أرشيف المقالات

المكتبة العربية في عصر الحروب الصليبية

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
للأستاذ أحمد أحمد بدوي - 4 - وكان النحو مادة أساسية من مواد الثقافة في هذا العصر ويكاد يشترك كل المثقفين في أن يأخذوا منها بنصيب، وندر من لم يشارك فيها، وكأنما يعدونها أداة أساسية لدراسة العلوم الشرعية وأهم ما كان يدرس بالبلاد يومئذ كتاب المصل للزمخشري، وقد نال من عناية العلماء في ذلك العصر ما لم ينله كتاب آخر؛ فظفر بشروح كثيرة منها شرح ابن الحاجب وشرح ابن يعيش وساهمت البلاد مساهمة فعالة في الإنتاج، وغزت كتبها العالم العربي بدورها حتى صارت تلك الكتب أهم ما يدرس في تلك المادة.
وحسبي أن أشير هنا إلى كتب ابن مالك وعلى رأسها ألفيته، وكتب ابن الحاجب ومن أهمها كافيته، كما وضع ابن معطي ألفية.
وقد عرفت من بين ما أنتجته هذه البلاد أكثر من أربعين كتابا منها المطول ومنها الموجز، وعرفت من الرجال الذين ساهموا مساهمة كبيرة في دراسة هذه المادة زهاء مئتي عالم كان أكثر تخصصهم فيها أما في اللغة عرفت البلاد في ذلك العصر أمهات كتبها؛ فدرسها رجالها واختصروها حينا ووضعوا عليها الحواشي التي تتعقب ما وقع فيها من الوهم، كما اشتركت البلاد في الإنتاج اللغوي، وكان أكبر ما تمخض عنه جهودها ذلك الكتاب العظيم لسان العرب لابن مكرم المصري وقد تم تأليفه سنة 689 وجمع فيه مؤلفه بين التهذيب والمحكم والصحاح وحواشيه والجمهرة والنهاية ورتبه ترتيب الصحاح ووضع العلماء في ذلك الحين كتبا لا تصل إلى مستوى الكتاب، وتناولوا بعض نواحي فقه اللغة فكتبوا في الاشتقاق والاشتراك والتصحيف وغيرها.
واشتهر من علماء اللغة يومئذ طائفة كبيرة، منهم تاج الدين الكندي وعبد الله بن زي وابن مكرم المصري وفي علوم البلاغة درست مصر والشام ما عرفته اللغة العربية من الكتب التي ألفت من قبل سواء في ذلك ما وضع في تلك العلوم بخاصة، أو تناولها وإن لم يخصص لها، وتستطيع أن ترجع إلى كتاب بدائع القرآن لابن أبي الإصبع لترى ما عرف يومئذ من كتب البلاغة، وتدرك أم مسائلها كانت لا تزال متفرقة بين كتب التفسير وكتب الأدب وكتب النقد والبلاغة، وقد قام علماء البلاد بجمع هذا التناثر المتفرق هنا وهناك، ثم لم يقفوا عند هذا الجمع، بل زادوا ما وصلوا إليه باجتهادهم الشخصي وأذواقهم الخاصة، ووضعوا كتبا كثيرة لم أر منها إلا ما لا يكاد يزيد على أصابع اليدين وكان دارسوا لبلاغة في ذلك الحين يرمون إلى هدفين: أولهما دراسة بلاغة القرآن، وثانيها القدرة على تذوق القول الجميل والعون على إنتاجه، وما بقي لدينا من كتب هذا العصر يدل في وضوح على هذين الهدفين، وقد يتغلب أحدهما على الآخر في بعض الكتب، فترى كتاب الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز، وكتاب بدائع القرآن، وكتاب التبيان في علم البيان لأبن الزملكاني ترمي إلى بيان ما أودعه القرآن من ألوان البلاغة، بينما تجد الغالب على كتاب المثل السائر وكتاب معالم الكتابة ومغانم الإصابة وكتاب تحرير التحبير، وكتاب البديع لأسامة ضرب المثل البلاغية للتذوق والإقتداء وأشهر مؤلفي البلاغة في ذلك العصر ابن الأثير صاحب كتاب المثل السائر وهو أسير كتاب بقي لنا، وعبد العظيم بن الإصبع وبدر الدين بن مالك الذي اختصر المفتاح للسكاكي في كتاب سماه المصباح - 5 - وظفرت المكتبة العربية في ذلك العصر بإنتاج ضخم في التاريخ، وألوان متنوعة فيه، وشخصيات ذوات أقدار ممتازة من الناحية العلمية والاجتماعية، ومن الممكن أن نتبين في هذا العصر أكثر من عشرين اتجاها في كتابة التاريخ فبعض مؤرخي العصر قد أعجب بأسرته من ناحية مجدها السياسي حينا أو العلمي حينا آخر؛ ومنهم من اكتفى بكتابة مذكرات شخصية سجل فيها ما رآه، كما فعل أسامة بن منقذ في كتاب الاعتبار.
وانتهج بعض علماء هذا العصر نهجاً صالحاً قويما فألفوا معاجم فيها لأساتذتهم الذين كانوا يبلغون في بعض الأحيان عدة آلاف؛ وإن هذه المعاجم لخليقة أن تعطينا فكرة حقيقة عن الحركة الفكرية والجهد العلمي في تلك الأيام، وترسم لنا صورا للتعليم ومناهجه في تلك العصور ومن المؤرخين من أعجب بشخصية، فمضى يجمع أخبارها ويؤرخ لها، وكان صلاح أوفر هذه الشخصيات حظا، كما ظفر نور الدين والظاهر بيبرس والمنصور قلاوون بعناية مؤرخي ذلك العصر، وبقي لنا من ذلك كتاب الروضتين ولم يقف كثير عند حد الترجمة المفردة، بل مضى يؤرخ لطائفة معينة من الناس، كما جمع علي بن ظافر الأزدي أخبار الشجعان والمظفر بن قدامة مناقب الصالحين وأخبارهم، ومن أهم كتب التراجم النافعة الباقية لنا في ذلك العصر كتاب وفيات الأعيان الذي لا يكاد يستغني عنه باحث في عصرنا هذا، وكتاب معجم الأدباء لياقوت ومضى بعضهم يؤرخ المكتبة العربية إلى ذلك العص، ولو أن هذه الكتب كلها بقيت لاستطعنا أن نرسم إلى مدى بعيد صورة قوية لسير الحركة العلمية في هذا العصر، وما سبقه من عصور، وقد ساهم الوزير القفطي بنصيب كبير في هذه الحركة، فوضع كتابا في أخبار المصنفين وما صنفوه، وآخر في أخبار النحاة، وبقي لنا إلى هذا اليوم من الكتب التي تؤرخ لبعض نواحي المكتبة العربية كتاب ابن أبي أصيبعة الذي دعاه عيون الأنباء في طبقات الأطباء ومن أهم ما عني به المؤرخون في ذلك العصر تاريخ المدن، يذكرون فيه من دخل المدينة، أو سكنها من عظماء الرجال.
وربما كان أضخم كتاب وضع في تاريخ مدينة في ذلك العصر هو تاريخ دمشق لابن عساكر ولا يزال موجودا في أكثر من أربعين مجلدا، كما أرخوا لمصر وكتبوا في خططها، وأرخوا لغير القاهرة كأسوان والفيوم والإسكندرية وتنوعت الاتجاهات في كتابة التاريخ السياسي يومئذ، فمن الؤرخين من عني بتاريخ الوزراء كابن الصيرفي في كتابه الإشارة إلى من نال الوزارة، وعمارة اليمني في كتاب النكت العصرية، ولا يزال الكتابان باقيين.
ومنهم من أرخ لمصر على ترتيب السنين ومنهم من أرخ للدولة الفاطمية أو الأيوبية، ومنهم من عني بباقي أجزاء العالم العربي فوضع القفطي تاريخا للمغرب وتاريخا لليمن وكانت العناية بالتاريخ العام أكبر من العناية بالتاريخ الجزئي، وقد بقي لنا ستة كتب تمثل هذا الاتجاه منها كتاب الدولة المنقطعة للوزير جمال الدين الأزدي، وقد تضمن أخبار الدول الإسلامية وحوادثها وغزواتها وهو مرتب على السنين، ومنها كتاب تاريخ الزمان في تاريخ الأعيان ألفه سبط ابن الجوزي، وكتاب أبي شاكر بطرس المعروف بابن الراهب وقد جمع فيه التاريخ من آدم إلى عصره في أيجاز وللشيخ ابن العميد كتابنا في التاريخ أحدهما يدعى تاريخ ابن العميد وهو يبحث في تاريخ ما قبل الإسلام، والتاريخ يدعى تاريخ المسلمين وانتهى به إلى سنة 65 وكتب ابن واصل كتابة التاريخ الصالحي في التاريخ العام ونالت الجغرافية في هذا العصر حظا كبيرا من عناية رجاله وتنوعت اتجاهاتها، وبحسبنا أن ينتج هذا العصر كتاب معجم البلدان لياقوت الذي يعد من أهم المصادر إلى وقتنا هذا - 6 - وكانت الفلسفة موضع عناية الفاطميين فقد كانت الدعاة يلقنون تلاميذهم حبها، ويحضونهم على النظر في كلام أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس من على شاكلتهم، وينهونهم عن قبول الأخبار والاحتجاج بالسمعيات، ويزينون لهم الإقتداء بالأدلة العقلية والتعويل عليها، ويحيلونهم إلى ما تقرر في كتب الفلاسفة من العلم الطبيعي والعلم الالهي، فكانت دراسة الفلسفة للدعوة الشيعية وإحدى دعائهما، وبرغم ما كان للفلسفة من هذه المكانة القوية لم أعثر على فيلسوف نبغ في هذه الفترة التي شهدت الحروب الصليبية، وربما رجع ذلك إلى ما لاقيه آثار الفاطميين الفكرية من تشريد على يد صلاح الدين الذي كان سنيا يكره الفلسفة ورجالها ويراها مضللة.
للعقول وتأثر الكامل خطوات عمه صلاح الدين، ويظهر أن اضطهاد الفلسفة قد خفت وطأته بعد موت الكامل وأخيه الأشرف، وتولى بعض دارسيها مناصب كبيرة في الدولة كالقضاء، أو مناصب دينية كبرى كمحمد ابن بكر المعروف بالأبكى وكان إماما في المنطق وعلوم الأوائل فإنه استقر بمشيخة الشيوخ بخانقاه سعيد السعداء، وظهر في هذه الفترة التي استعاد فيها دارسو الفلسفة والمنطق حريتهم علمان ممتازان هما عز الدين الإربلي التوفي سنة 660 وأستاذه التوفي سنة 646، وقدم الخونجي كتبا كثيرة في المنطق للمكتبة العربية لا يزال بعضها باقيا إلى اليوم ككتاب الموجز، وظفرت كتبه في المنطق بعناية كثير من العلماء فشرحها بعضهم وعلق عليها آخرون - 7 - وتنوع الإنتاج في المكتبة الأدبية يومئذ؛ فمن مجموعات تحوي رائع القول كما في كتاب الآداب النافعة والألفاظ المختارة الجامعة لابن شمس الخلافة الأفضلي وكتاب تذكره ابن العديم التي ضمنها كثيرا من الآداب ونوادر الأشعار.
وأهم ما بقي لنا من هذا النوع كتاب خريدة القصر للعماد الأصبهاني وقد تضمنت مختارات من شعر شعراء العراق ومصر والشام والحجاز واليمن وصقلية والمغرب والأندلس، وكتاب المطرب في أشعار أهل المغرب لابن دحية ومن دراسات للآثار الأدبية كحواشي الكندي على خطب ابن نباتة وديوان المتنبي وشرح شميم الحلي على مقامات الحريري، وبدار الكتب شرح الضرير النحوي على تلك المقامات ومن معاجم تحوي أخبار الشعراء والأدباء كمعجم الشعراء لياقوت، ومعجم شعراء الشيعة ليحيى بن حميدة ومن مختصرات لكبريات الآثار الأدبية كما فعل محمد بن عبد الكريم المهندس الذي اختصر كتاب الأغاني الكبير وفي هذا العصر نهض الشعر نهضة كبرى، فقدم للمكتبة العربية كثيرا من الدواوين نذكر من بينها ديوان القاضي الفاضل، وابن سناء الملك، وابن مطروح والبهاء زهير أحمد أحمد بدوي مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢