قصة نبي الله نوح عليه السلام وما فيها من المواعظ والعبر (5)
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
قصة نبي الله نوح عليه السلام وما فيها من المواعظ والعبر (5)
والحديث موصول عن قصَّة نبيِّ الله نوح عليه السلام، وقد عرفنا ممَّا تقدَّم أنَّ رسالته قد تضمَّنَت أربعةَ مناهج جوامع:
أولاً: نبذ الشرك بالله ووجوب التطهُّر منه.
ثانيًا: الإنذار بالعذاب الأليم عند رَفض دعوته.
ثالثًا: البشرى بالمغفرة القاضية على ما سبق من الذنوب عند الإيمان برسالته.
رابعًا: السَّعة في الرِّزق والبركة فيه عند متابعته.
وقبل أن نتعرَّف ما أجاب به قومُه، نحبُّ أن نبيِّن مسألتَين مهمَّتين، وهما: معرفة الدِّين الذي كان عليه نوحٌ عليه السلام، ثمَّ مبدأٌ جَعله ضمن أسلوبه في دَعوته لقومه، وهو: أنَّ أجره على رسالته على الله الَّذي أرسله، وليس على أحدٍ من البشر.
أمَّا دينه، فقد كان الإسلام، وهو أيضًا دين جميع الأنبياء والمرسلين، قال تعالى في سورة يونس: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 71، 72]، ونحن من منطلق إيماننا بوحدَة الرِّسالات نقول: إنَّ دِين الأنبياء واحدٌ؛ وهو دين الإسلام، وذلك بنصِّ القرآن الكريم، قال تعالى عن نبيِّه إبراهيم عليه السلام في سورة آل عمران 67: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 67]، وعن يعقوب وآبائه وبنِيه قال تعالى من سورة البقرة 133: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]، وعن يوسف قال تعالى من سورة يوسف 101: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]، وعن نبيِّه موسى قال تعالى من سورة يونس 84: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84]، وعن أَتباع موسى قال تعالى من سورة الأعراف 126: ﴿ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف: 126]، وعن نبيِّه عيسى قال تعالى من سورة آل عمران (52): ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 52]، والجامع لهذا قول الله تعالى من سورة آل عمران (19): ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وفيها أيضًا (85): ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].
وأمَّا ما جعله ضمن أسلوبه مع قومِه في دَعْوته حيث كان أَجْره على الله وليس على أحد من الخَلْق، فهو قولُه تعالى من سورة هود 29: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ [هود: 29]، وقد كان هذا أسلوبَ جميعِ الرسل مع أقوامهم.
وقد ذكر الله هذه الحقيقة عن قصص الرُّسل من سورة الشعراء يقول كلُّ رسول: ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 109]؛ وذلك لأنَّ رِسالة الله هي التي يتمُّ بها العمران، وتَصلح بها العقيدة، وينتشر بها العَدل وتنزل بها الرَّحمة، فحَاجة الإنسان إليها أشدُّ من حاجته إلى الهواء والشمس، ولُقمةِ العيش وشربة الماء، لو كان النَّاس يعقلون، فإذًا يجب أن تُعطى بالمجَّان، وأجر الدَّاعي لا يقدِّره بَشرٌ، وإنَّما يقدِّره الله لِعِظم شأنه، ولقد قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "أربع لا يُؤخذ عليهنَّ أجر: الأذان، وقراءةُ القرآن، والمقاسم، والقضاء"، وقد كان هذا أسلوب سَلَفِنا الصَّالح في حياتهم العمليَّة، والمسألة مبسُوطة في كتب الأحكام، فليراجِعها مَن شاء.
ذلك الذي مضى كان ملخَّصًا عن رسالة ذلك النبي: إخلاصٌ في الدَّعوة، وجهاد متواصِل في سبيل إخراجِ قومه من الجاهليَّة التي ورثوها، ثمَّ الوقوف بهم على هدى الله الذي اختاره لهم على يديه، فترى ماذا أجاب قومُه؟
مِن جُملة ما قصَّ الله علينا مِن أخبارهم يمكن حَصْر ما اعترض به قومُه عليه في عدَّة نقاط، قالوا: ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأعراف: 60]؛ أي: بعيد عن طريق الحقِّ، والمعروف أنَّ الضلال ضد الهدى، فأجاب نوح بأبلَغ عبارة وأَوْجز بيان: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 61]؛ أي: ليس بي أَدْني شيء من الضَّلالة، بل أنا رسولُ الله، وما يستلزِمه من كونه في أَقصى مراتب الهدى؛ لأنَّها رسالة ربِّ العالمين، فإثبات الهدايَة يستلزم نَفْي الضَّلالة، كما تستلزم هذه العبارة أيضًا نَفي الجنون الذي رمَوه به في قوله تعالى من سورة المؤمنون: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ [المؤمنون: 25]، فإثبات أنَّه رسول ربِّ العالمين يَنفي عنه الجنون، كذلك قالوا كما في سورة المؤمنون: ﴿ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ [المؤمنون: 24]، وهذه بدَورها تهمة مؤدَّاها أنَّه ادَّعى النبوَّة يبتغي من ورائها الوصولَ إلى مركز القيادة، وهذه التُّهَم يتبرَّأ منها الرُّسل؛ فإنَّهم ما جاؤوا لكسب شيء من حطام الدنيا، كيف وهم لم يَسألوا النَّاس أجرًا على رسالتهم؟
ثمَّ اتَّجهوا إلى أَتْباعه، واتَّخذوا من وضعهم الاجتماعي ذَرِيعةً لاختلاق تهمةٍ أخرى، وذلك قوله تعالى من سورة هود: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾ [هود: 27]، وفي سورة الشعراء: ﴿ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴾ [الشعراء: 111]؛ يعني: أتباعك الفُقراء، سفلَة الناس، أصحاب الحِرَف الدَّنيئة، فلا عبرة باتِّباعهم لك؛ إذ ليس لهم رَجاحة عقلٍ ولا إصابة رَأْي، وقد كان ذلك منهم بادِي الرَّأي، وذلك قياسًا منهم على عادتِهم الجاهليَّة القائلة: إنَّ الشريف عندهم هو الأكثر حظًّا ومالاً وأعلى جاهًا، ومَن حُرِمَ ذلك فهم الأَرذلون، فكيف نُؤمن برسالةٍ تسوِّي بيننا ويبن الأرذَلِين مِن قومنا؟ فأجابهم بما يؤكِّد عدالةَ الرِّسالة، وأنَّه ملتزِم باحترام أَتباعه وتقديرِهم أيًّا ما كانوا، حيث قال لهم: ﴿ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ ﴾ [هود: 29]؛ يعني: أنَّ مهمَّتي إبلاغ الرِّسالة، ولا دَخْل لي باختيار نوعيَّات الأتباع، ومن عدَالة الرِّسالة التي بُعِثتُ بها أنَّ من اتَّبعني فهو الأفضل عند الله، ومردُّ الخلق إلى الله سبحانه.
كذلك ممَّا ردُّوا به دعوته قولهم: ﴿ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا ﴾ [هود: 27]؛ يعني: لا نرى لك مَزيَّة علينا حتى يخصك ربُّك بالرسالة من بينِنا ونحن وأنت سواء؛ إذ الرِّسالة ذات مستوًى رفيع لا يصل إليها بشَر، فأنت على هذا دَعِيٌّ ولستَ رسولاً، ومن العجب أنَّ تلك الدعوى كان يردِّدها أعداءُ الرُّسل على مرِّ تاريخ الرسالات، فما من رسولٍ إلاَّ وقال له قومُه: إنَّك بشر، والبشريَّة لا تتَّفِق مع الرسالة لمستواها الرفيع، ولا يصلح لحملها بشَر، ولقد قال أهلُ الجاهليَّة ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم كما جاء في سورة الأنبياء (3): ﴿ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 3]؛ أي: تنقادون للسِّحر وأنتم تبصرونَه.
وقد انقسم الناسُ إزاء بشريَّة الرسل إلى فريقين: فريق رفَعَ من شأن الرِّسالة وقالوا: إنَّها فوق مستوى البشَر، ومن ادَّعاها من البشَر فهو كاذب، وقالوا عن معجزات الرُّسل: إنَّها سِحر، فيجب إنكارها والكفرُ بها، فأنزلوا من مستوى الرُّسل.
وفريق آمَن بالرِّسالة، غير أنَّهم جعلوا الرسولَ خَلْقًا فوق مستوى البشَر، وهذا الأخير عليه عامَّة الصوفيَّة ومن سار في ركابهم؛ حيث قالوا: إنَّ محمدًا خُلِق من نور الله؛ وهذا يعني أنَّ فيه جُزءًا من الله، وهذه هي البنوَّة التي هي عقيدة النصارى ولكنَّهم لا يعلمون، فهم قد رفعوا من شأن الرُّسل فوقَ مستوى البشر، وقد بيَّن الله لهؤلاء وأولئك خطَأَهم بقوله تعالى في سورة الإسراء (94): ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94]، فأجاب الله تعالى في سورة الإسراء (95): ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 95]، والتقدير: لو كان في الأرض ملائكة استقرُّوا فيها واحتاجوا إلى رِسالةٍ، لكان مِن الحِكمة الإلهيَّة أن يبعث الله فيهم ملَكًا رسولاً؛ إذ الرِّسالة إصلاحٌ عقائدي واجتماعِي، ولا يتسنَّى للملَك أن يخاطِب البشَر من قِبَل غرائزه وميولِه، فيُصلِح من فسادهم، ويقوِّم معوجَّهم، فلا يصلح للرِّسالة إلى البشَر إلاَّ البشر.
الخلاصة:
أنَّ جميع ما أجاب به قومُ نوح عليه السلام كان المقصود منه إظهار نوحٍ بالرَّجل غير الكُفء لحمل رِسالة الله، وما ساقوه من أَنواع التُّهَم أرادوا بها إلحاق النَّقيصة بشخصِه الكريم، وقد ألحقوا بأَتباعه نوعًا منها مثل قولهم: ﴿ أَرَاذِلُنَا ﴾؛ أي: لا قِيمة لهم ولا يستطيعون حملَ عِبْء الرِّسالة، وقصدهم تنفير النَّاس عنهم حتى يُوقِفوا مدَّ الدَّعوة إلى الآفاق، وفِعلاً كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود: 40].
المصدر: مجلة التوحيد