علاقة مبحث الأدلة بالاجتهاد عند الأصوليين وارتباطها بالتدريس
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
علاقة مبحث الأدلة بالاجتهاد عند الأصوليين وارتباطها بالتدريسبعد نشر المقالينِ السابقين، اللذينِ ارتبط الأولُ منهما (ببيانِ أوجه الاتصال بين الأدلة والأحكام عند الأصوليين وصلتها بالتعلم)، فيما أبرز الثاني (صلات الأدلة بالدلالة عند الأصوليين وأثرها في بناء التعلمات)، فإن هذا الجديد سيَعرض فيه الكاتب (عَلاقة الأدلة بالاجتهاد، مع بيان أهميتها في التعليم والتعلم).
وإلى القارئ الفاضل البيان بعد الإجمال:
إذا كان الأصوليون يُعرِّفون الدليل على أنه هو الذي "...
يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري"[1]، والاجتهادَ على أنه: "بذل الوُسْع في نَيْل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط"[2] - فإن العَلاقة بينهما تظهر من جهتين:
جهة يكون فيها الدليل حاكمًا للمجتهد في عملية الاستنباط؛ بحيث يكون هو الموجِّه له.
وجهة يكون فيها المجتهد مشتغلًا على نفس الدليل من أجل الاستنباط؛ ذلك أن المستثمر - أي: المجتهد - لا بد أن يستندَ إلى دليلٍ في عملية الاجتهاد، ولا يمكنه أن يستغني عنه؛ إذ الدليل هو مرشدُه إلى الصواب، وهو مستنده في إثبات القضية أو نفيها، ولا حكم له على قضية من القضايا إلا بالاستناد إلى دليل من الأدلة.
"وأما مبحث الاجتهاد والتقليد، فهو إلحاقٌ يبين موقف المكلَّفين حيال مباحث أصول الفقه أدلةً ودلالاتٍ، فمَن استحوذ عليها كان مجتهدًا، وإلا كان مقلدًا..."[3].
ونحن في تدريس الأدلة هنا نُعلِّم الطالب أن يتمرَّن على قضية ربط الدليل بأي قضيةٍ استدل بها كيفما كانت في حياته اليومية كلها.
والغرض من ذلك تعليمُه ألا يتكلم إلا عن دليل متأكد من صحته يقينًا، وألا يتسرَّع في الحكم على الأشياء قبل معرفة مستندها.
فالمجتهد يقاس بمدى تمكُّنه من الدليل الشرعي، ومدى معرفتِه باستخراج الأحكام الشرعية منه، وكذا بمعرفةِ مراتب دلالته وضوحًا وخفاءً؛ حتى ينزله منزلة صحيحة واضحة صالحة لزمانه ومكانه وعصره.
ولا يقاس المجتهد بمدى ترداده للمتونِ وحفظ المجلدات والكتب.
إنما المجتهد كذلك مَن اقتدر على أن يحسن الفهم والاستنباط، والتوظيف والتنزيل، ومَن حصَّل ذلك كان لِما سواها أضبط، وعلى غيرها أقدر؛ لأنه يكون ملك مداخلَ العلم ومناهجه وكيفه، بدل أن يملك أطنانَه وكمَّه وتفاصيله؛ إذ تناولُ العلمِ بالمنهج يقصِّر على صاحبه الوقتَ والجهد الموظفينِ، ويقصر عليه التعامل مع تفاصيل العلم؛ حتى لا يتيهَ بين شُعَبه الكثيرة.
في حين أن الذي يتعاملُ مع العلم بالمعرفة الكمية، ولا يوظفها بالمنهج، يتيه به الحال في الفن الواحد بين التفاصيل، فيسد في عقله طريق الفهم الصحيح، وتختلط عليه مسائلُ العلم الكثيرة، فيضيع هنا الجهد والوقت ، وقد لا يصل الباحث في هذا الحال إلى أي نتيجة تسعده بعد عناء طويل.
والغرضُ من هذا البيان في هذا المقام، هو معرفة مدى أهمية الدليل في العملية الاجتهادية، فالذي يؤصل عن بُعْدِ نظرٍ دليلي، ليس هو مَن يفعل ذلك ارتجالًا؛ فالأول أضبط وألصق بالمنهج العلمي الرزين، فيما يكون الثاني قد يتكلم بغير ما وجهٍ معتبرٍ لغةً وشرعًا؛ ذلك أن الخلفية التي تحكم المجتهدَ في عملية الاجتهاد هي الدليل؛ لأنه منه ينطلق وإليه يعود، فلا محيدَ له عنه، وإلا كان اجتهاده خاطئًا، وضلَّ، وأضل معه الناس، وهذه هي المعضلة الكبرى؛ لأن الله تعالى يُعبَد عن علم، وليس عن جهل.
وما دام الأمر كذلك، فإن الله سبحانه لم يتركِ الإنسان بدون دليل يدلُّه، أو مرشد يرشده، بل أرسل إليه الرسَل عليهم الصلاة والسلام بالبراهين والحجج؛ حتى لا يكون لهذا الإنسان حُجَّةٌ على الله تعالى؛ لأن الحق أقام الحجة عليك بالدليل، فيجب أنت أيها الإنسان أن تقيم الاجتهاد بالدليل؛ لتنقذَ نفسك وتنقذ معك - على الأقل - بعضًا من الخلق الذين وصلهم اجتهادُك.
والله الموفِّق، وهو يهدي السبيل
والله المستعان
ولا تنسونا من صالح دعائكم
والسلام عليكم
[1] الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، (ت 631هـ)، تحقيق: عبدالرزاق عفيفي، دار المكتب الإسلامي، بيروت - دمشق - لبنان، ج:1، ص: 9.
[2] البحر المحيط في أصول الفقه؛ للزركشي، (ت 794هـ)، دار الكتبي، ط: الأولى، 1414هـ - 1994م، ج:8، ص: 227.
[3] غمرات الأصول؛ مشاري بن سعد بن عبدالله الشثري، ص: 28.