أرشيف المقالات

الفوائد الدعوية وموقف الداعية من الفتن من خلال قصة أصحاب الكهف

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
الفوائد الدعوية وموقف الداعية من الفتن من خلال قصة أصحاب الكهف
 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهُدى ودين الحق، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصَح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين؛ فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
 
أما بعد:
فما زال الحديث متصلاً معنا في الحديث عن قصة أصحاب الكهف، وما فيها من فوائدَ دعوية، والآن حديثنا عن ثِمار اعتزال أصحاب الكهف للشِّرك والفتن، والفوائد الدَّعوية في القصة، وموقف الداعية من الفتن من خلال قصة أصحاب الكهف.
 
ثمار اعتزال أصحاب الكهف للشرك والفتن:
وكان لاعتزال أهل الكهف للشرك والفتن ثمار كثيرة منها:
• التضحية من أجل دين الله:
«والله عز وجل إنما ذكَر وصف أهل الكهف بالفِتْية؛ ليَكونوا أُسوةً حسَنة للشباب على الدوام في الثَّبات على دين الله، والقيام بالدعوة إلى الله، وإن خالفَهم مَن خالفهم؛ قال الله عز وجل: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ﴾ [الكهف: 10]، ترَكوا القصور والبيوت المهيَّأة وأوَوْا إلى الكهف الذي لم يتعوَّدوا أن يعيشوا فيه، ومع ذلك رَجَوْا في هذا الكهف الرحمةَ والرشد؛ لأن العادات والمساكنَ المرضيَّة، والمطعم الهنيء، والملابس النظيفة، ومكان النوم المهيَّأ - كل ذلك لا يأسر العبدَ المؤمن، فتَحمَّلوا أن يكونوا في كهف، وقد كانوا في قصورٍ وبيوت مهيَّأة، وكانوا في مدينة، وربما تحتاج مرة أن تعيش في بيئة غير التي نشأتَ فيها، وفي مسكن غير الذي تعودتَ عليه، وفي فِراش غير الذي تنام عليه؛ لِتَعلَم مدى الفرق بين أن يَعيش الإنسانُ في بيت أو قصر وبين أن يَبيت في كهف، ومع ذلك لم يَعبؤوا بذلك، ولم يكن ذلك همهم؛ لأنهم ملتفتون إلى ما هو أعظم، ما الذي يُهوِّن على الإنسان أن ينال طعامًا دون طعام، ولباسًا دون لباس؟! كما قال الإمام أحمد: إنما هو طعامٌ دون طعام، ولباسٌ دون لباس، وصبرُ أيامٍ معدودة.
 
والدنيا هي أيام قليلة يُمكن أن يكون للإنسان فيها طعامٌ أقلُّ مِن طعام غيره، ولباس أقلُّ من لباس غيره؛ لكنه سوف يأخذ رزقه الذي قدَّره الله سبحانه وتعالى له، فما الذي يجعل الإنسانَ يَقبل ذلك ولا يلتفت إليه؟ إنه اهتمامه بما هو أعظمُ وأخطر، وهو أن ينال الرحمة والهداية والرشد من الله سبحانه وتعالى.
 

• النصر على قومهم والثبات على هذا الدين:
هؤلاء الفتية ضحَّوا بمنازلهم المرفَّهة، وبوضعِهم الذي كانوا فيه، وكانوا من أهل غِنًى كما ذكَر ابن كثير رحمه الله وغيره من المفسِّرين؛ فقد كانوا أهل سَعةٍ ومع ذلك صاروا إلى كهف، فليكن ذلك أيضًا أسوةً الشباب إذا ضاق بهم أمرٌ في سبيل الله، وإذا حصَل لهم ما قد يَضِيق به كثيرٌ من الناس؛ فلا بدَّ من التحمل والصبر والاحتساب، والذي يُعينك على ذلك أن تَرجوَ الرحمة والرشد، وأن تدعوَ الله سبحانه وتعالى ألاَّ يجعل الدنيا أكبر الهم، ومبلغَ العلم؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10]، فالرحمة من الله عز وجل لتطلب: ربنا آتِنا من لدنك رحمة، وهذه الرحمة بأن يَستر عليهم ويحفظهم، وأن ينصرَهم على قومهم الذين أرادوهم بالسوء وهم أرادوا الفرار بدينهم؛ ليَثبتوا على ذلك الدين الذي هو أحب إليهم من كل شيء يريدون الثبات عليه، ولن يحصلوا على ذلك إلا برحمة مِن الله؛ فالله هو خالقُ أفعال العباد، ومقلِّب قلوبهم سبحانه وتعالى.
 

• هداية الله تعالى لفتية الكهف:
قال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13].
 
قال ابن كثير رحمه الله: إنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبلُ للحقِّ وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتَوْا وانغمَسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثرُ المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابًا، أما المشايخ مِن قريش فعامَّتهم بَقُوا على دينهم ولم يُسلِم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابًا.
 
قال مجاهد: بلَغَني أنه كان في آذان بعضهم القُرْطة - يَعني: الحلق التي في الآذان - فألهمهم الله رُشدهم، وآتاهم تَقواهم فآمنوا بربِّهم؛ أي: اعترَفوا له بالوحدانيَّة، وشَهِدوا أنه لا إله إلا هو، ﴿ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13]، استَدلَّ بهذه الآية وأمثالِها غيرُ واحدٍ من الأئمة - كالبخاريِّ وغيره - ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتَفاضُلِه، وأنه يَزيد وينقص؛ ولهذا قال تعالى: [الكهف: 13] [الكهف: 13]، كما قال: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17]، وقال: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [التوبة: 124]، وقال: ﴿ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]، إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على ذلك، وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى بن مريم، والله أعلم.
 

• كرامة أصحاب الكهف:
قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ﴾ [الكهف: 18]، قال ابن كثير: ذكَر بعضُ أهل العلم أنهم لما ضرَب الله على آذانهم بالنوم لم تَنطبِق أعينُهم؛ لئلاَّ تتأذى، فإذا بقيَت ظاهرة للهواء كان أبقى لها، وهذا الكلام فيه نظَر طِبيًّا وواقعيًّا؛ فهم كما قال: ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ﴾ [الكهف: 18]، ويمكن أن يكون ذلك من باب المنظر من الخارج؛ فمِن تقلُّبِهم يظنهم الرائي أنهم مستيقظون، وإلا فالذي يَنظر إليهم من بَعد ربما لا يَرى أعينَهم، فمسألة أنهم لم تنطبق أعينهم فيها نظر، وإن كان فليس لأجل أن الهواء لا يُفسِدها، بل هذا هو مِن ضمن المعجزات.
 
والطبُّ يقول: إن العين المفتوحة تُصاب أثناء النوم بالقرح، فلا بد أن تُغلَق العين بشيء حتى لا تُصاب بقرح؛ لأنه مع طول المدة من غير إغلاق نهائيًّا يتضرَّر الإنسان، والإنسان وهو مستيقظٌ يَقفل عينه ويفتحها، فلو كانت مفتوحةً أعينُهم فهذا من ضمن المعجزة، وأن الله عز وجل أكرمهم ببقاء أعينهم مفتوحة من غير أن يُصيبها ضرَر، كما أن الله عز وجل أبقى أجسادهم من غير طعام ولا شراب ﴿ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾ [الكهف: 25]، وهذا مما لا يقع في عادة الناس أبدًا، بل لا يحتمله جسم إنسان، نعم يمكن أن ينام لمدة طويلة على أقلِّ قدر من الطاقة التي تستهلك من جسمه كما تَبيت الحيوانات غير الإنسان شهورًا طويلة وتَستيقظ بعد ذلك من البيات الشِّتوي مثلاً؛ وذلك لأنها تستهلك أقلَّ قدر من الطاقة، ولكن هذه السنين الطويلة معجزةٌ من المعجزات التي أيد الله عز وجل بها أولياءه الصالحين، أو كرامةٌ لهم أكرمهم الله سبحانه وتعالى بها»
[1].
 
فالأولى في ذلك أن نقول كما قال الله: ﴿ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾ [الكهف: 17]، وأما أن ذلك من الأمور الموافقة للعادة، وهو أن العين مفتوحة لأجل أن تكون أبقى، فهذا فيه نظر، والله أعلم.


الفوائد الدعوية في قصة أصحاب الكهف:
والفوائد الدعوية في قصة أصحاب الكهف كثيرة، يجب على الدعاة إلى الله - بل على كل مسلم - أن يَعلَمها؛ فهي مَعينٌ وزادٌ له في حياته الدعوية؛ منها:
• أن السِّياق يبدأ بهذا الأسلوب الشيق؛ أسلوبِ الاستفهام التعجبي: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ﴾ [الكهف: 9]، وإن كان هناك ما هو أعجبُ منها، فخلق السَّموات والأرض واختلاف الليل والنهار وآيات الأنفس والآفاق وعالم النبات وعالم البحار، فضلاً عن عالم الغيب وما فيه من حِكَم وأسرار، ودقائقَ وأخبار، وغير ذلك من عجائب صنع الواحد القهار، كلها آيات عجيبة تستوجب التأمَّل فيها والاعتبار بها.
 
وكم يَغفُل كثيرٌ من الناس عن النِّعم الظاهرة والآيات الباهرة؛ لكونها مألوفةً لهم! بل وقد يغفلون عن شكر النعم الظاهرة؛ كنعمة السماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار[2]!
 
• لا بد من الجهر بالدعوة بين الناس؛ لتصل إليهم، وتكون حجَّة عليهم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوةُ الواضحة البيِّنة، ولنا في هؤلاء الفتية الأطهار القدوةُ الحسنة؛ فحين سألوا الله القوة أمدَّهم بها: ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [الكهف: 14]، فثبتهم على الحق، فقاموا يدعون إليه سبحانه، فأعلنوا عقيدة التوحيد خالصةً دون لَبسٍ ولا خوف: ﴿ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ﴾ [الكهف: 14]، فكانوا قدوة للدعاة يأتسون بهم ويردِّدون هذه الجملة التي قالوها، فخلَّدهم الله في كتابه الكريم إلى يوم القيامة[3].


• قصة أصحاب الكهف والرقيم آيةٌ من آيات الله سبحانه وتعالى:
وهي آية من آيات الله المسموعةِ التي تَدلُّنا على مَآلِ ونهاية هذا الصراع الذي يَجري دائمًا بين الحق والباطل على ظهر هذه الأرض، ولم يزل هذا الصراع قائمًا، ولا بد أن يستوعب أهلُ الإيمان ذلك، فلا يظنوا أن سوف يأتي عليهم زمنٌ يَستريحون فيه من مُغالَبة الباطل وأهله، أو أنهم يتوقفون عن العمل على إظهار الدين والدعوة إليه، ومحاربة الشرك وأهله؛ وذلك أنها سُنَّة الله سبحانه وتعالى الماضية، وأن الله خلَق البشر لذلك، فخلق الجنَّ والإنس ليوجد منهم الكفَّار الذين يحاربهم ويصارعهم ويقاومهم أهلُ الإيمان؛ لتظهر أنواعٌ من العبودية يحبها الله سبحانه وتعالى؛ فهي من آيات الله سبحانه وتعالى فيها القدوة الحسنة، والأسوة الطيبة لعباد الله المؤمنين في صبرهم على دينهم.

والقصة من القصص التي تبيِّن بداية التسلُّط دائمًا من الكفَرة والظلمة والمجرمين، وكأن هذا عند التأمل هو الوضع أو الحال الأصلي الذي تستمرُّ عليه قصص القرآن، وفي هذا البشارةُ لعباد الله المؤمنين بما يَؤول إليه أمرهم، وبما يحفظهم الله سبحانه وتعالى بآياته العجيبة التي إذا تأمَّلها المتأمل عَلِم عظيمَ سلطان الله سبحانه وتعالى وقدرته.

ولو تأمل المتأمل فيما يراه كلَّ يوم من آيات الله في السموات والأرض لأيقنَ بعظمة الله وملكه للملك، وأنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وأنه يخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويرزق من يشاء بغير حساب، وهذا وحدَه دليلٌ على أن ما يفعله في هذا الصراع الذي يَجري في كل زمان بين المؤمنين والكافرين نهايته معلومة بإذن الله تبارك وتعالى.


• أهمية دور الشباب في نصرة هذا الدين:
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ﴾ [الكهف: 10]، فهم فتيةٌ شبَّان كما سيأتي بيانهم إن شاء الله؛ قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ﴾ [الكهف: 13]: من ههنا شرَع في بَسطِ القصة وشرحها، فذكَر تعالى أنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبلُ للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتَوا وانغمسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثرُ المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابًا، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بَقُوا على دينهم ولم يُسلم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابًا.
 
قال مُجاهد: بلَغَني أنه كان في آذان بعضهم القُرطة - يعني: الحلق - حيث كانوا صبيانًا أو شبابًا في أول نشأتهم، وكان من عادتهم في ذلك الزمان أن صغار السنِّ يجعلون الحلق في آذانهم كالنساء.
 
فيقول: فألهمهم الله رُشدَهم، وآتاهم تقواهم، فآمنوا بربهم؛ أي: اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلا هو ﴿ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13] [4].
 
الغرض المقصود من هذه الكلمة: أنهم فتية شباب، وهذا يدلنا على أهمية دَور الشباب، وأن الشباب هم وَقود هذه الدعوة، وليسوا يحترقون لتتقدَّم الدعوة، وإنما يستضيئون بضوئها؛ لكي تستمرَّ وهم يسيرون بها بإذن الله تبارك وتعالى، وهم المحرِّكون دائمًا للدعوة، والجهاد والبذل، والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى.

الداعية وموقفه من الفتن من خلال قصة أصحاب الكهف:
يَجب على الداعية إلى الله تعالى أن يتعلم الدروس من خلال قصة أصحاب الكهف، فيجب عليه في الفتن أن يُهاجر من أرض السوء فرارًا بالدين.
 
وهو سبحانه وتعالى يَحفظ عباده المؤمنين بآياتٍ مِن عنده عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ ﴾ [الكهف: 10]، وكونهم أوَوْا يدل على أنهم هرَبوا بدينهم، وهاجروا في سبيل الله عز وجل، وتركوا وطنهم لله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر أمرٌ عظيم الأهمية في حياة المؤمن، فعليه أن يعبد الله سبحانه وتعالى في أي مكانٍ في الأرض، وهذه هي وظيفته؛ فإن تيسَّر له ذلك في وطنه الذي نشأ فيه، وهيأ الله عز وجل له من أسباب التمكين ما يَعبد الله عز وجل في مكانه الذي نشأ فيه - فبِها ونعمت، وإلا فأرض الله واسعة، والمهم تحقيق العبودية.
 
فلقد ضحى هؤلاء الفتية بوطنهم وأهاليهم، وضحَّوا بقرابتهم وبوضعهم الاجتماعي الذي كانوا فيه، كما عُرف مما ذكَره المفسرون: أنهم كانوا مِن أبناء كبار القوم، أو كان منهم على الأقل مَن كان كذلك، والله سبحانه وتعالى أمَر عباده المؤمنين بأن يُقدِّموا حبَّه وطاعتَه عز وجل على كل شيء؛ كما قال عز وجل: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].
 
فقضية العبودية هي أعظم قضية يجب أن يُحافظ عليها المؤمن، وإذا عجز عن تحقيق العبودية في أرضٍ ما، ووجد سَعَة في الهجرة عنها، وجب عليه أن ينتقل إلى أرض الله، والمؤمن عبد الله يعبده عز وجل في أي مكانٍ من الأرضِ تيسَّرَت فيه هذه العبادة؛ ولذا هاجر إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 99]، وهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم - مِن أحب بلاد الله إلى الله وإليه - إلى المدينة المنورة، وهي التي دعا الله أن يُحبِّبها إليهم كحُبِّهم لمكة وأشد؛ وذلك لإقامة الدِّين، وهاجر موسى صلى الله عليه وسلم فرارًا بدينه إلى مَدْين مدةً من الزمن، مع أنه وُلد بمصر ونشأ بها، وهاجر بعد ذلك ببني إسرائيل بأمر الله سبحانه وتعالى ليُقيم الجهاد، فأبى عليه بَنو إسرائيل، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنهم انتقلوا من أرض هجرتهم من المدينة إلى الأمصار؛ ليُجاهدوا في سبيل الله، وليبلغوا دين الله[5].
 
فالله عز وجل يُعلِّمنا بقوله: ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾ [الكهف: 16] اعتزالَ الناس في الفتن، وقد يكون مرة في الجبال والشِّعاب، ومرة في السواحل والرِّباط، ومرة في البيوت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يأتي على الناس زمانٌ يَكون خيرُ مال الرجل المسلم الغنَم، يَتبَعُ بها شَعَف الجبال ومواقعَ القَطْر؛ يفرُّ بدينه من الفتن...))، ولعل هذا يكون في آخر الزمان عند مَجيء المسيخ الدجال، أو عندما تشتدُّ الفتن وتَطْغى، وقد جاء في الخبر: ((إذا كانت الفتنة فأخْفِ مَكانك وكُفَّ لسانك))، ولم يَخصَّ موضعًا.

ومِن هذا نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعُقبة بن عامر حين سأله: ما النجاة يا رسول الله؟ قال: ((يا عقبة، أمسك عليك لسانك، ولْيسَعْك بيتُك، وابكِ على خطيئتك))[6].

وطائفةٌ من العلماء جعلَت العُزلةَ اعتزالَ الشرِّ وأهلِه بقلبك وعملك إن كنتَ بين أظهُرِ الناس.

قال ابن المبارك رحمه الله في تفسير العزلة: "أن تَكون مع القوم؛ فإن خاضوا في ذِكر الله فخُضْ معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكُت".

ورُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام من مراسيل الحسن: ((نِعْمَ صوامعُ المؤمنين بيوتُهم))؛ أي: وهم في مجتمعهم يَدعونهم ويتعرَّضون إليهم بالنصح والموعظة؛ فإن اشتدوا عليهم أوَوْا إلى بيوتهم، ثم عاودوا الكرَّة، ويؤكد هذه الفكرةَ قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضلُ من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم))[7].


الخاتمة:

بسم الله والحمد لله، في الختام بعد أن عرَفنا قصة أصحاب الكهف، وسبب تسميتهم بهذا الاسم، وسبب اعتزالهم القرية، وثمار اعتزالهم لقومهم، والفوائد الدعوية من هذه القصة، وموقف الداعية من الفتن - نستخلص هذه النتائج:

1 - استدل أهل الكهف بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية؛ قال تعالى: ﴿ فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ﴾ [الكهف: 14].
 
2 - السمعُ هو الوسيلةُ الرئيسةُ في تنبيه النائم؛ خاصة من ينام بمعزِلٍ عن الناس، والنائم لا يسمع في العادة ما حولَه من أصوات بمجرد استغراقه في النوم.
 
3 - الثبات على الحق ولو كان الإنسان وحده.
 
4 - ضحَّى أصحاب الكهف بوطنهم وأهاليهم، وضحوا بقرابتهم وبوضعهم الاجتماعي الذي كانوا فيه؛ فرارًا بدينهم، فالدين أغلى من كل شيء.
 
5 - أهمية دَور الشباب في الدعوة إلى الله تعالى؛ فهُم وَقود هذه الدعوة، وليسوا يحترقون لتتقدَّم الدَّعوة، وإنما يستضيئون بضوئها.
 
التوصيات:

توصي الدراسة بالتالي:
1 - كلَّ مسلم ومسلمة بأن يثبت على الحق ولو كان وحده.
2 - كلَّ داعية إلى الله تعالى أن يعتزل الفتن إذا وقعَت؛ ولو كانت العزلة بقلبه، وأن يتعلَّم من قصة أصحاب الكهف.
3 - كل مسلم ومسلمة بألا يمرَّ على القصص القرآني سريعًا، فلا بد أن نأخذ منها العظة والعبرة.
4 - كل مسلم بأن يضحي بكل شيء - مهما كان، وأيًّا كان - يَحول بينه وبين دينه؛ فلا شيء أغلى من الدين.
5 - كلَّ داعية بأن يجهر بالدعوة بين الناس؛ لتصل إليهم، ولتكون حجة عليهم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هؤلاء الفتية - الأسوةُ الحسنة.



[1] القصص القرآني: بتصرف.


[2] انظر: تأملات في قصة أصحاب الكهف، أحمد محمد الشرقاوي، أستاذ التفسير وعلوم القرآن المساعد بكلية أصول الدين والدعوة - جامعة الأزهر: بحث محكَّم ومنشور في العدد الثامن عشر: 2005 م - 2006.


[3] انظر: تأملات تربوية في قصة أهل الكهف، د.
عثمان قدري مكانسي.


[4] القصص القرآني: المؤلف: (9/4 - 6).
بتصرف.


[5] انظر: القصص القرآني: (9/5).


[6] المعجم الكبير للطبراني: ج12 ص234 رقم (14160).


[7] صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، للشيخ الألباني: رقم (163)، انظر: تأملات تربوية في قصة أهل الكهف، د.
عثمان قدري مكانسي.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢