شرح زاد المستقنع باب العارية [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا ومنكم صالح الأقوال والأعمال، وأن يعيد علينا هذه الأيام المباركة بكل خير وبركة، وأن يجعلها عزاً لدينه ونصرة لأوليائه؛ إنه السميع المجيب.

كان حديثنا عن جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بعقد العارية، وكنا قد ذكرنا أن هذا العقد يعتبر من أهم العقود التي تعم بها البلوى؛ لأن الناس يحتاج بعضهم إلى بعض بعد الله سبحانه وتعالى، فيحتاج المسلم إلى استعارة شيء من أخيه المسلم، وبيّنا مشروعية ذلك وجوازه، والأحكام المتعلقة بذلك، والمسائل المترتبة على هذا العقد.

حكم إعارة العارية

قال رحمه الله: [ولا يعيرها].

لا يجوز للمستعير أن يعير العارية للغير، وهذه مسألة مفرعة على ضابط العارية، بعض العلماء يقول: العارية إذنٌ بالمنفعة.

وبعض العلماء يقول: العارية تمليكٌ للمنفعة.

فهناك مذهبان:

مذهب يقول: كل شيء تعيره للناس فقد ملَّكته لمن استعار.

وهناك مذهب آخر يقول: كل شيء تعيره للناس فقد أذنت لمن استعار أن ينتفع به، توضيح ذلك بالمثال: لو كان عندك سيارة، وقلت: يا محمد! أعرتك سيارتي هذا اليوم تستفيد منها، وعند المغرب تردها لي، هذه عارية، وأخذ العارية وتحددت بالزمان وهو يوم، فلما نظرنا في كلامه: (خذ السيارة يوماً) وجدنا العلماء ينقسمون إلى طائفة تقول: محمد يملك منفعة السيارة، وطائفة تقول: صاحب السيارة أذن فقط لمحمد أن ينتفع.

الفرق بين القولين: أن القول الأول الذي يقول: محمد ملك المنفعة، يكون من حق محمد أن يعطي السيارة لغيره لكي يركبها ويأذن لغيره بأن ينتفع مثلما أذن له؛ لأنه ملك هذه المنفعة، فمن حقه أن ينتفع هو وأن ينفع غيره، وأيضاً من حقه أن يأخذ السيارة منك عارية ويؤجرها للغير ويضمنها حتى يردها إليك. هذا بالنسبة للقول الذي يقول: إنه مالك للمنفعة. ويختار هذا القول أئمة الحنفية والمالكية والشافعية رحمهم الله، ويقولون: إن العارية تمليك للمنفعة.

وقال طائفة من العلماء: العارية إذن بالمنفعة. وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وعليه المذهب، أن العارية إذن وسماح بالمنفعة، وإذا قلت: إذن. ننظر في هذا الإذن هل هو مقيد أو مطلق؟ وجدناه مقيداً؛ فأنت قلت: يا محمد خذ السيارة إلى المغرب، فليس من حق محمد أن يقيم غيره، وليس من حق محمد أن يؤجر على غيره، فمتى ما أجر على الغير لزمه أن يدفع الأجرة إلى المالك الحقيقي، وينتقل من كونه مستعيراً إلى كونه ضامناً للعين المعارة، وأيضاً ضامناً لأجرة السيارة طيلة هذا اليوم، حتى ولو قال لغيره: خذ هذه الدار واسكنها بدلاً مني؛ فإنه يضمن أجرة المستعير الثاني، ويكون المستعير الثاني في حكم المستأجر، لكن يضمن الأجرة المستعير الأول؛ لأنها أعطيت له إذناً ولم تعط لغيره، فصار الغير إذا سكن كأنه انتفع بمال غيره؛ فوجب عليه الضمان، من الذي مكنه من ذلك؟ مكنه المستعير الأول، فنقول للمستعير الأول: ادفع الأجرة.

وعلى هذا: فإن العارية ليست بتمليك للمنفعة وإنما هي إذن، وهذا هو الأشبه والأقوى إن شاء الله.

وشرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان ما يتعلق بالتصرف في العارية، فإذا أخذت من أخيك المسلم شيئاً على أنه عارية، كأن تأخذ دابة أو سيارة على أنك تنتفع بها مدة معينة، فإن الواجب عليك أن تتصرف في هذه العين التي استعرتها على وفق ما اتفقت عليه مع أخيك المسلم، فالأصل أنك أنت الذي تستفيد لا غيرك، ولذا قال رحمه الله: (ولا يعيرها)، بمعنى: أنك لو قلت لأخيك: أعرني سكنى دارك شهراً، قال: أعرتك، فإنه لا يجوز لك أن تقيم الغير مقامك على أحد قولي العلماء، وذكرنا هذا القول ووجهه عندما بينا حقيقة العارية، وقلنا: إنها إذن بالمنافع وليست بتمليك للمنفعة، فالذي يقول لك: اسكن داري، أذن لك أن تسكن ولم يأذن لغيرك، وأذن لك أن تستعير هذه السكنى ولم يأذن لك أن تتصرف فيها بالإجارة، فلا يحل لك بيع هذه المنفعة فتؤجرها على الغير.

إذا ثبت هذا فيدك يد مأذون لها بالتصرف لك لا لغيرك، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى: أن لك أن تعير للغير، وأن العارية تمليك للمنافع، واختارها بعض العلماء، وهو قول عند الحنفية والشافعية رحمة الله على الجميع؛ وبناء على هذا القول الذي اختاره المصنف لا يجوز لك شرعاً أن تقيم غيرك مقامك، فلو أخذت السيارة من أخيك على أن تستفيد منها ما بين المغرب والعشاء، لا يجوز أن تعطيها لآخر ، ولا أن تبذل منفعة ركوبها للغير، هذا من حيث الأصل العام والذي اختاره المصنف.

ولاشك أن الذي ينبغي للمسلم دائماً أن يحتاط في حقوق الناس، وأن يتصرف على وفق ما اتفق عليه مع الطرف الثاني دون زيادة أو خروج عن العقد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فأنت إذا قلت لأخيك المسلم: أعرني، قال: أعرتك، اختص الانتفاع بك لا بغيرك، فكما أنك لا تقبل أن يقوم غيره مقامه كذلك لا ينبغي لك أن تقيم غيرك مقامك، وكم من شخص يأذن لإنسان لحقه عليه ولا يأذن لغيره، خاصة في المنافع التي يكون بذلها للغير فيه إحراج لصاحبها ومالكها الحقيقي.

قال رحمه الله: (ولا يعيرها) وهذا يدل على مسألتين:

المسألة الأولى: سقوط الحق.

المسألة الثانية: حصول الإثم؛ لأننا إذا قلنا: لا يملك المنفعة فإنه يأثم إذا صرف الدابة للغير، ويخرج عن الإثم بتحلل صاحب الدابة، مثلاً: أخذ سيارته وأعطاها لشخص آخر، يقول له: إني قد أخذت سيارتك على أني راكبها وأعرتها للغير فسامحني في حقك أو اجعلني في حل من حقك، ونحو ذلك.

حكم العارية إن تلفت عند المستعير الثاني

قال رحمه الله: [فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها]

الفاء في قوله: (فإن) للتفريع، وإذا كان ليس من حقك أن تقيم غيرك مقامك فأقمته، فأخذ السيارة وتلفت فهذا فيه تفصيل:

الحالة الأولى: أن تقيم الغير مقام عاريتك.

الحالة الثانية: أن تقيم الغير مقام إجارتك، وهناك فرق بين أن تقول للغير: خذ هذه السيارة عارية مني فيما بين المغرب والعشاء، وبين أن تقول له: أجرتك السيارة فيما بين المغرب والعشاء، فيد العارية يد ضمان ويد الإجارة يد أمانة، إذا ثبت هذا فالشخص الثاني الذي تقيمه مقامك له صورتان:

الصورة الأولى: أن يعلم بأن المالك الحقيقي للسيارة لم يأذن لك، وأنك قد تصرفت في ماله بدون حق، فيأخذ منك السيارة على أنك قد أعرته وهو يعلم أن السيارة ليست ملكاً لك، وأن مالكها لم يأذن لك بهذا التصرف.

الصورة الثانية: أن لا يعلم بذلك ويكون جاهلاً، كجار للإنسان جاء فوجد السيارة التي استعارها جاره فظنها له، فقال: أعرني هذه السيارة أذهب بها لقضاء حاجة أو نحو ذلك، قال: خذها، فأخذها الجار يظنها ملكاً لجاره، أو يظن أن مالكها قد أذن لجاره أن يعيره.

فالصورة الأولى: الجار هو المستعير الأول، أي: الطرف الأول الذي أذن له بأخذ السيارة والانتفاع بها، والمستعير الثاني: هو الذي أعطي السيارة سواءً كان عالماً أو غير عالم، وهو الذي فصلنا فيه، فأما بالنسبة للمستعير الثاني إذا أخذ السيارة وهو يعلم أنه لم يؤذن للمستعير الأول بالإذن بها، ويعلم أنها ملك لغيره فإنه ظالم، ولذلك يقول العلماء: إنه يعتبر في حكم الغاصب، وهذا أمر مهم جداً؛ لأنه يتفرع عليه ما لو أنه أخذ السيارة فحصل له حادث، أو أن السيارة تلفت بآفة سماوية أو بدون تفريط منه، فسواء تلفت بالتفريط أو بدون تفريط تكون يده يد ضمان، فتستقر عليه قيمتها على ما قاله المصنف.

فهذه مسألة التضمين، وفيها تفصيل من حيث ترتب الأحكام كالآتي:

تقول: المستعير الثاني إذا كان يعلم أن المستعير الأول قد تصرف بدون حق؛ فإنه لا يجوز له شرعاً أن يأخذ السيارة، فيعتبر في حكم الغاصب لو أخذها، ويلزمه ضمان أجرة السيارة في المدة التي أخذها، وضمان مثل السيارة إن كان لها مثلي إن أتلفها، أو قيمتها إن لم يكن لها مثلي، فهناك أحكام تترتب على أخذ المستعير الثاني مع علمه باعتداء المستعير الأول، فإن كان يعلم فهو أولاً: آثم، وثانياً: يده يد ضمان مطلقاً، حتى لو أن السيارة تلفت بدون تفريط أو تعدٍ، فنقول للثاني: يجب عليك أن تضمن السيارة؛ لأنه يعلم أن الشرع لا يأذن له بذلك، وأنها في حكم المغصوبة، ويتفرع على ذلك ضمانه لقيمة السيارة إذا لم يكن لها مثلي، أو مثلها إن كان لها مثلي، وكذا ضمانه لأجرتها.

فلو أخذها المستعير الأول على أن يسافر بها من مكة إلى المدينة، ثم أعطاها للمستعير الثاني، وقال له: سآخذ السيارة من محمد على أنني سأسافر بها وأعطيها لك، فعلم المستعير الثاني بغش المستعير الأول، فأخذها المستعير الثاني وخرج بها من مكة إلى المدينة، فتلفت قبل وصوله إلى المدينة، نقول: أولاً: يأثم. هذه مسئولية الآخرة؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، ثانياً: يلزمه ضمان هذه السيارة إن كان لها مثلي، وإن لم نجد في السوق مثل هذه السيارة نقول له: اضمن قيمتها، ويكون ضمان القيمة يوم التلف، فلو كانت السيارة حينما أخرجها من مكة قيمتها خمسة آلاف، فلما تلفت بعد أسبوع صارت قيمتها عشرة آلاف فإنه يضمنها يوم تلفت بعشرة آلاف، واستقرت عليه القيمة يوم التلف، ثالثاً: نقول له: عليك أجرة السيارة فيما بين مكة إلى المكان الذي تلفت فيه السيارة، والدليل على هذه الثلاث:

أولاً: يأثم؛ لأن أموال الناس لا تستحق إلا بطيبة نفس منهم وتراضٍ، قال تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ [النساء:29] فالبذل مبني على التراضي، ومالكها رضي أن يبذلها منفعة للأول دون الثاني، فإذاً صار الثاني غير مأذون له من حيث الأصل، فترتب عليه الإثم.

ثانياً: أنه أعان هذا الظالم على ظلمه بأخذه للسيارة مع علمه بعدم رضا المالك الحقيقي.

ثالثاً: إذا ثبت أنه ظالم، ولا حق له في الانتفاع بهذه السيارة، فنقول: أصبحت يده يد اعتداء، ويد الاعتداء ضامنة بكل حال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فيده مثل يد الغاصب، وعلى هذا سنقول: إذا تلفت السيارة يضمن، وجهاً واحداً عند العلماء رحمهم الله، الذين يقولون بأنه لا تملك منافع العارية.

رابعاً: نقول له: عليك أجرة السيارة من مكة إلى المكان الذي تلفت فيه.

أما إذا كان لا يعلم، كما لو أن شخصاً أخذ سيارة من أخيه على أنه ينتفع بها مدة معينة، فأعطاه إياها على أنه ينتفع بها، فذهب وأعطاها شخصاً آخر ينتفع بها، فظن الشخص الثاني أن الذي أعطاه يملك السيارة، أو أن المالك الحقيقي قد أذن له بالتصرف فيها وإعارتها للغير، فتختلف هذه الصورة عن الصورة الأولى بأن المستعير الثاني عنده شبهة، ولا يعلم بالاعتداء، ويظن وجود الإذن بالتصرف؛ ففي هذه الحالة يسقط الإثم؛ لأنه لا اعتداء، وإنما وغرر به المستعير الأول؛ لأن الأصل أن الشخص إذا قال لك: خذ هذه السيارة، وأنت ترى أنها تحت يده، فهناك شيء يسميه العلماء: العمل بالظاهر، وظاهر الحال حينما ترى السيارة تحت يد شخص ومفتاحها عنده وقال لك: خذ سيارتي، الظاهر من الحال أنه مالك لها، وهكذا لو رأيته يقودها ويسير بها، وهذا يسمى العمل بالظاهر.

والظاهر حجة، ومن حيث الأصل يعمل به، فهو إذا جاء إلى غيره وقال له: خذ السيارة هذه الليلة، فأخذها الثاني، فقد غرر به حيث ظن أنه مالك لها وليس بمالك، ويسقط عنه الإثم للشبهة، وفي هذه الحالة يسقط عنه ضمان الأجرة؛ لأنه مغرر به، ويثبت ضمان الأجرة على المستعير الأول وليس على المستعير الثاني. أما الدليل على أن المستعير الأول يضمن أجرة السيارة ويلزمه دفع قيمة المنافع التي استغلت تلك الليلة؛ فلأن صاحبها حينما أعطاها للمستعير الأول أذن له ولم يأذن لغيره، فإذا جاء يعطيها للغير فالغير لا يملكها، وما خرجت إلى يد الاعتداء إلا بسببه هو، وهو في هذه الحالة تصرف في منافع لا يملكها؛ لأن المنافع التي يملكها ما كانت له؛ فتصرف في منفعة الغير وحبسها المدة التي انتفع بها المستعير الثاني، فيلزمه ضمانها.

على هذا لو أعطيته سيارة، فأعطاها لشخص يذهب بها إلى المدينة لزمته أجرته إلى المدينة، ولو أعطيته بيتاً يسكنه شهراً، فأسكن الغير لزمته أجرتها تلك المدة، سواء أسكن الغير بأجرة أو بدون أجرة، هذا من حيث الاستحقاق.

إلزام المستعير الثاني بالضمان عند تلف العارية

لو أن المستعير الثاني أخذ السيارة إلى المدينة وهو يظن أن السيارة ملك للمستعير الأول وتلفت، من الذي يضمن؟ في هذه الحالة: يضمن المستعير الثاني؛ لأن المستعير وإن كان معذوراً لكنه أخذها بيد العارية؛ لأنه قال له: أعرني، فأعاره، فليس عنده شيء يسقط الضمان، والعارية توجب الضمان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة).

إذاً: هناك صورتان:

الصورة الأولى: أن يكون المستعير الثاني عالماً باعتداء المستعير الأول؛ فيلزمه ضمان الأجرة وضمان العين إن تلفت تحت يده، أولاً: يلزمه ضمان الأجرة؛ لأنه تصرف في مال الغير بدون إذنه، وثانياً: ضيع عليه منفعة هذا الشيء فوجب عليه ضمانها، وثالثاً: يلزمه ضمان العين؛ لأنه قد اغتصب تلك العين فأخرجها إلى موضع لم يؤذن له بإخراجها إليه.

الصورة الثانية: إذا كان المستعير الثاني لا يعلم، أو ظن وجود الإذن، أو ظن أن المستعير الأول مالك حقيقي لها؛ فوقع في التصرف بشبهة الملكية أو بشبهة الإذن، فإنه في هذه الحالة يأخذ حكم المستعير، إلا إذا أخذها إجارة، فله حكم ثانٍ، فإن أخذها استعارة من المستعير الأول يكون عليه ضمانها؛ لأن المستعير يضمن ولا أجرة عليه، والأجرة على المستعير الأول لا الثاني، وتلزم الأجرة المستعير الأول في هذه الصورة الثانية؛ لأنه غرر بالمستعير الثاني وتصرف في مال غيره بدون إذنه، فضمن قيمة المنفعة.

أما لو أن المستعير الأول أجرها للشخص الثاني، فحينئذٍ الإجارة لا ضمان فيها إلا إذا تعدى، فلو قال المالك الحقيقي للمستعير الأول: خذ بيتي هذا واسكنه شهراً، فأخذه المستعير الأول وذهب إلى محمد وقال: يا محمد! هذا البيت لي -وكذب عليه- خذه وأسكنه شهراً بمائة، قال: قبلت، فأصبح الشخص الثاني مستأجراً لا مستعيراً، يعني: إما أن يغرر به مستعيراً أو يغرر به مستأجراً، إن غرر به مستعيراً ضمن؛ لأن يده يد ضمان، وإن غرر به مستأجراً ضمن الأجرة ولا يضمن العين إن تلفت؛ لأن يد الإجارة لا ضمان فيها إلا بالتعدي، كما تقدم في باب الإجارة.

قال رحمه الله: [وعلى معيرها أجرتها].

هذه هي الحالة التي ذكرناها، إذا غرر بالمستعير الثاني فإنه يلزمه ضمان الأجرة على التفصيل الذي ذكرناه؛ فإذا كان المستعير الأول مغرراً بالمستعير الثاني ضمن الثاني الأجرة، والمستعير الأول حينئذٍ يضمن الأجرة ويضمن العين بالعارية، ولا يضمن الثاني؛ لأن يده يد أمانة.

تضمين المعير لأي المستعيرين شاء

قال رحمه الله: [ويضمن أيهما شاء].

ويضّمن المالك أي الاثنين شاء، إن شاء ضمن المستعير الأول، وإن شاء ضمن المستعير الثاني؛ لأن المستعير الأول قد تصرف بالاعتداء وكذب على المستعير الثاني، وحينئذٍ يكون المستعير الثاني ضامناً مع الأول؛ لأن الأول مستعير والثاني مستعير؛ والثاني مغرر به، لكنه رضي بالعارية، وأنت إذا رضيت بالعارية ضمنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بل عارية مضمونة) فكل شخص يقول: أعرني، كأنه يقول: أنا أضمن لك هذا الشيء الذي تعيرني إياه، على ظاهر الحديث؛ بناءً على ذلك يشترك الطرفان في مسألة العارية. وإن إذا كان الثاني مغرراً به ومعذوراً، فنقول للمالك الحقيقي: إن شئت ضمن الأول وإن شئت ضمن الثاني.

فلو أن هذه الدار التي تلفت -واليد يد عارية- تساوي قيمتها المليون، نقول له في هذه الحالة إن تلفت: إن شئت أخذت المليون من المستعير الثاني وإن شئت أخذتها من المستعير الأول؛ لأن يد الأول ضمان ويد الثاني ضمان. وبالنسبة لحال عدم الضمان، كما لو أجر المستعير الأول لآخر وكان يظن أنه مالك؛ حينها يضمن المستعير الأول دون المستأجر؛ لأن المستأجر يده يد أمانة وليست بيد ضمان.

أحكام إشراك المحتاج في منفعة العارية

قال رحمه الله تعالى: [وإن أركب منقطعاً للثواب لم يضمن].

يرد السؤال: أنت حينما تأخذ العارية من غيرك وتعطيها للغير، حينئذٍ تنتقل العين من يدك إلى يد الغير، ويصبح الضمان فيها على التفصيل من وجود العذر وعدم وجوده، فعقد الإجارة شيء، وعقد العارية شيء، لكن السؤال: لو أركب منقطعاً؟

حينما يؤذن لك أنت أن تركب السيارة، معناه: أن المنفعة لك أنت لا لغيرك، وحينما تعطيها للغير عارية أو إجارة فقد أخرجتها باليد إجارة أو عارية، لكن لو أن الاثنين اشتركا في المنفعة، فهل تنتقل يد الأول، وتلغى أم لا؟ وهي التي يسمونها يد التشريك.

فقوله: (وإن أركب منقطعاً)، أي: أعطيته دابتك، وقلت له: سافر بها من المدينة إلى مكة، فرأى في الطريق منقطعاً فأركبه، والمنقطع من حيث الأصل قد يجب عليك إركابه إذا خشي عليه التلف والموت؛ لأن إنقاذ النفس المحرمة واجب شرعاً، ولا يجوز أن تتركه إذا رأيته في حال الهلكة، حتى إن بعض الظاهرية يقولون: من رأى مسلماً على هلكة وهو قادر أن ينقذه فلم ينقذه فقد قتله قتل عمد، وإن كان هذا القول قولاً مرجوحاً، والصحيح أنه ليس بقاتل، لكنه يبوء بإثم عظيم، ومثله قالوا: كأن يراه غريقاً وهو يحسن السباحة فلا يسبح إليه، أو يراه جائعاً وعنده الطعام فلا يعطيه، أو يراه عطشاناً وعنده الماء فلا يعطيه، أو يراه منقطعاً وهو قادر على حمله ولا يحمله، ولهذا قال المصنف: (منقطعاً)؛ لأن المنقطع يتعين عليك حمله، وفي هذه الحالة يكون دخوله عليك بصورة اللزوم، فلو رأيت منقطعاً فأركبته المنفعة فقد أركبته منفعة ليست ملكاً لك، ونحن قررنا قاعدة: أن المستعير من حيث الأصل أذن له ولم يؤذن لغيره، فهل التشريك هنا يوجب الضمان أو لا يوجبه؟

فبين رحمه الله أنه لا يوجب فقال: (وإن أركب منقطعاً للثواب).

ركوب المنقطع له صورتان: الصورة الأولى: أن تركبه بأجرة.

الصورة الثانية: أن تركبه بدون أُجرة؛ فإذا ركب بدون أجرة فحينئذٍ لا إشكال، لكن إن ركب بأجرة صار بذل المنفعة في مسألة إجارة العين المستعارة توجب الضمان لمنفعتها كلها، وكذلك إجارة جزئها.

فإذاً عندنا حالتان للمنقطع:

إما أن يركبه لله بدون أجرة، كما قال: (للثواب) واللام للتعليل، أي: من أجل الثواب، فتبقى يد المستعير كما هي يد ضمان، ولا يلزمه دفع أجرة الراكب؛ لأنه في هذه الحالة متعين عليه أن يركبه؛ لأنه منقطع. وإما أن يركبه بأجرة، فركب معه، وحينئذٍ أصبحت المنفعة منقسمة إلى قسمين: قسم أخذه المستعير، وقسم أجره، في هذه الحالة يضمن أجرة ما أجره ويكون ذلك المال للمالك الحقيقي.

وفي حالة ما إذا كان المالك الحقيقي قد أذن له باستعارتها فأركب منقطعاً بدون مال، تبقى يده يد ضمان، وهذا الراكب لا يضمن؛ لأنه يجب إركابه في هذه الحالة، وبقي الأصل وهو البذل، حتى المالك الحقيقي لو أنه مر على المنقطع لوجب عليه إركابه؛ لأن المسلم يجب عليه إنقاذ أخيه، لكن لو أجره وقال له: أركبك معي بمائة، فركب معه بمائة، ضمن أجرته.

أما الدليل على تضميننا إياه لأجرته فنقول: الأصل في المنفعة يوجب الضمان إذا أجرها كلها، كذلك لو أجر جزءها، فأنت لو قلت له: خذ هذه الدار واسكنها شهراً عارية مني لك، فسكن نصف شهر وأجرها نصف الشهر، وجب عليه الضمان في نصف الشهر، وعليه: فإركاب الراكب معه تشريك له في المنفعة، فيجب ضمان الجزء الذي أجره للراكب، ويضمن بأجرة المثل.

وفائدة المسألة: أنه لو أركب الراكب بمائة ريال وأجرة مثله مائتين؛ وجب عليه ضمان المائة الثانية، ففي هذه الحالة تكون الإجارة أجرة المثل.

قال رحمه الله: [ولا يعيرها].

لا يجوز للمستعير أن يعير العارية للغير، وهذه مسألة مفرعة على ضابط العارية، بعض العلماء يقول: العارية إذنٌ بالمنفعة.

وبعض العلماء يقول: العارية تمليكٌ للمنفعة.

فهناك مذهبان:

مذهب يقول: كل شيء تعيره للناس فقد ملَّكته لمن استعار.

وهناك مذهب آخر يقول: كل شيء تعيره للناس فقد أذنت لمن استعار أن ينتفع به، توضيح ذلك بالمثال: لو كان عندك سيارة، وقلت: يا محمد! أعرتك سيارتي هذا اليوم تستفيد منها، وعند المغرب تردها لي، هذه عارية، وأخذ العارية وتحددت بالزمان وهو يوم، فلما نظرنا في كلامه: (خذ السيارة يوماً) وجدنا العلماء ينقسمون إلى طائفة تقول: محمد يملك منفعة السيارة، وطائفة تقول: صاحب السيارة أذن فقط لمحمد أن ينتفع.

الفرق بين القولين: أن القول الأول الذي يقول: محمد ملك المنفعة، يكون من حق محمد أن يعطي السيارة لغيره لكي يركبها ويأذن لغيره بأن ينتفع مثلما أذن له؛ لأنه ملك هذه المنفعة، فمن حقه أن ينتفع هو وأن ينفع غيره، وأيضاً من حقه أن يأخذ السيارة منك عارية ويؤجرها للغير ويضمنها حتى يردها إليك. هذا بالنسبة للقول الذي يقول: إنه مالك للمنفعة. ويختار هذا القول أئمة الحنفية والمالكية والشافعية رحمهم الله، ويقولون: إن العارية تمليك للمنفعة.

وقال طائفة من العلماء: العارية إذن بالمنفعة. وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وعليه المذهب، أن العارية إذن وسماح بالمنفعة، وإذا قلت: إذن. ننظر في هذا الإذن هل هو مقيد أو مطلق؟ وجدناه مقيداً؛ فأنت قلت: يا محمد خذ السيارة إلى المغرب، فليس من حق محمد أن يقيم غيره، وليس من حق محمد أن يؤجر على غيره، فمتى ما أجر على الغير لزمه أن يدفع الأجرة إلى المالك الحقيقي، وينتقل من كونه مستعيراً إلى كونه ضامناً للعين المعارة، وأيضاً ضامناً لأجرة السيارة طيلة هذا اليوم، حتى ولو قال لغيره: خذ هذه الدار واسكنها بدلاً مني؛ فإنه يضمن أجرة المستعير الثاني، ويكون المستعير الثاني في حكم المستأجر، لكن يضمن الأجرة المستعير الأول؛ لأنها أعطيت له إذناً ولم تعط لغيره، فصار الغير إذا سكن كأنه انتفع بمال غيره؛ فوجب عليه الضمان، من الذي مكنه من ذلك؟ مكنه المستعير الأول، فنقول للمستعير الأول: ادفع الأجرة.

وعلى هذا: فإن العارية ليست بتمليك للمنفعة وإنما هي إذن، وهذا هو الأشبه والأقوى إن شاء الله.

وشرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان ما يتعلق بالتصرف في العارية، فإذا أخذت من أخيك المسلم شيئاً على أنه عارية، كأن تأخذ دابة أو سيارة على أنك تنتفع بها مدة معينة، فإن الواجب عليك أن تتصرف في هذه العين التي استعرتها على وفق ما اتفقت عليه مع أخيك المسلم، فالأصل أنك أنت الذي تستفيد لا غيرك، ولذا قال رحمه الله: (ولا يعيرها)، بمعنى: أنك لو قلت لأخيك: أعرني سكنى دارك شهراً، قال: أعرتك، فإنه لا يجوز لك أن تقيم الغير مقامك على أحد قولي العلماء، وذكرنا هذا القول ووجهه عندما بينا حقيقة العارية، وقلنا: إنها إذن بالمنافع وليست بتمليك للمنفعة، فالذي يقول لك: اسكن داري، أذن لك أن تسكن ولم يأذن لغيرك، وأذن لك أن تستعير هذه السكنى ولم يأذن لك أن تتصرف فيها بالإجارة، فلا يحل لك بيع هذه المنفعة فتؤجرها على الغير.

إذا ثبت هذا فيدك يد مأذون لها بالتصرف لك لا لغيرك، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى: أن لك أن تعير للغير، وأن العارية تمليك للمنافع، واختارها بعض العلماء، وهو قول عند الحنفية والشافعية رحمة الله على الجميع؛ وبناء على هذا القول الذي اختاره المصنف لا يجوز لك شرعاً أن تقيم غيرك مقامك، فلو أخذت السيارة من أخيك على أن تستفيد منها ما بين المغرب والعشاء، لا يجوز أن تعطيها لآخر ، ولا أن تبذل منفعة ركوبها للغير، هذا من حيث الأصل العام والذي اختاره المصنف.

ولاشك أن الذي ينبغي للمسلم دائماً أن يحتاط في حقوق الناس، وأن يتصرف على وفق ما اتفق عليه مع الطرف الثاني دون زيادة أو خروج عن العقد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فأنت إذا قلت لأخيك المسلم: أعرني، قال: أعرتك، اختص الانتفاع بك لا بغيرك، فكما أنك لا تقبل أن يقوم غيره مقامه كذلك لا ينبغي لك أن تقيم غيرك مقامك، وكم من شخص يأذن لإنسان لحقه عليه ولا يأذن لغيره، خاصة في المنافع التي يكون بذلها للغير فيه إحراج لصاحبها ومالكها الحقيقي.

قال رحمه الله: (ولا يعيرها) وهذا يدل على مسألتين:

المسألة الأولى: سقوط الحق.

المسألة الثانية: حصول الإثم؛ لأننا إذا قلنا: لا يملك المنفعة فإنه يأثم إذا صرف الدابة للغير، ويخرج عن الإثم بتحلل صاحب الدابة، مثلاً: أخذ سيارته وأعطاها لشخص آخر، يقول له: إني قد أخذت سيارتك على أني راكبها وأعرتها للغير فسامحني في حقك أو اجعلني في حل من حقك، ونحو ذلك.

قال رحمه الله: [فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها]

الفاء في قوله: (فإن) للتفريع، وإذا كان ليس من حقك أن تقيم غيرك مقامك فأقمته، فأخذ السيارة وتلفت فهذا فيه تفصيل:

الحالة الأولى: أن تقيم الغير مقام عاريتك.

الحالة الثانية: أن تقيم الغير مقام إجارتك، وهناك فرق بين أن تقول للغير: خذ هذه السيارة عارية مني فيما بين المغرب والعشاء، وبين أن تقول له: أجرتك السيارة فيما بين المغرب والعشاء، فيد العارية يد ضمان ويد الإجارة يد أمانة، إذا ثبت هذا فالشخص الثاني الذي تقيمه مقامك له صورتان:

الصورة الأولى: أن يعلم بأن المالك الحقيقي للسيارة لم يأذن لك، وأنك قد تصرفت في ماله بدون حق، فيأخذ منك السيارة على أنك قد أعرته وهو يعلم أن السيارة ليست ملكاً لك، وأن مالكها لم يأذن لك بهذا التصرف.

الصورة الثانية: أن لا يعلم بذلك ويكون جاهلاً، كجار للإنسان جاء فوجد السيارة التي استعارها جاره فظنها له، فقال: أعرني هذه السيارة أذهب بها لقضاء حاجة أو نحو ذلك، قال: خذها، فأخذها الجار يظنها ملكاً لجاره، أو يظن أن مالكها قد أذن لجاره أن يعيره.

فالصورة الأولى: الجار هو المستعير الأول، أي: الطرف الأول الذي أذن له بأخذ السيارة والانتفاع بها، والمستعير الثاني: هو الذي أعطي السيارة سواءً كان عالماً أو غير عالم، وهو الذي فصلنا فيه، فأما بالنسبة للمستعير الثاني إذا أخذ السيارة وهو يعلم أنه لم يؤذن للمستعير الأول بالإذن بها، ويعلم أنها ملك لغيره فإنه ظالم، ولذلك يقول العلماء: إنه يعتبر في حكم الغاصب، وهذا أمر مهم جداً؛ لأنه يتفرع عليه ما لو أنه أخذ السيارة فحصل له حادث، أو أن السيارة تلفت بآفة سماوية أو بدون تفريط منه، فسواء تلفت بالتفريط أو بدون تفريط تكون يده يد ضمان، فتستقر عليه قيمتها على ما قاله المصنف.

فهذه مسألة التضمين، وفيها تفصيل من حيث ترتب الأحكام كالآتي:

تقول: المستعير الثاني إذا كان يعلم أن المستعير الأول قد تصرف بدون حق؛ فإنه لا يجوز له شرعاً أن يأخذ السيارة، فيعتبر في حكم الغاصب لو أخذها، ويلزمه ضمان أجرة السيارة في المدة التي أخذها، وضمان مثل السيارة إن كان لها مثلي إن أتلفها، أو قيمتها إن لم يكن لها مثلي، فهناك أحكام تترتب على أخذ المستعير الثاني مع علمه باعتداء المستعير الأول، فإن كان يعلم فهو أولاً: آثم، وثانياً: يده يد ضمان مطلقاً، حتى لو أن السيارة تلفت بدون تفريط أو تعدٍ، فنقول للثاني: يجب عليك أن تضمن السيارة؛ لأنه يعلم أن الشرع لا يأذن له بذلك، وأنها في حكم المغصوبة، ويتفرع على ذلك ضمانه لقيمة السيارة إذا لم يكن لها مثلي، أو مثلها إن كان لها مثلي، وكذا ضمانه لأجرتها.

فلو أخذها المستعير الأول على أن يسافر بها من مكة إلى المدينة، ثم أعطاها للمستعير الثاني، وقال له: سآخذ السيارة من محمد على أنني سأسافر بها وأعطيها لك، فعلم المستعير الثاني بغش المستعير الأول، فأخذها المستعير الثاني وخرج بها من مكة إلى المدينة، فتلفت قبل وصوله إلى المدينة، نقول: أولاً: يأثم. هذه مسئولية الآخرة؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، ثانياً: يلزمه ضمان هذه السيارة إن كان لها مثلي، وإن لم نجد في السوق مثل هذه السيارة نقول له: اضمن قيمتها، ويكون ضمان القيمة يوم التلف، فلو كانت السيارة حينما أخرجها من مكة قيمتها خمسة آلاف، فلما تلفت بعد أسبوع صارت قيمتها عشرة آلاف فإنه يضمنها يوم تلفت بعشرة آلاف، واستقرت عليه القيمة يوم التلف، ثالثاً: نقول له: عليك أجرة السيارة فيما بين مكة إلى المكان الذي تلفت فيه السيارة، والدليل على هذه الثلاث:

أولاً: يأثم؛ لأن أموال الناس لا تستحق إلا بطيبة نفس منهم وتراضٍ، قال تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ [النساء:29] فالبذل مبني على التراضي، ومالكها رضي أن يبذلها منفعة للأول دون الثاني، فإذاً صار الثاني غير مأذون له من حيث الأصل، فترتب عليه الإثم.

ثانياً: أنه أعان هذا الظالم على ظلمه بأخذه للسيارة مع علمه بعدم رضا المالك الحقيقي.

ثالثاً: إذا ثبت أنه ظالم، ولا حق له في الانتفاع بهذه السيارة، فنقول: أصبحت يده يد اعتداء، ويد الاعتداء ضامنة بكل حال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فيده مثل يد الغاصب، وعلى هذا سنقول: إذا تلفت السيارة يضمن، وجهاً واحداً عند العلماء رحمهم الله، الذين يقولون بأنه لا تملك منافع العارية.

رابعاً: نقول له: عليك أجرة السيارة من مكة إلى المكان الذي تلفت فيه.

أما إذا كان لا يعلم، كما لو أن شخصاً أخذ سيارة من أخيه على أنه ينتفع بها مدة معينة، فأعطاه إياها على أنه ينتفع بها، فذهب وأعطاها شخصاً آخر ينتفع بها، فظن الشخص الثاني أن الذي أعطاه يملك السيارة، أو أن المالك الحقيقي قد أذن له بالتصرف فيها وإعارتها للغير، فتختلف هذه الصورة عن الصورة الأولى بأن المستعير الثاني عنده شبهة، ولا يعلم بالاعتداء، ويظن وجود الإذن بالتصرف؛ ففي هذه الحالة يسقط الإثم؛ لأنه لا اعتداء، وإنما وغرر به المستعير الأول؛ لأن الأصل أن الشخص إذا قال لك: خذ هذه السيارة، وأنت ترى أنها تحت يده، فهناك شيء يسميه العلماء: العمل بالظاهر، وظاهر الحال حينما ترى السيارة تحت يد شخص ومفتاحها عنده وقال لك: خذ سيارتي، الظاهر من الحال أنه مالك لها، وهكذا لو رأيته يقودها ويسير بها، وهذا يسمى العمل بالظاهر.

والظاهر حجة، ومن حيث الأصل يعمل به، فهو إذا جاء إلى غيره وقال له: خذ السيارة هذه الليلة، فأخذها الثاني، فقد غرر به حيث ظن أنه مالك لها وليس بمالك، ويسقط عنه الإثم للشبهة، وفي هذه الحالة يسقط عنه ضمان الأجرة؛ لأنه مغرر به، ويثبت ضمان الأجرة على المستعير الأول وليس على المستعير الثاني. أما الدليل على أن المستعير الأول يضمن أجرة السيارة ويلزمه دفع قيمة المنافع التي استغلت تلك الليلة؛ فلأن صاحبها حينما أعطاها للمستعير الأول أذن له ولم يأذن لغيره، فإذا جاء يعطيها للغير فالغير لا يملكها، وما خرجت إلى يد الاعتداء إلا بسببه هو، وهو في هذه الحالة تصرف في منافع لا يملكها؛ لأن المنافع التي يملكها ما كانت له؛ فتصرف في منفعة الغير وحبسها المدة التي انتفع بها المستعير الثاني، فيلزمه ضمانها.

على هذا لو أعطيته سيارة، فأعطاها لشخص يذهب بها إلى المدينة لزمته أجرته إلى المدينة، ولو أعطيته بيتاً يسكنه شهراً، فأسكن الغير لزمته أجرتها تلك المدة، سواء أسكن الغير بأجرة أو بدون أجرة، هذا من حيث الاستحقاق.

لو أن المستعير الثاني أخذ السيارة إلى المدينة وهو يظن أن السيارة ملك للمستعير الأول وتلفت، من الذي يضمن؟ في هذه الحالة: يضمن المستعير الثاني؛ لأن المستعير وإن كان معذوراً لكنه أخذها بيد العارية؛ لأنه قال له: أعرني، فأعاره، فليس عنده شيء يسقط الضمان، والعارية توجب الضمان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة).

إذاً: هناك صورتان:

الصورة الأولى: أن يكون المستعير الثاني عالماً باعتداء المستعير الأول؛ فيلزمه ضمان الأجرة وضمان العين إن تلفت تحت يده، أولاً: يلزمه ضمان الأجرة؛ لأنه تصرف في مال الغير بدون إذنه، وثانياً: ضيع عليه منفعة هذا الشيء فوجب عليه ضمانها، وثالثاً: يلزمه ضمان العين؛ لأنه قد اغتصب تلك العين فأخرجها إلى موضع لم يؤذن له بإخراجها إليه.

الصورة الثانية: إذا كان المستعير الثاني لا يعلم، أو ظن وجود الإذن، أو ظن أن المستعير الأول مالك حقيقي لها؛ فوقع في التصرف بشبهة الملكية أو بشبهة الإذن، فإنه في هذه الحالة يأخذ حكم المستعير، إلا إذا أخذها إجارة، فله حكم ثانٍ، فإن أخذها استعارة من المستعير الأول يكون عليه ضمانها؛ لأن المستعير يضمن ولا أجرة عليه، والأجرة على المستعير الأول لا الثاني، وتلزم الأجرة المستعير الأول في هذه الصورة الثانية؛ لأنه غرر بالمستعير الثاني وتصرف في مال غيره بدون إذنه، فضمن قيمة المنفعة.

أما لو أن المستعير الأول أجرها للشخص الثاني، فحينئذٍ الإجارة لا ضمان فيها إلا إذا تعدى، فلو قال المالك الحقيقي للمستعير الأول: خذ بيتي هذا واسكنه شهراً، فأخذه المستعير الأول وذهب إلى محمد وقال: يا محمد! هذا البيت لي -وكذب عليه- خذه وأسكنه شهراً بمائة، قال: قبلت، فأصبح الشخص الثاني مستأجراً لا مستعيراً، يعني: إما أن يغرر به مستعيراً أو يغرر به مستأجراً، إن غرر به مستعيراً ضمن؛ لأن يده يد ضمان، وإن غرر به مستأجراً ضمن الأجرة ولا يضمن العين إن تلفت؛ لأن يد الإجارة لا ضمان فيها إلا بالتعدي، كما تقدم في باب الإجارة.

قال رحمه الله: [وعلى معيرها أجرتها].

هذه هي الحالة التي ذكرناها، إذا غرر بالمستعير الثاني فإنه يلزمه ضمان الأجرة على التفصيل الذي ذكرناه؛ فإذا كان المستعير الأول مغرراً بالمستعير الثاني ضمن الثاني الأجرة، والمستعير الأول حينئذٍ يضمن الأجرة ويضمن العين بالعارية، ولا يضمن الثاني؛ لأن يده يد أمانة.