Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

شرح زاد المستقنع باب الشفعة [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

قال رحمه الله تعالى: [ فصل: وإن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو رهنه لا بوصية سقطت الشفعة ]

صورة المسألة تقع إذا اشترى شخص نصيب شريكك وقبل علمك، وقبل أن تشفع أوقف هذا النصيب، فمثلاً: لو كانت هناك أرض بينك وبين شريكك، فباع شريكك إلى رجل فأوقف هذا الرجل نصيبه على بناته وذريته وعلى وجه من وجوه الخير، أو سبله، فما الحكم؟

وهذا يتأتى فيما لو قسم الحاكم في حال غيبتك، فمثلاً: اشتريتما أرضاً في مخطط بخمسمائة ألف وكان له نصفها، ثم باع النصف الذي له على شخص، وأحب هذا الشخص أن يبني مسجداً، فأوقف هذه الأرض للمسجد، فلما أوقفها احتاج في هذه الحالة أن يطالب الحاكم والقاضي في حال غيبتك أن يقسم بينه وبينك؛ لأنه ما يستطيع أن يوقف مجهولاً، ولابد أن يحدد نصيبه الذي عليه الوقفية.

فالقاضي قضى بأن هذه الأرض تقسم فقسمت، فإذا قسمت في هذه الحالة أصبح هذا الوقف جاراً لك، فهو ملاصق لملكك وقد تكون المنافع واحدة، كما لو إذا كانت أرضاً فأوقف نصفها، ففي هذه الحالة يقول بعض العلماء: تثبت الشفعة بعد المقاسمة في صور منها هذه الصور وهي حال غيبتك البعيدة إذا طلب من القاضي أو الحاكم أن يقسم وقسم، فميز نصيبك من نصيبه، فتبقى أنت على شفعتك، مع أنها قد قسمت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وبينا هذا في مسألة قسمة العقار، لكن إذا وقعت القسمة قبل علمك وقبل مجيئك كما إذا قضى بها القاضي، فإذا وقعت على هذا الوجه وميز القسمان، وجئت وأردت أن تشفع فإنه إذا تُصرف بالوقفية لا شفعة لك؛ لأنه في هذه الحالة الوقفية لا يمكن تداركها، ويبقى النصيب وقفاً ولا شفعة لك فيه.

قال: [أو هبته]

وقد بينا فيما مضى أنه يشترط في ثبوت الشفعة أن تكون منتقلة بالمعاوضات، فإذا كان صاحبك أو شريكك قد وهب هذا النصيب لشخص، فإنك لا تستطيع أن تشفع؛ لأنه انتقل بهبة ولم ينتقل بالعوض، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة معاوضة ولم يقض بها وقفاً، ولذلك لا شفعة في وقف ولا موهوب.

قال: [ أو رهنه ]

وهكذا لو رهنه، فعلى أحد قولي العلماء رحمهم الله أنه ليس من حقك أن تشفع حتى ينتهي وقت الرهن، وقد فصلنا مسائل الرهن: إما أن يباع، وإما أن يبقى ملكاً، أو تعود الأرض كما كانت في حالتها الأولى؛ لأنه في حالة الرهن لو قيل بفسخه فيه ضرر على الطرف الثاني وهو صاحب الدين، ولذلك يقول بعض العلماء بجواز الرهن بمثل هذا، ويكون على طريق المقاسمة لأجل أن يتحقق فيه القبض.

ولو أن شريكك أوصى بهذا النصيب، فإنه إذا لا ينتقل، يعني: لا يسقط حقك في الشفعة؛ لأن الوصية موقوفة إلى ما بعد الموت، وهي تصرف مسند إلى ما بعد الموت، وبناءً على ذلك إذا أوصى وقبل أن يموت جئت أنت وشفعت فمن حقك أن تشفع، هذا إذا اشترى شخص نصيب شريكك وتصرف به بالوصية، فإنه في هذه الحالة يمكن أن تلغي الوصية وتسترد النصيب.

من أمثلة ذلك: لو كان معك شريك في مزرعة بينكما مناصفة، فباع شريكك نصيبه بمائة ألف إلى رجل، هذا الرجل الذي اشترى منه أوصى أن نصف هذه المزرعة يكون في وجوه الخير والبر، فقد أوصى بشيء مستحق بالشفعة، فإذا جئت من حقك أن تطالب بالشفعة وتسقط الوصية؛ لأن الوصية لا تسقط الاستحقاق في الشفعة.

وقوله: [لا بوصية] إلا إذا كان بوصية فمن حقك أن تشفع، وسقطت الشفعة في الوقف، وفي الهبة؛ فأنت ما تستطيع أن تسترد الموهوب ولا تستطيع أن تشفع في شيء وهبه غيرك.

قال: [سقطت الشفعة] لأن الشفعة استحقت بالبيع الأول، وسقطت بالوقفية وهي التصرف الثاني، وهكذا بالنسبة للمسألة الثانية في الهبة، الشفعة استحقت بالبيع من شريكك وسقطت بالهبة من المشتري، فإذا وهب المشتري سقطت شفعتك.

قال: [وببيع فله أخذه بأحد البيعين]

كل الكلام هنا إذا كان المشتري من شريكك أوقف أو وهب أو وصى، قلنا: تسقط الشفعة في الاثنين الأولين ولا تسقط في الوصية.

يبقى السؤال: لو أن هذا المشتري أخذ نصيب شريكك من المزرعة بخمسمائة ألف، فباعه على شخص ثانٍ بأقل أو أكثر أو مثل، فالسؤال: لما باع للشخص الثاني هل تسقط شفعتك بهذا البيع أو لا؟

قالوا: لا تسقط الشفعة بالبيع، وهذا قول جمهرة أهل العلم رحمة الله عليهم، حتى إن بعضهم يحكي الإجماع أنه لا يزال حقك في الشفعة ثابتاً.

لكن يرد السؤال: هل من حقك أن تشفع بالثمن الأول أو بالثمن الثاني؟

إذا كان الثمن واحداً ما فيه إشكال؛ تدفع للثاني خمسمائة ألف فيرجع على الأول، أو يفسخ البيع وتأخذ النصيب بالشفعة ويكون المبلغ للأول، يكون وجهك على البائع الذي هو شريكك، ثم يرد للمشتري حقه وينتهي وتثبت الشفعة؛ لكن الإشكال إذا باع المشتري الثاني بأقل أو بأكثر، فمثلاً: شريكُك باع بخمسمائة ألف، ثم باع المشتري من شريكك بأربعمائة ألف، فالأفضل لك أن تأخذه من الثاني بأربعمائة ألف ويرجع على الأول إذا أحب الرجوع؛ لأنه رضي بالخسارة، فتأخذ النصيب بأربعمائة ألف، فهذا أفضل لك.

لكن إذا كان العكس؛ شريكك باع بخمسمائة ألف، وباع المشتري الثاني بمليون، فحينئذٍ الأفضل لك أن تأخذ من شريكك، وتكون شفعتك ببيعة شريكك لا ببيعة المشتري، وعلى هذا يكون لك الخيار؛ إن شئت أخذت بالبيع الأول، وإن شئت أخذت بالبيع الثاني، وهذا في حال اختلاف البيعتين.

قال رحمه الله: [وللمشتري الغلة والنماء المنفصل، والزرع والثمرة الظاهرة].

بالنسبة للشفعة إذا وقعت في العقار، إما أن يكون العقار جامداً مثل: الأراضي والمخططات، ولا يُبْنَى عليها ولا تُزْرَع وتبقى على حالها، حينئذٍ لا إشكال إذا بقيت على حالها.

ولكن الإشكال إذا تصرف المشتري بزيادة أو نقص أو كانت الأرض ذاتها فيها بناء وله غلة، فما الحكم في هذه الغلة في حالة ما إذا طالت المدة بين شفعتك وأخذك للنصيب وبين البيع؟

وهذا يقع فيما لو كان لك أرض أو مزرعة مع شخص، وباع شريكك، ومكثت خمس سنوات لا تعلم بالبيع، فخلال الخمس سنوات نتاج الأرض وغلتها لمن تكون؟

فهذا أمر يحتاج إلى بحث، ويدل على كمال الشريعة الإسلامية، فالشريعة الإسلامية لما كانت تنزيلاً من حكيمٍ حميدٍ عليمٍ بعباده، حكيمٍ في شرعه سبحانه وتعالى، يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57] عَلِم ما كان وما يكون وما لم يكن أنْ لو كان كيف يكون، أتت تعالج حتى المسائل الطارئة، ولذلك القوانين الوضعية تعجز عن معالجة المشكلات إلا بعد حدوثها، فهي لا تقنِّن للأشياء قبل الحدوث؛ لأنها عاجزة، ومن بشر ناقص، وتتأثر بالأعراف وبالأشخاص وبالأزمنة وبالأمكنة.

فبعد وجود المشاكل تحدث قضايا وضعية، فيأتي ما يسمونه بالمشرع، وهو المخلوق الناقص العاجز، لكي يجمع قضاء فلان وقضاء فلان وقضاء فلان ويلفق من بين هذه الأقضية قضاءً، وهذا موجود، فالآن بعض التشريعات الوضعية تعتمد على القضاء الغربي في أوربا وكان في عصور مظلمة، فيأتون في زمان ويجمعون قضاء من البلد الفلاني، ومحكمة النقض في البلد الفلاني، ومحكمة الاستئناف في البلد الفلاني، فيجمعون منها تصورات، ثم من هذه التصورات تخرج المواد، مثل ما يسمونه بالتشريعات والتقنينات، ولما كانت هذه التقنينات حدثت في عصور قد لا تلائم هذا العصر ولا تتفق معه ولا تسايره، فيحتاجون عندها إلى تجديد وتغيير، ولذلك لن تجد أعقد من أحكامها ولا أكثر قصوراً منها؛ لأنها لا يمكن أن تعالج بشكل كامل، ولا يمكن أن تضع الحلول بشكل كامل.

وإذا بفقهاء الشريعة وعلمائها لا يعالجون فقط المشاكل التي في عصرهم، وإنما يضعون قواعد مستنبطة من أصول الشريعة لما يسمى بالطوارئ والآثار المترتبة على العقود، وهذا في خلال القرن الأول والثاني وازدهر كثيراً في أواخر الثاني والثالث، في عصور بني العباس لما فُتحت الدنيا على الناس، فأصبحت المسائل تتعدد والمشكلات تكثر في آخر القرن الأول؛ لأن الصحابة كان عندهم الورع، وكانوا لا يفتون إلا في مسائل الواقع، وكانوا يسألون السائل: أوقع هذا؟ فإن قال: وقع أفتوا واستعانوا بالله وقضوا، وإذا قال: لم يقع، يقولون: دعوه حتى يقع، فكان عندهم من الخوف والورع، وهذا أحسن.

ثم جاء من بعدهم -لأن الأمة كلما تأخر زمانها ضعف علمها وفقهها- فاحتاجوا أن ينصحوا لمن يأتي من الأمة، فجاءوا بما يسمى بالفرضيات، وهذه الفرضيات منها ما هو مبني على أصول، فهي ليست فرضيات من فراغ ومنها هذه المسائل، يعني: يكون العقل يعمل ويفكر في الشريعة، فتجد الفقه مرتباً منظماً، حتى الأشياء التي يمكن أن تطرأ في بعض العصور دون بعضها، يقول الله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فهذا الدين هو الكتاب السنة.

فكل ما تفرع على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كامل، ولذلك تجد الآية الواحدة تحتمل عشرة أوجه، والعشرة الأوجه هذه صالحة لكل زمان ومكان، وتجد الحديث يختلف فيه العلماء على ثلاثة أوجه -نفس المنهج الذي استنبطت منه الثلاثة الأوجه- تعالج مسائل يستفاد منها في غير هذا الحديث فضلاً عن هذا الحديث، فهذا كله من كمال الشريعة، فالعلماء رحمهم الله يذكرون المسائل النازلة، والمسائل التي هي آثار وطوارئ قد تتجدد وتطرأ على القول والحكم بالشريعة.

قال رحمه الله: [وللمشتري الغلة]

الشريعة أثبتت حكم الشفعة، فيرد السؤال: إذا وقعت الشفعة متأخرة، وحصل ما بين وقت البيع وبين الطلب بالشفعة نماء أو غلة، وهذا يقع -مثلاً- في البستان، فلو كان لك بستان مع شريك ووقع البيع في شهر محرم، فقام شريكك بعد ذلك وباع نصيبه بثمره فلم تعلم بالبيع إلا بعد أن بدأ صلاح الثمرة، وبعد أن جذت الثمرة جئت وقلت: أنا شافع، فهل الثمرة تكون لك أنت الشافع، لأنك تستحق هذا النصيب من الأول بدليل أنك أخذته بنفس القيمة فيكون ملكاً لك بثمرته؛ لأن الفرع تابع لأصله، أم أن الثمرة تكون للمشتري، وتملك الأرض والأصول ولا تملك الثمرة؟

فصلنا هذه المسألة في مسألة رد المبيع بالعيب، وذكرنا أنه إذا كانت هناك ثمرة ونماء أنه يكون للمشتري، وبينا عدل الشريعة الإسلامية ودقتها في هذا، وبناءً عليه فإن الحكم هنا أن الشريعة لا تضطرب، ولذلك تجدها كالبناء المحكم المتماسك، فكما أنها قضت هناك بأن المشتري يده يد ضمان فيستحق الثمرة، كذلك هنا المشتري يده يد ضمان ويستحق الثمرة، وبناءً عليه يقول المصنف رحمه الله: إن هذا النماء يكون ملكاً للمشتري، والثمرة التي بدأ صلاحها أو أُبرت كلها ملك للمشتري؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت فيها ملكية المشتري.

قال: [وللمشتري الغلة والنماء المنفصل والزرع والثمرة الظاهرة]

(للمشتري الغلة) الغلة أو المحصول، (والنماء) الزيادة المنفصلة لا المتصلة، فإذا كان مثلاً: نخل تغير حاله، كأن يكون باعه الشريك وهو عطشان، فشاء الله وأنزل المطر فتحسن حال النخل وامتلأ، وأصبح بحال طيبة، هذا نماء متصل لا يملكه المشتري وإنما يبقى مع العين، ولذلك لا يستحق إلا النماء المنفصل، وهو الغلة والجزة الظاهرة، فمثلاً: لو كانت الأرض مزروعة بالبرسيم وذكرنا هذا في خيار العيب ونحوها من المسائل، أن هناك ما يتبع المبيع وما لا يتبعه في مسألة باب بيع الأصول والثمار، وفي هذه الحالة إذا باعه أرضاً مزروعة بالبرسيم، فإذا جزها قبل علم الشريك بالبيع، مثلاً: بقيت معه لمدة سنة، فنقول: يملك هذا الذي جزَّه وهو إنما جز وباع ملكاً له؛ لأنه على ضمانته.

قال: [ والزرع والثمرة الظاهرة]

لا المخفية فإنه لا يملكها، وهي ثمرة السنة القادمة، كما لو شفعت وكانت المدة بين الشفعة وبين البيع هي مدة الكن، وهي الثلاثة الأشهر التي تستكن فيها الثمرة بعد جذاذها من النخل، وقبل ظهور الثمرة الجديدة للعام الجديد.

قال رحمه الله: [فإن بنى أو غرس فللشفيع تملكه بقيمته وقلعه ويغرم نقصه، ولربه أخذه بلا ضرر]

قوله: (فإن بنى أو غرس فللشفيع تملكه)

هذه المسألة حقيقة فيها إشكال عند العلماء رحمهم الله، يبيع شريكك نصيبه ولا تعلم أنه باع، ويشتري أجنبي هذا النصيب، فيقوم ببنائه أو يقوم بالغرس فيه، فحينئذٍ يرد السؤال: إذا جئت تشفع ما حكم هذا البناء والغرس؟ أنت تستحق الأرض أرضاً بيضاء، ولكن المشتري تصرف في الأرض فزاد فيها بالبناء أو زاد فيها بالعمران، فإن تصرف المشتري ينقسم إلى قسمين:

إما أن يتصرف بشيء لا يدوم في الأرض، وإما أن يتصرف بشيء يدوم ويبقى في الأرض، فالذي لا يدوم في الأرض مثلاً كأن يتصرف بشيء مؤقت، مثل ما ذكرنا في غلة الزرع، أو يضع بيوتاً جاهزة، فهذه لا تدوم بل يمكن أن ترفع وتنقل وليس فيها إشكال، لكن المشكلة أن يتصرف بالدوام مثل البناء، أو الغرس، أو حفر الآبار، وقد ذكرنا أنواع الاستحداثات في كتاب الغصب، وبينا أن العروق منها ما هو ظاهر ومنها ما هو باطن، فاثنان ظاهران وهما: البناء والغرس، واثنان باطنان وهما: الآبار والعيون، إذا ثبت هذا فإذا تصرف المشتري فيما اشتراه وهو نصيب شريكك قبل أن تشفع، فحينئذٍ يرد السؤال: هل من حقك أن تجبره على رفع جميع ما أحدث، أم تُجبر أنت على شراء ما أحدث ويجُبر هو على بيعه، أو تصطلحان؟

فلو قلنا: إنه يرفع ما أحدث، الفترة التي مضت واستفاد من الأرض فيها بغرس أو نحوه هل لك الأجرة فيها أو لا؟

كلها مسائل تحتاج إلى نظر، من أهل العلم رحمهم الله من قال: إن المشتري إذا تصرف في الأرض قبل أن تشفع فإن تصرفه لاغٍ، ولذلك من حقك إجباره على قلع الغرس وهدم البناء، وهذا هو مذهب الشافعية ومن وافقهم، وفي الحقيقة أنه أقوى المذاهب والأقوال، ولهم في ذلك مسلك فقهي دقيق، حاصله أنهم يرون أن المشتري لما اشترى من صاحبك وشريكك، كان المنبغي أن لا يتصرف حتى يستأذنك؛ لأن الشريك مع شريكه في مثل هذا لا يتصرف باستحداث أرض، فإذا كنت شريكاً مع شخص، وجاء يريد أن يبني أو يريد أن يغرس، ليس من حقه أن يبني ولا يغرس حتى يستأذنك؛ لأن كل جزء من الأرض مشترك بينكما، فليس من حقه أن يبني فيه حتى يستأذنك، ولذلك يقولون: يسقط استحقاقه في هذا التصرف، ويكون تصرفه في غير موضعه، فيتحمل مسئولية ما بنى وغرس، وفي الحقيقة هذا القول من حيث الأصول قول صحيح وهو الأشبه إن شاء الله بالرجحان والاعتبار، وبناءً على ذلك يسقط حقه، ويطالب برفع غرسه وإزالة بنائه.

إذا أردت أن تشتري منه البناء، أو تشتري منه الغرس فلك ذلك، وإذا أردت أن تشتريه واصطلحتما على ذلك فهذا لا إشكال فيه أما من حيث الأصل فليس من حقه أن يبني ويستحدث فيما هو ملك مشترك بينكما إلا بإذنك.

قال: [وقلعه ويغرم نقصه]

يقولون: له الحق أن يطالب فيه، فإذا قلعه يغرم النقص، وهذا يثبت أن الشريك لما تصرف يثبت له اليد، وهذا القول لا يخلو من نظر، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله أنه يضمن له النقص، وإذا قلع المشتري الغرس والبناء يُضمن نقص الأرض، لما دخل على الشريك من الضرر، كما سبق بيانه في كتاب الغصب، إذا بنى الغاصب واستحدث في الأرض المغصوبة؛ لأن تصرف الشريك هنا على غير وجهه.

قال: [ولربه أخذه بلا ضرر]

(ولربه أخذه) يعني: أخذ ذلك النصيب (بلا ضرر) كما لو كانت قيمته نازلة وكان السوق كاسداً، ففيه مضرة على المشتري إذا طالبه ببيعه، لكن نحن بينا في هذه المسألة أن المشتري لا يستحق التصرف فيها، ثم إذا أراد الشفيع أن يشفع وأن يشتري ذلك يشتريه بحقه أو يصطلحا.

قال رحمه الله: [وإن مات الشفيع قبل الطلب بطلت]

وإن مات الشفيع قبل أن يطالب بشفعته بطلت الشفعة؛ لأن الشفعة لا تورث، لكن لو طالب فإن الورثة يرثون استحقاق المطالب به، وقد تقدم معنا هذا فيمن يشفع، مثال هذه المسألة: لو أن شريكين باع أحدهما نصيبه إلى زيد، وتوفي الشريك الذي له حق الشفعة قبل أن يطالب بشفعته، فإنه يسقط الحق ولا يرث الورثة ما كان لمورثهم من المطالبة بالشفعة، ولذلك يقولون: الشفعة ضعيفة تسقط بأوهن الأسباب؛ لأنها خارجة عن الأصل، وقد ذكرنا هذا وبيناه.

قال رحمه الله: [وبعده لوارثه ويأخذ بكل الثمن]

وبعد الطلب إذا طالب بالشفعة وتوفي قبل أن يحكم القاضي بشفعته يرث ورثته المطالبة بالشفعة، والسؤال: هل يختص الحكم بالعصبة ويشمل ذلك الأبناء الذكور دون الإناث وأبناء العم ونحوهم من العصبة، أم أن الشفعة تشمل جميع الورثة؟

والجواب: ما دام أن الميت طالب بها ثبت الحق للورثة على حسب نصيبهم، فالزوجة إذا كان له ولد تستحق وتطالب بالشفعة وتدفع الثمن، ثم السبعة الأثمان للأبناء ذكوراً وإناثاً على حسب نصيبهم، فيدفع كل من المال على قدر حصته من التركة على الأصل المعروف في علم المواريث، فمثلاً: لو كان الميت أو الشفيع الذي طالب بالشفعة له ثلاثة أولاد: ابن ذكر وبنتان، في هذه الحالة يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وتكون المسألة على أربعة أنصبة، نصيبان للذكر، واثنان كل واحد منهما لواحدة من البنتين، إذا ثبت هذا أنها منقسمة على أربعة أنصبة، وتوفي مورثهم وقد طالب بالشفعة، وكانت الأرض قد بيعت بأربعة آلاف، نقول للابن الذكر: ادفع ألفين وتستحق نصف نصيب الشريك، ونطالب كل واحدة من البنات أن تدفع ألفاً وتستحق ربع نصيب الشريك وبقدر حصصهم من التركة، وهذا القول يقول به جمع من العلماء، وممن اختاره من أئمة السلف الإمام الشافعي نفسه وهي من مسائل المختصر، وبين رحمه الله أنه يستحقها الورثة.

قال: [فإن عجز عن بعضه سقطت شفعته]

فإن عجز عن بعض ذلك النصيب سقطت شفعته، هذا شرط من شروط الشفعة، أنه يدفع المبلغ كاملاً، فإن عجز عن بعض المبلغ لا يستحق الشفيع الشفعة، بل لابد من دفع الثمن الذي بيعت به الأرض كاملاً، لو قال: أدفع النصف ولا أقدر على النصف الباقي نقول: ليس من حقك النصف فقط، ولو قال: أدفع ثلاثة أرباع وأنا عاجز عن الربع الباقي سقطت شفعته، فإما أن يأخذ الكل أو يدع الكل إلا في المسائل التي فصلنا فيها في تفريق الصفقة ونحوها، ففيها تفصيل، أما من حيث الأصل إذا أردت أن تشفع في نصيب شريكك تأخذه كله بالثمن الذي بيع به كاملاً، لا ضرر ولا ضرار، فلو قلنا: إنه من حقك أن تأخذ ببعض الثمن أضررنا بالمشتري، فلا يجوز أن يضر بالمشتري كما لا يجوز أن يضر بالشريك.

قال رحمه الله: [والمؤجل يأخذه المليء به، وضده بكفيل مليء]

لو باع شريكك نصيبه بالتقسيط بمائة ألف مؤجلة مقسطة على عشر سنوات، تستحق أخذ هذا النصيب مؤجلاً إلى عشر سنوات بالأقساط التي اتفق عليها الطرفان؛ لأن الشفعة تثبت بنفس الذي وقع بين المتعاقدين، إن كان مؤجلاً فمؤجل، وإن كان معجلاً فمعجل، وبناءً على ذلك إذا كانت مؤجلة تأخذها مؤجلة لكن بشرط أن تكون مليئاً قادراً على السداد، أما لو كان الشفيع عاجزاً عن السداد أو معروفاً بالفقر وقلة ذات اليد وليس عنده مال، ويخشى أنه يضر بالمشتري، نقول في هذه الحالة: من حقك أن تأخذه مؤجلاً بشرط أن تحضر كفيلاً مليئاً يكفلك ويضمنك أنك إذا لم تسدد يسدد عليك، على ما تقرر معنا في باب الكفالة.

فمن حقك إذا كنت مشترياً أن تطالب الشفيع أن يحضر كفيلاً، تقول: أنا ما أستطيع أن أخاطر وأبيعك وأنت ضعيف أو فقير؛ لأن هذا يضر بمصالحي، وهذا معلوم أن الفقير يضر بمصالحك وربما عجز عن السداد فأصبح مفلساً، فالشريعة عدلت وقالت: من حقه أن يأخذ نصيبك لكن بالعدل، وذلك بأن يسدد كما تسدد، وعلى هذا فإنه إذا اتفق على هذا الوجه صحت الشفعة، أما أن يأخذه مؤجلاً على وجه مخاطر لصاحب الحق فهذا لا يصح.

قال: [وضده بكفيل مليء]

(وضده) يعني: بالثمن المؤجل من عاجل، يعني: إذا كان غير مليء يأتي (بكفيل مليء) بكفيل قادرٍ على السداد يرضاه صاحبه.

وجوب انتظار الغائب بالشفعة حتى يرجع

السؤال: فضيلة الشيخ أشكل عليَّ حديث (جار الدار أحق بالشفعة في دار جاره، يُنتظر بها في حال غيبته) في قوله صلى الله عليه وسلم: (يُنتظر بها في حال غيبته) هل ينتظر صاحب الدار في بيع داره إلى أن يعود جاره من سفره، أم المقصود أنه يبيعها ولجاره حق الشفعة حتى لو تأخر إلى سنة في سفره، وكيف تكون صورة الشفعة في هذه الحالة إذا بنى المشتري على الأرض التي اشتراها؟

الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فالجواب هو الوجه الثاني، وهو أن المراد من الحديث في قول أهل العلم رحمهم الله والشراح، وهو المحفوظ أنه ينتظر الشريك حتى يعود ثم يقال له: شريكك باع، هل تريد أن تشفع أو لا تريد؟ وعلى هذا لا تسقط الشفعة بطول الغيبة لقوله عليه الصلاة والسلام: (ينتظر بها -أي: ينتظر بشفعته- إن كان غائباً) وعلى هذا يكون الحديث دالاً على مسألتين:

المسألة الأولى: أنه إذا كان حاضراً فحكمه واضح إما أن يطلب الشفعة وإما لا.

المسألة الثانية: إن كان غائباً فإنه يجب انتظاره ولو كان إلى سنواتٍ عديدة، وهذا نص عليه العلماء، وجمهرة أهل العلم على أنه ولو غاب مائة سنة فإنه باقٍ على شفعته إذا حضر؛ لأن الشفعة لا تسقط بطول المدة، وأما مسألة البناء والغرس فقد تقدم بيانها وتفصيل أحكامها، والله تعالى أعلم.

حكم الشفعة في الأرض التالفة إذا استصلحها المشتري

السؤال: إذا ما أتلف نصيب شريكي الذي باعه وقام الذي اشتراه بإصلاحه فهل لي الشفعة، وهل أعطيه قيمة الإصلاح؟

الجواب: إذا كان التلف موجوداً حال البيع، وبيع النصيب تالفاً فإنك تدفع قيمة الشيء التالف، هذا من حيث الأصل؛ لأنه ليس من حقه أن يتصرف في هذا الشيء إلا بعد إذن صاحب الملك ويتراضيان على ذلك، فإن رضيت بإصلاحه وأردت دفع العوض له كان لك ذلك، وإلا أخذ ما استصلحه على التفصيل الذي ذكرناه في الغرس والبناء، والله تعالى أعلم.

مسألة إذا أقيمت الصلاة وما زال بعضهم يصلي السنة

السؤال: إذا أقيمت الصلاة وقد شرعت في صلاة السنة الراتبة وتحية المسجد فهل الأفضل أن أقطعها أم أتمها؟

الجواب: في هذه المسألة تفصيل، فإذا كانت الإقامة قد وقعت ويمكنك أن تتمها قال الله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] ولأن إتمامها زيادة في الأجر وعظم في المثوبة، ولا ينبغي للمسلم أن يذهب بذلك الخير، وأما إذا ضاق الوقت وغلب على ظنك أنك لو أتممت فاتتك الركعة الأولى أو فاتك ركوع الإمام فإنه يجب عليك التسليم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) واستثنى العلماء المسألة الأولى؛ لأن الإجماع منعقد على أنه لو أقيمت الصلاة وأنت في التشهد الأخير أنك تتم الصلاة، وعلى هذا يكون ما قارب هذه المسألة مما غلب على ظنك أنك تدرك فيه الإمام يعتبر مستنثىً من هذا الحديث، والله تعالى أعلم.

أهمية الأذكار والأوراد للمسلم

السؤال: نرجو منكم بيان أهمية الأوراد والأذكار بالنسبة لكل مسلم؟

الجواب: من نعم الله عز وجل العظيمة على العبد أن جعل الأذكار حرزاً له من كل بلاء وشر وفتنة، كلمات طيبات مباركات، يقولها المؤمن وتقولها المؤمنة، مشتملة على توحيد الله والاعتصام به والالتجاء إليه، وتفويض الأمر إلى الله، فيحفظ الله بها عبده، ويعصم بها أَمَتَه، فيمسي في أمان الله، ويصبح في حرز من الله، لا يتسلط عليه معها عدو، ولا يتمكن منه شرير، محفوظ بحفظ الله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، يقولها المؤمن بقلب موقن، ولسان صادق؛ فتفتح لها أبواب السماوات، مشتملة على الاعتصام والالتجاء والعوذ واللوذ بالله جل جلاله، فإذا به يحفظ بحفظ الله عز وجل من أمور لم تخطر له على باب، ويعلم الله جل جلاله أنه لولاه سبحانه ثم هذه الأذكار لما أصبح من مسائه ولما أمسى من صباحه.

فالموت أقرب للإنسان من شراك نعله، ولو تأمل الإنسان أن روحه وجسده مسخر مقدر بلطف من الله جل جلاله فوق العقل، الأطباء يقولون: في الدم نسبة لو زادت (1%) أو نقصت (1%) لهلك الإنسان في ساعته، والأطباء يقفون عاجزين مستسلمين إذا حدث أي اختلاف يفضي بالإنسان إلى الموت، ولا يستطيع أحد أن يتكلم، ولا يستطيع أن يعرف شيئاً وإذا بهم يقولون: هنا ينتهي الطب، وهنا تقف عقولنا ويبقى الأمر لله جل جلاله، وهو لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، فتجد هذه الأشياء التي تفضي بهلاك الأنفس لا تختص بالصغير ولا بالكبير، يعني: قد يحدث خلل في رجل عاجز كبير السن، يغلب على الظن أنه ميت فيقول قائل: نعم لكبر سنه، فإذا بالله جل جلاله يأتيهم بطفل ما يبلغ حتى سنوات، ويوضع بين أيديهم، وإذا بهم يستسلمون، ثم يأتيهم بالشاب القوي الجلد في صحته وعافيته، وفجأة يحدث له ذلك، أو تأتيه السكتة أو يأتيه -نسأل الله السلامة والعافية- ما يأتيه وإذا بهم يقفون عاجزين، ما ينجيهم إلا الله جل جلاله.

شرع الله هذه الأذكار والأوراد حرزاً من الشرور الظاهرة والباطنة.. من الشرور المجتمعة والمنفردة.. من أي شيء يصيبك في دينك أو دنياك، فالأذكار عصمة من الله جل جلاله للعبد، وهذه الكلمات يقولها الإنسان ملتجئاً إلى الله، فتكتب له حسنات تلاوتها إذا كانت من الآيات، وأجر ذكرها إذا كانت من الأحاديث، فما أكرم الله جل جلاله! وما أعظم رحمته بعباده! هذا والله هو الكرم وهذا هو الجود! مع أنها حرز لك، فهل وجدت أحداً يحرسك ثم مع ذلك يعطيك؟! لا يكون هذا إلا من الله وحده، ولذلك الناس اليوم في غفلة، وأبسط شيء -وليس بالبسيط- إذا ركبت وأنت في السفر، ولنضرب مثلاً بشيء موجود الآن: تركب الطائرة فتقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، إي والله سبحان الله الذي سخر هذا المخلوق العجيب، لو كان يوجد بالذكاء والله إن الأقدمين أكثر منا ذكاءً، ولو كان يوجد بالقوة والله إن الأولين أشد وأقوى منا كما أخبر الله عز وجل، أكثر منا قوة! وأكثر منا أموالاً! وأكثر منا صحة! ولكن الله سبحانه يعطي الأول ويعطي الآخر لأنه كريم، فتقف أمام هذا المخلوق العجيب، والذي صنع الطائرة حائر كيف تطير؟ صنع الطائرة وهو لا يدري كيف تطير هذه الطائرة! فالله هو الذي فتح باب رحمته وسخر هذا المخلوق العجيب للناس.

والذي نريد أن نعرف فضله هو الذكر وفائدته، يقول الإنسان الأذكار قبل أن يركب طائرة، وقلبه يرجف من الخوف وليس له معاذ ولا ملاذ إلا إلى الله جل جلاله، أمة تحمل بين السماء والأرض -الأربعمائة والثلاثمائة والمائتان والمائة- يحملون في شدة الحر وإذا بهم في برد، ويحملون في شدة البرد وإذا بهم في دفء، ويمضون الساعات بطعامهم وشرابهم، ولربما أغدقت عليهم المترفات التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله، ثم يسيرون في أمان من الله جل جلاله، يقول بعض الخبراء: لو حدث أقل خلل في الجهاز الكهربائي يمكن أن تنفجر هذه الطائرة بمن فيها، فلا يبقى فيها أحد، ويقول بعض مشايخنا: لولا أن المشاهد أن أغلب الرحلات تسلم، لما جاز للمسلم أن يركبها، لكن الحمد لله أكثر الأحوال السلامة، لكن من الذي سلم؟ الله سبحانه لا إله إلا هو!

ولكن ما أظلم الإنسان كما وصفه ربه: ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]! ومن أظلم الظلم ظلمه لنفسه وكفرانه لنعمة ربه، يحمله الله هذا المحمل بين السماء والأرض، وقد تلا الأذكار وسأل الله جل جلاله، فإذا نزل إلى الأرض لا يمكن أن يذكر الله، وقل أن تجد أحداً منذ أن تطأ رجله المطار يلهج لسانه بالثناء على الله بما هو أهله، ولكنه يخرج ويسرح ويمرح غافلاً عن النعمة والحفظ الذي حفظه الله جل وعلا، لو تصور الواحد منا أنه في ليلة بل والله لو في ساعة مر عليك كرب ومعك أهلك وأبناؤك -لا قدر الله- وقدر الله لك سبحانه من ينجيك من هذا الكرب، لو كنت على خوف أن تهلك أنت وذريتك ومن معك فجاء شخص وأنجاك من هذا لبقيت عمرك كله تتحدث بفضله عليك، يا لله العجب! وأنت ما من طرفة عين وما من لحظة إلا والله يحفظك، له معقبات من بين يديك ومن خلفك، ومن أمامك، ومن تحتك، وعن يمينك، وعن شمالك تحفظك مما لم يكتبه الله عز وجل أن يصيبك.

الأذكار حفظ عظيم من الله جل جلاله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله جل جلاله، فلما نزلت عليه المعوذات ترك سائر التعاويذ واقتصر على المعوذتين، الشرور الظاهرة والشرور الباطنة، الشرور الروحية والشرور المحسوسة كل هذا جمعته المعوذتان قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2] هل هناك شيء يخرج عن خلقة الله جل جلاله؟! الله أكبر! (قل أعوذ): ألوذ وألتجئ وأعتصم، لكن يقولها المؤمن وهو يستشعر ما معنى أعوذ؟ ويستشعر أن السماء تتفتح بهذا الدعاء، ولذلك ربما يقولها المسحور فيعذب ساحره، ويقولها المسحور فيتعذب بها حتى الجني والقرين، وتجده يجد من الشدة واللأواء كلما اتصل القلب بالله جل جلاله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] هاتان السورتان سورة الفلق وسورة الناس جعلهما الله عز وجل حلاً لعقدة السحر الذي أصيب به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أشد السحر لما سحره لبيد بن الأعصم عليه لعنة الله

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:1-3] الغاسق: الذي هو النجم، و(إذا وقب) إذا دخل وتعمق، وغالب ابتداء الليل ساعة انتشار الشياطين، بعد غروب الشمس إلى اشتباك النجوم، ولذلك نهي عن إطلاق الصبية في مثل هذا الوقت: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) إذا قلت: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) شمل هذا جميع الشرور التي تكون على الأرض أو بين السماء والأرض أو تنزل من السماء على العباد؛ لأن الله يحفظك بقدرته سبحانه وتعالى بهذه الكلمة اليسيرة: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:2-5] لأن الضرر يأتيك من وجهين:

إما أن يكون الضرر يأتيك بالسحر وخاصة الأذى الروحي، يأتيك بتسلط وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] والضرر إما أن يكون مقصوداً أو غير مقصود، فالنفاثات في العقد غالباً تضر وممن يريد بك الشر فيستعين بالجن بأقصى أنواع الاستعانة وهذا غالباً ما يكون في السحر؛ لأنه ما يؤثر السحر إلا إذا تقرب الساحر فذبح للجن، أو نذر لهم أو فعل فعل الجن، ولذلك بعض السحرة يطلب ممن يأتيه أن يذبح للجن، فهذا غاية التقرب لغاية الشر وهو إبليس وجنوده لعنهم الله، فإذا نجوت من هذا بقي الذي يأتيك عن غير قصد؛ لأنه ربما شخص يراك وهو لا يعرفك ويرى عليك نعمة من نعم الله فيبهر من هذه النعمة فينسى ذكر الله فتصيبك العين، والعين حق، فانظر حكمة القرآن! وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:4-5].

بعد هذا بقيت الشرور التي في النفس وهي الوساوس والخطرات، الآن كفيت الشرور الظاهرة فما بقي أحد لا من أعدائك ولا ممن لا يقصدك إلا وقد حفظت منه بهذه السورة العظيمة إذا بك تقول: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ [الناس:1-3] ما ألذ الثناء على الله جل جلاله! فكل شيء إذا مدحته وأطريته ربما علمت أو تيقنت أنك مبالغ إلا الله جل جلاله، فإنك مهما أثنيت عليه فإنك مقصر في حقه سبحانه وتعالى، ما أحد يستطيع أن يبلغ الغاية في مدحه قال صلى الله عليه وسلم: (لا نحصي ثناءً عليك).

مَلِكِ النَّاسِ [الناس:2] يعني: أن تخاف من الناس، من بعض الأمور التي جعلها الله سبحانه وتعالى بأيديهم لكنك في ذات الوقت تحس أنهم مملوكون وأنهم عباد لله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ [الناس:1-2].

فالله سبحانه وتعالى مالك الدنيا ومالك الآخرة ومالك الجن والإنس: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [المؤمنون:88] من هذا الذي خرج عن ملك الله جل جلاله؟ مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ [الناس:2-3] المعبود الحق، الذي لا يستحق العبادة أحد سواه، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:4-6] التأثير الفكري، فكما أن الشروط محسوسة تكون أيضاً معنوية غير محسوسة: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:6] وقد يكون هذا الوسواس الخناس أقرب الناس إلى الشخص، فقد يكون الولد، وقد يكون الوالد، وقد تكون الوالدة، وقد تكون الزوجة، وقد يكون الصديق الذي تظنه صديقاً وإذا به شرير، وقد يكون صديقاً محباً لكنه أحمق، ولذلك قالوا: قد يصاحب الإنسان أحمقاً فيضره من حيث يظن أنه ينفعه، فقد يأتيك بشر يوسوس لك به ويظن بذلك أنه ينفعك فإذا به يضرك.

فإذا أمسيت وأصبحت وليس في قلبك إلا الله وبينك وبين الله هذه الكلمات حفظت من كل مكروه، ما أنزلها الله سدى، ولا تليت في كتاب الله عبثاً، فإن قلت: (أعوذ) أعاذك الله، وإن قلت: (ألوذ) فأنت في ملاذ الله جل جلاله، ومن هذا الذي يستطيع أن يتخطى شعرة واحدة في جوار الله جل جلاله، قال تعالى: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88] سبحانه لا إله إلا هو.

فالمقصود: أن الأذكار مهمة، فمن أعظم فوائدها وهو الأساس: صلة العبد بالله جل جلاله، ولذة الدنيا وسرورها وبهجتها وأنسها في القرب من الله جل جلاله، فمن ذكر الله بهذه الأذكار أنس بالله، وإذا أنس بالله انقطعت وحشته وزال همه وغمه، وشرح الله صدره، وجعله في انشراح وطيب، يصبح منشرح النفس، مطمئن القلب، واثقاً بالله جل جلاله.

كذلك من فوائدها: أن هذه الأذكار تذهب الخوف عن الإنسان؛ لأنه إذا كان الأمن قوياً كان الخوف أضعف، ولذلك تجد الشخص عندما يجد قوة تحميه بعد الله سبحانه وتعالى يطمئن أكثر، فإذا اطمأننت أكثر في يومك وصباحك استطعت أن تذكر الله، واستطعت أن تتفقد مصالحك الدينية والدنيوية بكل طمأنينة وارتياح، وهذه كلها قوى روحية داخلية، ولذلك تجد في المسلمين من القوة ما لا تجده في الكفار؛ لأن عندهم القوة الروحية، ولذلك تجد الرجل العاجز في آخر عمره يقوى على ما لا يقوى عليه الشاب؛ لأن روحه قوية وروح الشاب ضعيفة، والقوة كلها في الروح.

الأمر الثالث: أن الإنسان إذا يتعود على قراءة هذه الأذكار، وتفقد الكلمات التي فيها سواءً سؤال خير أو دفع شر فإنه بذلك يكون قد سلم الأمر لله، فما ظنك بعبد سأل الله خير يومه وخير ما فيه أوله وآخره، وسأله فواتح الخير في أوله وآخره وفيه كله؟

ما ظنك بإنسان يسأل الله هذه المسألة وهو واثق بالله جل جلاله؟!

فإن وجد خيراً حمد الله أنه استجاب دعاءه فازداد إيمانه وكمل يقينه بالله جل جلاله، وإن وجد غير ذلك من البلاء أيقن أن وراء هذا البلاء خير، وقد يكون في الظاهر شراً ولكنه في الباطن خير، ولذلك قال الله في الإفك: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ [النور:11] فقد يأتيك الخير من حيث لا تظن، فإذا أنس العبد ووثق بالله عز وجل لن يشتكي ربه إلى أحد سواه أبداً، فتجده وهو مريض يحمد الله، وتجده إذا رأى نكبة في أهله وولده وثق أنه سيجعل الله عاقبة هذه النكبة خيراً له في دينه ودنياه وآخرته.

كذلك أيضاً من فوائد هذه الأذكار الحرز والحفظ الذي يكون بسببها، إذا نام الإنسان حفظ في نومه، ولربما جاءه عدو فقتله وهو نائم، ولربما جاءه شيطان يريد أن يتلبس به فحفظ منه.

قال بعض المشايخ -وكان من خيار طلبة العلم الذين نعرفهم، ونحسبهم ولا نزكيهم على الله- كنت لا أترك المعوذات إذا نمت، قال: فلما جئت أويت واضطجعت وإذا بي أشعر باثنين يتحدثان بجواري، أحدهم يقول للآخر: ادخل فيه، يعني: تلبس به، والجني يتلبس بالإنسان، قال: ما أستطيع، إنه قرأ الأذكار! وهذه أشياء يريها الله عز وجل للعباد، وتتفق مع النصوص الواردة في السنة عبرةً للمعتبرين وآيةً للموقنين.

الأذكار ما هي عبث، فإنك تُحْفَظ بها في نفسك، فإذا قلت: باسم الله على أهلي ومالي ونفسي، باسم الله الذي ما كان في شيء إلا باركه الله جل جلاله، كما قال سبحانه وتعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرحمن:78] فاسم الله مبارك، فأنت إذا قلت: باسم الله على أهلي ومالي ونفسي، نزلت البركة على أهلك ومالك ونفسك، ولذلك تجد الرجل الذي يحافظ على الأذكار في صباحه ومسائه يجد البركة في زوجته، والبركة في أولاده، والبركة في ماله، والبركة في أهله، والبركة في كل من ذكر اسم الله عليه؛ لأن اسم الله كله خير مع الحفظ والحرز الذي جعله الله سبحانه وتعالى، كذلك أذكار الصباح والمساء تصل العبد بالله جل وعلا: اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، شيء يذكر بالله، اللهم بك أصبحنا؛ براءة من الحول! براءة من القوة! لذةٌ لذةٌ! والإنسان عندما يقول هذه الأذكار لا يقولها بسرعة، بل يقولها بتدبر وتفكر في المعاني.

من فوائد الأذكار: أنها تعين على المصالح، ولذلك لما جاءت فاطمة رضي الله عنها تريد الخادم وتسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيها خادماً يعينها قال لها: (أوَلا أدلكما على خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما تسبحان الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدانه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرانه أربعاً وثلاثين) هذا الذكر لا يحافظ عليه أحد إلا أعين على مصالحه الدينية والدنيوية إذا أصبح حتى يأوي إلى فراشه، وهذا مجرب! حتى ذكر لي بعض الإخوان أنه كان في ساعات الشدة والكرب يقول: أجد أثر هذا الذكر إذا نسيتُه، وكان علي رضي الله عنه لا يتركه، ولم يتركه حتى ليلة صفين، وهو في شدة الجهاد والقتال ما ترك هذا الذكر، يُعان به الإنسان وتكون له قوة ومدد من الله عز وجل بشكل عجيب غريب؛ لكن كلما كان عنده حضور قلب عند التسبيح والتحميد والتكبير، كلما كان نفعه من ذلك الذكر أعظم.

ثم انظر! إذا أوى إلى فراشه فقال: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلى إليك).

كلمات طيبة تصل الإنسان بالله جل جلاله، (لا ملجأ ولا منجا منك إلى إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت). فإنك إن مت من ليلتك مت على الفطرة، خير كثير.

ما ترك عليه الصلاة والسلام باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشد إلا هدانا إليه، ولذلك المؤمن ليس بحاجة إلى الطلاسم، وليس بحاجة إلى المشعوذين، وليس بحاجة إلى الخرافيين، وليس بحاجة إلى الكهنة، ولا إلى العرافين، إنما هو بحاجة إلى الله جل جلاله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) كذلك كلنا خائفون ولا أمان لنا إلا بالله. اللهم إنا نسألك أن تؤمِّنَنا بأمانك في الدنيا والآخرة، وأن تجعلنا في جوارك وحفظك وكنفك يا حي يا قيوم!

فينبغي للمسلم أن يحافظ على هذه الأذكار، وأن يحرص عليها، وهي من أعظم الأسباب التي تعين على الهداية وعلى الثابت على الهداية، وهي التي أيضاً يوضع بها البركة في تعلُّمِ الإنسانِ وعلومِه، والخيرُ الذي يكون منه يُبارَك له فيه؛ لأنه سأل الله عز وجل الخير في يومه وفي نهاره وفي ليله.

أما الأذكار التي تخص الأحوال مثل: دخول الخلاء فإنها آكد، خاصةً إذا حصل ضررٌ يكون الإنسانُ محافظاً عليها حتى يكون أبعد من الشر، الأذكار عند السفر، الأذكار في أحوال السفر المختلفة، كما لو دخل قرية فقال: (اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما فيها وخير من فيها، وأعوذ بك من شرها وشر من فيها، اللهم حببنا إلى أهلها)، وحبب إلينا صالحي أهلها، وانظر كيف السنة! (حببنا إلى أهلها) فأنت من فضل الله عليك أن يحبك الناس حتى الكفار منهم لا مانع من أن يحبوك؛ لأنك قد تكون سبباً في هدايتهم، حببنا إلى أهلها، وتقول: (وحبب إلينا صالحي أهلها)، فلا يدخل في قلبك محبة أعداء الله جل جلاله أبداً، ولا تحب إلا من يحبه الله ومن يرضى عنك الله في محبته.

فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن أحب فيه، ووالى فيه، وعادى فيه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.