خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [6]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن أجر الدار ونحوه مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح].
شرع المصنف رحمه الله في مسألة مهمة من مسائل الإجارة، وهذه المسألة تتعلق بإجارة الدور والمساكن ونحوها، فإنه إذا استأجر من شخصٍ داراً ليسكنها فإن إجارة هذه الدار تفتقر إلى تأقيت حتى تنقطع الخصومة وينقطع النزاع.
فإذا قال له: أجرتك بيتي، أو أجرتك داري، أو أجرتك عمارتي، وفي زماننا الشقق، أو غرف الفنادق، أو نحوها، فكلها تتأقت بالأزمنة، وإذا استأجرت الدور والمساكن بالزمان فإن إجارتها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما كانت مدته قصيرة، كالساعة واليوم والأسبوع، ونحو ذلك.
والقسم الثاني من الإجارات للدور: أن تكون مدته طويلة، كأن يستأجر أرضاً عشرين سنة، أو يستأجر داراً عشرين سنة، ونحو ذلك من المدد الطويلة.
والأصل في الشرع: أنه إذا استأجر شيئاً أو أجره فإنه ينبغي أن يكون هناك تحديد حتى تنقطع الخصومة، ويعرف المستأجر ما له من ذلك العقد، فلو قال له: أجرتك داري زماناً، ولم يحدد المدة؛ لم يصح، ولو قال له: أجرتك داري مدة جلوسك في مكة؛ لم يصح؛ لأنها مجهولة، إذاً: لا بد من التحديد.
ثم إن هذا التحديد ينقسم إلى أمد طويل وأمد قصير، فإذا أردنا أن نفصل في الأحكام المتعلقة بتحديد الإجارة بالزمان في الأمد الطويل والأمد القصير، فإن هذا يفتقر إلى ضرب الأمثلة، وسنحاول -إن شاء الله- بضرب أمثلة يعيشها الناس وخاصة في هذا الزمان؛ حتى يكون ذلك أبلغ في الفهم والوضوح.
فالإجارة القصيرة كالساعة واليوم والأسبوع، ففي الساعات ما يجري في الاستراحات، يقول له: أجرتك هذه الغرفة الساعة بعشرة أو بخمسة ريالات؛ فهذا النوع من الإجارة لا إشكال في جوازه، ولكن ينبغي أن ينبه على مسألة مهمة، وهي: أنه إذا قال له: أجرتك ساعة. فيحدد بداية الساعة ونهايتها، فلو كانت الساعة الثانية ظهراً وقال له: أجرتك هذه الدار ساعة بعشرة من الثانية ظهراً، صح العقد، لكن لو قال له: أجرتك هذه الدار ساعة. وسكت ولم يحدد بدايتها، فإن هذا يوجب الخصومة، فقد يكون مرادك أن يستأجر من الساعة الثالثة ظهراً أو الرابعة، وهو يقصد أن يستأجرها عقب العقد مباشرة.
إذاً: لا بد من تحديد بداية الزمان ونهايته، وهو إن حدد ساعة أو ساعتين أو ثلاث أو أربع، لكن لا بد وأن يحدد بداية العقد ونهايته.
وهنا مسألة وهي: إذا كان دخوله أثناء الساعة، كأن يأتي مثلاً الساعة الثانية والربع، الساعة الثانية والثلث، الساعة الثانية والنصف، فإذا قال له: أستأجر منك هذه الدار ساعة بعشرة من الساعة الثانية والنصف، نفهم أن العقد سينتهي عند الثالثة والنصف، ولو قال له: ساعتين بعشرين من الساعة الثانية والنصف، فإنه يعلم بداهة أن العقد ينتهي عند الرابعة والنصف، والعقد صحيح ولا إشكال فيه.
الإجارة باليوم: ومن أشهر ما يكون في ذلك: إجارة الفنادق، فيأتي الرجل إلى الفندق ويستأجر يوماً بمائتين، فعند الفنادق ترتيب معين، بحيث يقولون مثلاً: مبيت الشخص بمائتين، فيفهم منه أن الشخصين بأربعمائة وأن الثلاثة بستمائة، فإذا حدد باليوم يقول: سأستأجر هذه الغرفة ثلاثة أيام، فتحدد من يوم السبت والأحد والإثنين، فتحدد البداية وتحدد النهاية؛ لأنه إذا أطلق العقد فعند ذلك تحدث خصومة، بحيث لا ندري هل مراده بعد العقد مباشرة أو متراخياً عنه.
إذاً: لو سألك سائل: ما هو الشرط في إجارة الزمان؟
تقول: تحديد قيمة المدة، كالساعة بعشرة، أو اليوم بخمسين، ثم تحديد بداية الاستئجار ونهايته.
تحديد الزمن في استئجار غرف الفنادق
عرفنا أنه باليوم لا بد من تحديد بدايته ونهايته، ما لم يكن هناك عرف بتحديد النهاية، فلو أن العرف أثر في نهاية اليوم كما أثر في البداية، أي: جرت العادة أنه إذا جاءت الثانية ظهراً ينتهي موعد التأجير، إذاً تبتدئ إجارته من اليوم السابق وتنتهي في الثانية ظهراً من اليوم اللاحق.
لكن لو جرى العرف أن النزيل لو حضر بعد الساعة العاشرة صباحاً، أو بعد التاسعة صباحاً، فإنه لا يحسب ذلك اليوم، وإنما يحسب من الثانية ظهراً إلى اليوم الذي بعده، فحينئذٍ سيكون للنزيل يوم وزيادة، فما الحكم؟
الجواب: لا بأس، وهو جائز إذا جرى العرف أن النزيل إذا حضر قبل الساعة الثانية ظهراً بساعتين أو ثلاث ساعات، وتسامح الناس وعرفاً بهذه الساعة أو الساعتين، أو جاء بعد صلاة الفجر وجرى العرف أنه لا يحسب اليوم كاملاً فإنه لا بأس بذلك، فلو جاء بعد صلاة الفجر وقال له: أحسبه لك يوماً كاملاً من الثانية ظهراً، ولكن حضورك بعد صلاة الفجر أحسبه نصف يوم. وقال: قبلت، فيجوز.
إذاً: عرفنا أجرة الساعات، وأجرة اليوم، فتبقى عندنا أجرة الشهر وأجرة السنوات، أما أجرة الشهور، فهذه تقع في الغرف والشقق والعمائر والمساكن، فيقول له: أستأجر منك هذه الشقة شهراً بمائة، فإذا حدد الشهر وحدد بدايته ونهايته فلا إشكال فيه، ولكن نحتاج إلى تفصيل في مسائل متعلقة بالإجارة بالشهور:
العبرة بالشهر القمري عند الإطلاق
المسألة الثانية: إذا كانت العبرة بالشهر القمري، فينبغي أن يعلم أنه إذا حدد شهراً معيناً فإن الإجارة تتعلق بذلك الشهر تاماً أو ناقصاً، فالشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوماً ويكون ثلاثين يوماً.
أما الدليل على أن الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين، فإن الله تعالى يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189]، فجعل الله الهلال ميقاتاً للشهر، فأي مؤمن تعاقد مع أخيه المسلم على شهر معين، كشهر شوال مثلاً، فإننا نحتسب شوال بثبوت دخوله بالهلال، ونحتسبه خروجاً عند ثبوت نقصه تسعاً وعشرين، وعند عدم وجود رؤيته يتم ثلاثين يوماً.
أما الدليل الثاني من السنة على أن الشهر يكون تسعاً وعشرين فقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فجاءت روايتان: رواية قال فيها عليه الصلاة والسلام: (الشهر هكذا وهكذا)، ورواية قال فيها: (الشهر هكذا -وعد ثلاثين- ثم قال: وهكذا -وعد تسعاً وعشرين وقبض الإبهام في المرة الثانية)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) يدل على أنه لا عبرة بالتقويم، إنما العبرة بثبوت نقص الشهر ثبوتاً صحيحاً، فإذا لم تثبت الرؤيا أن الشهر تسعة وعشرون فإنه يتم ثلاثين يوماً.
فلو أن اثنين اختصما في شهر، واستأجر منه الدار شهر ربيع الأول، ومكث في شهر ربيع الأول، وثبت بالرؤية أنه تسع وعشرون يوماً، ورئي الهلال لربيع الثاني، فقال المستأجر: أنا استأجرت شهراً كاملاً. وقال المؤجر: الشهر تسع وعشرين. فالتزم المستأجر أن يبقى في البيت أو يبقى في السكن يوماً يتم به ثلاثين، وقال: الشهر ثلاثون يوماً، نقول: إن اليوم الثلاثين لاغٍ بحكم الشهر، ويلزمك الخروج، وتسليم الدار بمجرد ثبوت نقص الشهر السابق.
والعكس، فلو أن الشهر لم يثبت نقصه فقال المؤجر للمستأجر: إنه ناقص في الحساب الفلكي والتقويم، نقول: وليس من حقك أن تخرجه حتى يثبت نقصه برؤية هلالية، وحينئذٍ يكون ثلاثين يوماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة)، فلما قال: (أكملوا العدة) علم أن الشهر لا بد من تمامه وكماله بالثلاثين.
وهذه المسألة مهمة؛ لأنه يتفرع عليها أكثر من خمسين مسألة في المعاملات والعبادات، والأيمان والنذور ومسائل في الطلاق، ومسائل في العدد والإحداد، كلها تترتب على مسألة نقص الشهر وكماله.
فالأصل الشرعي الذي عليه جماهير السلف والخلف والأئمة كلهم، إلا قولاً شاذاً عن ابن سريج رحمه الله عليه من أصحاب الشافعي؛ على أن العبرة في الشهر تاماً وكاملاً بالرؤية، وأنه إذا لم ير الهلال فإنه يلزم تمام الشهر ثلاثين يوماً؛ لأن النص في هذا واضح، وقال عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة) فهذا دليل على أن الشهر لا يكمل إلا بالثلاثين.
لكن لو قال له: أجرني هذه الدار شهراً من غد -والغد عشرة في الشهر- فهل يتم ثلاثين يوماً، أم أنه يكون فيه التفصيل؟
الجواب: يتم ثلاثين يوماً بالإجماع؛ لأن الأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً.
وتتفرع عليه مسائل كما ذكرنا مثلاً في الكفارات، مثل: كفارة القتل: إذا صام شهرين متتابعين، فإذا ابتدأ من ربيع وثبت نقص ربيع وربيع الذي يليه، لأنه قد يأتي شهران متعاقبان ناقصين، لكن قالوا: لا تأتي أربعة أشهر متعاقبة بالنقص.
فالشهران إذا جاءا ناقصين، فمعنى ذلك: أنه يصوم ثمانيةً وخمسين يوماً وتجزيه، لكن لو أنه ابتدأ صيام الكفارة شهرين متتابعين من عشرة في الشهر الأول فينتهي بتمام ستين يوماً يصومها تامة كاملة.
إذاً: يفصل في الإجارة على نفس هذا التفصيل، أنه إذا قال له: أستأجر منك هذه الدار شهراً أو شهرين، وكان ذلك بعد دخول الشهر بيوم، فإننا نحتسب له المدة ستين يوماً في الشهرين، وثلاثين يوماً في الشهر الواحد، وما زاد فبحسابه، وهذا كله -كما ذكرنا- إذا استأجر الدار أو المستودع أو الغرفة أو المنزل أو الحوش ونحو ذلك مدة، فإننا نقول بجوازه، سواء كانت المدة بالساعات أو بالأيام أو بالأسابيع أو بالشهور.
لكن بالنسبة للإجارة بالسنوات، فإذا قال: إنه استأجر من أول ربيع وأسندها إلى سنة معينة، فحينئذٍ تصح السنة من بداية محرم إلى نهاية ذي الحجة من السنة نفسها، وهذا إذا أسند الإجارة إلى سنة معينة، أما إذا قال له: أستأجرها من الآن سنة كاملة فإنه يحتسب ثلاثمائة وستين يوماً كاملة إلى حسابها من الشهر الذي وقعت فيه الإجارة هذا بالنسبة للمدة القصيرة.
اختلاف العلماء في الإجارة بالمدة الطويلة
فمسألة إجارة الأرضين والدور والأشخاص مدة طويلة فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، ومن حيث الأصل فجماهير العلماء من السلف والخلف على جواز الإجارة مدة طويلة؛ لكن بشرط: أن يغلب على الظن بقاء العين المؤجرة، وإمكان الانتفاع بها، وبشرط: ألا يكون هناك غرر في ارتفاع الأسواق وانخفاضها على شكل مؤثر على المستأجر والمؤجر.
إذاً: المسألة من حيث الجملة بالإجارة للمدد الطويلة:
فالجماهير من السلف والخلف: على أنه يجوز أن تؤجر الدار أو الأرض أو المساكن مدداً طويلة إلى عشرين سنة أو إلى ثلاثين سنة، لكن بالشرطين الذين ذكرناهما:
أولهما: أن يغلب على الظن بقاء العين، وإمكان الانتفاع مدة الإجارة.
والشرط الثاني: أن يُؤمن الضرر والغرر الموجود في ارتفاع الأسواق وانخفاضها.
ولكن بعض العلماء يقول: العبرة عندي بالشرط الأول دون الثاني، وفي الحقيقة: أن قوله وجيه، أن العبرة بالشرط الأول دون الثاني؛ لأن الغنم بالغرم في قواعد الشريعة في الشرط الثاني؛ لكن الشرط الأول أهم من الشرط الثاني؛ لأن المقصود من عقد الإجارة: هو بقاء العين وحصول الانتفاع الذي من أجله دفعت الأجرة والتزم المؤجر والمستأجر بعقد الإجارة.
فإذا غلب على الظن بقاء العين إلى ذلك الأمد المتفق عليه بين الطرفين، فلا إشكال بالجواز، وهذا إذا كنا قد تحققنا من وجود الشرط؛ لكن لو كانت الدار متهدمة، أو كانت الدار ضعيفة البنيان، أو كانت الأرض بحالة يغلب على الظن عدم سلامتها للمدة المتفق عليها، فإنه يكاد ينعقد الإجماع على أنه لا يصح التعاقد على هذا الوجه، وإذا سُكت عن الدليل فتقول: إن الأصل يقتضي عدم جواز الغرر، وإذا أجره داراً قديمة يغلب على الظن سقوطها وتهدمها قبل تمام المدة المتفق عليها بين الطرفين فقد غشه وغرر به، والغرر لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر كما في الصحيح.
إذاً: من حيث الأصل: إذا كانت المدة طويلة في إجارة الدور والأرضين فحصل الشرط من غلبة الظن بالسلامة وبقاء المنافع، وغلبة الظن أيضاً بالسلامة من حصول الضرر بالانتفاع وعدمه عند من يقول باشتراط هذا الشرط، فيبقى السؤال: هل هذه المسألة فيها خلاف أو إجماع؟
إذا قلنا: اختلف العلماء، فجماهير العلماء يقولون: يجوز إجارة الدور والمساكن مدة طويلة، بشرط: غلبة الظن ببقائها، كما ذكرنا.
وقال بعض العلماء كما هو في مذهب المالكية والشافعية: لا يجوز إجارة الدور والمساكن مدداً طويلة، ومنهم من يطلق، ومنهم من يقيد، فعند الشافعية قولان:
قيل: لا يجوز مطلقاً أن يؤجر الدار أكثر من سنة، وإذا كان يريد أن يؤجرها فيؤجرها سنة فقط ولا يزيد عليها.
والقول الثاني يقول: يجوز بشرط أن تكون هناك مدة معينة كثلاثين سنة، وإذا جاوزها فلا يجوز، وإذا كان أقل منها يجوز.
والذين منعوا من أصحاب القول الثاني وانقسموا إلى الوجهين الذين ذكرناهما، حجتهم: أن الدار قد تتهدم، وأن المساكن قد تتغير، والمنافع تتضرر بحصول المدة الطويلة، ولذلك قالوا: لا يجوز للمسلم أن يؤجر على هذا الوجه؛ لما فيه من الغرر، ومن تعريض مال المسلم إلى أكله بالباطل.
أدلة جواز الإجارة بالمدة الطويلة
أما دليلنا من الكتاب: قال الله تعالى حكاية عن نبيه شعيب: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27]، قالوا: فأسند الإجارة إلى أكثر من عام، مع أن الثمانية الحجج قد يرتفع فيها سعر الإجارة وقد ينخفض، ومع ذلك أقر الشرع مثل هذا، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه. هذا من حيث دليل الكتاب.
أما دليل السنة فقالوا: إن الأحاديث التي استدل بها على جواز الإجارة من حيث الأصل العام لم تقيد بمدة ولا بزمان، فكل طرفين اتفقا على إجارة مدة معينة، وهذه المدة تبقى فيها العين ويحصل فيها النفع، فإنه يجوز ذلك العقد ولا بأس به. هذا بالنسبة لدليل الجمهور.
والذي يظهر -والله أعلم- صحة مذهب الجمهور، أي: أنه يجوز إجارة الدور والمساكن والأرضين ولو أكثر من ثلاثين سنة بالشرط الذي ذكرناه وهو: غلبة الظن ببقاء العين، وحصول النفع فيها.
وقد نبه المصنف رحمه الله إلى هذا القول الراجح حينما حكى غلبة الظن بقوله رحمه الله:
بقوله: [وإن آجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صحت].
البناء على غالب الظن في بقاء العين أو عدمها
(يغلب على الظن) هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة غالب الظن، وغالب الظن هو ترجح أحد الاحتمالين، والاحتمال الراجح يقال له: الظن في مصطلح علماء قواعد الفقه، وكذلك مصطلح الأصوليين، ويقال له أيضاً: غالب الظن.
والشريعة الإسلامية تبني الأحكام على غالب الظن، وهناك كلام جيد للإمام الشاطبي في الموافقات، وكذلك للإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أقر رحمه الله أن الشريعة تبني أحكامها على غالب الظن، وأنها لا ترتب الأحكام على الظن المرجوح، وأن غالب الظن تعبّدنا الله عز وجل به في أعظم الأشياء، فإن المفتي والقاضي يفتي ويقضي ويحكم بأحكامه الشرعية بغالب ظنه، وهذا يدل على أن غالب الظن له اعتبار في الشرع ويحكم فيه ويعمل به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب) والمجتهد لا يبني اجتهاده إلا على غالب الظن، وعلى هذا نقول: يغلب على الظن بقاء العين، فأصبحت المسألة فيها صور:
الصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة.
الصورة الثانية: أن يغلب على الظن بقاء المنفعة.
الصورة الثالثة: أن يستيقن ذهاب المنفعة.
الصورة الرابعة: أن يغلب على الظن ذهاب المنفعة.
الصورة الخامسة: أن يحتمل الأمرين، ولا ترجيح.
فالصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة ويجري المثال، أو يغلب على ظنه بقاء المنفعة ويجري المثال، ففي كلتا الصورتين يجوز، على الأصل الذي قرره المصنف.
فتقول: يجوز لليقين؛ لأن إجارة العشر السنين والعشرين سنة والثلاثين سنة ما دامت المنفعة موجودة، والمستأجر سيأخذ المنفعة وقد دفع المال لقاء المنفعة، فإذاً: لا ظالم ولا مظلوم، وهذا أخذ حقه وهذا أخذ حقه، فإذا ثبت أنها باقية باليقين أو غالب الظن فلا إشكال، والعكس: لو غلب على الظن أو تيقن ذهاب المنفعة فإنه لا يجوز وجهاً واحداً للعلماء.
أما إذا احتمل الأمر، كأن تكون داراً متهدمة نوعاً ما، فيحتمل أن تبقى ويحتمل ألا تبقى، والحكم أنه إذا لم يغلب على الظن فإنه لا تصح الإجارة؛ لأن هناك قاعدة تقول: (مفاهيم المتون معتبرة)، فحينما قال لك الشرع: يغلب على الظن بقاؤها، فهذا كالقيد الذي نعتبره شرطاً نفهم منه أنه إذا لم يغلب على الظن بقاؤه فإنه لا يجوز.
وفهمنا الخمس صور من كلام المصنف، حينما قال: (مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاؤها) فلاحظ قوله: (يغلب على الظن)، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله في اختصار المتون، فكان المفروض أن يأتي بالخمس صور، لكنه لما قال: (بمدة يغلب على الظن بقاؤها) فهمت الأحكام الخمسة، إذ تفهم أنه من باب أولى إذا استيقن وأصبح الأمر مائة في المائة في بقائها، فهنا صورتان بالمنطوق.
وبالمفهوم لما قال: (يغلب) تأخذ أنه إذا غلب على الظن عدم البقاء فإنه لا يجوز، وهذه هي الصورة الثالثة، فإذا كنت تفهم أنه إذا غلب الظن بعدم البقاء فإنه لا يجوز، فمن باب أولى إذا استيقن، وهذه هي الصورة الرابعة.
وبقيت الصورة الخامسة وهي التردد وأن يكون احتمال البقاء واحتمال عدمه في مرتبة واحدة، فتقول: لم يثبت الحكم، ففهم من قوله: (يغلب على الظن) أنه إذا لم يغلب على الظن فلا يجوز، سواء تردد أو كان هنالك ترجح لاحتمال عدم البقاء، وهذه خمس صور نأخذها من جملة: (يغلب على الظن بقاؤها).
وهذا أمر مهم ينبغي أن ينبه عليه؛ لأن قراءة المتون لمعرفة منهج العلماء لكي تستطيع أن تفهم الأحكام؛ فربما يقول قائل: المصنف نص على غالب الظن ولم ينص على غيره، ولذلك تجد بعض المتأخرين يعملون في التعليق على تحقيق الكتب القديمة على تعقب المصنف، يقول: وهذا قصور من المصنف؛ لأنه تكلم على غالب الظن، والقسمة العقلية تقتضي خمس صور.
وهذه الكتب ألفت وما كان يقرؤها إلا جهابذة العلماء، فلو نبه على الخمس لعُد تطويلاً، وتوضيح الواضح يعتبر إشكالاً، ولذلك لا يعتنون بهذه الأشياء، فالعلماء لهم منهج دقيق في اختصار المتون، فهم ينبهون على صورة بحيث يفهم منها ما هو أولى منها أو ما هو في حكمها، ويفهم حكم العكس بالعكس.
لكن في إجارة الفنادق جرى العرف فيها أن اليوم ينتهي عند الساعة الثانية ظهراً، ويقولون: إذا جاءت الساعة الثانية ظهراً فقد انتهى أمد الإجارة، وانتهى العقد، فإذا جرى العرف أنه في الثانية ظهراً يغادر النزيل، فهذا عرف معتبر، وينبغي تنبيه النزيل قبل نزوله إلى أن اليوم في عرف الفنادق ينتهي عند هذه الساعة التي هي الساعة الثانية ظهراً، أما لو أطلق وقال: أستأجر منك يوماً كاملاً، ولم ينبهه ولم يكن هناك عرف، فإنه ينصرف إلى أربع وعشرين ساعة.
عرفنا أنه باليوم لا بد من تحديد بدايته ونهايته، ما لم يكن هناك عرف بتحديد النهاية، فلو أن العرف أثر في نهاية اليوم كما أثر في البداية، أي: جرت العادة أنه إذا جاءت الثانية ظهراً ينتهي موعد التأجير، إذاً تبتدئ إجارته من اليوم السابق وتنتهي في الثانية ظهراً من اليوم اللاحق.
لكن لو جرى العرف أن النزيل لو حضر بعد الساعة العاشرة صباحاً، أو بعد التاسعة صباحاً، فإنه لا يحسب ذلك اليوم، وإنما يحسب من الثانية ظهراً إلى اليوم الذي بعده، فحينئذٍ سيكون للنزيل يوم وزيادة، فما الحكم؟
الجواب: لا بأس، وهو جائز إذا جرى العرف أن النزيل إذا حضر قبل الساعة الثانية ظهراً بساعتين أو ثلاث ساعات، وتسامح الناس وعرفاً بهذه الساعة أو الساعتين، أو جاء بعد صلاة الفجر وجرى العرف أنه لا يحسب اليوم كاملاً فإنه لا بأس بذلك، فلو جاء بعد صلاة الفجر وقال له: أحسبه لك يوماً كاملاً من الثانية ظهراً، ولكن حضورك بعد صلاة الفجر أحسبه نصف يوم. وقال: قبلت، فيجوز.
إذاً: عرفنا أجرة الساعات، وأجرة اليوم، فتبقى عندنا أجرة الشهر وأجرة السنوات، أما أجرة الشهور، فهذه تقع في الغرف والشقق والعمائر والمساكن، فيقول له: أستأجر منك هذه الشقة شهراً بمائة، فإذا حدد الشهر وحدد بدايته ونهايته فلا إشكال فيه، ولكن نحتاج إلى تفصيل في مسائل متعلقة بالإجارة بالشهور:
المسألة الأولى: إذا أطلقت الشهور في عرف المسلمين فإنها تنصرف إلى الشهور القمرية لا الشهور الشمسية، وبناءً على ذلك: فالعبرة بالشهر القمري.
المسألة الثانية: إذا كانت العبرة بالشهر القمري، فينبغي أن يعلم أنه إذا حدد شهراً معيناً فإن الإجارة تتعلق بذلك الشهر تاماً أو ناقصاً، فالشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوماً ويكون ثلاثين يوماً.
أما الدليل على أن الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين، فإن الله تعالى يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189]، فجعل الله الهلال ميقاتاً للشهر، فأي مؤمن تعاقد مع أخيه المسلم على شهر معين، كشهر شوال مثلاً، فإننا نحتسب شوال بثبوت دخوله بالهلال، ونحتسبه خروجاً عند ثبوت نقصه تسعاً وعشرين، وعند عدم وجود رؤيته يتم ثلاثين يوماً.
أما الدليل الثاني من السنة على أن الشهر يكون تسعاً وعشرين فقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فجاءت روايتان: رواية قال فيها عليه الصلاة والسلام: (الشهر هكذا وهكذا)، ورواية قال فيها: (الشهر هكذا -وعد ثلاثين- ثم قال: وهكذا -وعد تسعاً وعشرين وقبض الإبهام في المرة الثانية)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) يدل على أنه لا عبرة بالتقويم، إنما العبرة بثبوت نقص الشهر ثبوتاً صحيحاً، فإذا لم تثبت الرؤيا أن الشهر تسعة وعشرون فإنه يتم ثلاثين يوماً.
فلو أن اثنين اختصما في شهر، واستأجر منه الدار شهر ربيع الأول، ومكث في شهر ربيع الأول، وثبت بالرؤية أنه تسع وعشرون يوماً، ورئي الهلال لربيع الثاني، فقال المستأجر: أنا استأجرت شهراً كاملاً. وقال المؤجر: الشهر تسع وعشرين. فالتزم المستأجر أن يبقى في البيت أو يبقى في السكن يوماً يتم به ثلاثين، وقال: الشهر ثلاثون يوماً، نقول: إن اليوم الثلاثين لاغٍ بحكم الشهر، ويلزمك الخروج، وتسليم الدار بمجرد ثبوت نقص الشهر السابق.
والعكس، فلو أن الشهر لم يثبت نقصه فقال المؤجر للمستأجر: إنه ناقص في الحساب الفلكي والتقويم، نقول: وليس من حقك أن تخرجه حتى يثبت نقصه برؤية هلالية، وحينئذٍ يكون ثلاثين يوماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة)، فلما قال: (أكملوا العدة) علم أن الشهر لا بد من تمامه وكماله بالثلاثين.
وهذه المسألة مهمة؛ لأنه يتفرع عليها أكثر من خمسين مسألة في المعاملات والعبادات، والأيمان والنذور ومسائل في الطلاق، ومسائل في العدد والإحداد، كلها تترتب على مسألة نقص الشهر وكماله.
فالأصل الشرعي الذي عليه جماهير السلف والخلف والأئمة كلهم، إلا قولاً شاذاً عن ابن سريج رحمه الله عليه من أصحاب الشافعي؛ على أن العبرة في الشهر تاماً وكاملاً بالرؤية، وأنه إذا لم ير الهلال فإنه يلزم تمام الشهر ثلاثين يوماً؛ لأن النص في هذا واضح، وقال عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة) فهذا دليل على أن الشهر لا يكمل إلا بالثلاثين.
لكن لو قال له: أجرني هذه الدار شهراً من غد -والغد عشرة في الشهر- فهل يتم ثلاثين يوماً، أم أنه يكون فيه التفصيل؟
الجواب: يتم ثلاثين يوماً بالإجماع؛ لأن الأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً.
وتتفرع عليه مسائل كما ذكرنا مثلاً في الكفارات، مثل: كفارة القتل: إذا صام شهرين متتابعين، فإذا ابتدأ من ربيع وثبت نقص ربيع وربيع الذي يليه، لأنه قد يأتي شهران متعاقبان ناقصين، لكن قالوا: لا تأتي أربعة أشهر متعاقبة بالنقص.
فالشهران إذا جاءا ناقصين، فمعنى ذلك: أنه يصوم ثمانيةً وخمسين يوماً وتجزيه، لكن لو أنه ابتدأ صيام الكفارة شهرين متتابعين من عشرة في الشهر الأول فينتهي بتمام ستين يوماً يصومها تامة كاملة.
إذاً: يفصل في الإجارة على نفس هذا التفصيل، أنه إذا قال له: أستأجر منك هذه الدار شهراً أو شهرين، وكان ذلك بعد دخول الشهر بيوم، فإننا نحتسب له المدة ستين يوماً في الشهرين، وثلاثين يوماً في الشهر الواحد، وما زاد فبحسابه، وهذا كله -كما ذكرنا- إذا استأجر الدار أو المستودع أو الغرفة أو المنزل أو الحوش ونحو ذلك مدة، فإننا نقول بجوازه، سواء كانت المدة بالساعات أو بالأيام أو بالأسابيع أو بالشهور.
لكن بالنسبة للإجارة بالسنوات، فإذا قال: إنه استأجر من أول ربيع وأسندها إلى سنة معينة، فحينئذٍ تصح السنة من بداية محرم إلى نهاية ذي الحجة من السنة نفسها، وهذا إذا أسند الإجارة إلى سنة معينة، أما إذا قال له: أستأجرها من الآن سنة كاملة فإنه يحتسب ثلاثمائة وستين يوماً كاملة إلى حسابها من الشهر الذي وقعت فيه الإجارة هذا بالنسبة للمدة القصيرة.
أما الإجارة بالمدة الطويلة فهي أن يستأجر منه الدار عشرين سنة، أو يكتب العقد على أرض يأخذها للزراعة ثلاثين سنة، أو نحو ذلك من المدد الطويلة.
فمسألة إجارة الأرضين والدور والأشخاص مدة طويلة فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، ومن حيث الأصل فجماهير العلماء من السلف والخلف على جواز الإجارة مدة طويلة؛ لكن بشرط: أن يغلب على الظن بقاء العين المؤجرة، وإمكان الانتفاع بها، وبشرط: ألا يكون هناك غرر في ارتفاع الأسواق وانخفاضها على شكل مؤثر على المستأجر والمؤجر.
إذاً: المسألة من حيث الجملة بالإجارة للمدد الطويلة:
فالجماهير من السلف والخلف: على أنه يجوز أن تؤجر الدار أو الأرض أو المساكن مدداً طويلة إلى عشرين سنة أو إلى ثلاثين سنة، لكن بالشرطين الذين ذكرناهما:
أولهما: أن يغلب على الظن بقاء العين، وإمكان الانتفاع مدة الإجارة.
والشرط الثاني: أن يُؤمن الضرر والغرر الموجود في ارتفاع الأسواق وانخفاضها.
ولكن بعض العلماء يقول: العبرة عندي بالشرط الأول دون الثاني، وفي الحقيقة: أن قوله وجيه، أن العبرة بالشرط الأول دون الثاني؛ لأن الغنم بالغرم في قواعد الشريعة في الشرط الثاني؛ لكن الشرط الأول أهم من الشرط الثاني؛ لأن المقصود من عقد الإجارة: هو بقاء العين وحصول الانتفاع الذي من أجله دفعت الأجرة والتزم المؤجر والمستأجر بعقد الإجارة.
فإذا غلب على الظن بقاء العين إلى ذلك الأمد المتفق عليه بين الطرفين، فلا إشكال بالجواز، وهذا إذا كنا قد تحققنا من وجود الشرط؛ لكن لو كانت الدار متهدمة، أو كانت الدار ضعيفة البنيان، أو كانت الأرض بحالة يغلب على الظن عدم سلامتها للمدة المتفق عليها، فإنه يكاد ينعقد الإجماع على أنه لا يصح التعاقد على هذا الوجه، وإذا سُكت عن الدليل فتقول: إن الأصل يقتضي عدم جواز الغرر، وإذا أجره داراً قديمة يغلب على الظن سقوطها وتهدمها قبل تمام المدة المتفق عليها بين الطرفين فقد غشه وغرر به، والغرر لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر كما في الصحيح.
إذاً: من حيث الأصل: إذا كانت المدة طويلة في إجارة الدور والأرضين فحصل الشرط من غلبة الظن بالسلامة وبقاء المنافع، وغلبة الظن أيضاً بالسلامة من حصول الضرر بالانتفاع وعدمه عند من يقول باشتراط هذا الشرط، فيبقى السؤال: هل هذه المسألة فيها خلاف أو إجماع؟
إذا قلنا: اختلف العلماء، فجماهير العلماء يقولون: يجوز إجارة الدور والمساكن مدة طويلة، بشرط: غلبة الظن ببقائها، كما ذكرنا.
وقال بعض العلماء كما هو في مذهب المالكية والشافعية: لا يجوز إجارة الدور والمساكن مدداً طويلة، ومنهم من يطلق، ومنهم من يقيد، فعند الشافعية قولان:
قيل: لا يجوز مطلقاً أن يؤجر الدار أكثر من سنة، وإذا كان يريد أن يؤجرها فيؤجرها سنة فقط ولا يزيد عليها.
والقول الثاني يقول: يجوز بشرط أن تكون هناك مدة معينة كثلاثين سنة، وإذا جاوزها فلا يجوز، وإذا كان أقل منها يجوز.
والذين منعوا من أصحاب القول الثاني وانقسموا إلى الوجهين الذين ذكرناهما، حجتهم: أن الدار قد تتهدم، وأن المساكن قد تتغير، والمنافع تتضرر بحصول المدة الطويلة، ولذلك قالوا: لا يجوز للمسلم أن يؤجر على هذا الوجه؛ لما فيه من الغرر، ومن تعريض مال المسلم إلى أكله بالباطل.
أما الجمهور لما قالوا بالجواز، فقالوا: دليلنا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم:
أما دليلنا من الكتاب: قال الله تعالى حكاية عن نبيه شعيب: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27]، قالوا: فأسند الإجارة إلى أكثر من عام، مع أن الثمانية الحجج قد يرتفع فيها سعر الإجارة وقد ينخفض، ومع ذلك أقر الشرع مثل هذا، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه. هذا من حيث دليل الكتاب.
أما دليل السنة فقالوا: إن الأحاديث التي استدل بها على جواز الإجارة من حيث الأصل العام لم تقيد بمدة ولا بزمان، فكل طرفين اتفقا على إجارة مدة معينة، وهذه المدة تبقى فيها العين ويحصل فيها النفع، فإنه يجوز ذلك العقد ولا بأس به. هذا بالنسبة لدليل الجمهور.
والذي يظهر -والله أعلم- صحة مذهب الجمهور، أي: أنه يجوز إجارة الدور والمساكن والأرضين ولو أكثر من ثلاثين سنة بالشرط الذي ذكرناه وهو: غلبة الظن ببقاء العين، وحصول النفع فيها.
وقد نبه المصنف رحمه الله إلى هذا القول الراجح حينما حكى غلبة الظن بقوله رحمه الله:
بقوله: [وإن آجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صحت].
وقوله: (مدة ولو طويلة)، (ولو) إشارة إلى خلاف، يعني: آجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة، معنى ذلك: أنه لو أجرت مدة قصيرة فبالإجماع أنه لا بأس بذلك؛ لكن الخلاف إذا كانت المدة طويلة، لكن قال: (يغلب على الظن بقاؤها).
(يغلب على الظن) هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة غالب الظن، وغالب الظن هو ترجح أحد الاحتمالين، والاحتمال الراجح يقال له: الظن في مصطلح علماء قواعد الفقه، وكذلك مصطلح الأصوليين، ويقال له أيضاً: غالب الظن.
والشريعة الإسلامية تبني الأحكام على غالب الظن، وهناك كلام جيد للإمام الشاطبي في الموافقات، وكذلك للإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أقر رحمه الله أن الشريعة تبني أحكامها على غالب الظن، وأنها لا ترتب الأحكام على الظن المرجوح، وأن غالب الظن تعبّدنا الله عز وجل به في أعظم الأشياء، فإن المفتي والقاضي يفتي ويقضي ويحكم بأحكامه الشرعية بغالب ظنه، وهذا يدل على أن غالب الظن له اعتبار في الشرع ويحكم فيه ويعمل به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب) والمجتهد لا يبني اجتهاده إلا على غالب الظن، وعلى هذا نقول: يغلب على الظن بقاء العين، فأصبحت المسألة فيها صور:
الصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة.
الصورة الثانية: أن يغلب على الظن بقاء المنفعة.
الصورة الثالثة: أن يستيقن ذهاب المنفعة.
الصورة الرابعة: أن يغلب على الظن ذهاب المنفعة.
الصورة الخامسة: أن يحتمل الأمرين، ولا ترجيح.
فالصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة ويجري المثال، أو يغلب على ظنه بقاء المنفعة ويجري المثال، ففي كلتا الصورتين يجوز، على الأصل الذي قرره المصنف.
فتقول: يجوز لليقين؛ لأن إجارة العشر السنين والعشرين سنة والثلاثين سنة ما دامت المنفعة موجودة، والمستأجر سيأخذ المنفعة وقد دفع المال لقاء المنفعة، فإذاً: لا ظالم ولا مظلوم، وهذا أخذ حقه وهذا أخذ حقه، فإذا ثبت أنها باقية باليقين أو غالب الظن فلا إشكال، والعكس: لو غلب على الظن أو تيقن ذهاب المنفعة فإنه لا يجوز وجهاً واحداً للعلماء.
أما إذا احتمل الأمر، كأن تكون داراً متهدمة نوعاً ما، فيحتمل أن تبقى ويحتمل ألا تبقى، والحكم أنه إذا لم يغلب على الظن فإنه لا تصح الإجارة؛ لأن هناك قاعدة تقول: (مفاهيم المتون معتبرة)، فحينما قال لك الشرع: يغلب على الظن بقاؤها، فهذا كالقيد الذي نعتبره شرطاً نفهم منه أنه إذا لم يغلب على الظن بقاؤه فإنه لا يجوز.
وفهمنا الخمس صور من كلام المصنف، حينما قال: (مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاؤها) فلاحظ قوله: (يغلب على الظن)، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله في اختصار المتون، فكان المفروض أن يأتي بالخمس صور، لكنه لما قال: (بمدة يغلب على الظن بقاؤها) فهمت الأحكام الخمسة، إذ تفهم أنه من باب أولى إذا استيقن وأصبح الأمر مائة في المائة في بقائها، فهنا صورتان بالمنطوق.
وبالمفهوم لما قال: (يغلب) تأخذ أنه إذا غلب على الظن عدم البقاء فإنه لا يجوز، وهذه هي الصورة الثالثة، فإذا كنت تفهم أنه إذا غلب الظن بعدم البقاء فإنه لا يجوز، فمن باب أولى إذا استيقن، وهذه هي الصورة الرابعة.
وبقيت الصورة الخامسة وهي التردد وأن يكون احتمال البقاء واحتمال عدمه في مرتبة واحدة، فتقول: لم يثبت الحكم، ففهم من قوله: (يغلب على الظن) أنه إذا لم يغلب على الظن فلا يجوز، سواء تردد أو كان هنالك ترجح لاحتمال عدم البقاء، وهذه خمس صور نأخذها من جملة: (يغلب على الظن بقاؤها).
وهذا أمر مهم ينبغي أن ينبه عليه؛ لأن قراءة المتون لمعرفة منهج العلماء لكي تستطيع أن تفهم الأحكام؛ فربما يقول قائل: المصنف نص على غالب الظن ولم ينص على غيره، ولذلك تجد بعض المتأخرين يعملون في التعليق على تحقيق الكتب القديمة على تعقب المصنف، يقول: وهذا قصور من المصنف؛ لأنه تكلم على غالب الظن، والقسمة العقلية تقتضي خمس صور.
وهذه الكتب ألفت وما كان يقرؤها إلا جهابذة العلماء، فلو نبه على الخمس لعُد تطويلاً، وتوضيح الواضح يعتبر إشكالاً، ولذلك لا يعتنون بهذه الأشياء، فالعلماء لهم منهج دقيق في اختصار المتون، فهم ينبهون على صورة بحيث يفهم منها ما هو أولى منها أو ما هو في حكمها، ويفهم حكم العكس بالعكس.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3185 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |