شرح زاد المستقنع باب الإجارة [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فمما يشترط لجواز الإجارة: أن يكون المؤجر قادراً على تسليم المنفعة للمستأجر، فلا يجوز إجارة شيء لا يتمكن صاحبها من تمكين المستأجر من منفعته، ولذلك يعتبر العلماء رحمهم الله بيع البعير الشارد والعبد الآبق من بيوع الغرر التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وعلل العلماء ذلك: بأنه يدفع الثمن في شيء لا يمكن أن يضمنه استلامه.

كذلك في التجارة: لا يجوز أن يستأجر شيئاً لا يتمكن من منفعته، أو لا يستطيع صاحب الملك أن يمكنه من منفعته، وقد ذكر العلماء رحمهم الله لذلك أمثلة، فيعتني المصنف رحمه الله بذكر شيء منها.

إذاً: لا تصح الإجارة إلا إذا كانت على منفعة مقدور على تسليمها، فإن كانت على منفعة غير مقدور على تسليمها فإنك تقول: إن هذا من الغرر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، وكما لا يصح بيع الشيء الذي لا يمكن تسليمه، كذلك لا يجوز بيع المنفعة التي لا يمكن تسليمها، بجامع كون كل من العقدين عقد معاوضة.

قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح إجارة الآبق والشارد].

فلا تصح إجارة عبد آبق، وهو الذي فر وهرب من سيده، ولا تجوز إجارة بعير شارد، فالبعير إذا كان شارداً وقال له:أؤجرك هذا البعير يوماً بمائة، واتفقا على إجارته في الغد، فإن البعير غير موجود، فيحتمل أن يتمكن من أخذه والقبض عليه حتى يتمكن المستأجر من أخذ المنفعة ويحتمل ألا يتمكن من ذلك، فصارت إجارته على هذا الوجه من إجارة الغرر، وقد حرم الله ورسوله الغرر لأنه أكل للمال بالباطل.

وعلى هذا قالوا: لا يجوز إجارة البعير الشارد ولا إجارة العبد الآبق، فلابد إذا استأجر شيئاً أن يكون مقدوراً على منفعته، وهذا من العدل، فإن الله سبحانه وتعالى حفظ للناس حقوقهم، وجاءت الشريعة بحفظ الحقوق للعباد، فإذا استأجر أخوك المسلم منك شيئاً فإنك كما لا ترضى لنفسك أن تدفع مالاً في شيء لا تضمنه، كذلك ينبغي ألا ترضى لأخيك المسلم أن يدفع مالاً في شيء لا يضمنه، ولا يتمكن من أخذ حقه واستفيائه منه.

قال رحمه الله: [ واشتمال العين على المنفعة ].

يشترط كذلك اشتمال العين على المنفعة، فإذا استأجر حيواناً أو إنساناً أو داراً أو موضعاً لمنفعة فلا يمكن أن نحكم بصحة هذه الإجارة إلا إذا كانت المنفعة المقصودة موجودة في الشيء المؤجر، ومن هنا إذا استأجر بيتاً ولا يمكنه أن يسكنه فإن المنفعة غير ممكن أن يتوصل إليها المستأجر، ومن أمثلة ذلك -قالوا-: السكن، إذا كانت الدار مسكونة بالجن ونحو ذلك فهذا فيه ضرر، فلا يستطيع أن ينتفع به، فذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره من الأئمة أنه لا تصح الإجارة، لأن المنفعة لا يتمكن منها، وذكر المصنف رحمه الله لذلك أمثلة، فقال رحمه الله:

[ولا تصح إجارة بهيمة زمنة للحمل].

فالبهيمة الكبيرة والتي يكون فيها مرض لا يمكن معه أن تتحمل الحمل، لا يمكن إجارتها لحمل الأثقال، ولا يمكن إجارتها لحمل الناس، فلو أنه قال له: أجرني بعيرك أحج به، والبعير مريض، فإن العين المستأجرة لا يمكن أخذ المنفعة منها، فلا تصح الإجارة.

إذاً: هذا الشرط والشرط الذي قبله بينهما توافق؛ لأن كلاً منهما المقصود منه: توصل المستأجر إلى حقه، فكما لا تجوز إجارة العين الغير موجودة والتي لا يقدر على تسليمها لكي يتمكن المستأجر من الانتفاع بها، كذلك لا يجوز إذا كانت العين موجودة ولا يمكن أخذ المنفعة منها، أو يغلب على الظن عدم قدرتها على القيام بالمنفعة كالبعير المريض والبعير الزمن والهرم، إذا استأجره لعمل شديد وعمل يحتاج إلى تعب وعناء، والبعير لا يطيق ذلك؛ فإن الإجارة لا تصح، وهذا مفرع على ما تقدم؛ لأنه يؤدي إلى أكل المال بالباطل.

وقوله: [ولا أرض لا تنبت للزرع].

الأرض تنقسم إلى قسمين:

إما أن تكون أرضاً زراعية، وهي الأرض الصفراء الصالحة للزرع وما في حكمها.

وإما أن تكون أرضاً غير صالحة للزرع، ومن أمثلتها: الأرض السبخة كثيرة الأملاح، فإنه مهما بذر الإنسان فيها فإنها لا تنبت كلأً ولا تنبت العشب ولا الزرع.

ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ما من شيء جعل الله فيه المنفعة إلا وجعل له نظيراً يتعذر منه المنفعة، والله عز وجل لحكمته جعل من الأرض ما لا ينبت زرعاً، حتى إذا قال الناس: إن هذا الزرع أوجدته الطبيعة أو وجد هكذا صدفة كذبهم الله بالأرض التي لا تنبت، وكذبهم الله بالأرض التي يصب عليها الماء ويغدق آناء الليل وأطراف النهار ومع ذلك لا تنبت شيئاً، وهذا يدل على عظمة الله سبحانه وتعالى، ولذلك خالف بين الأشياء.

فالأرض من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل فيها ما ينبت وجعل فيها ما لا ينبت، وجعل فيها ما يمسك الماء وجعل فيها ما لا يمسك، فهذا الاختلاف في الأرض جعل الاختلاف في الحكم على مقصد إجارة الأرض، فمن استأجر أرضاً وقصده منها أن يزرع فهذه تعرف بمسألة إجارة الأرض للزراعة، وفي هذه المسألة كلام طويل للعلماء رحمهم الله، واختلف العلماء في هذه المسألة وفي تفاريعها إلى ما يقرب من خمسة أقوال مشهورة عن أهل العلم رحمة الله عليهم:

القول الأول: منهم من حرم إجارة الأرض للزراعة مطلقاً، وقال: لا يجوز للمسلم أن يستأجر أو يؤجر أرضاً، فدفع المال لإجارة الأرض لا يجوز مطلقاً، واستدل بحديث جابر في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع) وفي رواية: قال عليه الصلاة والسلام: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولا يؤاجرها) فقوله: (ولا يؤاجراها) نهي، والنهي يدل على التحريم، فدل على تحريم إجارة الأرض للزراعة، وهو مذهب الظاهرية وطائفة من أهل العلم.

وقال جمهرة السلف والخلف رحمهم الله: تجوز إجارة الأرضين. واختلفوا على أقوال تقرب من أربعة أقوال، فحاصل هذه الأقوال:

القول الثاني: منهم من يقول: يجوز إجارتها بكل شيء إلا بالطعام، ووجه هذا القول أنه إذا أجرها بالطعام، فالأرض يقصد منها الطعام ويقصد منها الحب والثمر، فكأنه يبادل الطعام بالطعام، فبادل الربوي بالربوي نسيئة ومتفاضلاً إذا اتحد نوعه وجنسه، أو ربوي بربوي نسيئة إن كان من نوع مختلف، هذا إذا كانت إجارتها بالطعام.

وهذا هو القول الثاني فهؤلاء قالوا: يجوز بكل شيء، إلا أن يقول له: أستأجر منك هذه الأرض بمائة صاع من التمر، أو بمائة صاع من البر، أو بمائة صاع من الشعير أو الدخن، فهذا لا يجوز؛ لأنه جعل الأجرة والقيمة من الطعام، فيستثنون فقط الطعام.

القول الثالث: ومنهم من حرم تأجيرها إذا كان بجزء من الخارج منها، فقال: يجوز إجارتها، ولكن إذا كان من الطعام الذي يخرج منها فلا يجوز؛ لأنه في هذه الحالة إذا استأجر بجزء مما يخرج منها فقد عاوض الطعام الذي أخذه بالطعام الذي دفعه، فكان أيضاً من الطعام بالطعام ربوياً متفاضلاً ونسيئة.

القول الرابع: ومنهم من قال: إنه يجوز إجارتها بالذهب والفضة فقط -أي: بالنقدين- ولا يجوز إجارتها بما عدا ذلك.

القول الخامس: ومنهم من أجاز إجارتها بكل شيء، وهذا هو الأقوى والصحيح.

والذين حرموا الصور التي ذكرناها مجاب عنهم، وذلك أن حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح جاء على ألفاظ مختلفة، فالذي يظهر من هذه الأحاديث:

أولاً: أن الحديث الذي ورد بالنهي عن إجارة الأراضي المراد به أحد أمرين:

إما أن يكون المراد به خاصاً، وهذا محمول على حديث رافع الذي فسر التحريم، فعندنا حديث عن رافع يقول: (إنما كانوا يؤاجرون الأرضين على الماذيانات وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا) مراد رافع رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم إجارة الأرضين على الصحابة رضوان الله عيهم؛ لأنهم كانوا في أول الأمر يؤجرون الأرض ويقولون للمستأجر: نأخذ الزرع الذي ينبت على الحياض وعلى المياه، وأنت تأخذ البعيد.

فقوله: (يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول) المراد منه: يقول صاحب الأرض: خذ أرضي وازرعها، ولكن كل شيء ينبت بجوار قنطرة الماء أو على جدول الماء أو قريباً من الماء فهو لي، وما زاد فهو لك.

قال رضي الله عنه: فيسلم هذا -أي: الذي على الماء؛ لأنه قريب من الماء ومنتفع من الماء- ويهلك هذا -أي: البعيد من الماء- فكأنه نوع من الغرر، فهو يختله ويخدعه، فيجعل الأحض لنفسه، والأدنى للعامل الذي تعب على زراعة الأرض، فحرم الله عز وجل ذلك، وحرمه رسوله عليه الصلاة والسلام لأنه من الغرر، ولذلك قال: (فيسلم هذا ويهلك هذا).

أما لو قال له: خذ الأرض وازرعها وهي مناصفة بيني وبينك، فيجوز؛ بشرط ألا يحدد نصفاً معيناً؛ لأن الغرر منتف في هذه الحالة.

فإذاً: حديث رافع وحديث جابر رضي الله عنهما نستطيع أن نقول: إنهما خرجا مخرجاً واحداً، والمراد بهما: أن يحدد صاحب الأرض للمستأجر مكاناً معيناً يأخذ زرعه، ويكون أجرة لأخذ الأرض، هذا الوجه الأول في الجواب.

أما الوجه الثاني: أن يكون حديث جابر رضي الله عنه في التحريم والنهي سببه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان معه المهاجرون، وكان المهاجرون حينئذٍ فقراء، فوسع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وجعل من أخوة الإسلام أنهم ما داموا في أول العصر المدني أن منع الأنصار من إجارة الأرضين.

وهذا له أصول ومنها: حديث النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال، فهو أمر معروف معهود من الشريعة، فحرم الله عز وجل في ابتداء الأمر إجارة الأرضين لمكان الحاجة ثم أبيحت، وهذا الوجه يختاره بعض العلماء، والوجه الأول يقويه حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، أي: يقوي أن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لإجارة الأرضين كان بسبب التخصيص لقطعة من الأرض.

وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه من أعلم الصحابة، وهو من أئمة الفتوى، ولذلك لما توفي رحمه الله وبلغت وفاته أبا هريرة بكى أبو هريرة بكاء شديداً وقال: لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً. فكان رضي الله عنه وأرضاه من أعلم الناس بالقرآن ومن أعلم الناس بالسنة، فلما نهى رافع الناس عن إجارة الأرضين في مسألتنا وبلغ ذلك زيداً ، قال زيد رضي الله عنه: (يغفر الله لـرافع ، أنا أعلم بالحديث منه، إنما كانوا يؤاجرون بعض الأرض على أن يسلم البعض ويهلك البعض، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك؛ لأنهم كانوا يختصمون).

أما الإمام أحمد رحمة الله عليه فإنه رجح حديث الإجارة، وهي الرواية الصحيحة، وكذلك ما جاء في حديث ابن عمر في إجارة الأرض على يهود خيبر حينما أخذوها مساقاة، رجح ذلك على حديث رافع ، وقال رحمه الله كلمته المشهورة: (حديث رافع ألوان). يعني: أن حديث رافع جعل الوجوه كثيرة، ولذلك كان رافع رضي الله عنه وأرضاه يقول: (أما ما كان بشيء معلوم فلا بأس)، فكان يخفف على الناس إذا استأجروا الأرض بالنقود، ويحرم عليهم إذا استأجروا بجزء من الأرض، وتارة يروي الحديث بالنهي عموماً، فإما أن يكون النهي العام المراد به الخاص، وهذا هو الصحيح، والسنة يفسر بعضها بعضاً، فيترجح قول من قال بجواز إجارة الأرضين، وهذا هو الصحيح.

إذاً: الخلاصة: أن إجارة الأرضين جائزة، وأن الأحاديث التي وردت بتحريم إجارة الأرضين إما منسوخة؛ لأنها في أول التشريع المدني، وإما أن يكون المراد بها: إجارة الغرر، بأن يحدد جزءاً من الأرض، كأن يقول له: خذ الأرض وازرعها، وتكون أجرة أرضي أن آخذ منك نصفها الذي يلي الماء، أو لي نصفها الشرقي ولك نصفها الغربي. فهذا لا يجوز وهو محرم.

كل الكلام الذي نتكلم عليه الآن: أن تستأجر الأرض للزراعة؛ لأن الأرض قد تستأجر من أجل أن تكون للرعي، وتستأجر لوجود الدواب فيها، وتكون زريبة لدابة أو تكون مستودعاً لأغراض أو نحو ذلك كما هو موجود في زماننا، فنحن لا نتكلم عن هذا كله؛ لأنه يجوز بالإجماع أن تستأجر الأرض لذلك، لكن محل الخلاف في إجارة الأرضين للزراعة.

من أقسام الأراضي الزراعية

إذا ثبت جواز إجارة الأرضين للزراعة، فالأرضين تنقسم إلى أقسام، فمثلاً: إذا استأجر الأرض للزراعة فإما أن تكون الأرض فيها ماء مستقر دائم، وإما ألا تكون كذلك، فإن كان في الأرض ماء مستقر دائم، كأن يكون بها عين ماء، أو يكون فيها بئر والماء فيه غزير، أو تكون بجوار نهر، فالماء مضمون بإذن الله عز وجل، أو يستأجرها شهراً أو شهرين، والمدة التي يريد أن يستأجرها الغالب فيها وجود الماء، فهذه بإجماع العلماء الذين يقولون بجواز إجارة الأرضين تجوز إجارتها؛ لأن المنفعة وهي الزراعة ممكنة؛ لأن الماء موجود، والأرض صالحة للزرع.

فإذا اختل أحد الشرطين: كأن يكون الماء غير موجود، أو كانت الأرض غير صالحة للزراعة كالأرض السبخة فلا يجوز؛ لأنه إذا استأجرها بقصد الزراعة والأرض سبخة فإنه لا يجوز، وقد غرر به، ولا يستطيع أن يتوصل للذي من أجله استأجر الأرض.

كذلك لو كانت الأرض زراعية ولكن لا ماء فيها فإنه لا يتمكن، فإذا تحقق الأمران: بأن كانت الأرض زراعية، وكان الماء موجوداً ومستقراً وثابتاً في الأرض؛ فإنه تجوز إجارتها وجهاً واحداً عند العلماء على التفصيل الذي ذكرناه.

لكن إذا لم يكن فيها ماء، فتارة تكون إجارتها على أن يجلب الماء إليها، كأن يكون مثل ما هو موجود في زماننا يتمكن من نقله بوسائل النقل إلى هذه المزرعة، أو قطعة صغيرة يريد أن يجعلها محمية، فيجعل فيها نوعاً من المزروعات، فحينئذ يجوز؛ لأن المنفعة التي يريدها لها وسيلة يتوصل بها.

وهكذا لو كان جاراً للأرض وعنده أرض فيها ماء، وهذه بجوار أرضه، ويريد أن ينقل الماء الذي في أرضه إلى هذه الأرض فإن ذلك يجوز، هذا إذا لم يكن في الأرض ماء.

الصورة الثانية: أن يجلب الماء إليها إذا لم يكن فيها ماء، أو تكون هذه الأرض في موضع والغالب نزول الماء عليه، مثل: الرياض التي تكون في الجبال، ويأتي في موسم المطر، فيقول له: أستأجر منك هذه الأرض. فبعض العلماء يقول: إذا كان الغالب نزوله، أو كانت الأرض معروفة بكثرة الأمطار فهذا يجوز، لكن إذا كانت الأرض قحطاً، والغالب عدم النزول أو مشكوك في نزوله فهذا من الغرر؛ لأنه يحتمل أن ينزل الماء ويحتمل ألا ينزل، فإن نزل الماء زرع، فحقق المنفعة التي من أجلها استأجر، وإن لم ينزل الماء لم يستطع زراعتها، فإذاً: يكون قد أكل مال أخيه بالباطل.

قالوا: إذا كان يغلب على الظن وجود الماء، مثل: أن يكون استأجرها في مواسم الغالب على الظن النزول، أو كان في نصف الموسم ونزلت أمطار، والأرض ممكن زراعتها قالوا: يجوز في هذا. أي: إذا استأجر منه الأرض في موضع الغالب نزول المطر فيه، أو يغلب على ظنه أنها تمطر، أو كان هناك في الأرض ممكن أن يكون لها ارتواء مثل ما ذكروا، أن تكون الأرض فيها واحة أو فيها غدير ماء مثلما يقع في بعض الرياض، حيث تكون قريبة من غدران المياه، فيضعون عليها (المواطير) أو نحوها لسحب المياه، قالوا: فهذا يجوز، وقد ذكروا هذا حينما يذكرون الأرض العامرة والغامرة.

إذاً: الخلاصة: أنه إذا كانت الأرض فيها ماء وهي أرض زراعية جاز إجارتها للزراعة وجهاً واحداً على التفصيل الذي ذكرناه، وأما إذا كانت الأرض لا ماء فيها، فإننا ننظر إذا كان يمكن جلب الماء إليها، سواء عن طريق مزرعته أو عن طريق وسائل النقل، أو حفر لها خليجاً يصل الماء عن طريقه إليها، فإنه تجوز إجارتها؛ لأن الغالب حصول المنفعة، أما إذا كان على الظن والاحتمال فلا يجوز.

وهناك نوع من الأرضين ذكره العلماء، ونبه عليه الأئمة كالإمام النووي رحمه الله والماوردي وغيرهم رحمة الله عليهم، وهو أن تكون الأرض مغمورة بالماء مثلما يقع في بعض المواسم التي يكون فيها فيضانات، ويفيض الماء فيها كثيراً حتى إلى المزارع ويغطيها، فجاء رجل عنده أرض زراعية وليس فيها زرع، لكنها صالحة للزراعة، وأراد أن يستأجرها شخص منه وهي مغمورة بالماء، والأرض إذا غمرت بالماء والسيل فإنه يمكن زراعتها بمجرد أن ينزل منسوب الماء إلى حد معين، فإنها تزرع وممكن أن تنبت؛ فهل إذا أجرها في حال غمرها بالماء يكون من الغرر؟

في المسألة تفصيل: إن كان انحسار الماء غالباً، كأن جرت العادة أن هذه الأرضين في موسم الأمطار تغرق، ثم إذا جاء الربيع وانحسرت المياه وقلت فإنها تنكشف، فإذا كانت مما يغلب على الظن انحسار الماء عنها صحت الإجارة، وحينئذ يؤجرها، وتكون إجارتها على الموسم الذي ينحسر فيه الماء ليتمكن من زراعتها، فإن أجرها وشملت إجارته وقت الماء لم يصح؛ لأن وقت الماء لا يمكنه زراعتها، ولذلك تكون إجارتها وقت الماء من أكل المال بالباطل.

مثال ذلك: لو جاء إلى أرض مغمورة بالماء، ويستغرق نزع الماء عنها وانحساره شهراً، وقال له: أجرني هذه الأرض للزراعة شهرين. فاتفق معه على أنه يكون الشهر الأول الذي ينحسر فيه الماء من ضمن العقد، لم يصح ذلك؛ لأنه يأخذ منه أجرة شهر كامل دون أن يتمكن المستأجر من حصول المنفعة، فالمنفعة متعذرة؛ لأنه لا يمكن زراعة أرض مغمورة بالماء.

وعلى هذا يفصل في إجارة الأرضين بهذا التفصيل، فيفرق بين أن تكون صالحة للزراعة أو غير صالحة، ثم تكون إجارتها بغلبة الظن بسقيها الماء أو لا يكون فيها ماء على التفصيل الذي ذكرناه.

فمثل المصنف رحمه الله للمنفعة: بأن تكون الأرض لا ماء فيها أو غير صالحة للزرع إذا قصد منها الزراعة، أما لو قصد من الأرض غير الزراعة، وكان ذلك المقصود ممكناً في الأرض صحت إجارتها.

إذا ثبت جواز إجارة الأرضين للزراعة، فالأرضين تنقسم إلى أقسام، فمثلاً: إذا استأجر الأرض للزراعة فإما أن تكون الأرض فيها ماء مستقر دائم، وإما ألا تكون كذلك، فإن كان في الأرض ماء مستقر دائم، كأن يكون بها عين ماء، أو يكون فيها بئر والماء فيه غزير، أو تكون بجوار نهر، فالماء مضمون بإذن الله عز وجل، أو يستأجرها شهراً أو شهرين، والمدة التي يريد أن يستأجرها الغالب فيها وجود الماء، فهذه بإجماع العلماء الذين يقولون بجواز إجارة الأرضين تجوز إجارتها؛ لأن المنفعة وهي الزراعة ممكنة؛ لأن الماء موجود، والأرض صالحة للزرع.

فإذا اختل أحد الشرطين: كأن يكون الماء غير موجود، أو كانت الأرض غير صالحة للزراعة كالأرض السبخة فلا يجوز؛ لأنه إذا استأجرها بقصد الزراعة والأرض سبخة فإنه لا يجوز، وقد غرر به، ولا يستطيع أن يتوصل للذي من أجله استأجر الأرض.

كذلك لو كانت الأرض زراعية ولكن لا ماء فيها فإنه لا يتمكن، فإذا تحقق الأمران: بأن كانت الأرض زراعية، وكان الماء موجوداً ومستقراً وثابتاً في الأرض؛ فإنه تجوز إجارتها وجهاً واحداً عند العلماء على التفصيل الذي ذكرناه.

لكن إذا لم يكن فيها ماء، فتارة تكون إجارتها على أن يجلب الماء إليها، كأن يكون مثل ما هو موجود في زماننا يتمكن من نقله بوسائل النقل إلى هذه المزرعة، أو قطعة صغيرة يريد أن يجعلها محمية، فيجعل فيها نوعاً من المزروعات، فحينئذ يجوز؛ لأن المنفعة التي يريدها لها وسيلة يتوصل بها.

وهكذا لو كان جاراً للأرض وعنده أرض فيها ماء، وهذه بجوار أرضه، ويريد أن ينقل الماء الذي في أرضه إلى هذه الأرض فإن ذلك يجوز، هذا إذا لم يكن في الأرض ماء.

الصورة الثانية: أن يجلب الماء إليها إذا لم يكن فيها ماء، أو تكون هذه الأرض في موضع والغالب نزول الماء عليه، مثل: الرياض التي تكون في الجبال، ويأتي في موسم المطر، فيقول له: أستأجر منك هذه الأرض. فبعض العلماء يقول: إذا كان الغالب نزوله، أو كانت الأرض معروفة بكثرة الأمطار فهذا يجوز، لكن إذا كانت الأرض قحطاً، والغالب عدم النزول أو مشكوك في نزوله فهذا من الغرر؛ لأنه يحتمل أن ينزل الماء ويحتمل ألا ينزل، فإن نزل الماء زرع، فحقق المنفعة التي من أجلها استأجر، وإن لم ينزل الماء لم يستطع زراعتها، فإذاً: يكون قد أكل مال أخيه بالباطل.

قالوا: إذا كان يغلب على الظن وجود الماء، مثل: أن يكون استأجرها في مواسم الغالب على الظن النزول، أو كان في نصف الموسم ونزلت أمطار، والأرض ممكن زراعتها قالوا: يجوز في هذا. أي: إذا استأجر منه الأرض في موضع الغالب نزول المطر فيه، أو يغلب على ظنه أنها تمطر، أو كان هناك في الأرض ممكن أن يكون لها ارتواء مثل ما ذكروا، أن تكون الأرض فيها واحة أو فيها غدير ماء مثلما يقع في بعض الرياض، حيث تكون قريبة من غدران المياه، فيضعون عليها (المواطير) أو نحوها لسحب المياه، قالوا: فهذا يجوز، وقد ذكروا هذا حينما يذكرون الأرض العامرة والغامرة.

إذاً: الخلاصة: أنه إذا كانت الأرض فيها ماء وهي أرض زراعية جاز إجارتها للزراعة وجهاً واحداً على التفصيل الذي ذكرناه، وأما إذا كانت الأرض لا ماء فيها، فإننا ننظر إذا كان يمكن جلب الماء إليها، سواء عن طريق مزرعته أو عن طريق وسائل النقل، أو حفر لها خليجاً يصل الماء عن طريقه إليها، فإنه تجوز إجارتها؛ لأن الغالب حصول المنفعة، أما إذا كان على الظن والاحتمال فلا يجوز.

وهناك نوع من الأرضين ذكره العلماء، ونبه عليه الأئمة كالإمام النووي رحمه الله والماوردي وغيرهم رحمة الله عليهم، وهو أن تكون الأرض مغمورة بالماء مثلما يقع في بعض المواسم التي يكون فيها فيضانات، ويفيض الماء فيها كثيراً حتى إلى المزارع ويغطيها، فجاء رجل عنده أرض زراعية وليس فيها زرع، لكنها صالحة للزراعة، وأراد أن يستأجرها شخص منه وهي مغمورة بالماء، والأرض إذا غمرت بالماء والسيل فإنه يمكن زراعتها بمجرد أن ينزل منسوب الماء إلى حد معين، فإنها تزرع وممكن أن تنبت؛ فهل إذا أجرها في حال غمرها بالماء يكون من الغرر؟

في المسألة تفصيل: إن كان انحسار الماء غالباً، كأن جرت العادة أن هذه الأرضين في موسم الأمطار تغرق، ثم إذا جاء الربيع وانحسرت المياه وقلت فإنها تنكشف، فإذا كانت مما يغلب على الظن انحسار الماء عنها صحت الإجارة، وحينئذ يؤجرها، وتكون إجارتها على الموسم الذي ينحسر فيه الماء ليتمكن من زراعتها، فإن أجرها وشملت إجارته وقت الماء لم يصح؛ لأن وقت الماء لا يمكنه زراعتها، ولذلك تكون إجارتها وقت الماء من أكل المال بالباطل.

مثال ذلك: لو جاء إلى أرض مغمورة بالماء، ويستغرق نزع الماء عنها وانحساره شهراً، وقال له: أجرني هذه الأرض للزراعة شهرين. فاتفق معه على أنه يكون الشهر الأول الذي ينحسر فيه الماء من ضمن العقد، لم يصح ذلك؛ لأنه يأخذ منه أجرة شهر كامل دون أن يتمكن المستأجر من حصول المنفعة، فالمنفعة متعذرة؛ لأنه لا يمكن زراعة أرض مغمورة بالماء.

وعلى هذا يفصل في إجارة الأرضين بهذا التفصيل، فيفرق بين أن تكون صالحة للزراعة أو غير صالحة، ثم تكون إجارتها بغلبة الظن بسقيها الماء أو لا يكون فيها ماء على التفصيل الذي ذكرناه.

فمثل المصنف رحمه الله للمنفعة: بأن تكون الأرض لا ماء فيها أو غير صالحة للزرع إذا قصد منها الزراعة، أما لو قصد من الأرض غير الزراعة، وكان ذلك المقصود ممكناً في الأرض صحت إجارتها.

وقوله رحمه الله: [وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذوناً له فيها].

يشترط في صحة إجارة المنازل أن تكون ملكاً للمؤجر أو مأذوناً له بالتصرف فيها.

وقد تقدم في كتاب البيوع أنه لا يجوز للمسلم أن يتصرف في مال أخيه المسلم على الأصل؛ لأن الله حرم الأموال، وقال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة مال المسلم كحرمة دمه.

فالحقوق التي للإنسان في العقارات أو المنقولات والمنافع الموجودة فيها لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلا بإذن المالك الحقيقي، فمن كان عنده بيت فإنه لا يجوز لأحد أن يأتي ويؤجر هذا البيت دون أن يكون مالكاً له أو قد أذن له المالك الحقيقي بالتصرف، أو له ولاية شرعية بالتصرف في هذا البيت بإجارته.

وبناءً على ذلك: أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمسلم أن يؤجر مال غيره، فإذا أجر مال الغير فإن الإجارة باطلة، فلو قال له: أجرتك هذه العمارة بمليون لمدة سنة كاملة. وهو لا يملك العمارة، وليس له حق التصرف فيها بولاية ولا وكالة، فإن هذه الإجارة باطلة، وعلى هذا لابد وأن يكون مالكاً للمنفعة، أي: يكون من حقه أن يتصرف في المنفعة إجارة وكذلك هبة، فإذا ملك المنفعة وأمكنه أن يتصرف فيها صحت إجارته.

وقوله: [وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه، لا بأكثر منه ضرراً].

هذه مسألة لطيفة، إذا أثبتنا أنه من حقك أن تؤجر بيتك وعمارتك وسيارتك، وكل ما أنت مالكه من المنافع، ويجوز لك أن تأخذ العوض على منفعته، وكما أنك تملك العين فإنك تملك منافعها.

لكن لو سأل سائل وقال: استأجرت عمارة ودفعت أجرتها، وأخذت هذه العمارة سنة كاملة بمليون، فلما تم العقد أردت أن أؤجر العمارة على شخص آخر، الآن المالك الحقيقي هو المؤجر للعمارة، وهو الذي يملك منفعتها، فأنت اشتريت هذه المنفعة بمليون سنة كاملة، فهل من حقك أن تبيعها للغير؟

هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وجمهور السلف والعلماء والأئمة وهو قول طائفة من أئمة التابعين وأتباع التابعين، وهو قول جمهرة أتباع الأئمة الأربعة؛ أنه يجوز للمسلم إذا استأجر عيناً أن يؤجرها لغيره، أي: يجوز له إذا استأجر أن يقيم غيره مقامه في الاستيفاء والأخذ، بشرط: أن يكون مثله أو دونه في الضرر، فلا يكون ضرره أكثر من ضرره، وإذا كان أكثر ضرراً فإنه لا يجوز، وهذا كله له أمثلة:

مثلاً: لو استأجر رجل منك موضعاً على أن يكون محلاً للبيع -بقالة أو نحوها- والمحل في العمارة إذا أجر (بقالة) فإن فيه منفعة وفيه مضرة، ولكن قد يكون الضرر يسيراً، لكن مثلاً: لو أنه بعد أن اتفق معك على أن يفتحها بقالة، ثم أراد أن يفتحها محلاً لإصلاح السيارات، فإن في محلات إصلاح السيارات من الإزعاج والأذية ما لا يخفى، وإذا أراد أن يجعل المحل -مثلاً- مكاناً للنجارة أيضاً فإن في أعمال النجارة ضرراً، فالضرر يكون على العين مثل الآلات التي تهز العمارة، وتؤثر في مرافقها.

ومن أمثلتها -مثلاً- لو أنه جاء فأجره محلاً على أنه بقالة، فأراد أن يضع فيها مكينة لصياغة الذهب، مكينة الذهب هذه تؤثر في أساس العمارة، وتؤثر في راحة سكانها، وهذا ضرر أعظم، فيشمل ضرر العين، والضرر المجاور للعين، فالأضرار التي تكون بنقل الإجارة إلى بديل تمنع من الجواز إذا كانت أكثر من الضرر الموجود في الإجارة الأصلية.

فعلى هذا: يجوز للإنسان إذا استأجر عيناً أن يؤجرها لغيره بشرط أن يكون أقل منه ضرراً أو مثله، وهذا لا شك أنه أحفظ للحقوق، فبالعقل اتفقت معه على أن سكنى العمارة سنة كاملة قد اشتريتها منه، ومن اشترى الشيء ملكه، فكما أنه يجوز لك بالملك أن تسكن العمارة يجوز لك أن تؤجر من غيرك، وكما أنه يجوز على سبيل المعاوضة بالإجارة؛ فإنه يجوز -أيضاً- أن تقيم غيرك مكانك على سبيل الهبة، ومن أمثلة ذلك:

لو استأجر شقة في عمارة وأراد أن يسكن ضعيفاً أو مسكيناً مكانه؛ صح ذلك وجاز له، لكن لو أن هذا الذي يريد أن يسكنه مكانه هبة أو إجارة أعظم ضرراً لم يجز.

وقد يكون الضرر معنوياً وقد يكون حسياً، فلا يختص الضرر بكونه يؤثر في العمارة أو مصالحها فقط، بل حتى الضرر الذي يؤثر على أعراض الناس ويحدث لهم فتنة، فمن حق المؤجر أن يلغي الإجارة، ومن حقه أن يطالبه أن يستأجر بنفسه أو يحضر من هو مثله.

فإذا أجر لرجل له عائلة والعمارة كلها عوائل، فلا يجوز له أن يأتي بأناس عزاب ويسكنهم مكانه، فهذا ضرر معنوي، ويخشى فيه على أعراض الناس، وفيه فتنة وضرر، حتى أن الرجل لا يستطيع أن يخرج ويترك أهله، ولا يستطيع كذلك أن يخرج أهله، فلذلك إذا كان الضرر معنوياً فمن حقه أن يعترض.

وأما بالنسبة للضرر الحسي فكما ذكرنا، فكما إذا أجر عمارة أو شقة لرجل وراعاه في سعرها، فلابد أن ينتبه طالب العلم لهذا الأمر، فلربما جاء الرجل وزوجه فرضيت أن تؤجر له، ولربما جاء الرجل وأطفاله فلم تؤجر له، لعلمك أن الأطفال يفسدون ويزعجون، فأنت -مثلاً- في عمارتك لم تؤجر، وتقول له: أنا لم أؤجر إلا لكونك لا أطفال عندك.

فإن ذهب وأجر لرجل له أطفال، فعند ذلك من حقك أن تعترض وأن تقول له: إما أن تسكن أو تسكن من هو مثلك أو دونك في الأذية والضرر، وإلا أخرج من أسكنته، وهذا من الناحية الشرعية لا إشكال فيه، أي: إذا اشترط عليه ألا يسكن من هو أكثر منه ضرراً، أو لم يشترط عليه وجاء بمن هو أضر.

ذكر العلماء من هذا أمثلة: إذا كانت الدابة يطيقها رجل ولا تطيق أن تحمل رجلاً آخر، فلو جاء برجل أقوى منه وأثقل وقال: هذا مكاني. فلا يمكن؛ لأن هذا يضر بالدابة، ولربما لا تطيق الدابة حمله، فمثل هذا أجاز العلماء أن يعترض عليه ويقول له: أؤجرك وأؤجر من هو مثلك، أما من كان أكثر منك ضرراً فإني أمتنع من إجارته، فالشاهد: أنه يؤجر على من هو مثله أو هو دونه في الضرر.

فلو استأجر رجل عمارة وأجرها في المواسم ونحوها فإن عليه أن يراعي ذلك، وعلى المسلم إذا استأجر من أخيه المسلم أن يتقي الله، فإذا غلب على ظنه أن هذا الذي يؤجر جار سوء أو فيه ضرر، فإن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول في ذلك: من أجر داره إلى رجل سيء ويعلم بسوئه أو اطلع على سوئه، وسكت على ذلك وأقره ومكنه، فإنه شريك له في الإثم في كل ما يكون من أذية الجار، لأن هذا من البوائق والمصائب، سواء فعله الإنسان بنفسه أو بمن يرضى بفعله بأذية الجار.

فينبغي للإنسان في مسألة إقامة الغير مقامة أن يراعي حقوق الجيران وحقوق إخوانه المسلمين، وأن يراعي حقوق المالك، وبالأخص إذا كانت العين لا تحتمل ذلك أو فيها ضرر، فإن كانت لأيتام أو أرامل أو نحو ذلك فالأمر أشد.

فهناك شرطان:

الشرط الأول: أن يكون مالكاً لها.

الثاني: أن يكون مؤجراً لمن هو مثله أو دونه في الضرر.

ويتفرع على مسألة الملكية مسألة مهمة، وهي: إجارة ما لا يملك إلا بالهبة. فمثلاً: إذا كان الإنسان قد وهبه سكنى الدار شهراً، وقصده بعينه، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يؤجر إذا كان مقصود الواهب عين الرجل.

وقوله: [وتصح إجارة الوقف].

المصنف رحمة الله عليه والعلماء وأئمة الفقه من عادتهم أن يذكروا المسائل الخاصة في مواضعها المناسبة، فالوقف مسائله تنتثر في العبادات والمعاملات، ولكن قد يذكر العلماء رحمهم الله أفراداً من المسائل في المواضع المتعلقة بالأبواب.

إجارة الوقف: إذا كان هناك وقف، وهذا الوقف أوقفه مالكه وقصد به تسبيل منفعته كالمزارع والدور، فإذا قصد أن تكون المنفعة بعينها مستحقة فحينئذ لا إشكال، كأن يتصدق بثمرة المزرعة ويقول: ثمرة المزرعة ثلثها يتصدق به في سبيل الله، فحينئذ لا يجوز بيع هذا الثلث، وينبغي على الناظر أن يبحث عن الضعفاء والفقراء، ويؤدي إليهم حقوقهم كاملة على الوجه الذي أمر الله به، وبهذا تبرأ ذمته.

وأما إذا أوقف على أشخاص معينيين على أن يأخذوا منفعة الأعيان كأولاده وأولاد أولاده، سواء خصَّ الذكور أو الإناث على تفصيل سيأتي إن شاء الله في مسألة الوقف، فإذا جعل هذه الأرض أو جعل هذه العمارة وقفاً على أولاده واتفقوا على إجارتها، وقالوا: تؤجر، فأجرت، فالقيمة وثمن المنفعة وما دفع فيها يكون لكل وارث بحقه وثمنه، فتجوز إجارة الأوقاف.

في الحقيقة الوقف من حيث الأصل يخرج عن ملك الإنسان ولا يتصرف فيه إلا في حدود ما اشترط فيما بينه وبين الله عز وجل، ولذلك لا يملك الواقف الرجوع عن الوقف، ومن أوقف شيئاً فقد أخرجه عن ملكيته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمرة) كما في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وهنا مسألة يخطئ فيها البعض، وهي: أنه إذا أوقف المسجد احتكره، فيفتحه متى شاء ويغلقه متى شاء، وتصرف فيه وكأنه دار أو شيء يملكه، والواقع أنه ليس بملك له، وليس من حقه إذا أوقف المسجد أن يتصرف فيه إلا في حدود المصلحة، وهذا كله مفرع على مسألة: أن من أوقف الشيء فقد أخرجه من ذمته، وهذا الذي جعل العلماء رحمهم الله في مسائل الأوقاف يردونها إلى القاضي؛ لأن بيع الأوقاف لا يمكن أن يتم إلا عن طريق القضاء؛ لأنه في هذه الحالة ليس هناك مالك للوقف بعينه، وإنما يكون فيه إذن من الوالي ينزل فيه منزلة المتصرف الحقيقي، فمن المصالح التي ينظر فيها القضاة النظر في الأوقاف.

فالمقصود: أنه تجوز إجارة الوقف، كما نص على ذلك جمهرة العلماء رحمهم الله.

حكم تأجير إمام المسجد لشقته التي خصه الواقف بها

عندنا مسألة شاعت وذاعت في هذا الزمن، وهي: أن يكون هناك مسجد وأوقفت منافع على هذا المسجد لمن يقوم بالإمامة أو بالأذان فيه، فلو كان هناك سكن تابع للمسجد، وهذا السكن وقف على الإمام فأراد أن يؤجره.

فالأصل يقتضي أن يسكنه الإمام، ومقصود صاحب المسجد أن ينال الأجر بوجود الإمام، وخاصة وأن وجود السكن بجوار المسجد مقصود؛ لأن هذا أدعى للمحافظة على الصلوات، وأدعى للقيام بحقوق المسجد، ومراقبته وتفقد مصالحه، وفي المساجد التي يكون الإمام فيها قريباً يعظم نفع هذا الإمام للناس، فيمكن سؤاله ويمكن الرجوع إليه، ويمكن استفتاؤه إذا كان من أهل العلم أو من طلبة العلم، فإذا خرج عن هذا السكن وأجره للغير، فهل يكون مالكاً للمنفعة بحيث يستحق أن يعاوض عليها؟

الذي اختاره جمع من العلماء وكان يفتي به جمع من مشايخنا وتطمئن إليه النفس: أنه ليس من حق الإمام أن يؤجر مسكنه، فإما أن يسكن فيه أو يمكن من هو أحوج إلى هذا السكن منه؛ لأنه وقف قصد به عين، لأنه بتأجيره يخرج الأجر، وكذلك يعطل المصالح التي قصدها صاحب المسجد؛ لأنه ببعد سكنه عن المسجد يفوت كثيراً من المصالح: من شهود الجماعة والمحافظة عليها ونحو ذلك من المصالح التي ذكرناها.

ولذلك فالذي تطمئن إليه النفس: أنه ليس بمالك للمنفعة، فهو موقوف عليه من باب الأجر إذا سكنه وارتفق به، فإن كان غير ساكن مكن غيره من طلاب العلم ومن يقوم مقامه أن يسكن هذا السكن، وأن يكون للميت حظه من الأجر، بدلاً من أن يؤجر ويعاوض؛ لأنه لا يملك عين المنفعة، وليس له حق التصرف فيها إلا أن ينتفع بها، فكأنها موهوبة لعينه، فلا يقيم غيره مكانه.

وعلى هذا يقال: إنه ليس من حقه أن يؤجر للغير وينتقل إلى سكن أوسع، وإنما عليه أن يبقى في هذا السكن ويرتفق به.

حكم عقد إجارة الوقف بعد موت المؤجر

وقوله: [فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ].

فقوله: [فإن مات المؤجر] يعني: في مسألة الأوقاف، الأوقاف يكون هناك بطن، وهذا البطن يستحق الوقف، فيؤجر البطن هذه العمائر ثلاث سنوات، ثم يموت البطن المستحق ويأتي بطن آخر فيستحق هذا الوقف، فمثلاً: لو أنه أوقف عمارته على أولاده، على أن تأكل الطبقة العليا ولا تستحق الطبقة التي بعدها إلا بعد فناء الطبقة العليا، فبقي من الطبقة العليا شخص واحد وأجر سنة ثم توفي أثناء السنة، فإن قلنا: إن الإجارة تنفسخ استُئنف العقد، يعني: يصبح البطن الجديد من حقه أن يفرض أجرة جديدة.

وإنا قلنا: إن الإجارة لا تنفسخ بالوقف، وأن المنفعة مملوكة للبطن الأعلى وقد أجرها، وهذا هو الصحيح، ويقويه غير واحد، ومشى عليه المصنف رحمه الله: أن البطن الأعلى يؤجر، وتتم إجارته، والمنفعة مملوكة وقد تمت المعاوضة عليها، ونزل المعدوم منزلة الموجود على القاعدة المعروفة، فمنزلة المنافع المعدومة أثناء العقد بمنزلة الموجودة، ولذلك صح التعاقد عليها، فحينئذ إذا باع البطن الأول المنفعة سنة وتوفي أثناء السنة؛ فإن الإجارة الأولى تمضي حتى يتم العقد الأول ويأخذ البطن الثاني نصيبه من الأجرة الباقية، فمثلاً: أجر البطن الأول العمارة باثني عشر ألف ريال، ثم توفي في نصف السنة، فالستة الآلاف الباقية تكون ملكاً للبطن الثاني، وعلى ورثة البطن الأول أن يمكنوا البطن الثاني من الأجرة.

فهذا هو الذي عناه المصنف رحمه الله بقوله: [فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ].

أي: فإن مات المؤجر للوقف وانتقل الوقف إلى من بعده لم تنفسخ الإجارة.

وقوله: [وللثاني حصته من الأجرة].

إن توفي في ربع السنة الأول فله ثلاثة أرباع الباقي، وإن توفي في النصف الأول من العام فله أجرة نصف العام الباقي، وهلم جرا.

وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3185 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع