شرح زاد المستقنع باب الغصب [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع].

(وإن بنى في الأرض أو غرس) فيه مسائل، ونبدأ -أولاً- بالبناء ثم بالغرس.

من اغتصب أرضاً وأحدث فيها غرساً، فإنه يصدق عليه أنه غاصب، وهذا مذهب جمهور العلماء، أن الغصب يقع على الأراضي والعقار، وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة والقاضي أبو يوسف عليهما رحمة الله، فقالا: لا غصب في العقارات؛ لأن الغصب عندهما يكون فيه شيء من الحيازة والنقل، والأرض لا تستطيع أن تنقلها من موضعها، ولذلك قالوا: إنه لا يتحقق فيها الغصب، وقد أجاب الجمهور عن ذلك بأدلة منها:

أولاً: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري وغيره: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض)وفي رواية: (من غصب ..) وقوله: (من غصب قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) قال: (من الأرض)، فجعل الأرض محلاً للغصب، فدل على أن الغصب يقع في العقارات كما يقع في المنقولات.

كذلك أيضاً مما يدل على هذا: عموم الأدلة الواردة في رد ما أخذ، والمنع من الاعتداء على حق المسلم، فيكون ذلك غصباً واعتداء على أموال الناس.

ثالثاً: أن الاستيلاء على الأرض ومنع مالكها منها ومن التصرف منها يعد غصباً كالمنقولات، وما وجدنا فرقاً بين العقار والمنقول، فالشخص حينما يغتصب أرضاً ويمنع مالكها من الانتفاع بها، ومن سكناها ومن تأجيرها، لا فرق بينه وبين من اغتصب طعاماً، ولا فرق بينه وبين من اغتصب دابة، وكون الصورة ليس فيها نقل لا يؤثر، المهم أنه حال بينه وبين الانتفاع بها بالاستيلاء والقهر، وتلك حقيقة الغصب.

أقوال العلماء في مسألة البناء على الأرض المغصوبة

نبدأ أول شيء بمسألة البناء، إذا أحدث في الأرض البناء وأردنا أن نرد العين المغصوبة إلى مالكها، وثبت عند القاضي أن هذا الشخص غاصب وأن البناء بني على أرض مغصوبة، فما الحكم؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال هي:

أئمة الحنفية -رحمهم الله- يقولون: من اغتصب أرضاً وبنى عليها ففي ذلك تفصيل:

فإما أن يكون البناء قيمته أكثر من قيمة الأرض، وإما أن يكون العكس، فتكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء.

مثال: لو أن شخصاً أخذ أرضاً قيمتها مليوناً، وأحدث بناء عليها بمليونين، فقيمة البناء أكثر من قيمة الأرض نفسها، والعكس: تكون قيمة الأرض مليونين والبناء قيمته مليوناً، فحينئذٍ تكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء، قالوا: إذا كانت قيمة الأرض أكثر فحينئذٍ يكون الواجب على الذي غصب أن ينقل بناءه، أو يعاوضه المالك عما أحدثه في أرضه.

فالمبلغ الذي بنى به البناء يجب أن يدفعه المالك ويسترد أرضه ويكون البناء ملكاً له.

أما لو أنه أحدث بناءً أضعاف قيمة الأرض أو يزيد على قيمة الأرض فإننا نقول في هذه الحالة: ادفع لمالك الأرض قيمة أرضه ويبقى الغاصب في الأرض والبناء له.

هذا مذهب الحنفية، يرون أنه ينظر في قيمة البناء الذي أحدثه الغاصب وقيمة الأرض، فإن كانت قيمة الأرض أغلى فيثبت المالك ويخرج الغاصب ويخرج قيمة البناء، وإن كانت قيمة البناء أغلى يثبت الغاصب ويخرج مالك الأرض، وهذا بنوه على القاعدة: إذا تعارضت مفسدتان روعي دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، فيقولون: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين.

فلما كان ضرر المالك للأرض أعظم روعي حقه، والعكس بالعكس.

المذهب الثاني: مذهب المالكية رحمهم الله، يقولون: إنه ينظر إلى حق المالك المغصوب منه، وننظر في البناء، فقالوا: نقدر البناء ونسقط من البناء الذي أحدثه الغاصب قيمة الهدم ونقل المهدوم، ثم يدفع له المالك ذلك الفضل، وإن شاء ألزم الغاصب أن يهدم وأن يخرج من أرضه، فيخير بين الأمرين.

فقالوا: ننظر إلى حق المالك ونقول له: إن شئت أن تدفع لصاحب البناء قيمة البناء، وتنقص منها قيمة الهدم والنقل وأرش النقل، وإن شئت تقول له: اهدم بناءك واخرج عن أرضي ورد لي الأرض كما كانت، هذا مذهب المالكية.

وبناءً على ذلك: يرون أن الأرض للمالك، فليس للغاصب أي طريقة على الأرض خلافاً للحنفية رحمهم الله، لكنهم قالوا: بالنسبة للشخص الذي غصب نقول له: ليس لك إلا قيمة البناء وننقص من قيمة البناء تكلفة الهدم.

مثال: لو أن شخصاً غصب أرضاً، ثم بنى عليها بناء وثبت عند القاضي الغصب وأمر برد الأرض المغصوبة، فلما أمر برد الأرض المغصوبة قلنا للمالك: أنت بالخيار بين أمرين: تثمن البناء، فالبناء الموجود عظماً أو مفصلاً، قيمته يساوي مليوناً، وقال أهل الخبرة: هذا بناء يكلف مليوناً، نقول: لو هدم ونقل الأنقاض بعد الهدم، كم سيكلف؟ قالوا: مائتي ألف، فنقول له: إما أن تدفع له ثمانمائة ألف أو نلزم الغاصب بهدم البناء ورد الأرض كما كانت، فيخير المالك ولا يلزم بواحد منهما.

وهذا مذهب لا شك أنه مما يردع الناس، وإن كان ما سيأتي من مذهب الشافعية والحنابلة ألزم للأصل.

الشافعية والحنابلة رحمهم الله قالوا: ليس لعرق ظالم حق، وهذا منطوق الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: الغاصب معتدٍ، وحينئذ نقول له: انقل بناءك ورد الأرض كما كانت، وإن شاء في هذه الحالة أن يهدم بنفسه، وإن شاء أن يعطي كلفة هدم البناء للمغصوب منه فعليه أن يفعل ذلك.

أما الأرض فإنها ترجع كما كانت، وليس له حق في هذه الأرض ولا يختلف الحكم عندهم لا ببناء ولا بغرس.

وفي الحقيقة من حيث الأصول والأدلة فمذهب الحنابلة والشافعية أصح هذه المذاهب؛ وذلك لأن الغاصب معتدٍ على غيره، وبهذا الاعتداء بنى في غير ملكه، فلا يثبت للبناء حرمة؛ لأن الشرع لا يثبت الحرمة إلا لشيء مبني على أصل صحيح، وما بني على باطل فهو باطل، والفرع تابع لأصله، وهذا أصل حرام فكيف ينبني عليه استحقاق المعاوضة ونقول: من حقه أن يعاوض؟!

أما ما ذكره أصحاب المذهب الأول من قولهم: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، فنقول: يرتكب أخف الضررين فيما له حرمة، ويكون الضرران في شيئين لهما حرمة، وأما هذا فهو غاصب لا حرمة له، وتصرفه في مال غيره، وهذا مالك حقيقي ملك الأرض وهي أرضه وأفسدت عليه أرضه، وقد يكون أرادها لزرع فأصبحت لبناء، فليس لعرق ظالم حق، خاصة أنه صلى الله عليه وسلم نص على ذلك.

ثانياً: نقول لهم: لو قلنا بمذهبكم لتلاعب الناس وأمكن للظلمة والأغنياء أن يتسلطوا على أموال الفقراء، فالأمر بسيط، يذهب إلى فقير ليس عنده مال، ويغصب أرضه ويحدث عليها بناء بالملايين، ثم يقول له: الذي أحدثته أغلى من أرضك، فخذ قيمة أرضك واخرج، وهذا لا شك أنه يفتح باب شر عظيم، ويؤدي إلى باطل لا تقره الشريعة، فأصبح المغصوب منه تؤخذ منه أرضه، ولربما لا يرضى ببيعه، وتؤخذ منه قهراً.

وعلى هذا: الذي يصح هو مذهب من قال: إنه ليس لعرق ظالم حق، ونقول: على الغاصب أن يقلع البناء من الأرض، وأن يرد الأرض كما كانت، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، فقال رحمه الله: (وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع).

لزمه قلع البناء بالهدم، ورفع أنقاض البناء، فجميع الآثار الباقية بعد البناء ينبغي إزالتها، وإذا بقيت آثار حفر أو نحوها تردم، فإن ردمت وتشوهت الأرض بعد الردم وأصبحت معيبة وجب عليه دفع النقص، بحيث لو كانت قبل الغصب قيمتها ثلاثمائة ألف، وبعد الغصب صارت قيمتها مائتي ألف، فعليه أن يرد الأرض ومعها مائة ألف ضماناً للنقص الذي حدث بسبب آثار الغصب التي وقعت.

نبدأ أول شيء بمسألة البناء، إذا أحدث في الأرض البناء وأردنا أن نرد العين المغصوبة إلى مالكها، وثبت عند القاضي أن هذا الشخص غاصب وأن البناء بني على أرض مغصوبة، فما الحكم؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال هي:

أئمة الحنفية -رحمهم الله- يقولون: من اغتصب أرضاً وبنى عليها ففي ذلك تفصيل:

فإما أن يكون البناء قيمته أكثر من قيمة الأرض، وإما أن يكون العكس، فتكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء.

مثال: لو أن شخصاً أخذ أرضاً قيمتها مليوناً، وأحدث بناء عليها بمليونين، فقيمة البناء أكثر من قيمة الأرض نفسها، والعكس: تكون قيمة الأرض مليونين والبناء قيمته مليوناً، فحينئذٍ تكون قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء، قالوا: إذا كانت قيمة الأرض أكثر فحينئذٍ يكون الواجب على الذي غصب أن ينقل بناءه، أو يعاوضه المالك عما أحدثه في أرضه.

فالمبلغ الذي بنى به البناء يجب أن يدفعه المالك ويسترد أرضه ويكون البناء ملكاً له.

أما لو أنه أحدث بناءً أضعاف قيمة الأرض أو يزيد على قيمة الأرض فإننا نقول في هذه الحالة: ادفع لمالك الأرض قيمة أرضه ويبقى الغاصب في الأرض والبناء له.

هذا مذهب الحنفية، يرون أنه ينظر في قيمة البناء الذي أحدثه الغاصب وقيمة الأرض، فإن كانت قيمة الأرض أغلى فيثبت المالك ويخرج الغاصب ويخرج قيمة البناء، وإن كانت قيمة البناء أغلى يثبت الغاصب ويخرج مالك الأرض، وهذا بنوه على القاعدة: إذا تعارضت مفسدتان روعي دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، فيقولون: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين.

فلما كان ضرر المالك للأرض أعظم روعي حقه، والعكس بالعكس.

المذهب الثاني: مذهب المالكية رحمهم الله، يقولون: إنه ينظر إلى حق المالك المغصوب منه، وننظر في البناء، فقالوا: نقدر البناء ونسقط من البناء الذي أحدثه الغاصب قيمة الهدم ونقل المهدوم، ثم يدفع له المالك ذلك الفضل، وإن شاء ألزم الغاصب أن يهدم وأن يخرج من أرضه، فيخير بين الأمرين.

فقالوا: ننظر إلى حق المالك ونقول له: إن شئت أن تدفع لصاحب البناء قيمة البناء، وتنقص منها قيمة الهدم والنقل وأرش النقل، وإن شئت تقول له: اهدم بناءك واخرج عن أرضي ورد لي الأرض كما كانت، هذا مذهب المالكية.

وبناءً على ذلك: يرون أن الأرض للمالك، فليس للغاصب أي طريقة على الأرض خلافاً للحنفية رحمهم الله، لكنهم قالوا: بالنسبة للشخص الذي غصب نقول له: ليس لك إلا قيمة البناء وننقص من قيمة البناء تكلفة الهدم.

مثال: لو أن شخصاً غصب أرضاً، ثم بنى عليها بناء وثبت عند القاضي الغصب وأمر برد الأرض المغصوبة، فلما أمر برد الأرض المغصوبة قلنا للمالك: أنت بالخيار بين أمرين: تثمن البناء، فالبناء الموجود عظماً أو مفصلاً، قيمته يساوي مليوناً، وقال أهل الخبرة: هذا بناء يكلف مليوناً، نقول: لو هدم ونقل الأنقاض بعد الهدم، كم سيكلف؟ قالوا: مائتي ألف، فنقول له: إما أن تدفع له ثمانمائة ألف أو نلزم الغاصب بهدم البناء ورد الأرض كما كانت، فيخير المالك ولا يلزم بواحد منهما.

وهذا مذهب لا شك أنه مما يردع الناس، وإن كان ما سيأتي من مذهب الشافعية والحنابلة ألزم للأصل.

الشافعية والحنابلة رحمهم الله قالوا: ليس لعرق ظالم حق، وهذا منطوق الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: الغاصب معتدٍ، وحينئذ نقول له: انقل بناءك ورد الأرض كما كانت، وإن شاء في هذه الحالة أن يهدم بنفسه، وإن شاء أن يعطي كلفة هدم البناء للمغصوب منه فعليه أن يفعل ذلك.

أما الأرض فإنها ترجع كما كانت، وليس له حق في هذه الأرض ولا يختلف الحكم عندهم لا ببناء ولا بغرس.

وفي الحقيقة من حيث الأصول والأدلة فمذهب الحنابلة والشافعية أصح هذه المذاهب؛ وذلك لأن الغاصب معتدٍ على غيره، وبهذا الاعتداء بنى في غير ملكه، فلا يثبت للبناء حرمة؛ لأن الشرع لا يثبت الحرمة إلا لشيء مبني على أصل صحيح، وما بني على باطل فهو باطل، والفرع تابع لأصله، وهذا أصل حرام فكيف ينبني عليه استحقاق المعاوضة ونقول: من حقه أن يعاوض؟!

أما ما ذكره أصحاب المذهب الأول من قولهم: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، فنقول: يرتكب أخف الضررين فيما له حرمة، ويكون الضرران في شيئين لهما حرمة، وأما هذا فهو غاصب لا حرمة له، وتصرفه في مال غيره، وهذا مالك حقيقي ملك الأرض وهي أرضه وأفسدت عليه أرضه، وقد يكون أرادها لزرع فأصبحت لبناء، فليس لعرق ظالم حق، خاصة أنه صلى الله عليه وسلم نص على ذلك.

ثانياً: نقول لهم: لو قلنا بمذهبكم لتلاعب الناس وأمكن للظلمة والأغنياء أن يتسلطوا على أموال الفقراء، فالأمر بسيط، يذهب إلى فقير ليس عنده مال، ويغصب أرضه ويحدث عليها بناء بالملايين، ثم يقول له: الذي أحدثته أغلى من أرضك، فخذ قيمة أرضك واخرج، وهذا لا شك أنه يفتح باب شر عظيم، ويؤدي إلى باطل لا تقره الشريعة، فأصبح المغصوب منه تؤخذ منه أرضه، ولربما لا يرضى ببيعه، وتؤخذ منه قهراً.

وعلى هذا: الذي يصح هو مذهب من قال: إنه ليس لعرق ظالم حق، ونقول: على الغاصب أن يقلع البناء من الأرض، وأن يرد الأرض كما كانت، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، فقال رحمه الله: (وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع).

لزمه قلع البناء بالهدم، ورفع أنقاض البناء، فجميع الآثار الباقية بعد البناء ينبغي إزالتها، وإذا بقيت آثار حفر أو نحوها تردم، فإن ردمت وتشوهت الأرض بعد الردم وأصبحت معيبة وجب عليه دفع النقص، بحيث لو كانت قبل الغصب قيمتها ثلاثمائة ألف، وبعد الغصب صارت قيمتها مائتي ألف، فعليه أن يرد الأرض ومعها مائة ألف ضماناً للنقص الذي حدث بسبب آثار الغصب التي وقعت.

بقي السؤال: لو أن رجلاً اغتصب أرضاً ثم قام بزراعتها، فما الحكم؟

الجواب: أنه إذا قام بغرس الأرض والزراعة فيها فلا يخلو:

إما أن يكون الزرع مما تطول مدته ويمكن نقله كالنخيل وأشجار الفواكه ونحوها، وإما أن يكون الزرع مؤقتاً يمكن أن يصبر عليه الشهر والشهران ونحو ذلك كالحبوب.

حكم اتفاق الغاصب والمغصوب منه على بقاء الزرع

أما إذا اغتصب أرضاً وكان قد زرع فيها نخلاً أو نحوه، فإن الحكم الشرعي أنه يطالب بنقل هذا النخل وإخراج هذا الزرع، ويقال له: اقلع هذا النخل وعليك مؤونة القلع، إلا إذا اتفق مع رب الأرض على أن يعطيه قيمة النخل وينصرف عنه.

مثال ذلك: لو اغتصب أرضاً وزرع فيها مائة شجرة من النخيل من نوع النخلة منه بألفين، فإذا كانت مائة نخلة وكل نخلة بألفين فمعنى ذلك أن قيمة النخل مائتي ألف، فلو قال له رب الأرض: خذ المائتي ألف واترك هذا النخل، وتراضيا واصطلحا، فحينئذٍ لا إشكال، وتنتقل المسألة من الغصب إلى الصلح، وتسري عليها أحكام الصلح المتقدمة وتصبح بيعاً، لكن إذا أعطاه مائتي ألف ريال فإنه يضمن الغاصب المدة التي مضت وقد وضع يده على الأرض غصباً، فلو أنه مكث فيها سنتين، وكل سنة لها عشرة آلاف فإنه يدفع له ما عدا أجرة هاتين السنتين، فعشرون ألفاً مستحقة لصاحب الأرض، والمائتي ألف مستحقة للغاصب، فيعطى مائة وثمانين ألفاً.

وبناء على ذلك: إذا اتفقا على إبقاء النخل، أو إبقاء الزروع والأشجار واصطلحا على ذلك فلا إشكال، وتنتقل المسألة إلى البيع، ويضمن الغاصب لرب الأرض المدة التي أمضاها غصباً وتدفع أجرتها، فلو تنازل صاحب الأرض وقال: لا أريد العشرين ألفاً وهي لك وقد سامحتك في المدة فذلك لهما؛ لأنه صلح ولصاحب الحق أن يتنازل عن حقه كله أو بعضه، هذا بالنسبة في حال اصطلاحهما على إبقاء الزرع كما هو.

الحكم إذا أصر الغاصب على نقل الزرع

الحالة الثانية: أن يقول رب الأرض: أريد الزرع أن يبقى، ويقول الغاصب: أريد أن آخذ زرعي، فحينئذٍ يجبر رب الأرض على تمكين الغاصب من أخذ زرعه ونقله؛ لأن رب الأرض وصاحب الأرض يملك الأرض، والزرع ليس ملكاً له، فيترك صاحب الزرع ينقل زرعه.

فإذا قال: أريد أن آخذ زرعي، وقال رب الأرض: بل تتركه وأعطيك قيمته، لم يفرض على الغاصب أن يتركه، وحينئذٍ يمكّن من نقل هذا الزرع، وتسري الأحكام التالية:

أولاً: يطالب بضمان المدة التي أمضاها غاصباً، فيدفع أجرة الأرض طيلة مدة الغصب، فلو مكث سنتين وهو غاصب للأرض دفع أجرة السنتين.

ثانياً: يطالب بقلع هذا الغرس في أقرب مدة، ولا يماطل ولا يتأخر، فكل تأخير وكل مماطلة إذا كانت بنوع من التلاعب فيستحق التعزير عليها، وإذا كانت بدون تلاعب خارجة عن إرادته ضمن أجرة مدتها -أي: إجارتها- لصاحب الأرض.

ثالثاً: بعد قلع الغرس يطالب بتسوية الأرض، وإعادتها كما كانت.

فإذاً: يطالب بالقلع، ثم يطالب بالأجرة، ثم يطالب بتسوية الأرض وإعادتها كما كانت، فيردم الحفر بعد نقل النخل، وكما هو معلوم في الزراعة أنه لا يمكن نقل النخلة لوحدها، بل تنقل بترابها حتى لا تفسد، ففي هذا يقول بعض العلماء: تضرب هذه الجذور ويقلع منها التراب، حتى إن بعض العلماء أو بعض القضاة من علماء المسلمين كان يأمر بوضع هذه الجذور حتى يستخلص منها التراب، وتخرج النخلة بجذرها فقط؛ لأن التراب ملك لصاحب الأرض، وهذا من أبلغ ما يكون في إحقاق الحق وإبطال الباطل.

ولا شك أن الأصول تدل على هذا، لكن بعض العلماء تسامح في هذا وقال: إنه قد يفسد النخل، ومادام أنه يمكن ردم هذه الحفر ببديل يضمن له مثل الأرض، فيقوم بدفن هذه الحفر، ثم بعد الانتهاء من دفع الأجرة وقلع النخل وتسوية الأرض ينظر في حال الأرض، فإن كانت الأرض قد تشوهت وأصبح حالها بعد قلع الغرس منها مشوهاً ينقص من قيمتها قيل له: اضمن النقص، فيؤتى بأهل الخبرة الذين لهم معرفة في الأراضي، ويقال: كم قيمة الأرض قبل أن تغتصب؟ يقال: قيمتها مائتا ألف، يقال: بعد أن سويت وبعد أن وضعت بهذا الشكل كم قيمتها؟ يقولون: صارت مائة وثمانين، فيضمن له العشرين ألفاً التي هي فرق ما بين القيمتين؛ لأن ذلك كان بسبب الغصب.

هذا من حيث حكمه: وجوب القلع على الغاصب، ثانياً: تسوية الأرض وإعادتها على الحالة التي كانت عليها، ثالثاً: ضمان النقص، رابعاً: ضمان الأجرة.

هذه الأحكام مبنية على أدلة شرعية، فنطالبه بقلع الغرس؛ لأن الأرض ليست بأرضه، وإنما هي أرض أخيه المسلم وليس لعرق ظالم حق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق)، والعرق: قال بعض العلماء: عرق الشيء جذوره التي يقوم عليها، فإذا كان ليس له حق في هذا فمن باب أولى ما بني عليه، كأنه يقول: إذا انهدم الأصل انهدم ما بني عليه.

وبعض العلماء يقول: العروق تنقسم إلى أربعة أقسام؛ قسمان منها باطن، وقسمان منها ظاهر، فالغاصب إما أن يكون له عرقان باطنان، وإما أن يكون له عرقان ظاهران.

فالعرقان الظاهران: البناء والغرس، والعرقان الباطنان: الآبار والعيون، فالبناء والغرس: كأن يغتصب الأرض فيبني فيها أو يغرس فيها فليس له حق، كما صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق).

وأما العرقان الباطنان: كأن يحفر بئراً أو يجري عيناً، ففي هذه الحالة يطالب بردم البئر وكذلك ردم العين وإعادة الأرض كما كانت؛ لأنه ليس له حق لا في الظاهر ولا في الباطن لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا إذا كان قد زرع فيها زرعاً مما تطول مدته فيطالب بهذا.

الحكم في الزروع إذا كانت مما تطول مدتها

وفي هذه الحالة يبقى السؤال بالنسبة للزروع مثل: أشجار النخيل، وأشجار الفواكه التي تبقى مدة طويلة كاللميون والتفاح والموز والبرتقال، فهذه الأشجار تبقى مدة طويلة وليست كالزروع الأخر.

ففي هذه الحالة لو أنه زرع نخلاً واتفق مع البائع على أن يعطيه النخل فيسري على ثمرة النخل التفصيل الذي ذكرناه في بيع الثمار التابعة للأصول، ويسري عليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً وقد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع).

لكن اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يكون للغاصب حق في قوله: (فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)؟

مادام أن الغصب لا حق فيه ولا استحقاق فيه فهل الثمرة أيضاً تسقط؟ وجهان للعلماء، وخصص بعض العلماء هذا بوجود الصلح بين الطرفين.

الحكم في الزروع إذا كانت مما لا تطول مدتها

أما من زرع في الأرض شيئاً مما لا تطول مدته، كزروع الحبوب، مثل: الشعير والذرة ونحو ذلك، ففي هذه الحالة يحتاج هذا الزرع إلى أن يبقى مدة، ثم بعد ذلك تعود الأرض كما كانت، فالسؤال: إذا قلنا للغاصب: اقلع هذا الزرع لم ينتفع به ولم ينتفع به صاحب الأرض، ففي هذه الحالة يسقط الزرع، حيث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وفق هذه المسألة.

ففي حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه عند أبي داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من زرع أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته) قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي رواية للنسائي : أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بهذه القضية وفصّل فيها أن الزارع وهو الغاصب ليس له في الزرع حق، ما يقول: آخذ هذا الزرع وأقلعه، ليس له في الزرع حق.

وبناء على ذلك أسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزرع استحقاق الغاصب وأثبت للغاصب استحقاق النفقة، فيقدر له تعبه، وأجرة التعب قيل: تقدر له قيمة البذر وتقدر له قيمة الحراثة والكلف والمؤونة التي تكلفها في إنبات هذا الزرع بإذن الله عز وجل.

إذاً: مذهب الحنابلة رحمهم الله على أن من اغتصب أرضاً وزرعها، والزرع باقٍ ولم يحن حصاده، ولم يحصده الغاصب ففي هذه الحالة فإنه يقضى بأنه لصاحب الأرض، ويعطى الغاصب نفقة البذر ومؤونة الزراعة.

مثال ذلك: لو أن زيداً اغتصب أرضاً، فزرعها وكان قد تكلف بذره خمسمائة ريال، ثم قام بالحراثة والزراعة ومؤونة الحرث تكلف ثلاثمائة ريال، فحقه ثمانمائة ريال، ثم يخلي بين صاحب الأرض وبين الزرع، هذا بالنسبة لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

لكن لو قال المالك للأرض: لا أعطيه شيئاً وليس عندي شيء أعطيه، فما الحكم؟ هل نقول: يجب عليه قلع الزرع، والزرع يحتاج إلى شهر أو شهرين حتى يحصد، فيكون إتلافاً للمال وإفساداً للثمرة؟

فقال فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- في هذه الحالة: نقول لمالك الأرض: تمكن الغاصب من إبقاء الزرع إلى الحصاد ولك أجرة مثله.

إذاً: هناك خياران لصاحب الأرض، الخيار الأول: نقول له: خذ الزرع وادفع قيمة البذر وكلفة المؤونة.

والخيار الثاني: أن نقول له: اترك الغاصب حتى يحصد ولك أجرة الأرض حتى يكون الحصاد، ويكون له أيضاً أجرة المدة التي مضت، هذا بالنسبة لمذهب الحنابلة رحمهم الله.

أما الشافعية فقالوا: إنه يؤاخذ بقلع الغرس ولا يضمن صاحب الأرض إلا إذا اتفقا وتراضيا فيما بينهما.

وأما الحنفية فقالوا: إذا اغتصب أرضاً للزراعة، فإما أن تكون الأرض معدة للزراعة، وإما أن تكون الأرض معدة للإجارة، وإما أن تكون الأرض غير معدة لواحد من الأمرين، فإن كانت الأرض معدة للزراعة فينتقل العقد بين مالك الأرض وبين الغاصب عقد مزارعة، وينظر في العرف الموجود في ذلك البلد، كم يكون لصاحب الأرض؟ وكم يكون لصاحب الزرع؟ وتقسم الثمرة من الناتج بينهما على العرف، بناءً على القاعدة الشرعية التي تقول: العادة محكمة.

وأما إذا كانت الأرض معدة للكراء، كرجل كان يعد أرضه للإجارة -كأن يؤجرها للناس مستودعات أو نحو ذلك- فاغتصبها شخص وزرعها قالوا: تقدر أجرة مثلها، وتدفع الأجرة، فتنتقل إلى الإجارة ويبقى الزرع حتى يحصده غاصبه.

وهذا المذهب في الحقيقة من حيث الأصول له وجهه، لكن من حيث السنة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسمت الأمر فهي تدل دلالة واضحة على أنه يجب في هذه الحالة تخيير المالك للأرض بين هذين الخيارين، نقول له: خذ الزرع وادفع لصاحبه المؤونة وقيمة البذر، أو اتركه وزرعه حتى يحصد ولك أجرة المثل.

فلم نظلم صاحب الأرض؛ لأنه أخذ أجرة مثله، ولم نظلم صاحب البذر لخوف الفساد أو الإتلاف والإهمال، وإلا فالأصل أنه لا حق له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لعرق ظالم حق).

كل هذا الكلام إذا كان الزرع في حال استوائه، لكن لو أنه كان قد استوى وحصده الغاصب حينئذٍ يضمن الغاصب أجرة الأرض، ويكون الزرع ملكاً له.

مثال: لو أن رجلاً اغتصب أرضاً وزرعها وحصد الزرع ثم باعه وكانت قيمة الزرع خمسين ألف ريال فإننا في هذه الحالة نطالبه بأجرة الأرض، فقد تكون أجرة الأرض عشرة آلاف ريال، وعلى هذا لا نقول: إن صاحب الأرض يملك الزرع، إلا إذا كان الزرع قائماً موجوداً، أما إذا حصده الغاصب فليس لصاحب الأرض إلا أجرة المدة التي استغلها الغاصب في أرضه، وضمان ما يكون بعد تسوية الأرض وإصلاحها وردها على حالتها، وما يكون من النقص يضمنه.

الخلاصة: إذا كانت الأرض قد اغتصبها وزرع فيها النخيل ففي هذه الحالة ذكرنا أنه إذا اتفق الطرفان على شراء النخل من مالك الأرض فإنه يلزم الغاصب بدفع الأجرة لما مضى، والعقد صحيح وينتقل إلى صلح بالبيع، وتسري عليه أحكام البيع التي تقدمت.

ثانياً: إذا قال الغاصب: لا أبيع، نقول له: اقلع الغرس الذي هو الشجر، ثم بعد ذلك نسوي الأرض، ثم بعد ذلك ادفع أرش النقص بين القيمتين للأرض، وادفع أجرة الأرض للمدة التي مضت، هذا بالنسبة إذا كان قد اغتصب أرضاً وزرعها نخلاً.

أما إذا زرع الزروع فقلنا: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الزرع إذا كان قائماً فإننا نقول لمالك الأرض: خذ الزرع وادفع نفقته لمن زرع، ويدفع في هذه الحالة قيمة البذر وقيمة الكلفة.

وأما إذا قال: لا أريد ذلك، فلا يكره عليه، ونقول له في هذه الحالة: اترك صاحب الزرع حتى يحصد زرعه؛ لأنه لا يمكن إتلاف هذا الزرع لأنه من باب الفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد.

بخلاف البناء، فإن البناء له شأن آخر وقد قدمنا التفصيل فيه.

أما إذا اغتصب أرضاً وكان قد زرع فيها نخلاً أو نحوه، فإن الحكم الشرعي أنه يطالب بنقل هذا النخل وإخراج هذا الزرع، ويقال له: اقلع هذا النخل وعليك مؤونة القلع، إلا إذا اتفق مع رب الأرض على أن يعطيه قيمة النخل وينصرف عنه.

مثال ذلك: لو اغتصب أرضاً وزرع فيها مائة شجرة من النخيل من نوع النخلة منه بألفين، فإذا كانت مائة نخلة وكل نخلة بألفين فمعنى ذلك أن قيمة النخل مائتي ألف، فلو قال له رب الأرض: خذ المائتي ألف واترك هذا النخل، وتراضيا واصطلحا، فحينئذٍ لا إشكال، وتنتقل المسألة من الغصب إلى الصلح، وتسري عليها أحكام الصلح المتقدمة وتصبح بيعاً، لكن إذا أعطاه مائتي ألف ريال فإنه يضمن الغاصب المدة التي مضت وقد وضع يده على الأرض غصباً، فلو أنه مكث فيها سنتين، وكل سنة لها عشرة آلاف فإنه يدفع له ما عدا أجرة هاتين السنتين، فعشرون ألفاً مستحقة لصاحب الأرض، والمائتي ألف مستحقة للغاصب، فيعطى مائة وثمانين ألفاً.

وبناء على ذلك: إذا اتفقا على إبقاء النخل، أو إبقاء الزروع والأشجار واصطلحا على ذلك فلا إشكال، وتنتقل المسألة إلى البيع، ويضمن الغاصب لرب الأرض المدة التي أمضاها غصباً وتدفع أجرتها، فلو تنازل صاحب الأرض وقال: لا أريد العشرين ألفاً وهي لك وقد سامحتك في المدة فذلك لهما؛ لأنه صلح ولصاحب الحق أن يتنازل عن حقه كله أو بعضه، هذا بالنسبة في حال اصطلاحهما على إبقاء الزرع كما هو.

الحالة الثانية: أن يقول رب الأرض: أريد الزرع أن يبقى، ويقول الغاصب: أريد أن آخذ زرعي، فحينئذٍ يجبر رب الأرض على تمكين الغاصب من أخذ زرعه ونقله؛ لأن رب الأرض وصاحب الأرض يملك الأرض، والزرع ليس ملكاً له، فيترك صاحب الزرع ينقل زرعه.

فإذا قال: أريد أن آخذ زرعي، وقال رب الأرض: بل تتركه وأعطيك قيمته، لم يفرض على الغاصب أن يتركه، وحينئذٍ يمكّن من نقل هذا الزرع، وتسري الأحكام التالية:

أولاً: يطالب بضمان المدة التي أمضاها غاصباً، فيدفع أجرة الأرض طيلة مدة الغصب، فلو مكث سنتين وهو غاصب للأرض دفع أجرة السنتين.

ثانياً: يطالب بقلع هذا الغرس في أقرب مدة، ولا يماطل ولا يتأخر، فكل تأخير وكل مماطلة إذا كانت بنوع من التلاعب فيستحق التعزير عليها، وإذا كانت بدون تلاعب خارجة عن إرادته ضمن أجرة مدتها -أي: إجارتها- لصاحب الأرض.

ثالثاً: بعد قلع الغرس يطالب بتسوية الأرض، وإعادتها كما كانت.

فإذاً: يطالب بالقلع، ثم يطالب بالأجرة، ثم يطالب بتسوية الأرض وإعادتها كما كانت، فيردم الحفر بعد نقل النخل، وكما هو معلوم في الزراعة أنه لا يمكن نقل النخلة لوحدها، بل تنقل بترابها حتى لا تفسد، ففي هذا يقول بعض العلماء: تضرب هذه الجذور ويقلع منها التراب، حتى إن بعض العلماء أو بعض القضاة من علماء المسلمين كان يأمر بوضع هذه الجذور حتى يستخلص منها التراب، وتخرج النخلة بجذرها فقط؛ لأن التراب ملك لصاحب الأرض، وهذا من أبلغ ما يكون في إحقاق الحق وإبطال الباطل.

ولا شك أن الأصول تدل على هذا، لكن بعض العلماء تسامح في هذا وقال: إنه قد يفسد النخل، ومادام أنه يمكن ردم هذه الحفر ببديل يضمن له مثل الأرض، فيقوم بدفن هذه الحفر، ثم بعد الانتهاء من دفع الأجرة وقلع النخل وتسوية الأرض ينظر في حال الأرض، فإن كانت الأرض قد تشوهت وأصبح حالها بعد قلع الغرس منها مشوهاً ينقص من قيمتها قيل له: اضمن النقص، فيؤتى بأهل الخبرة الذين لهم معرفة في الأراضي، ويقال: كم قيمة الأرض قبل أن تغتصب؟ يقال: قيمتها مائتا ألف، يقال: بعد أن سويت وبعد أن وضعت بهذا الشكل كم قيمتها؟ يقولون: صارت مائة وثمانين، فيضمن له العشرين ألفاً التي هي فرق ما بين القيمتين؛ لأن ذلك كان بسبب الغصب.

هذا من حيث حكمه: وجوب القلع على الغاصب، ثانياً: تسوية الأرض وإعادتها على الحالة التي كانت عليها، ثالثاً: ضمان النقص، رابعاً: ضمان الأجرة.

هذه الأحكام مبنية على أدلة شرعية، فنطالبه بقلع الغرس؛ لأن الأرض ليست بأرضه، وإنما هي أرض أخيه المسلم وليس لعرق ظالم حق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق)، والعرق: قال بعض العلماء: عرق الشيء جذوره التي يقوم عليها، فإذا كان ليس له حق في هذا فمن باب أولى ما بني عليه، كأنه يقول: إذا انهدم الأصل انهدم ما بني عليه.

وبعض العلماء يقول: العروق تنقسم إلى أربعة أقسام؛ قسمان منها باطن، وقسمان منها ظاهر، فالغاصب إما أن يكون له عرقان باطنان، وإما أن يكون له عرقان ظاهران.

فالعرقان الظاهران: البناء والغرس، والعرقان الباطنان: الآبار والعيون، فالبناء والغرس: كأن يغتصب الأرض فيبني فيها أو يغرس فيها فليس له حق، كما صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق).

وأما العرقان الباطنان: كأن يحفر بئراً أو يجري عيناً، ففي هذه الحالة يطالب بردم البئر وكذلك ردم العين وإعادة الأرض كما كانت؛ لأنه ليس له حق لا في الظاهر ولا في الباطن لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا إذا كان قد زرع فيها زرعاً مما تطول مدته فيطالب بهذا.

وفي هذه الحالة يبقى السؤال بالنسبة للزروع مثل: أشجار النخيل، وأشجار الفواكه التي تبقى مدة طويلة كاللميون والتفاح والموز والبرتقال، فهذه الأشجار تبقى مدة طويلة وليست كالزروع الأخر.

ففي هذه الحالة لو أنه زرع نخلاً واتفق مع البائع على أن يعطيه النخل فيسري على ثمرة النخل التفصيل الذي ذكرناه في بيع الثمار التابعة للأصول، ويسري عليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً وقد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع).

لكن اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يكون للغاصب حق في قوله: (فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)؟

مادام أن الغصب لا حق فيه ولا استحقاق فيه فهل الثمرة أيضاً تسقط؟ وجهان للعلماء، وخصص بعض العلماء هذا بوجود الصلح بين الطرفين.

أما من زرع في الأرض شيئاً مما لا تطول مدته، كزروع الحبوب، مثل: الشعير والذرة ونحو ذلك، ففي هذه الحالة يحتاج هذا الزرع إلى أن يبقى مدة، ثم بعد ذلك تعود الأرض كما كانت، فالسؤال: إذا قلنا للغاصب: اقلع هذا الزرع لم ينتفع به ولم ينتفع به صاحب الأرض، ففي هذه الحالة يسقط الزرع، حيث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وفق هذه المسألة.

ففي حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه عند أبي داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من زرع أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته) قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي رواية للنسائي : أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بهذه القضية وفصّل فيها أن الزارع وهو الغاصب ليس له في الزرع حق، ما يقول: آخذ هذا الزرع وأقلعه، ليس له في الزرع حق.

وبناء على ذلك أسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزرع استحقاق الغاصب وأثبت للغاصب استحقاق النفقة، فيقدر له تعبه، وأجرة التعب قيل: تقدر له قيمة البذر وتقدر له قيمة الحراثة والكلف والمؤونة التي تكلفها في إنبات هذا الزرع بإذن الله عز وجل.

إذاً: مذهب الحنابلة رحمهم الله على أن من اغتصب أرضاً وزرعها، والزرع باقٍ ولم يحن حصاده، ولم يحصده الغاصب ففي هذه الحالة فإنه يقضى بأنه لصاحب الأرض، ويعطى الغاصب نفقة البذر ومؤونة الزراعة.

مثال ذلك: لو أن زيداً اغتصب أرضاً، فزرعها وكان قد تكلف بذره خمسمائة ريال، ثم قام بالحراثة والزراعة ومؤونة الحرث تكلف ثلاثمائة ريال، فحقه ثمانمائة ريال، ثم يخلي بين صاحب الأرض وبين الزرع، هذا بالنسبة لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

لكن لو قال المالك للأرض: لا أعطيه شيئاً وليس عندي شيء أعطيه، فما الحكم؟ هل نقول: يجب عليه قلع الزرع، والزرع يحتاج إلى شهر أو شهرين حتى يحصد، فيكون إتلافاً للمال وإفساداً للثمرة؟

فقال فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- في هذه الحالة: نقول لمالك الأرض: تمكن الغاصب من إبقاء الزرع إلى الحصاد ولك أجرة مثله.

إذاً: هناك خياران لصاحب الأرض، الخيار الأول: نقول له: خذ الزرع وادفع قيمة البذر وكلفة المؤونة.

والخيار الثاني: أن نقول له: اترك الغاصب حتى يحصد ولك أجرة الأرض حتى يكون الحصاد، ويكون له أيضاً أجرة المدة التي مضت، هذا بالنسبة لمذهب الحنابلة رحمهم الله.

أما الشافعية فقالوا: إنه يؤاخذ بقلع الغرس ولا يضمن صاحب الأرض إلا إذا اتفقا وتراضيا فيما بينهما.

وأما الحنفية فقالوا: إذا اغتصب أرضاً للزراعة، فإما أن تكون الأرض معدة للزراعة، وإما أن تكون الأرض معدة للإجارة، وإما أن تكون الأرض غير معدة لواحد من الأمرين، فإن كانت الأرض معدة للزراعة فينتقل العقد بين مالك الأرض وبين الغاصب عقد مزارعة، وينظر في العرف الموجود في ذلك البلد، كم يكون لصاحب الأرض؟ وكم يكون لصاحب الزرع؟ وتقسم الثمرة من الناتج بينهما على العرف، بناءً على القاعدة الشرعية التي تقول: العادة محكمة.

وأما إذا كانت الأرض معدة للكراء، كرجل كان يعد أرضه للإجارة -كأن يؤجرها للناس مستودعات أو نحو ذلك- فاغتصبها شخص وزرعها قالوا: تقدر أجرة مثلها، وتدفع الأجرة، فتنتقل إلى الإجارة ويبقى الزرع حتى يحصده غاصبه.

وهذا المذهب في الحقيقة من حيث الأصول له وجهه، لكن من حيث السنة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسمت الأمر فهي تدل دلالة واضحة على أنه يجب في هذه الحالة تخيير المالك للأرض بين هذين الخيارين، نقول له: خذ الزرع وادفع لصاحبه المؤونة وقيمة البذر، أو اتركه وزرعه حتى يحصد ولك أجرة المثل.

فلم نظلم صاحب الأرض؛ لأنه أخذ أجرة مثله، ولم نظلم صاحب البذر لخوف الفساد أو الإتلاف والإهمال، وإلا فالأصل أنه لا حق له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لعرق ظالم حق).

كل هذا الكلام إذا كان الزرع في حال استوائه، لكن لو أنه كان قد استوى وحصده الغاصب حينئذٍ يضمن الغاصب أجرة الأرض، ويكون الزرع ملكاً له.

مثال: لو أن رجلاً اغتصب أرضاً وزرعها وحصد الزرع ثم باعه وكانت قيمة الزرع خمسين ألف ريال فإننا في هذه الحالة نطالبه بأجرة الأرض، فقد تكون أجرة الأرض عشرة آلاف ريال، وعلى هذا لا نقول: إن صاحب الأرض يملك الزرع، إلا إذا كان الزرع قائماً موجوداً، أما إذا حصده الغاصب فليس لصاحب الأرض إلا أجرة المدة التي استغلها الغاصب في أرضه، وضمان ما يكون بعد تسوية الأرض وإصلاحها وردها على حالتها، وما يكون من النقص يضمنه.

الخلاصة: إذا كانت الأرض قد اغتصبها وزرع فيها النخيل ففي هذه الحالة ذكرنا أنه إذا اتفق الطرفان على شراء النخل من مالك الأرض فإنه يلزم الغاصب بدفع الأجرة لما مضى، والعقد صحيح وينتقل إلى صلح بالبيع، وتسري عليه أحكام البيع التي تقدمت.

ثانياً: إذا قال الغاصب: لا أبيع، نقول له: اقلع الغرس الذي هو الشجر، ثم بعد ذلك نسوي الأرض، ثم بعد ذلك ادفع أرش النقص بين القيمتين للأرض، وادفع أجرة الأرض للمدة التي مضت، هذا بالنسبة إذا كان قد اغتصب أرضاً وزرعها نخلاً.

أما إذا زرع الزروع فقلنا: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الزرع إذا كان قائماً فإننا نقول لمالك الأرض: خذ الزرع وادفع نفقته لمن زرع، ويدفع في هذه الحالة قيمة البذر وقيمة الكلفة.

وأما إذا قال: لا أريد ذلك، فلا يكره عليه، ونقول له في هذه الحالة: اترك صاحب الزرع حتى يحصد زرعه؛ لأنه لا يمكن إتلاف هذا الزرع لأنه من باب الفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد.

بخلاف البناء، فإن البناء له شأن آخر وقد قدمنا التفصيل فيه.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع