شرح زاد المستقنع باب الإجارة [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد تقدم أن الإجارة لا تصح إلا إذا توفرت فيها الشروط الموجبة للحكم بصحتها، وأن هذه الشروط هي: جملة من العلامات والأمارات التي نصبها الشارع للحكم بصحة عقد الإجارة، فهناك علامات وأمارات متى ما وجدت حكمنا بصحة العقد، ومتى ما فقدت أو فقد بعضها حكمنا بفساده وعدم اعتباره.

وذكرنا أن هذا النوع من الشروط يسمى بشروط الصحة، وقد ذكر المصنف رحمه الله للإجارة ثلاثة شروط:

الشرط الأول: معرفة المنفعة.

والشرط الثاني: معرفة الأجرة.

وحينما ذكرنا معرفة الأجرة ذكرنا أن الأصل الشرعي يقتضي أنه لا يصح عقد الإجارة إلا إذا كان العامل على علم بمقدار الأجرة المدفوعة له، وكذلك الأجير يعلم قدر العوض الذي يأخذه عن إجارته.

ثم ذكرنا أنه يستثنى من هذا الأصل أن يكون هناك عرف يجري بتحديد الثمن، فإذا كان هناك عرف يجري بتحديد الثمن في المركوبات ونحوها، وتعاقد الطرفان على الإجارة، ولم يذكرا الأجرة لأنها معروفة معلومة عند الطرفين فإن هذا مغتفر، لكن الأصل يقتضي أننا لا نحكم بصحة عقد الإجارة إلا إذا كانت الأجرة معلومة عند الطرفين، ذكرنا أن العلة في ذلك والسبب: أنه متى ما كانت الأجرة مجهولة فإن هذا يفضي إلى النزاع وإلى الخلاف بين الطرفين كالحال في البيع، وأن جهالة الثمن في البيع توجب مفسدة الخلاف وهضم الحقوق، كذلك أيضاً الجهالة في الأجرة بين الطرفين، فإنها توجب النزاع والشقاق، وتوجب الظلم أيضاً، فلربما دخل العامل والأجير وهو يظن أنه ينال أجرة كبيرة، فإذا بها أقل مما كان يتوقع، وبناء على ذلك قلنا: لابد من معرفة الأجرة.

فلو سأل سائل: ما هو الأصل في الأجرة؟

تقول: أن تكون معلومة ومعروفة القدر، يذكر جنسها وقدرها ونوعها بما تنضبط به في السند والبيع، وأن هذا الأصل إذا فقد في الإجارة فإننا نحكم بفسادها.

ولو سألك: ما الذي يستثنى؟

تقول: يستثنى من ذلك أن يكون هناك عرف يحدد الأجرة، كركوب السيارات أو القاطرات أو الطائرات، فعلم أن أجرة التذكرة بخمسين أو بمائة، فلا بأس أن يركب ولا يحدد الأجرة، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً أو كالمشروط لفظاً، هذا من حيث الأصل.

إذاً: في الشرط الثاني عندنا أصل واستثناء، وهذا يلتبس على بعض طلاب العلم، لكن ينبغي أن يعلم أن الأصل: وجوب معرفة الثمن ومعرفة الأجرة، وأن الاستثناء يكون عند وجود عرف يحدد الأجرة، والسكوت عن الأجرة من الطرفين في هذا النوع الخاص من الإجارات لا يؤثر ولا يضر؛ لأنه معلوم بداهة، فهو وإن كان مجهولاً في الظاهر لكنه معلوم من حيث الباطن عند الطرفين.

الشرط الثاني: أن تكون منفعة الإجارة مباحة

قال المصنف رحمه الله: [الثالث: الإباحة في العين].

أي: الإباحة في منفعة العين، فيشترط لصحة الإجارة: أن يكون العقد على منفعة أذن الشرع بها، والمنافع منها ما أذن الله به ومنها ما حرمه الله عز وجل، فلا يجوز أن يبرم عقد الإجارة على أمر حرمه الله عز وجل؛ لأن تصحيح عقد الإجارة يدل على الإذن بهذه المنفعة.

فإذاً: لا نحكم بصحة عقد إجارة حتى نعلم ما هي المنفعة التي قام عليها العقد، فإذا علمنا ما هي المنفعة -وهو الشرط الأول- فلابد أن نعلم كذلك هل هذه المنفعة أذن بها الشرع أو لم يأذن، وبناءً على ذلك تنقسم المنافع إلى: مأذون به شرعاً، وغير مأذون به شرعاً.

فأما المأذون به شرعاً كالسكنى وركوب الدواب والطب والعلاج ونحو ذلك من الأمور التي أذن الله بها، فمثلاً: يستأجر الطبيب للعلاج. نقول: هذا العلاج مأذون به شرعاً إذا كان بشيء غير محرم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء).

كذلك أيضاً: لو استأجر للركوب، نقول: ركوب الدابة مأذون به شرعاً، والسفر إلى مكان مباح للصيد أو النزهة إذا لم تكن على وجه محرم من حيث الأصل مأذون بها شرعاً، والركوب لذاته مباح شرعاً.

وهكذا بالنسبة لخياطة الثياب وغسلها وكذلك بالنسبة لسكنى الدور وغير ذلك من المنافع التي أذن الشرع بها، نقول: عقد الإجارة جائز ومأذون به شرعاً.

لكن: إذا اشتمل على منفعة محرمة، أو كانت منافع العين لم يأذن بها الشرع؛ فإننا لا نصحح عقد الإجارة، فيشترط لصحة عقد الإجارة أن تكون المنفعة التي من أجلها استأجر الإنسان قد أذن بها الشرع.

فهناك أمران: المنفعة، والإباحة. فلو استأجره لضرر ومفسدة؛ لم يجز، ولو قال له: أريد منك أن تهدم دار جاري وأعطيك عشرة آلاف ريال لم يجز؛ لأن هدم الدار إفساد في الأرض، وهو كذلك لا يملكها، بل هو معتد وظالم، فإذا استأجره لذلك فهذه إجارة محرمة، والأجير لا يستحق شيئاً حتى ولو قام بهذا الفعل؛ لأنه فعل لا يأذن به الشرع.

ولو استأجره لأمر حرام فيه ضرر بجماعة أو فرد، فهذه إجارة غير مشروعة وباطلة؛ لأن المنفعة لا يأذن بها الشرع، فوجود هذا العقد وعدمه على حد سواء؛ فلا يستحق مطالبته بالأجرة.

إذاً: يشترط أن يكون هناك نفع، وأن يكون النفع مأذوناً به شرعاً.

قد يكون النفع غير مأذون به شرعاً، فالخمر أخبر الله عز وجل أن فيها منافع وفيها إثماً، وأن إثمها وضررها أكبر من منفعتها، والشريعة تحرم عند غلبة المفاسد أو لاستجماع الشيء للمفاسد، ولذلك يقولون: قد يكون الشيء في ظاهره مصلحة ولكن تحرمه الشريعة لمفسدة أعظم موجودة في الشيء، فالخمر مثلاً في ظاهرها الهزة والنشاط والطرب ونحو ذلك مما يعتري شاربها لكن الأضرار والمفاسد التي تترتب عليها أعظم مما فيها من منافع، حتى ذكر العلماء أن الله تعالى لما حرمها سلبها منافعها فأصبحت من الضرر، إلا أن أهل العلم قالوا: فيها نفع.

فالحاصل أن الإجارة إذا كانت على شيء فيه ضرر فإنها لا تجوز، وهي محرمة، ولا يستحق العامل الذي عمل هذا الضرر أجرةً، فلو طالب من قال له: اهدم هذه الدار، بالأجرة التي وعده بها، فإنها سحت وحرام ولا يستحقها.

إذاً: لابد وأن تكون المنفعة مأذوناً بها شرعاً.

ثم إن الشريعة تجيز المنافع المباحة المقصودة، فخرجت المنافع غير المقصودة، فحينما يستأجره لنفخ الهواء في بالون أو نحوه، نقول: إذا انتفخ الهواء في البالون فما المنفعة! وما المصلحة؟!

وهكذا لو استأجره لضرب حديد في بعضه مثل ألعاب الأطفال أو نحوها، فما المصلحة وما الفائدة؟!

فإذاً: لابد وأن تكون المنفعة مقصودة؛ حتى يقع عليها الإذن الشرعي والإباحة؛ لأنها لو كانت في ظاهرها منفعة لا مصلحة فيها ولا تقصدها العقول السوية كان بذل المال فيها من إضاعة المال، فالصبي إذا نفخ الهواء أي فائدة يستفيدها؟ وإذا ضرب الحديد ببعضه فأي فائدة يستفيدها؟! وإذا رأى الحديد مرتفعاً أو موضوعاً فأي فائدة يستفيدها؟!

إذاً: لابد أن تكون هناك منفعة مأذون بها شرعاً، فإذا كانت المنفعة غير مأذون بها شرعاً فهذا سيفصله المصنف رحمه الله.

[الثالث: الإباحة في العين، فلا تصح على نفع محرم كالزنا والزمر والغناء، وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر].

فقوله: [ولا تصح على نفع محرم كالزنا].

كان أهل الجاهلية في جاهليتهم يستأجرون الإماء، وكانت هناك بيوت للدعارة وللبغاء، فحرم الله ذلك، وأنزل آية النور المشهورة وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النور:33] فالله عز وجل حرم عليهم أن يؤجروهن من أجل هذه الجريمة وهي: الزنا والعياذ بالله، فنص العلماء رحمهم الله على أنه لا تجوز الإجارة لفعل الزنا، ونصت السنة أيضاً على ما نص عليه الكتاب من التحريم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه حرم ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن) وقوله: (ومهر البغي): هو ما يعطى للمرأة من أجل أن تزني والعياذ بالله، فلو أنه استأجر امرأة من أجل أن يطأها على وجه محرم فإن المال سحت وحرام، ولا تستحق المرأة هذا المال، بل إنه مال محرم بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فلو استأجر على فعل الزنا، فهذا نوع من أنواع المنافع المحرمة، وهذا يتعلق بالأفعال.

قال المصنف رحمه الله: [الثالث: الإباحة في العين].

أي: الإباحة في منفعة العين، فيشترط لصحة الإجارة: أن يكون العقد على منفعة أذن الشرع بها، والمنافع منها ما أذن الله به ومنها ما حرمه الله عز وجل، فلا يجوز أن يبرم عقد الإجارة على أمر حرمه الله عز وجل؛ لأن تصحيح عقد الإجارة يدل على الإذن بهذه المنفعة.

فإذاً: لا نحكم بصحة عقد إجارة حتى نعلم ما هي المنفعة التي قام عليها العقد، فإذا علمنا ما هي المنفعة -وهو الشرط الأول- فلابد أن نعلم كذلك هل هذه المنفعة أذن بها الشرع أو لم يأذن، وبناءً على ذلك تنقسم المنافع إلى: مأذون به شرعاً، وغير مأذون به شرعاً.

فأما المأذون به شرعاً كالسكنى وركوب الدواب والطب والعلاج ونحو ذلك من الأمور التي أذن الله بها، فمثلاً: يستأجر الطبيب للعلاج. نقول: هذا العلاج مأذون به شرعاً إذا كان بشيء غير محرم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء).

كذلك أيضاً: لو استأجر للركوب، نقول: ركوب الدابة مأذون به شرعاً، والسفر إلى مكان مباح للصيد أو النزهة إذا لم تكن على وجه محرم من حيث الأصل مأذون بها شرعاً، والركوب لذاته مباح شرعاً.

وهكذا بالنسبة لخياطة الثياب وغسلها وكذلك بالنسبة لسكنى الدور وغير ذلك من المنافع التي أذن الشرع بها، نقول: عقد الإجارة جائز ومأذون به شرعاً.

لكن: إذا اشتمل على منفعة محرمة، أو كانت منافع العين لم يأذن بها الشرع؛ فإننا لا نصحح عقد الإجارة، فيشترط لصحة عقد الإجارة أن تكون المنفعة التي من أجلها استأجر الإنسان قد أذن بها الشرع.

فهناك أمران: المنفعة، والإباحة. فلو استأجره لضرر ومفسدة؛ لم يجز، ولو قال له: أريد منك أن تهدم دار جاري وأعطيك عشرة آلاف ريال لم يجز؛ لأن هدم الدار إفساد في الأرض، وهو كذلك لا يملكها، بل هو معتد وظالم، فإذا استأجره لذلك فهذه إجارة محرمة، والأجير لا يستحق شيئاً حتى ولو قام بهذا الفعل؛ لأنه فعل لا يأذن به الشرع.

ولو استأجره لأمر حرام فيه ضرر بجماعة أو فرد، فهذه إجارة غير مشروعة وباطلة؛ لأن المنفعة لا يأذن بها الشرع، فوجود هذا العقد وعدمه على حد سواء؛ فلا يستحق مطالبته بالأجرة.

إذاً: يشترط أن يكون هناك نفع، وأن يكون النفع مأذوناً به شرعاً.

قد يكون النفع غير مأذون به شرعاً، فالخمر أخبر الله عز وجل أن فيها منافع وفيها إثماً، وأن إثمها وضررها أكبر من منفعتها، والشريعة تحرم عند غلبة المفاسد أو لاستجماع الشيء للمفاسد، ولذلك يقولون: قد يكون الشيء في ظاهره مصلحة ولكن تحرمه الشريعة لمفسدة أعظم موجودة في الشيء، فالخمر مثلاً في ظاهرها الهزة والنشاط والطرب ونحو ذلك مما يعتري شاربها لكن الأضرار والمفاسد التي تترتب عليها أعظم مما فيها من منافع، حتى ذكر العلماء أن الله تعالى لما حرمها سلبها منافعها فأصبحت من الضرر، إلا أن أهل العلم قالوا: فيها نفع.

فالحاصل أن الإجارة إذا كانت على شيء فيه ضرر فإنها لا تجوز، وهي محرمة، ولا يستحق العامل الذي عمل هذا الضرر أجرةً، فلو طالب من قال له: اهدم هذه الدار، بالأجرة التي وعده بها، فإنها سحت وحرام ولا يستحقها.

إذاً: لابد وأن تكون المنفعة مأذوناً بها شرعاً.

ثم إن الشريعة تجيز المنافع المباحة المقصودة، فخرجت المنافع غير المقصودة، فحينما يستأجره لنفخ الهواء في بالون أو نحوه، نقول: إذا انتفخ الهواء في البالون فما المنفعة! وما المصلحة؟!

وهكذا لو استأجره لضرب حديد في بعضه مثل ألعاب الأطفال أو نحوها، فما المصلحة وما الفائدة؟!

فإذاً: لابد وأن تكون المنفعة مقصودة؛ حتى يقع عليها الإذن الشرعي والإباحة؛ لأنها لو كانت في ظاهرها منفعة لا مصلحة فيها ولا تقصدها العقول السوية كان بذل المال فيها من إضاعة المال، فالصبي إذا نفخ الهواء أي فائدة يستفيدها؟ وإذا ضرب الحديد ببعضه فأي فائدة يستفيدها؟! وإذا رأى الحديد مرتفعاً أو موضوعاً فأي فائدة يستفيدها؟!

إذاً: لابد أن تكون هناك منفعة مأذون بها شرعاً، فإذا كانت المنفعة غير مأذون بها شرعاً فهذا سيفصله المصنف رحمه الله.

[الثالث: الإباحة في العين، فلا تصح على نفع محرم كالزنا والزمر والغناء، وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر].

فقوله: [ولا تصح على نفع محرم كالزنا].

كان أهل الجاهلية في جاهليتهم يستأجرون الإماء، وكانت هناك بيوت للدعارة وللبغاء، فحرم الله ذلك، وأنزل آية النور المشهورة وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النور:33] فالله عز وجل حرم عليهم أن يؤجروهن من أجل هذه الجريمة وهي: الزنا والعياذ بالله، فنص العلماء رحمهم الله على أنه لا تجوز الإجارة لفعل الزنا، ونصت السنة أيضاً على ما نص عليه الكتاب من التحريم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه حرم ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن) وقوله: (ومهر البغي): هو ما يعطى للمرأة من أجل أن تزني والعياذ بالله، فلو أنه استأجر امرأة من أجل أن يطأها على وجه محرم فإن المال سحت وحرام، ولا تستحق المرأة هذا المال، بل إنه مال محرم بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فلو استأجر على فعل الزنا، فهذا نوع من أنواع المنافع المحرمة، وهذا يتعلق بالأفعال.

قال رحمه الله: (والزمر).

الزمر النفخ في المزامير، والغناء: يكون بآلات اللهو، وبالنسبة للزمر والغناء فقد حرمهما الله عز وجل؛ ولذلك توعد الله عز وجل أهله فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6] وهذه الآية الكريمة كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنه الغناء.

وعبد الله بن مسعود قد تلقى القرآن من فم النبي صلى الله عليه وسلم غضاً طرياً كما نزل، وما كان يقرأ عشر آيات حتى يتعلمهن ويعلم حلالهن وحرامهن، وكان أعلم بكتاب الله عز وجل، وكان رضي الله عنه يقول: (ما من آية إلا وأعلم أين نزلت، ومتى نزلت، وفيم نزلت، ولو أعلم رجلاً أعلم بكتاب الله مني تعمل إليه المطي لذهبت إليه).

وهذا يدل على عظيم مكانته وجليل منزلته رضي الله عنه وأرضاه في ضبط كتاب الله ومعرفة ما فيه، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن ابن مسعود رضي الله عنه من أئمة الصحابة الذين هم أهل لتسطير كتاب الله عز وجل، وله تفسيراته المشهورة، فعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه فسر هذه الآية، وحلف بالله اليمين المغلظة وقال: (والله الذي لا إله إلا هو، إنه الغناء).

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: (يأتي في آخر الزمان أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف والقيان، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين) فهذا الوعيد الشديد قد نص العلماء رحمهم الله أن المراد به نفي الإيمان، لكن من اعتقد حل الزنا فإنه كافر بإجماع العلماء؛ لأنه قال: (يستحلون الحر).

وأما بالنسبة للمعازف فإذا قال: إنها حلال. متأولاً قول من قال من أهل العلم، وهو قول شاذ وضعيف لبعض المتقدمين، فإن كانت عنده شبهة فتزال عنه هذه الشبهة.

وقول عليه الصلاة والسلام: (يستحلون الحر والحرير) يدل على أن الأصل أنه حرام.

وأيضاً رتب على هذا الاستحلال قوله: (ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين).

ومن القواعد والضوابط عند العلماء رحمهم الله: أن كل فعل أو قول رتب عليه عقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً، أو رتب عليه الوعيد بنفي إيمان أو غضب أو لعنة فإنه يعد من كبائر الذنوب.

وهذا الضابط نص عليه جمع من أئمة السلف، وهو قول حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد اختاره الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، والإمام ابن حزم رحمة الله على الجميع، فما ورد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مقروناً بعقوبة الدنيا أو عقوبة الآخرة أو عقوبتين معاً -أي: عقوبة الدنيا والآخرة- أو فيه وعيد بنفي إيمان أو غضب أو لعنة أو نحو ذلك فإنه يعد من كبائر الذنوب التي توجب تفسيق صاحبها، والعياذ بالله!

حكم الأناشيد الإسلامية وقول الشعر

الغناء بالمعازف محرم ولكن يستثنى من ذلك التغني على سبيل النشيد، فإن النشيد الذي لا معازف فيه، وهو حكاية الشعر، وتكون تلك الحكاية خالية من المجون والفسق والعهر، فإن هذا أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن به، والأحاديث صحيحة فلا يستطيع المسلم أن يحرف ما ثبت في السنة من جوازه والإذن به، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبني مسجده -وهو في عمل الطاعة والقربة في تشييد ذلك المسجد- وكان الصحابة يرتجزون بأبيات الشعر:

والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

إن الألى بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا

فكان صلى الله عليه وسلم إذا بلغوا قوله: (أبينا) يقول: (أبينا، أبينا). ويرفع بها صوته.

وكذلك دخل عليه الصلاة والسلام مكة ومعه عبد الله بن رواحة آخذ بخطام دابته يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

فكان يقوله بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبإقراره.

وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان في السفر، وكان أنجشة يحدو الإبل بين يديه، وهو يقر عليه الصلاة والسلام ولا ينكر.

الدعوة إلى الله بالكتاب والسنة لا بالأناشيد

هل كان هذا الفعل منهم رضي الله عنهم وأرضاهم من باب الدعوة أم من باب الترويح عن النفس؟

الجواب: كان من باب الترويح عن النفس، فالخطأ أن يظن أن نشيد الشعر من وسائل الدعوة، فليس هناك وسيلة للدعوة إلا كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نص مجمع عليه وليس فيه أي إشكال، لكن لك أن تنشد الشعر من باب دفع السآمة وجلب الترويح عن النفس، أو من باب الاستجمام؛ لأن النفوس ضعيفة، فإذا خفف عنها بالمباح استجمت وقويت.

وكان حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في صحن بيت الله الحرام، فإذا كثرت عليه المسائل وكثرت عليه المباحث الفقهية والمسائل والنوازل قال: (روحوا عنا). فيأتي بأغزل بيت في الشعر الذي كان يتحاكاه العرب ويتحدث به، ويظرف مع أصحابه رضي الله عنهم ورحمهم الله، وهذا كله في بيت الله الحرام؛ لكي يبين أن هناك أموراً أذن الشرع بها ولا بأس بها.

فهذا من باب الترويح، لكن لا نعتقد أنه لابد أن ندعو بهذا الشيء، أو أن هذا الشيء طريق للدعوة، إنما نقول: يجوز ويباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يمكنه أن يسكت عن حرام أقر ذلك، وقيل بين يديه فأقره عليه الصلاة والسلام ولم يحرمه ولم يمنعه.

لكن الذي ذكره أهل العلم -رحمهم الله- وقرروه: أنه من حيث الأصل يجوز إنشاد الشعر، لكن من يتتبع السنة ويتتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ويفقه النصوص يجد أن الأحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإنشاد الشعر في حال السآمة وفي حال الملل، أنشد الشعر بين يديه في السفر أثناء سير الإبل، وهذا يعرفه كل من يعرف الإبل، الإبل لا يمكن أن تسير إلا بحادٍ، وإذا حدا الحادي مشت الإبل وسرت واستجمت، ولذلك كان هذا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: صلوات الله وسلامه عليه: (رفقاً بالقوارير)، وأنشد الشعر بين يديه صلوات الله وسلامه عليه في بناء المسجد؛ لأن البناء فيه ثقل على النفس، والبناء فيه أثر على النفوس، ولذلك روح النبي صلى الله عليه وسلم بالمباح، وأنشد الشعر بين يديه في حفر الخندق كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في السير، إذاً: كأن هذا الإنشاد من باب الترويح عن النفس ومن باب الاستجمام.

فعندنا أمران:

الأمر الأول: ألا ندخله ونقحمه على الدعوة ونقول: هذا الأمر من وسائل دعوتنا. فهذا أمر ينبغي أن يتنبه له الإنسان؛ أن الدعوة لا يمكن أن تكون إلا بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح رضوان الله عليهم ورحمهم الله أجمعين.

أما بالنسبة للترويح عن النفس فروح بالمباح ولا حرج في ذلك، وتقول: أفعل هذا من باب الترويح عن نفسي، فقد روح عن نفسه من هو أفضل منا، والإنسان مخلوق ضعيف، فلا بأس أن يروح عن نفسه بالذي أذن الله به وأحله لعباده.

لكن الإكثار من هذا الشيء والمواظبة عليه يؤثر على النفس، ويضعف الإيمان في القلب؛ لأن الإنسان إذا أكثر من اللهو المباح فإن هذا يضعف إيمانه، ولذلك يجوز المزح، فإذا أكثر منه ربما أمات قلبه -نسأل الله السلامة والعافية- إنما يأخذ منه بقدر

أفدْ طبعكَ المكدوح بالجد تارة بجمٍ وعللّهُ بشيءٍ من المزْحِ

ولكنْ إِذا أعطيتَهُ المزحَ فليكنْ بمقدارِ ما تعطي الطعامَ من الملحِ

فتعطي النفس شيئاً من الاستجمام والراحة في هذه الحدود، إلا أن الشعر الحماسي، وهو الذي يقوي النفوس، ويشحذ الهمم للجهاد، أو يحكي مآثر السلف، أو نحو ذلك مما يقصد به النصرة على الأعداء وإيراث الحماسة في النفوس؛ فإن هذا إذا كان الإنسان يضع هذا الشعر قربة لله سبحانه وتعالى، ويقوله قربة لله عز وجل فإنه يثاب على ذلك؛ لأن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنشد الشعر الحماسي في صحن بيت الله الحرام، وأنشده بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم من باب إغاظة الأعداء، فإغاظة أعداء الإسلام مقصودة شرعاً، فمن قصد بذلك إغاظة عدو الله وتربية النفوس على الحماسة وعلى الخير والبر ومآثر الإسلام، فإن ذلك لا شك أن له أثراً على النفوس.

ولقد نص الله في كتابه على أن الشعراء يتبعهم الغاوون، ثم استثنى سبحانه وتعالى فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227] فانظر إلى قوله: (يتبعهم الغاوون إلا الذين آمنوا) أي: أنهم إذا كانوا من أهل الإيمان فقالوا الشعر نصرةً للإسلام اتبعهم المهتدون ولا يتبعهم الغاوون، ومن هنا: نص النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه كعب بن مالك وحسان بن ثابت وقالا: إن الله أنزل في الشعر ما أنزل، فاستثناهما النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل فيهما قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227].

فإذاً: لابد لطالب العلم أن يعلم أن التحليل والتحريم يحتاج إلى نص، وأن النصوص إذا أسفرت واتضحت بجواز شيء لا يستطيع المسلم أن يتحمل بين يدي الله مسئولية تحريم ذلك الشيء، وأن النصوص إذا حرمت شيئاً لا يستطيع أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتقحم نار الله على بصيرة فيحلل للناس ما حرم الله عليهم.

فإذاً: قد وردت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على إباحة الشعر المأذون به شرعاً، وجاءت السنة الصحيحة تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنشاد، ووقع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأقره، فنجد ذلك من باب المباح المأذون به شرعاً، وأما بالنسبة للتوسع فيه فنقول: توسع في المباح، ما لم يكن يراد به إيراث الحماس الذي يقصد منه إلهاب النفوس على طاعة الله وتقويتها وتشجيعها على الخير، فذلك النص فيه واضح وظاهر.

وبهذا يقول المصنف: (والغناء) أي: إذا استأجره من أجل الغناء فيشمل ذلك حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون بآلات اللهو فهذا محرم، وبإجماع العلماء أنه لا تجوز الإجارة على غناء محرم.

والحالة الثانية: أن يكون بدون آلات ولكن يكون إنشاد شعر، فإذا جاء بالشاعر أو بمن يقول الشعر واشتمل شعره على مفسدة محرمة كالإغراء بالحرام، ووصف امرأة معينة أو نحو ذلك مما حرم الله عز وجل، أو يتناشد الشاعران كل منهما يسب الآخر ويشتمه ويعيبه وينتقص من قومه ويحط من قدرهم، فذلك مما حرم الله، ولا تجوز الإجارة على هذا الوجه.

أما لو جاء بالمرأة من أجل أن تضرب الدف في زواج وعرس وتقول المباح الذي أذن الله به، فإن هذا لا بأس به وهو جائز، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على جواز الإجارة على المنافع المباحة، وإذا جئت تقرر هذه المسألة فإنك تقول: لما كان ضرب الدف في الزواج مباحاً شرعاً، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إليه وحث عليه، ولم يستطع الإنسان أن يجد من يضرب له الدف إلا بمال، وأراد أن يستأجر، فلا بأس أن يستأجر المرأة من أجل أن تزف المرأة في حال زواجها، أو من أجل أن تضرب الدف فذلك مما أذن الله به، وكل منفعة مباحة أذن الله عز وجل بها ورسوله عليه الصلاة والسلام تجوز الإجارة عليها ما لم يقم الدليل على استثنائها.

الغناء بالمعازف محرم ولكن يستثنى من ذلك التغني على سبيل النشيد، فإن النشيد الذي لا معازف فيه، وهو حكاية الشعر، وتكون تلك الحكاية خالية من المجون والفسق والعهر، فإن هذا أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن به، والأحاديث صحيحة فلا يستطيع المسلم أن يحرف ما ثبت في السنة من جوازه والإذن به، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبني مسجده -وهو في عمل الطاعة والقربة في تشييد ذلك المسجد- وكان الصحابة يرتجزون بأبيات الشعر:

والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

إن الألى بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا

فكان صلى الله عليه وسلم إذا بلغوا قوله: (أبينا) يقول: (أبينا، أبينا). ويرفع بها صوته.

وكذلك دخل عليه الصلاة والسلام مكة ومعه عبد الله بن رواحة آخذ بخطام دابته يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

فكان يقوله بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبإقراره.

وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان في السفر، وكان أنجشة يحدو الإبل بين يديه، وهو يقر عليه الصلاة والسلام ولا ينكر.

هل كان هذا الفعل منهم رضي الله عنهم وأرضاهم من باب الدعوة أم من باب الترويح عن النفس؟

الجواب: كان من باب الترويح عن النفس، فالخطأ أن يظن أن نشيد الشعر من وسائل الدعوة، فليس هناك وسيلة للدعوة إلا كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نص مجمع عليه وليس فيه أي إشكال، لكن لك أن تنشد الشعر من باب دفع السآمة وجلب الترويح عن النفس، أو من باب الاستجمام؛ لأن النفوس ضعيفة، فإذا خفف عنها بالمباح استجمت وقويت.

وكان حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في صحن بيت الله الحرام، فإذا كثرت عليه المسائل وكثرت عليه المباحث الفقهية والمسائل والنوازل قال: (روحوا عنا). فيأتي بأغزل بيت في الشعر الذي كان يتحاكاه العرب ويتحدث به، ويظرف مع أصحابه رضي الله عنهم ورحمهم الله، وهذا كله في بيت الله الحرام؛ لكي يبين أن هناك أموراً أذن الشرع بها ولا بأس بها.

فهذا من باب الترويح، لكن لا نعتقد أنه لابد أن ندعو بهذا الشيء، أو أن هذا الشيء طريق للدعوة، إنما نقول: يجوز ويباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يمكنه أن يسكت عن حرام أقر ذلك، وقيل بين يديه فأقره عليه الصلاة والسلام ولم يحرمه ولم يمنعه.

لكن الذي ذكره أهل العلم -رحمهم الله- وقرروه: أنه من حيث الأصل يجوز إنشاد الشعر، لكن من يتتبع السنة ويتتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ويفقه النصوص يجد أن الأحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإنشاد الشعر في حال السآمة وفي حال الملل، أنشد الشعر بين يديه في السفر أثناء سير الإبل، وهذا يعرفه كل من يعرف الإبل، الإبل لا يمكن أن تسير إلا بحادٍ، وإذا حدا الحادي مشت الإبل وسرت واستجمت، ولذلك كان هذا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: صلوات الله وسلامه عليه: (رفقاً بالقوارير)، وأنشد الشعر بين يديه صلوات الله وسلامه عليه في بناء المسجد؛ لأن البناء فيه ثقل على النفس، والبناء فيه أثر على النفوس، ولذلك روح النبي صلى الله عليه وسلم بالمباح، وأنشد الشعر بين يديه في حفر الخندق كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في السير، إذاً: كأن هذا الإنشاد من باب الترويح عن النفس ومن باب الاستجمام.

فعندنا أمران:

الأمر الأول: ألا ندخله ونقحمه على الدعوة ونقول: هذا الأمر من وسائل دعوتنا. فهذا أمر ينبغي أن يتنبه له الإنسان؛ أن الدعوة لا يمكن أن تكون إلا بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح رضوان الله عليهم ورحمهم الله أجمعين.

أما بالنسبة للترويح عن النفس فروح بالمباح ولا حرج في ذلك، وتقول: أفعل هذا من باب الترويح عن نفسي، فقد روح عن نفسه من هو أفضل منا، والإنسان مخلوق ضعيف، فلا بأس أن يروح عن نفسه بالذي أذن الله به وأحله لعباده.

لكن الإكثار من هذا الشيء والمواظبة عليه يؤثر على النفس، ويضعف الإيمان في القلب؛ لأن الإنسان إذا أكثر من اللهو المباح فإن هذا يضعف إيمانه، ولذلك يجوز المزح، فإذا أكثر منه ربما أمات قلبه -نسأل الله السلامة والعافية- إنما يأخذ منه بقدر

أفدْ طبعكَ المكدوح بالجد تارة بجمٍ وعللّهُ بشيءٍ من المزْحِ

ولكنْ إِذا أعطيتَهُ المزحَ فليكنْ بمقدارِ ما تعطي الطعامَ من الملحِ

فتعطي النفس شيئاً من الاستجمام والراحة في هذه الحدود، إلا أن الشعر الحماسي، وهو الذي يقوي النفوس، ويشحذ الهمم للجهاد، أو يحكي مآثر السلف، أو نحو ذلك مما يقصد به النصرة على الأعداء وإيراث الحماسة في النفوس؛ فإن هذا إذا كان الإنسان يضع هذا الشعر قربة لله سبحانه وتعالى، ويقوله قربة لله عز وجل فإنه يثاب على ذلك؛ لأن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنشد الشعر الحماسي في صحن بيت الله الحرام، وأنشده بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم من باب إغاظة الأعداء، فإغاظة أعداء الإسلام مقصودة شرعاً، فمن قصد بذلك إغاظة عدو الله وتربية النفوس على الحماسة وعلى الخير والبر ومآثر الإسلام، فإن ذلك لا شك أن له أثراً على النفوس.

ولقد نص الله في كتابه على أن الشعراء يتبعهم الغاوون، ثم استثنى سبحانه وتعالى فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227] فانظر إلى قوله: (يتبعهم الغاوون إلا الذين آمنوا) أي: أنهم إذا كانوا من أهل الإيمان فقالوا الشعر نصرةً للإسلام اتبعهم المهتدون ولا يتبعهم الغاوون، ومن هنا: نص النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه كعب بن مالك وحسان بن ثابت وقالا: إن الله أنزل في الشعر ما أنزل، فاستثناهما النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل فيهما قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227].

فإذاً: لابد لطالب العلم أن يعلم أن التحليل والتحريم يحتاج إلى نص، وأن النصوص إذا أسفرت واتضحت بجواز شيء لا يستطيع المسلم أن يتحمل بين يدي الله مسئولية تحريم ذلك الشيء، وأن النصوص إذا حرمت شيئاً لا يستطيع أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتقحم نار الله على بصيرة فيحلل للناس ما حرم الله عليهم.

فإذاً: قد وردت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على إباحة الشعر المأذون به شرعاً، وجاءت السنة الصحيحة تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنشاد، ووقع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأقره، فنجد ذلك من باب المباح المأذون به شرعاً، وأما بالنسبة للتوسع فيه فنقول: توسع في المباح، ما لم يكن يراد به إيراث الحماس الذي يقصد منه إلهاب النفوس على طاعة الله وتقويتها وتشجيعها على الخير، فذلك النص فيه واضح وظاهر.

وبهذا يقول المصنف: (والغناء) أي: إذا استأجره من أجل الغناء فيشمل ذلك حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون بآلات اللهو فهذا محرم، وبإجماع العلماء أنه لا تجوز الإجارة على غناء محرم.

والحالة الثانية: أن يكون بدون آلات ولكن يكون إنشاد شعر، فإذا جاء بالشاعر أو بمن يقول الشعر واشتمل شعره على مفسدة محرمة كالإغراء بالحرام، ووصف امرأة معينة أو نحو ذلك مما حرم الله عز وجل، أو يتناشد الشاعران كل منهما يسب الآخر ويشتمه ويعيبه وينتقص من قومه ويحط من قدرهم، فذلك مما حرم الله، ولا تجوز الإجارة على هذا الوجه.

أما لو جاء بالمرأة من أجل أن تضرب الدف في زواج وعرس وتقول المباح الذي أذن الله به، فإن هذا لا بأس به وهو جائز، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على جواز الإجارة على المنافع المباحة، وإذا جئت تقرر هذه المسألة فإنك تقول: لما كان ضرب الدف في الزواج مباحاً شرعاً، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إليه وحث عليه، ولم يستطع الإنسان أن يجد من يضرب له الدف إلا بمال، وأراد أن يستأجر، فلا بأس أن يستأجر المرأة من أجل أن تزف المرأة في حال زواجها، أو من أجل أن تضرب الدف فذلك مما أذن الله به، وكل منفعة مباحة أذن الله عز وجل بها ورسوله عليه الصلاة والسلام تجوز الإجارة عليها ما لم يقم الدليل على استثنائها.

وقوله: [وجعل داره كنيسة].

قد بين المصنف رحمه الله أن استئجار الشخص للأفعال المحرمة كالزنا والزمر، وللأقوال المحرمة كالغناء لا يجوز، ويدخل في الأقوال المحرمة: النياحة، فلو استأجر امرأة من أجل أن تنوح على ميت فإنه لا يجوز، وتعتبر الإجارة فاسدة.

وكذلك الأفعال، كما إذا استأجر شخصاً على فعل محرم، ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك: لو استأجر طبيباً أن يقوم بعملية جراحية، وهذه العملية الجراحية لا يأذن بها الشرع؛ إما لكون ضررها أكبر من نفعها، أو لكونها تعارض مقصود الشرع، فإذا كان ضررها أكبر من نفعها، مثال ذلك: العمليات الجراحية التي تكون نسبة النجاح فيها ضئيلة جداً، فلو قال للطبيب: اعمل لي هذه العملية. مع غلبة ظن الطبيب أن هذه العملية ستفضي به إلى الهلاك أو تفضي إلى تلف عضو، أو أنها تضر به وبصحته؛ فلا يجوز للطبيب أن يقدم عليها، فلو أن المريض أغرى الطبيب بالمال وقال له: افعل لي هذه الجراحة، أو افعل بي هذا النوع من التداوي وفعله؛ فإنها إجارة فاسدة؛ لأنه خرج عن أصول المهنة، وأصول المهنة لا توجب الإذن للطبيب بالقيام بمثل هذا النوع من الأعمال الطبية، فصار أمراً محرماً متمحضاً في الضرر، أي: أن الضرر فيه واضح.

كذلك لو استأجره لعمل جراحي دون وجود موجب، مثل قطع الإصبع الزائد دون وجود ألم ودون وجود ضرر، فإن أي عضو في الإنسان إذا لم يكن فيه أذى أو لم يكن فيه ضرر فإنه لا يجوز قطعه ولا إبانته من الجسد؛ لأنها خلقة الله عز وجل، ولا يجوز التدخل بجسد الآدمي بزيادة شيء أو نقص شيء إلا إذا أذن الشرع به، فلو قطع منه هذا العضو فإنه حينئذٍ يعتبر آثماً شرعاً والإجارة فاسدة.

ولو قال له: أخرج -مثلاً- (اللوزتين) الموجودة الآن، والأطباء وأهل الخبرة يقولون: إن هذا العضو الموجود في الجسد -وهي اللوز - جعله الله عز وجل حماية للجسم، فينفي -بقدر الله- السموم عن البدن، حتى قال بعض الباحثين الكبار في مجال الطب: لو يعلم الناس ما في هذا العضو من النعمة والخير -وهو رجل كافر- وحفظ البدن من الكثير من السموم والأضرار التي تنزل بهم ما أقدم أحد على إخراجه.

فلو أنه فعل ذلك -ويسمونها الجراحة الوقائية- فاستخرج اللوزتين بدون التهاب لم يجز، أما إذا التهبت اللوز وأصبح هناك ضرر من تقيحها وإضرارها بالقلب أو الجسد فلا بأس، لكن إذا لم يكن هناك ضرر وفعل ذلك من باب الوقاية -كما تسمى: الجراحة الوقائية- فنقول: لا يجوز؛ لأنه ليس هناك إذن شرعي بفعل هذا النوع من الجراحة.

كذلك: جراحة التجميل، لو استأجره من أجل أن يجمله فيصغر شيئاً كبره الله، أو يكبر شيئاً صغره الله عز وجل، أو جراحة تغيير الجنس، واستأجره بمبلغ من أجل أن يقوم بهذا النوع من الجراحات، فكل ذلك محرم؛ لأن المنفعة غير مأذون بها شرعاً.

إذاً: المراد من هذا كله: أن على طالب العلم أن يبحث أول شيء: هل المطلوب من عقد الإجارة مأذون به شرعاً أم لا، فإن كانت منفعة أذن بها الشرع وأجازها فعقد الإجارة عليها حلال، وإن كانت منفعة حرمها الشرع فلا تجوز الإجارة عليها.

وقوله: (وجعل داره كنيسة) أي: استأجر منه بيته من أجل أن يكون كنيسة، وهذا يقع في المواطن التي يكون فيها أهل الكتاب، وقد بينا في باب عقد الجزية وأحكام الهدنة والصلح أنه لا يجوز استحداث الكنائس في بلاد المسلمين ولا بناؤها ولا تشييدها، وذكرنا هذا وبينا الأدلة على ذلك، وبينا كلام العلماء رحمة الله عليهم.

فإذا استأجر منه الدار لكي يجعلها كنيسة فلا يجوز؛ لأنه لا يجوز استحداث ذلك وإنشاؤه في بلد مسلم، فإذا فعل ذلك فإن الإجارة فاسدة.

نحن نبهنا غير مرة أن العلماء يذكرون الأمثلة للتنويه، فهو ذكر الأفعال، وذكر إجارة الآدمي للمحرم، إما بفعل، فذكر الزنا والزمر وهو النفخ بالمزمار، وإما بقول مثل الغناء، فذكر الأمرين المتعلقين بالآدمي؛ ثم ذكر إجارة الدور والعقار كدار يستأجرها من أجل أن تكون كنيسة، فتقيس على أمثاله، فجميع الأمور التي يستأجر فيها من أجل المنافع المحرمة أو المفاسد المحرمة فإن الإجارة فاسدة.

وهنا مسألة في قوله: (وجعل داره كنيسة) في حكم التأجير لأي شيء يضر بالعقيدة أو يكون من البدعة والحدث في الدين، فإذا علم أنه يريد أن يفعل هذا الشيء وهو محرم حدث أو لا يجوز شرعاً؛ فإنه لا يجوز أن يعينه على فعل ذلك الشيء ولا أن يمكنه منه؛ لأن القاعدة: أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فما كان وسيلة لمحرم فهو محرم، وما كان وسيلة لمباح فهو مباح.

وقوله: [أو لبيع الخمر].

أي: أو يستأجره لبيع الخمر، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من باع الخمر، ومن حملها ومن حملت إليه، ومن أكل ثمنها، ومن اشتراها وعاصرها ومعتصرها، وساقيها ومسقاها... كل هؤلاء لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح، فلا يجوز أن يؤجر نفسه لحمل الخمر أو لصنع الخمر، وفي حكم الخمر المخدرات، فلا يجوز أن يؤجر نفسه لحملها أو لتصنيعها أو ترويجها، فكل ذلك من الإجارات المحرمة.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3615 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3182 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع