية منهم الإمام النووي جعل هذه المسألة من أسباب الضمان؛ لأنه قسمها في الوديعة إلى تسعة أسباب، وهي الأسباب التي تقدمت معنا، بعض العلماء يجعلها أقل من ذلك؛ لأنه يدخل بعض الصور تحت ضابط يجمع أكثرها أو أغلبها فيقل العدد. الشاهد منها الجحود، والجحود أن ينكر المودَع ويقول: ما أودعتني، لا أعرف لك وديعة عندي، ما أعطيتني مسجلاً، ما أعطيتني سيارة وديعة، لاحظ الإنكار يأتي أولاً، ثم تقوم البينة وتثبت أن هناك وديعة، ففي هذه الحالة نفي الوديعة بجحوده، فإذا نفاها جاءت المرحلة التي بعدها، فيقضي القاضي أنه ضامن؛ كما لو أن شخصاً قال: أودعت محمداً سيارتي، جيء بمحمد عند القاضي، قال: هل أودعك فلان سيارته؟ قال: لا. القول قول محمد، لأنه ما عندنا دليل، ولو أعطي الناس بدعواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم؛ فلذلك لا نقبل قول المدعي، نقول لصاحب الوديعة: أحضر بينة، فلما قام صاحب الوديعة بإحضار البينة وثبت بالبينة أن محمداً قد استلم السيارة كوديعة، وأن عنده الوديعة فعلاً، إذاً ثبت عند القاضي أنه مودَع يرد السؤال؛ فحينئذ إذا ثبت أنه مودَع يجب عليه أن يرد الوديعة، فلما حكم القاضي وقال : ثبت عندي بالبينة أن فلاناً أعطى فلاناً وديعة كذا وكذا، ونحن قلنا: القول قول المودَع، فهل الآن القول قوله؟ الجواب: لا. لما ثبت كذبه بالبينة فإذا زعم بعد ذلك أنه رد الوديعة صار ضامناً، وصارت يده يد خيانة، فإذا صارت يده يد خيانة فلا قول له، ويبقى أن الأصل كونه مطالباً بالدليل على أنه رد، فلا يقبل منه القول بالرد ولا يقبل منه إذا ادعى التلف، لأنه ثبتت خيانته، ولذلك استصحب الأصل الطارئ لأنه استصحب ما طرأ وثبت بالبينة؛ لأن البينة لما شهدت دلت على كذبه، وهذا من الكذب في ظاهر الأمر، وإلا فقد يكون صادقاً، لأنه قد تكون البينة شهود زور، وقد تكون البينة مخطئة، لكن الشريعة أمرت بالحكم بغلبة الظن، لكن في الظاهر يحكم بكونه مخطئاً، كما لو رأى رجل -والعياذ بالله- امرأته تزني وامتنع من اللعان وقذفها، يقام عليه حد القذف، لكنه في الحقيقة صادق، والشاهد من هذا على أن الحكم على الظاهر، فإذا حكم بالظاهر نحكم بأنه كاذب، فيحكم بأن يده انتقلت من يد الأمانة إلى يد الضمان في هذا.
قال رحمه الله: (ثم ثبتت ببينة) ثم ثبتت الوديعة ببينة، والبينة مأخوذة من البيان، والمراد بالبينة الشهود، لأنها هي الأصل، البينة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من حيث الأصل الذي يحكم به كما قال عليه الصلاة والسلام: (البينة على المدعي)، في الشرع المراد بها الشهود، هذا مصطلح جمهور العلماء رحمهم الله وما يتبعها من الأدلة أو يقوم مقامها فهو استثناءات، لا تعارض الأصل، فإذا ثبت ببينة أو إقرار، قال: ما أخذت منك وديعة، ثم رجع وقال : أخذت منك وديعة، فيحكم على الظاهر، فلما جحد انتقلت يده من يد الأمانة إلى يد الضمانة، فسواء ثبتت الوديعة بالبينة -التي هي الشهود- أو ثبتت بالإقرار، انتقلت يده من يد الأمانة إلى يد الضمانة، وعطف المصنف هنا بقوله: (أو إقرار) يدل على أن الإقرار لا يدخل تحت مسمى البينة، والواقع أن الإقرار من وسائل الإثبات ومن البينة، بل إن الإقرار هو من أقوى الحجج، وأقوى البينات، بل إن بعض العلماء يقول: إنه سيد الأدلة؛ لأنك لن تجد أصدق من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك قال الله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ [آل عمران:81]، فإقرار الإنسان على نفسه أقوى الحجج وهو أقوى من شهادة الغير عليه؛ لأنه ربما أخطأ الغير في ظنه شخصاً آخر، ولربما كان قد عاداه وشهد عليه بالزور، وأراد به الضرر، ولربما كان مغرماً بالمال حتى شهد عليه، لكن ليس هناك مثل شهادته على نفسه، ومن هنا قال العلماء والأئمة رحمهم الله أنه لا يشهد على نفسه، ومن هنا اجتمعت جميع القرائن والحجج على صدقه وثبوت الأمر، فإذا أقر وقال: أعترف، فلا شك أنه يؤاخذ بإقراره، وما اعترف به لصاحب الوديعة.
قال رحمه الله: (ثم ادعى رداً): ثم ادعى أنه ردها، أو أنها تلفت، (سابقين لجحوده) لم يقبل، لأنه انتقلت يده إلى يد الخيانة.
(لم يقبلا ولو ببينة): (ولو) إشارة إلى الخلاف المذهبي، إذا أثبتنا أنه لا تقبل دعواه التلف إذا كان قد جحد، ولا تقبل دعواه بالرد، هل نفي قبول دعواه مطلق فلا تسمع، بمعنى أنها تسقط قضاء أم أنها لا تقبل إلا إذا قامت البينة؟ لأنك إذا قلت لا تقبل في قوله: (ولو ببينة)، معناه: أنها ساقطة قضاءً، لأن الدعوى الساقطة قضاء لا يطلب لها إثبات، وسنبين هذا إن شاء الله في كتاب القضاء. فإذا سقطت الدعوى، وكانت الدعوى بالشيء المستحيل، مثلاً شخص يعني يدعي شيئاً مستحيلاً، مثلاً يقول: مدينة جدة كلها أملكها أنا، فليس هناك أحد يملك مدينة كلها، مثلاً الشيء المستحيل عرفاً وشرعاً، فإذا كان بشيء مستحيل هذا لا تسمع أصلاً وتسقط، فلا نقول: هذا ادعى فعليه أن يحضر شاهدين عدلين على أنه يملكها؛ لأنها ساقطة من أصلها، فهذه الدعوى التي ذكرناها -يدعي أنه رد، أو يدعي أنها تلفت- هل تسقط قضاءً بحيث لا يلتفت إليها ولو قام الدليل على صدقها، أم الأمر فيه تفصيل؟
خلاف في هذه المسألة؛ المصنف رحمه الله قال: ولو ببينة، فأشار رحمه الله إلى أنها ساقطة قضاءً، يعني لا تسمع ولا يلتفت إليها.
قال المصنف رحمه الله: [بل في قوله: ما لك عندي شيء، ونحوه أو بعده بها].
المسألة الأولى إذا قال: لا وديعة لك عندي فلا نقبل قوله بالتلف والرد، والدليل على أننا لا نقبل قوله بالتلف ولا نقبل قوله بالرد إجماع العلماء، هذه مسألة إجماعية، وممن نقل الإجماع على هذه المسألة: الإمام ابن أبي هبيرة -رحمه الله- في كتابه (الإفصاح عن معاني الصحاح)، هذا الكتاب العظيم شرح فيه حديثاً واحداً، كان رحمه الله ممن أعطي الدنيا والدين، وكان وزيراً صالحاً، فكان يجمع العلماء رحمهم الله وتعرض الأحاديث والسنن، فكانت تكتب بين يديه بشرحها، ومنها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاوية : (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) شرح هذا الحديث في كتاب نفيس اسمه الإفصاح في أكثر من خمسمائة صفحة، ذكر فيه أمهات المسائل الفقهية المجمع عليها، كثير منها مجمع، وقد يشير إلى الخلافات، في مسائل العبادات والمعاملات، فكتابه رحمه الله من أنفس الكتب، وأجمعها لمسائل الخلاف، هو شبيه بنوع من الكتب يسميه العلماء برءوس المسائل، وهو أن تذكر رأس المسألة؛ اتفقوا على كذا واختلفوا في كذا؛ تبدأ في الوضوء؛ فتذكر مسائله مرتبة، ثم الصلاة، ثم الزكاة، هذه يسمونها رءوس المسائل، منها كتاب رءوس المسائل لـابن القصار ، ورءوس المسائل للقاضي أبي يعلى رحمة الله عليهم، وهذه رءوس المسائل يذكر فيها المسائل المجمع عليها، والمسائل المختلف فيها.
وفائدة هذه الكتب الفقهية في القديم، أنه كان يستعين -بعد الله- بها العلماء إذا كتبوا المطولات وبدءوا بشرح متن من المتون يريد أن يعرف المسألة إجماعية أو خلافية، يرجع إلى باب الوديعة ثم ينظر إلى المسألة الرابعة الخامسة هل هي إجماعية أو خلافية، فتختصر له، ليس فيها أدلة ولا ردود ولا مناقشات؛ لأنها منصبة على رءوس المسائل، تسمى برءوس المسائل، يذكر فيها فقط رأس المسألة، ومنها كتاب ابن القصار رحمه الله ذكر ألفاً وخمسمائة مسألة من مسائل الفقه فيها رأس المسألة فقط، فهذا الكتاب الذي هو كتاب الإفصاح ذكر فيه إجماع أهل العلم على أن المودَع إذا أنكر الوديعة وادعى الرد بعد جحوده وإنكاره أنه لا يقبل قوله لا رداً ولا تلفاً، وأنه في هذه الحالة انتقلت يده من يد الأمانة إلى يد الضمان.
(بل في قوله ما لك عندي شيء ونحوه): حتى هذه المسألة حكى عليها الإجماع، والحقيقة قول المودَع: ما لك عندي شيء، بعض العلماء يقول: لا ينبغي للقاضي أن يقبل من الخصم إذا ادعى عليه خصم شيئاً أن يقول: ما لك عندي شيء؛ لأنه اشتمل على لحن، فكأنه يعني: مالك الذي تستحقه عندي شيء، لذلك لا يقبلون قوله في الدعوى: ما لك عندي شيء؛ لأنه يلحن، ويقصد أن ماله عنده شيء ولا يقصد النفي، ولذلك لا يقبلون هذا لا جواباً للدعوى ولا يقبلونه يميناً، وإن كان في اليمين أضعف؛ لأن اليمين لو حلف وقال: والله ما لك عندي شيء، اليمين على ما يصدق فيه الخصم، خاصة في القضاء لا تنفع فيه التورية، يمين القضاء ويمين الفصل والخصومات من أشد أنواع اليمين وأعظمها على العبد بلاءً. ولذلك لا تصح فيه التورية، لذلك لو حلف بالله في مجلس القضاء وورى في يمينه لم تنفعه التورية، وهي اليمين التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين ليقتطع بها حق امرئ مؤمن وهو كاذب لقي الله وهو عليه غضبان) نسأل الله السلامة والعافية، ولذلك يقول العلماء: هي اليمين التي يقتطع بها حق، يعني التي تكون في فصل الخصومات والنزاعات، فلا يصح في مثل هذا أن يعني: مالك عندي شيء، لكن لو قلنا على أنه من حيث الأصل ما لك عندي على النفي، يصح ما لك عندي شيء، فلو قال: ما لك عندي شيء، هذا نوع من النفي لكنه نفي عام، وقد يقصد بقوله: ما لك عندي شيء، غير: ما أودعتني، وقد ينفي أنه أخذ وديعة منه البتة.
لكن لو قال: ما لك عندي شيء، وكان قد رد الوديعة، فهو ليس له عنده شيء؛ لأن الوديعة قد أعطاها إياه، وهذا يفعله بعض الناس، بعض الناس إذا أعطيته شيئاً، وقلت له: رده لي أو رده لمحمد أو زيد أو عمرو، فحينما تأتي تطالبه يقول: ما لك عندي شيء، ويقصد أن الوديعة أعطيتها لمن أمرتني بإعطائها إليه، وليس قصده الجحود الذي يراد به الكذب والاحتيال، إنما مراده الحقيقة والواقع، فمراده أنه أعطى الوديعة إلى صاحبها أو لمن أمر بدفعها إليه، وأنها ليست باقية عنده، فإذا لم تكن باقية عنده، فليس لصاحبها عليه من سبيل، فيقول: ما لك عندي شيء. وهذا النفي العام.
(أو بعده بها) بالبينة.
قال المصنف رحمه الله: [وإن ادعى وارثه الرد منه أو من مورثه لم يقبل إلا ببينة].
هذا من التسلسل في الأفكار؛ وترتيب الأفكار موجود في المتون الفقهية، فبعد أن بين المصنف أن القول قول المودَع يأتي السؤال: افرض أن المودَع توفي، فهل ورثته ينزلون منزلته، فيكون القول قولهم، ونقبل قول الورثة، بحيث لو ادعوا أن مورثهم رد الوديعة، أو هم ردوا الوديعة؟ هل نقبل قولهم أو لا؟ والجواب: لا . فإن صاحب الوديعة له حكم، ومن أُودع وهو المودَع الأصلي له حكم، وورثته لا ينزلون منزلته في هذا الحكم من جهة التصديق، والحكم لما يدعونه من الرد أو التلف، فإذا قالوا: رد مورثنا -وهو المودَع الأول- الوديعة، فقد ادعوا خلاف الأصل؛ لأن الأصل أن الوديعة موجودة عنده، فنقول: أحضروا البينة، إذا صدقهم صاحب الوديعة فليس هناك إشكال، إذا قال: مورثكم رد الوديعة وأبرأ ذمته فلا إشكال، لكن الإشكال إذا لم يصدقهم، وقال: ما رد علي وديعتي، فهم يدعون أن مورثهم رد لا نقبل، ولو قالوا: بعد وفاته رددناها، لا يقبل قولهم أيضاً إذا نفى الرد صاحب الوديعة، فلابد أن يقيموا بينة على أنهم فعلاً ردوها، لأن اليقين أن الوديعة في ذمة مورثهم فهم مطالبون بردها بعد مورثهم، فإن كانوا ادعوا أن المورث رد فعليهم أن يقيموا الدليل، فإن كانوا هم قد قاموا بردها بعد وفاته فعليهم الدليل، فلا يقبل قولهم إلا ببينة.
قال المصنف رحمه الله: [وإن طلب أحد المودعين نصيبه من مكيل أو موزون ينقسم أخذه].
وإن طلب أحد المودعين نصيبه من مكيل أو موزون ينقسم أخذه، هذه مسألة راجعة إلى المودِع، والمودِع قد يكون شخصاً، وقد يكون أشخاصاً، وتقع هذه المسألة إذا كان المودِع أكثر من شخص، مثال ذلك: لو كان هناك ثلاثة أشخاص، وعندهم مائة صاع من التمر، ولاثنين منهم نصفها، وواحد منهم له نصفها الآخر، الاثنان كل واحد منهما له ربع المائة خمسة وعشرون، والثالث له خمسون، فجاءوا ووضعوا هذه المائة صاع عند شخص، ثم فوجئ المودَع بأحدهم يقول: أعطني تمري، تمره الربع -الذي هو خمسة وعشرون صاعاً- فالوديعة مكيلة ويمكن قسمها -إذا كان التمر كله بدرجة واحدة- فحينئذ نقسم له ونعطيه حقه؛ لأن كل واحد منهم مودِع من وجه، وما دام أنهم كلهم شركاء، ومقرون بأن فلاناً يملك الربع، وفلاناً الآخر يملك مثله، وفلاناً الثالث يملك النصف، نعطي كل ذي حق حقه في أخذ الوديعة، هذه المسألة راجعة إلى رد الوديعة، ترد الوديعة الى صاحبها ويلزمك ردها إلى صاحبها إذا كان مشتركاً مع غيره في جزئه واستحقاقه، كما لو أودعك أربعة أشخاص منفصلين، وجاء كل شخص يطالب بوديعته يجب عليك أن تعطيه، فكل واحد من هؤلاء الثلاثة له نصيبه واستحقاقه، فيجوز لك أن تعطيه حقه، كما لو أودعك الأشخاص المتعددون المنفصلون كما ذكرنا.
قال: (من مكيل أو موزون منقسم) فعلى هذا لو أودعوه شيئاً لا يقبل القسمة، فالحكم غير ذلك. مثلاً خمسة أشخاص مشتركون في حصان، فلا نقسم الحصان بينهم، لأنه لا يقبل القسمة، ولا يمكن إعطاء هذه الوديعة وردها إلا للكل، فإذا طلب الكل بالرد فحينئذ يرد.
وأما إذا كان مما يقبل القسمة من المكيل والموزون وطلب أحدهم برد وديعته فإنه يرد حقه، بشرط أنه يمكن تمييزه ويقبل القسمة كما ذكرنا، لكن لو جاءوا بتمر، مثلاً قالوا:هذه المائة صاع نحن شركاء فيها، وهي مختلطة، ولا يمكن قسمتها؛ فيها التمر الجيد والتمر الرديء والتمر الوسط، ما يستطيع أن يفصل استحقاق كل واحد منهم كلهم مشتركون فيها، كما يقع للتجار إذا اشتروا الصفقات، فتكون ودائع حتى يحضروا كلهم ويطالبوا بالدفع، أو يفوض بعضهم لبعض أخذها، ويقولون: متى ما جاءك أحدنا فأعطه، فإن قالوا: متى ما جاءك أحدنا فأعطه، فيجب أن يعطيه، أما إذا قالوا: لا تعطه إلا إذا جئنا كلنا، فلا يعطيه إلا إذا جاءوا كلهم، حتى ولو كان مكيلاً موزوناً منقسماً، واتفقوا الثلاثة وقالوا: لا تعط أحدنا دون الآخر لم يعطه، محل المسألة أنه يعطيه؛ إذا كان عند الإيداع لم يمنع، ولم يشترطوا عليه مجيء الكل، وكان منقسماً قبل القسمة. لكن لو أنهم كلهم جاءوا وقالوا: لا تعط أحدنا دون الآخر، لم يجز له أن يصرف ذلك إلى أحدهم دون الآخر حتى يحضروا كلهم ويعطيهم جميعاً.
قال المصنف رحمه الله: [وللمستودع، والمضارب، والمرتهن، والمستأجر، مطالبة غاصب العين].
قال رحمه الله: (وللمستودع): هذه المسألة تابعة للمسألة التي قبل، يعني لاحظ أن عندك أكثر من شخص وجاءوا يطالبون بحقوقهم، يعني لو جاء اثنان من أربعة، أو جاء ثلاثة من خمسة، الذين دفعوا الوديعة -هم أصحاب الوديعة- بينا أنه ليس من حقه أن يدفع لأحدهم أو بعضهم حتى يحضر الكل إذا كان مما لا يقبل القسمة، أو اشترطوا عليه أن يدفع للجميع ولا يدفع للبعض . ويبقى السؤال: الفقهاء يدرجون مسألة أخرى هي مشابهة لهذه المسألة، منها: لو أن شخصاً أودع شخصاً مالاً، ثم اغتصب منه هذا المال، شخص أعطاك سيارة، فجئت وحفظتها في مكان، فجاء شخص وغصبها منك، لما غصبها منك ذهبت إلى القاضي، وطالبت الغاصب برد العين المغصوبة إليك، لما طالبت بذلك يرد السؤال: إذا كانت العين ليست ملكاً لك، فهل من حقك أن تقاضي في الوديعة؟ هل إذنه لك بحفظها يتضمن شرعية المطالبة بها إذا غصبت أو سرقت؟ الجواب: نعم؛ لأن حفظ الوديعة يستلزم ردها. فما دامت أخذت مني وأنا المودَع وملزم بردها، والله أمرني بأن أردها أنا، فحينئذ أقاضي، وأطالب بردها إلي، حتى يتحقق أمر الله عز وجل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا [النساء:58]. فأؤدي أنا، لكن لو قلنا: ليس من حق المودَع، فمن الذي سيؤدي؟ يؤدي الغاصب إلى صاحب الوديعة، فالواقع أن الاستحقاق واجب علي، ومن هنا قال العلماء: يجوز للمستودع أن يقاضي الغاصب والسارق ونحو ذلك، فيطالب بالعين المغصوبة إذا كانت وديعة.
قال رحمه الله: (والمضارب) المضاربة: أن يدفع شخص إلى آخر لكي يتجر به، والربح بينهما على ما شرطا؛ فلو أعطيت مائة ألف لشخص، وقلت له: اذهب واضرب في الأرض وتاجر بها، ذهب واشترى بهذه المائة ألف سيارات، وجاء يعرضها للبيع، فسرقت سيارة منها، أو اغتصبت فجاء يطالب، فيقول: هذه السيارات اغتصبت أو سرقت، سئل عن هذا المال، مال من؟ فقال: ليس مالي وإنما هو مال أضارب به لفلان، إذاً من المالك الحقيقي للمال؟ فلان، نقول: له حق المطالبة؛ لأنه بأخذه للمال أصبح له تعلق بهذا المال، لأن له شيئاً من الشراكة في المال، والمضارب فيه وجه أقوى من الوديعة.
(والمرتهن): إذا وضع المال رهناً، مثل العمارة أو السيارة عند شخص، وقد مر معنا في باب الرهن بيان الرهن، وحقيقته، وأقسامه، ومسائله، فلو أنه أعطاه السيارة رهناً، وقبضها ولزم الرهن، ثم اغتصبت هذه السيارة، فهل من حق المرتهن أن يقاضي بهذا الرهن أو لا؟ قال رحمه الله: والمرتهن؛ أي من حقه أن يقاضي، والسبب في ذلك تعلق حقه في هذا الرهن؛ لأن الله عز وجل شرع الرهن لكي يستوفى منه حق العاجز المديون والغريم، فله استحقاق في الرهن، وهذا الاستحقاق مبني على عجز المدين عن السداد فمن حقه أن يطالب ويقاضي.
(والمستأجر): والمستأجر كذلك، لو استأجرت سيارة لركوبها، وقلت: أريد منك هذه السيارة شهراً، فأجرتها شهراً، وجاء شخص وغصبها أيام الإجارة فمن حقك أن تقاضيه فيها، لأن لك فيها حقاً، ويدك أيضاً يد أمانة.
(مطالبة غاصب العين): مطالبة غاصب العين المرهونة، والعين المودعة، والعين المؤجرة، كلها من حقه أن يطالب، والعين التي يضارب بها، إذا كانت من مال المضاربة، كل هؤلاء من حقهم أن يقاضوا لما ذكرناه.
الإشهاد على الوديعة
الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالأصل في المسلم إذا أودعه أحد وديعة أن يحتاط في حفظ حقوق الناس، فيكتب في وصيته:أن فلاناً أودعني السيارة، أو الأرض، أو المال الفلاني، حتى لا يضيع حقوق الناس، وهذا الإلزام مبني على قول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه). فنص عليه الصلاة والسلام على الوصية، محافظة على حقوق الناس، وعدم ضياعها.
فالواجب على المسلم أن يحتاط لمثل هذا فيكتب، ويجب كتابة الوصية لمثل هذا إذا لم يكن لصاحبها بينة، أما لو كتب لصاحبها وثيقة، وشهد شاهدان بهذه الوثيقة فحينئذ تكون الوصية مستحبة وليست بواجبة، وعلى هذا يكون الحكم بالتفصيل: فالودائع إذا خشي أنه لو مات لا يعرف أهلها، ولايعرف أصحابها؛ يجب كتابة الوصية، والإشهاد عليها، والتحفظ في أموال الناس، والعكس بالعكس يكون مستحباً غير واجب. والله أعلم.
حكم عد المال قبل استيداعه
الجواب: لا شك أن هذا أحوط وأضمن، إذا كان قال له: أودعتك عشرة آلاف، أودعتك هذه الخمسة آلاف، فذكر المبلغ، أما لو قال: ضع هذا المبلغ وديعة عندك، فتنظر في الناس: إن كان الرجل تعرفه بديانته، وصلاحه، وخوفه من الله عز وجل، وأن ما وضع عندك يعرفه، ويضبطه، وتأتمنه، وتثق به، فهذا الأمر فيه سعة، أما إذا كنت لا تعرفه، أو تعرفه بضد ذلك، فالواجب عليك أن تقول له: عد المال، وتحتاط، وتتحفظ، حتى لا يكون في ذلك تعريض لك، أو لورثتك من بعدك إلى الأذية، والإضرار من صاحب الوديعة أو من ورثته. والله تعالى أعلم.
الواجب علينا تجاه المسائل الغيبية التي لا نهي فيها
الجواب: لا شك أن المشي أعظم ثواباً، وأرفع درجة عند الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد).
وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أن رجلاً كان بعيداً عن المسجد، وكانت لا تخطئه الصلاة-كانت قلوبهم معلقة بالمساجد، ومن تعلق قلبه بالمسجد أحبه الله عز وجل- فكان الرجل لا تخطئه الصلاة -يعني: لا تفوته الصلاة- فقيل له: لو أنك اتخذت بيتاً قريباً من المسجد يقيك حر الرمضاء، والهوام، فقال: ما أحب لو أن لي بيتاً بجوار بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أرجو أن يكتب الله لي الأجر في ذهابي ورجعتي، فأُخبر عليه الصلاة والسلام بقوله فقال (قد جمع الله لك بينهما)، يعني أنك لما نويت هذا، الأصل أن يكتب لك الأجر على الذهاب، لكن لما عظمت نيتك في الله عز وجل، وحسن ظنك بالكريم الذي لا يخيب من أحسن الظن فيه؛ فإن الله يجمع لك بين الأجرين؛ أجرك في الذهاب، وأجرك في الإياب.
فامتناعه من الركوب أفضل، لكن لو خشي فوات الصلاة فيجب عليه الركوب؛ لأن فضيلة الخطى منفصلة عن الصلاة، والصلاة واجبة، ثم الخطى من باب الفضائل، وبما أن تحصيل الخطى من باب الفضائل، والصلاة من باب الفرائض، فيجب عليه الركوب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، مالم يحصل له ضرر بالركوب؛ مثل: أن يكون بأجرة ولا يملكها، أو يكون فيه منة من شخص يهينه، أو يذله، فهذا لم يكلف به.
ثانياً: إذا خشي فوات الصف الأول، أو خشي فوات تكبيرة الإحرام؛ فهل الأفضل أن يركب حتى يدرك تكبيرة الإحرام؟ أو الأفضل أن يمشي ولو فاتته تكبيرة الإحرام؟
الصحيح أن الأفضل أن يركب حتى يدرك تكبيرة الإحرام؛ والقاعدة في الفضائل: إذا تعارضت الفضيلة المتعلقة بالمقصد، والفضيلة المتعلقة بالوسيلة؛ قدمت فضائل المقاصد على فضائل الوسائل، فالمشي إلى الصلاة وسيلة، ليس بمقصود، والصلاة في الصف الأول مكانة، وتكبيرة الإحرام متعلقة بالصلاة نفسها، فالأول: بمكانها، والثاني: بأركانها. فمن هنا كان تحصيله للمكان والركن المتعلق بالمقصد أولى وأحرى.
أما مسألة السيارة؛ فالأصل: يقتضي أن المسلم لا يخوض في مسألة السيارات، هل تكون على (الكفرات) أم لا؟ هذا علم غيب، ما كلفنا أن نبحث، وليس عندنا من دليل يبين، والله أعلم ما الذي يكون به الأجر، هل يجعل الأجر بوقودها؟ هل يجعل الله الأجر (بكفراتها)؟ أشياء لا نعلمها، هذا شيء أمره إلى الله، ولذلك يكف عن هذا؛ لأنه من الغيب. إذا جاء الإنسان يجتهد؛ لا بد أن يبني فرعاً على أصل، وأجمع العلماء على أن التعبديات والغيبيات ليست في مجال الاجتهاد، فوضع الثواب غيبي؛ لأن السيارة طرأت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وليست كالإبل، ولا كالبقر، لأن المحل الذي تريد أن تقيس عليه: رفع ووضع الخطى، هذا في المكلف نعم، ومع هذا: المحل نفسه ما جاء فيه قياس، ولا اجتهد فيه السلف، وأضرب لك مثلاً على ذلك: البعير؛ كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: فهل قال النبي صلى الله عليه وسلم من يخطُ خطوة برجله، أو ببعيره، ما ذكر البعير، وما ذكر المركوب البتة، مع أنه كان موجوداً في زمنه، فلذلك يكف عن هذا، أسمع بعض الطلاب يقولون: على العجلات، والذي ينبغي أن يتوقف عن هذا الأمر، ويفوض أمره إلى الله، إلى علام الغيوب، معروفة ضوابط العلماء في الاجتهاد، ومحل الاجتهاد الأمور غير الغيبية، أما الغيبية فينبغي تفويض أمرها إلى الله تعالى مع الاعتقاد الجازم أننا لو جئنا إلى صلاتنا حبواً على الركب؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فنكون على ثقة بأن الله سبحانه وتعالى لن يترنا أعمالنا. ونسأل الله العظيم أن يتقبل منا. والله تعالى أعلم.
المقصود بالإمام الذي من صلى معه كتبت له براءتان
الجواب: ظاهر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مع إمامه، فقوله: مع إمامه، لا تفوته تكبيرة الإحرام مع إمامه، هذا متعلق بحالك، إن كنت في بيتك فينظر من هو إمامك؟ إذا كان الحي الذي أنت تسكنه له مسجد تصلي فيه؛ فإمام المسجد هو إمامك. فحينئذ لا تفوتك تكبيرة الإحرام معه، وإن خرجت في سفر مع جماعة، فإمامك الذي معك، ما لم تنزل في مكان يتعين عليك فيه الصلاة في موضع منه، فحينئذ ترتبط بإمام الموضع.
فالحديث واضح في هذا: أنك تعتد بالإمام في المكان الذي أنت فيه، ولو كنت في موضع فيه جماعة، أخروا صلاة العشاء، وهم بعيدون عن المدن، بعيدون عن العمران، ولا مسجد يسمعون نداءه، فصلوا جماعة؛ فأنت مع إمامهم، فتحتسب بحالك مع إمامك على ظاهر الحديث. والله تعالى أعلم.
حكم الأرباح الناتجة عن استثمار الوديعة
الجواب: إذا استثمر الوديعة؛ فقد خرجت يده إلى يد الضمان، وحينئذ تكون أرباحها للمستثمر؛ لأنه غارم، ويكون رأس المال لصاحبه. والله تعالى أعلم.
الحالة التي تقبل فيها التوبة عند الموت
الجواب: بالنسبة للموت له أحوال -نسأل الله أن يسلمنا وإياكم سكرات الموت وأهواله- الموت يكون على مراتب ودرجات: فمن نزل به المرض الذي ينتهي به إلى الموت، يقال: مرض مرض الموت، وحالة الموت تختلف شدة وضعفاً على شدة المرض وضعفه، فإذا نزلت به أحوال قبل خروج روحه نُظر في هذه الأحوال؛ إن كانت الحالة التي يغرغر فيها بحيث نزعت روحه بعدها مباشرة؛ فهذه هي الغرغرة، والحديث يقول: (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر).
فإذاً هذه هي الحالة التي يكون فيها مفضياً إلى الهلاك لا محالة، وقد نص الله عز وجل على هذه الحالة؛ فقال: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، ما قال: آمنت أنه لا إله إلا الله، انظر كيف أذله الله، وانظر إلى أسلوب القرآن؛ ما قال: آمنت أنه لا إله إلا الله، بنو إسرائيل عبيد عنده، يقتل رجالهم، ويسبي نساءهم، فإذا به يضع نفسه تحت مكان المستعبدين إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، لكي يبين الله الحالة الذليلة التي وصل إليها عدو الله عز وجل، ولذلك وصل إلى حالة أسلم فيها إلى الموت، وإلى الذلة التامة لله سبحانه وتعالى، وهو ذليل من قبل عند ربه سبحانه وتعالى.
فالشاهد أن هذه الحالة التي تسلم فيها الروح، ويدرك الموت فيها الإنسان، يقول بعض العلماء: هي حالة السكرات الحقيقة، وسكرات الموت بعض الأحيان قد تستمر مع الإنسان إلى نصف نهار كامل، وبعض الأحيان قد يأخذ في سكرات الموت ما هو أطول من ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- وقد شاهدنا من الأخيار والصالحين، من يتداركه الله عز وجل بلطفه، أعرف من كان حاملاً لكتاب الله عز وجل، كثير التلاوة له -رحمه الله برحمته الواسعة- وكان أكثر من أربعين عاماً، لا تمر عليه ثلاثة أيام إلا وهو خاتم لكتاب الله عز وجل، هذا الرجل حضرت وفاته وهو في سكرات الموت-وكان صديقاً حميماً للوالد رحمه الله برحمته الواسعة- مكث ثلاثة أيام لا يسمع منه إلا اسم الله عز وجل وهو يستغيث بالله: يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف، لا يزيد عنها، ولا ينقص منها، حتى إذا قربت روحه من الخروج قال: لا إله إلا الله، ففاضت روحه-رحمه الله برحمته الواسعة- فللموت أحوال وفترات تطول وتقصر، وتشتد وتضعف، فالسكرات التي تخرج بها الروح وتنتهي، أجمع العلماء أنها لا تنفع فيها التوبة. هذا المراد بقوله: (مالم يغرغر).
أما فراش الموت وهيئة الموت وحالة الموت فلا تعتبر موجباً للحكم بالغرغرة، فحديث اليهودي يحمل على أنه كان على فراش الموت، ما قال: كان يغرغر، دائماً نقول لطلاب العلم: لا تحكموا بالتعارض بين نصين إلا إذا أتى نص صريح مثل نص صريح، أما أن يأتي شيء ظني فلا يحكم بالتعارض، وهنا يفهم من النص أنه في فراش الموت، وليس هناك دليل على أنه في حالة غرغرة، بدليل أنه نظر إلى والديه بل تكلم وخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له أبوه: أطع أبا القاسم، وإدراكه وشعوره ما زال موجوداً، فآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدقه، فأنجاه الله عز وجل بذلك، وهذا فضل من الله عز وجل ومنة.
هذه الحالة ليست بحالة غرغرة، إذ لو كانت حالة غرغرة لما عرض عليه الصلاة والسلام الإسلام؛ لأن النصوص واضحة بهذا، فالذي يظهر أن حديث الغرغرة المراد به: إسلام الروح إلى الموت بالسكرات؛ سواء بدايتها، أو أثناؤها، أو نهايتها، هذا حكمه واحد-أي: أنه في حكم الغرغرة- وبعض العلماء يقول: الغرغرة أن يصل إلى آخر الحالات التي يحدث فيها نوع من الخطأ في الكلمات والجمل، حتى لا يستطيع أن يتكلم الجملة كاملة، فمن حيث الأصل؛ أنه إذا تمكن من الموت، وتمكنت منه سكرة الموت، وبدت له معالم الموت وظهرت له دلائل الموت يحمل عليه حديث الغرغرة.
بعضهم يرى أحياءً مثل الملائكة، كما جاء عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال: (أرى وجوهاً ليست بإنس ولا بجن)، ويحدث للإنسان السكينة بها من الله كما أخبر الله عز وجل: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:30]. فأثبت أنها تتنزل، ففي حديث صحيح عند أحمد عن البراء (إن العبد المسلم إذا حضره الموت نزلت إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، معهم كفن من أكفان الجنة، فيجلسون منه مد البصر، فيأتيه ملك الموت، فيقول: يا أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان، فتسيل روحه كما تسيل القطرة من في السقا) فهذا يدل على أن الملائكة تشهد الإنسان وتحضره، فإذا بدت من الإنسان علامات وأمارات تدل على أنه شهد الموت وأنه عاين الموت، فهذا لا إشكال فيه، ويحمل عليه حديث الغرغرة.
أما إذا كان قبل ذلك فهو محل خلاف عند بعض العلماء، ففي مسألة المرض الخطير اختلفوا هل التوبة فيه مؤثرة أو لا؟ والصحيح أنها مؤثرة ومقبولة -إن شاء الله- مثل: أن يبتلى بمرض ميئوس منه، فيغلب على الظن أنه هالك، قالوا ومن أمثلة ذلك إذا كان معروضاً على القتل، فقيل: يقتل غداً أو بعد ساعة أو بعد نصف ساعة، فهل هذا له توبة؟ الصحيح أن له توبة؛ لأنه لم يغرغر، فأياً ما كان فرحمة الله تعالى واسعة، والله سبحانه وتعالى الذي وسعت رحمته كل شيء لم تضق بهؤلاء، ونخصص النص بما ورد فيه.
أما قوله عليه الصلاة والسلام (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) فهذا لا يعارض حديث الغرغرة، ويبقى على ظاهره. كان بعض العلماء يقول: أظن حديث البطاقة والتي فيها لا إله إلا الله فمن يقولها بيقين قوي كامل ويوحد توحيداً كاملاً، تكون له تلك المنزلة العظيمة. نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، وأن يعيذنا وإياكم من سوء الخاتمة، وأن يختم لنا ولكم بالحسنى. والله تعالى أعلم.
الوسائل المعينة على التخلص من داء العشق
الجواب: أولاً: ينبغي للإنسان أن يعلم أنه لا نجاة له من هذه الفتنة إلا بالله عز وجل، وإذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلص عبده، وأن يدرك عبده بلطفه؛ ملأ قلبه باليقين به سبحانه وتعالى، سواء كانت فتنة دين أو دنيا، أو ضرر في دينه أو دنياه، إذا أردت أن تعرف حسن العاقبة لولي من أولياء الله؛ فانظر إليه إذا نزل به البلاء تجده متعلقاً بالله عز وجل.
فأول ما أوصيك به: أن تكثر من الدعاء، وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عنه: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) فاستعذ بالله من تلك الفتنة.
الأمر الثاني: أن تنظر إلى الأسباب التي تقوي هذا البلاء؛ من النظرة المحرمة، أو السماع المحرم، أو الجلوس المحرم، فإذا وفقك الله عز وجل لمعرفة الأسباب فاجتنبها، وابتعد عنها، فإنه إذا وجد في القلب يقين بالله سبحانه، فإنه يدل على محبته لله، وصدقه في ترك الحرام؛ ويعينه الله ويهيئ له الأسباب لترك الفتن، وإن ابتليت بفتنة نساء، فابتعد عن الأماكن التي تختلط فيها بالنساء، وإن كانت غيرها؛ فابتعد عن الأماكن التي يوجد فيها ذلك الغير، وإذا اضطررت اضطراراً إلى ذلك فغض البصر، وأكثر من ذكر الله عز وجل، وانشغل بما يشغلك عن الفتنة وأسبابها.
أما الأمر الثالث: أن الإنسان إذا ابتلي بفتنة عليه أن ينظر عواقب أهلها ونهايات أصحابها، ففي ذلك عبرة للمعتبرين وآية للمتقين، فإن العشق يميت القلوب، ويضعف الإيمان، ولربما قطع الإيمان من القلب بسبب فتنة -والعياذ بالله- ولذلك كان بعض السلف يقول: (المعاصي بريد الكفر)، مرادهم بذلك: أنها تجر إلى ما وراءها، وبالأخص العشق؛ لأنه فتنة مردية ومحنة مهلكة، نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنبنا منه.
ما الذي تريد من مخلوق تنظر إليه -مهما أوتي من الجمال- فالله أجمل، وإذا نظرت إلى أي شيء يسرك، فوالله ما ينتظرك من السرور عند الله أعظم، وإذا جئت تنظر إلى أي حالة تبهجك وأنت معه؛ فلذة ساعة وعذاب دهر. انظر إلى العاشقين كيف ذلت عقولهم، وذهب صوابهم، ما الذي جنوه من الكلمات المعسولة، وسهر الساعات الطويلة، والتعب، والنصب؟! كلها في موازين السيئات وموجبة لدخول الإنسان إلى الدركات نسأل الله السلامة والعافية.
فالإنسان العاقل يكون بعيد النظر، ما الذي يجنيه؟ كم سهر؟ وكم نظر؟ وكم؟ وكم؟ ما الذي جنى؟ وكان بعض العلماء يوصي: أن الإنسان -غالباً- إذا أصاب الذنب واسترسل فيه وكان فاحشاً فإنه يحتاج إلى قوة في التوبة، فإذا جاء بقوة التوبة؛ جاءته قوة في المعونة.
ولذلك يحتاج من يبتلى بالعشق إلى قوة في التوبة، فمنهم من يكون عاشقاً بالنظر، ومنه إلى اللمس، ومن اللمس إلى الخلوات المحرمة، إلى أن يصل إلى الغاية والنهاية، فإذا وصل إلى الغاية والنهاية مرة أو مرتين، أو ثلاثاً، إلى مرات وكرات، فتجدها دركات، كما أن الخيرات درجات، فإذا وصل إلى الدركات والحضيض فإنه يحتاج إلى قوة في التوبة حتى يتداركه الله عز وجل فيها بلطفه.
فقوة التوبة هذه؛ إذا قال: أستغفر الله وأتوب إليه، ورجع إلى الله سبحانه وتعالى، فيبتليه الله عز وجل على قدر فتنته؛ فإن كان قد أصاب الفتن حتى ابتلي بها، ابتلاه الله عز وجل بأحب الأشياء إليه في العشق، فإذا كان يحب النساء ابتلاه بأجمل ما يراه وأفتن ما رآه، فإذا قال: ربي إني تائب إليك من تلك الفتنة؛ نقله الله من حضيض الفتنة إلى ما هو أوفق وأعظم إحكاماً له، بتركه ما حرم الله مؤثراً طاعة الله عليها. فتأتيه فتنة بعدها، تصبح الفتن تخف.. تخف، ولذلك تجد بعض الملتزمين قد يكون في جاهليته في غاية -والعياذ بالله- من الضلال والبعد عن الله عز وجل، لكنه إذا أقبل إلى الله؛ أقبل بصدق، بحيث يكره جميع ما كان من الجاهلية ولا يطيق ذلك، فلا يزال تعرض عليه الفتن ويبتعد عنها، كما أنه نزل إلى الدركات فإنه يرفع إلى الله درجات وكما كانت تلك الدركات تطفئ نور الإيمان تدريجياً؛ إذا بالدرجات تزيد إيمانه تدريجياً.
لكن ما يكون من الله عطاءً وهبة، أكثر مما يكون منه شقاءً وفتنة ومحنة، فلربما يبتليه الله بفتنة واحدة بعد توبته، يعرضها عليه، وييسر له سبيل المعصية، فيتوب إلى الله توبة صادقة، فينقله الله من حضيض الفتنة، فلا يفتن بعدها أبداً، ولذلك ليس هناك أرحم من الله، لكن هذا يحتاج إلى قوة اليقين بالله، وحسن الظن بالله أن هذا الشيء الذي فيه فتنة، إذا تركته من كل قلبك محباً لربك موقناً أن ما تركته خير منه ما طلبته، فإن الله لا يخيبك.
ولذلك يوسف عليه السلام لما ابتلي وعرضت عليه الشهوة، حتى ذكر بعض العلماء: أنها قالت: امدد يديك، قال: أخشى أن تولى إلى سقر، يعني إلى نار جهنم إذا مددتها، قالت له: انظر إلي بعينيك، قال: أخشى العماية في الحشر، يعني أخشى أن العين تعمى إذا حشرت، هذا من قصص بني إسرائيل التي فيها العبر، فلما أعرض عن ذلك لله عز وجل، أنطق الله من في المهد يشهد ببراءته: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27] فقال: يُوسُفُ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا [يوسف:29]بالفتح في قراءة، وفي قراءة: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا يعني لا تذكره لأحد، بمعنى هي الخاطئة، فسلمه الله في بداية الفتنة، فرمي في السجن السنوات الطويلة بعيداً عن أهله، فقال للساقي: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف:42] فأبى الله جل جلاله الذي يكرم أولياءه أن يجعله طالباً، بل جعله مطلوباً: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف:54]. تأمل كيف أن الساقي أُنسي أن يذكره عند ربه، من باب الشفاعة، يشفع له ساقي خمر! لا، هذا ولي لله ما يشفع له ساقي خمر؛ بل يؤتى إليه طلباً ورغبة، فإذا بأعظم من في قومه الذين سجن فيهم يقول -وهو الملك-: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [يوسف:54]. فلما أتاه : قَال اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ [يوسف:55]. لو شفع له شارب الخمر، كان سيقول: أريد الخروج من السجن فقط، لكن أولياء الله دائماً لهم المراتب العلى، ولذلك قال عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]. لما رأى عظيم ما بوأه الله عز وجل من الإقبال عليه، والصبر على الفتنة، واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، والحصول على درجة الإحسان بشهادة الله له من فوق سبع سماوات، انتظر شيئاً واحداً: حسن الخاتمة، وأن يبوئه الله عز وجل مبوأ صدق.
فهذه هي الدرجات العلى، التي تنتظر من أعرض عن معصية الله طاعةً لله، ومن صدق مع الله، والله لا يخيب.
ولا يحتاج الإنسان إلى شيء مثل معرفته بالله عز وجل، في الفتن، في المحن، في الشدائد، في السراء، في الضراء، في الخير، والشر، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. لما يكون الإنسان مع الله، صادقاً في توجهه، ينسى داء العشق، والفتن، والمحن، ما ظهر منها وما بطن، لأنه يحس إحساساً عميقاً بأن الله ملاذه في كل شيء، وأن الله عز وجل عوض له عن كل شيء. فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأسأل الله العظيم أن يمن على أخينا هذا بالعافية من هذا البلاء، وعلى إخواننا المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |