شرح زاد المستقنع باب المساقاة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب المساقاة]

الْمُسَاقَاة: مفاعلةٌ من السقي، والمراد بالسقي ريٌ الأرض.

وإنما سميت الْمُسَاقَاة بهذا الاسم؛ لأنهم كانوا بالمدينة وبالحجاز يحتاجون إلى سقي المزروعات؛ لأن الماء يكون في الآبار غالباً، ومن هنا كان أهم ما يُحتاج إليه في هذا العقد سقي النخل والقيام عليه، ومن هنا سميت مساقاة، وإلا ففي الأصل أنها تشمل سقي النخيل والقيام عليه وغرسَه ورعايته، وبذل كل ما يمكن أن يكون من أجل صلاح الثمرة وخروجها.

وهذا النوع من العقود عرَّفه بعض العلماء بقوله: المساقاة أن يدفع إنسانٌ شجرَهُ إلى آخر لكي يقوم بسقيه وما يحتاج إليه على جزءٍ من الثمرة.

أدلة مشروعية المساقاة

وهذا النوع من العقود مشروع بدليل السنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم:

أما دليل السنة فقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها)، والمراد بهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما فتح خيبر وأذعنت له يهود، قالوا: يا محمد! دعنا في هذه الأرض نقوم عليها ونصلحها ولنا جزءٌ من ثمرتها.

فنَظَر عليه الصلاة والسلام فوجد أن المصلحة تقتضي بقاءهم في خيبر، وقيامهم على النخل بالسقي؛ لأن الأنصار والمهاجرين سيرجعون معه إلى المدينة، ومن هنا رأى عليه الصلاة والسلام أن المصلحة في إبقاء النخل، يقومون على سقيه ورعايته فتخرج الثمرة ويبقى الأصل، ثم يأخذون جزءاً من الثمرة، وحينئذٍ تكون مصلحة الإسلام في المعاملة بهذا النوع من العقود، فأقرَّهم عليه الصلاة والسلام، ولما سألوه أن يبقوا في الأرض بقاءً مستديماً قال عليه الصلاة والسلام: (نقركم فيها ما أقركم الله)، أي: أننا نبقيكم وليس العقد مؤبداً، وإنما هو مؤقت إلى وقت أن يشاء الله عز وجل فنخرجكم منها، ولذلك نفذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقاهم صدراً من خلافته، ثم أخرجهم عن خيبر وأجلاهم منها.

فالشاهد أن ثمر خيبر ونخلها كان يُحتاج إلى صيانته ورعايته، فأقرهم عليه الصلاة والسلام.

أركان عقد المساقاة بين النبي ويهود خيبر

فأصبح عقد المساقاة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود على النحو الآتي:

الْمُساقِي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الركن الأول في عقد المساقاة؛ لأنها تستلزم مساقياً، ومُسَاقَى، ومُسَاقَى عليه وهو المحل، وصيغة يتم بها العقد، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأرض لأنه ولي المؤمنين والقائم على مصالحهم.

والمساقَى هم اليهود، وهم العمال الذي يقيمون باستصلاح الأرض.

ثم المُسَاقَى عليه وهو نخل خيبر وما كان فيها من زروع.

وأما الصيغة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم فيها وقال: (نقركم ما شاء الله).

فعاملهم، وكان الاتفاق بينه وبينهم على أنهم دائماً يوفون بعقد المساقاة الذي يستلزم جانبين:

الجانب الأول: أن يقوم العامل بالعمل.

والجانب الثاني: أن يلتزم رب النخل بإعطاء الأجرة والمقابل له بعد تمام عمله.

فإذاً عندنا عمل العامل وهو رعايته للنخل وسقيه لها، وسنبين ما الذي يُطَالب به من القيام على مصالح النخيل.

إذا قام العامل بسقي النخل ورعى المزرعة رعايةً تامة كاملة على الوجه المعتبر استحق الأُجرة التي اتُّفِق عليها، وهي نصف الثمرة أو ربعها الثمرة أو ثلثها أو غيره، فإذا جُذَّ النخل وأُخْرِجت منه ثمرته وحُصِد فإنه يأخذ الثمرة المتفق عليه.

وبناءً على ذلك عقد عليه الصلاة والسلام هذا العقد على هذا الوجه، فدلَّت السنة على مشروعيته.

ولذلك أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز هذا النوع من العقود، وقد حكى إجماعهم غير واحدٍ من أهل العلم، ونقل الإمام ابن قدامة رحمه الله عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ثم أبو بكر ثم عمر ثم المسلمون من بعدهم) دل على أنه كان أمراً معروفاً وشائعاً ذائعاً بين المسلمين.

فتبين أن جماهير السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على جوازه، لكن خالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه، وعَدَّ عقد المساقاة من العقود التي فيها غرر، ووافقه على ذلك صاحبه زفر بن الهذيل رحمه الله، فقال بعدم مشروعية المساقاة، والصحيح ما قاله جماهير السلف والخلف وأئمة الصحابة والتابعين رحمة الله عليهم أجمعين؛ أن عقد المساقاة عقدٌ مشروع.

وأما ما قاله من الغرر فإن الشريعة قد أذِنت بهذا النوع على سبيل الرخصة، والأصل يقتضي أنها إجارةٌ بمجهول جهالة الزمان وجهالة العمل؛ لأننا لا ندري متى تخرج الثمرة؟ ولا ندري هل تخرج كاملةً أو ناقصة؟ ولا ندري هل تسلَم من الآفات أو لا تسلم؟ فهو عقد فيه مخاطرة ولكن الشريعة الإسلامية أجازته.

وبناءً على ذلك فالقول المعتبر قول من قال بجوازه، لدلالة السنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك.

ومن الحِكم التي تُستفاد من جواز عقد المساقاة عظيم الرفق الذي جعله الله في هذا العقد، فإنك ربما ملكت مزرعةً لا تستطيع القيام بها، وقد لا تستطيع دفع النقود وسيولة المال للعامل، وأنت تريد أن تبقى هذه المزرعة، كأن يكون عندك مائة من النخل، فإن النخل يحتاج إلى جهدٍ عظيم، ومشقة وعناية، وخبرة ودراية، فليس كل إنسانٍ يُحسِن القيام على مزارع النخيل كما لا يخفى.

فإذا كان هذا النوع من المال عندك فإنه لو قيل لك: استأجر عاملاً. ربما لا توجد عندك السيولة التي تستأجره بها، ولا تجد من يتبرع، ولا تستطيع بنفسك، فجاءت الشريعة بالسماحة واليسر، وقالت للعامل: اعمل وخذ جزءاً من الثمرة، فأصبحت هناك مصلحة لرب البستان ومصلحةٌ للعامل، وهذا النوع لا شك أنه يقضي على البطالة؛ لأنه ربما وظفت عاملاً لم يجد عملاً، وأيضاً فيه نوعٌ من التكافل واستغلال الأموال وتنميتها دون أن تبقى معطَّلة.

وعلى هذا فلا شك أن القول بمشروعيته تتضمن الخير للأفراد والجماعات، ثم بقاء هذا البستان وخروج ثمرته وحصول منفعته؛ منفعةٍ للمجتمع، فإن المجتمعات تنتفع بالنخيل وبالثمار التي تكون من المزروعات.

إذا ثبت القول بمشروعية عقد المساقاة، وأن فيه حكماً عظيمة، فعقد المساقاة يستلزم الأركان التي ذكرناها، ومنها المُسَاقِي، وهو صاحب المزرعة، وقد تكون المزرعة لأكثر من شخص، كرجلين اشتريا مزرعة واستأجرا عاملاً ليقوم بسقيها على أن يعطيه جزءاً من الثمرة، فيكون الْمُسَاقِي أكثر من شخص.

وقد تكون المزرعة عند شخص ثم يموت ويتركها لورثته، والورثة يحبون بقاء المزرعة، أو لا يرغبون في بيعها، فحينئذٍ يكون الْمُسَاقِي أكثر من شخص وهم الورثة، ويوكلون من يقوم عنهم لإبرام العقد مع العامل.

والركن الثاني: المسَاقَى، وهو العامل، وقد يكون عاملاً واحداً وقد يكون أكثر من شخص، كأن تساقي شخصين أو ثلاثة وتقول لهم: اعملوا في هذه المزرعة واسقوها وقوموا برعايتها، ولكم نصف ما يخرج منها، فحينئذٍ يكون الطرف الثاني في العقد وهو المُسَاقَى أكثر من شخص، ويتفق هؤلاء الثلاثة أو الأربعة على القيام بالمزرعة، خاصةً إذا كانت كبيرةً لا يستطيع شخص واحد أن يقوم بها وإنما يقوم بها أكثر من شخص.

من شروط المساقاة أن تكون على جزء معين من الثمر

كذلك تستلزم المساقاة محلاً، وهو مورد العقد، ويشمل ذلك جانبين؛ فالاتفاق بينك وبين العامل يستلزم جانبين: جانبٌ لك وجانبٌ عليك، والعامل جانبٌ له وجانبٌ عليه.

فأما الذي لك أنت صاحب النخل، فحقك عند العامل أن يقوم بتنظيف النخل وإصلاحه ورعايته وسقيه على الوجه الذي تحصل به الثمرة على أتم الوجوه وأحسنها، هذا بالنسبة للحق الذي لك على العامل.

والحق الذي للعامل عليك أن تدفع له ما اتفقتما عليه من نصف الثمرة أو ربعها أو جزء منها، ولا بد من أن يكون هذا الحق الذي للعامل معلوماً، فلا يصح أن تقول له مثلاً: اسق المزرعة وأعطيك جزءاً منها، أو أعطيك شيئاً منها، أو أُرضيك بثمرةٍ منها أو نحو ذلك.

وبناءً على ذلك تتمحض المساقاة في كونها على جزءٍ مما يخرج من النخل.

قد يكون الاتفاق على نخلٍ ليس له ثمرة في الحال، وإنما في المستقبل، كما يقع في النخل الصغير، وهو ما يسمى بفسائل النخل، فإنها قد تتأخر في الطلع وتحتاج إلى سنتين أو ثلاث، وذلك يختلف باختلاف جودة الصنف والفسيلة، ووجود الرزق فيها من كونها تُطْلِع بعد سنة أو سنتين، فتقول له: قم على هذا النوع من الفسائل وإذا خرجت ثمرته فإني أُعطيك نصفها، فقد يجلس أربع سنوات وهو يعمل ثم تخرج الثمرة بعد أربع سنوات، ويستحق نصف الخارج أو ربعه كما سيأتي إن شاء الله.

فمحل العقد من حيث الأصل لك فيه حقٌ من حيث إصلاح ثمرتك ورعايتها بالسقي وما يلزم. وسنبين ذلك.

وللعامل حق أن تدفع له جزءاً من الثمرة متفقاً عليه، لكن لا يجوز أن تجمع له بين النقد وبين الجزء الخارج، فتقول له مثلاً: اسق المزرعة وأُعطيك ألف ريالٍ في الشهر ولك نصف الخارج.

وبناءً على ذلك فالإجارة هنا تتمحض في جزءٍ من الخارج ولا يكون معه مالٌ خارجٌ عن هذا العقد؛ لأنها من العقود المستثناة ووردت على سبيل الرخصة، ولأنها إجارةٌ في مجهول وهذا مسلك طائفة من العلماء كما هو مذهب الحنفية والمالكية، وهو أصح القولين في هذه المسألة.

قال رحمه الله تعالى: [تصح على كل شجرٍ له ثمرٌ يؤكل، وعلى ثمرةٍ موجودة، وعلى شجرٍ يغرسه، ويعمل عليه حتى يثمر، بجزءٍ من الثمرة]

قوله رحمه الله: [تصح] أي: المساقاة.

وعندما قال: (تصح) أفادنا أن عقدها من العقود الجائزة والمشروعة، وهذا كما قلنا قول جماهير العلماء، ودليل هذه الصحة حديث ابن عمر : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها) فدل على الجواز والمشروعية.

وقوله: (على كل شجر) هذا عموم.

إذا قلنا: يجوز للمسلم أن يُساقي على أرضه، فتصوير المسألة: إذا كان عندك مزرعة وفيها نخل فإنك قد تختار في بعض الأحيان أن تأتي بعامل وتعطيه مبلغاً شهرياً أو أسبوعياً أو سنوياً وتقول له: قم على هذه المزرعة ولك في كل يومٍ خمسون ريالاً، أو كل أسبوع مائة ريال، أو كل شهر ألف ريال، أو كل سنة اثنا عشر ألف ريالاً مثلاً، هذا النوع من العقد يسمى عقد إجارة؛ لأن العمل فيه بالمياومة أو بالمشاهرة -بالشهر- أو بالمسانهة -بالسنة- وسيأتي إن شاء الله بيان أحكام الإجارة.

أما بالنسبة للمساقاة فإنها تختلف، فإنه يكون المقابل للعامل جزءاً من الثمرة، وبناءً على ذلك تقوم على السقي؛ لأنه الأغلب كما ذكرنا وإن كان عقدها لا ينحصر عليه؛ لأنه يستلزم التأبير والقيام على الثمرة بمصالحها، أما من حيث الأصل فإن المساقاة لا تكون بالنقود وإنما تكون بجزءٍ مما يخرج من الثمرة.

وهذا النوع من العقود مشروع بدليل السنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم:

أما دليل السنة فقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها)، والمراد بهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما فتح خيبر وأذعنت له يهود، قالوا: يا محمد! دعنا في هذه الأرض نقوم عليها ونصلحها ولنا جزءٌ من ثمرتها.

فنَظَر عليه الصلاة والسلام فوجد أن المصلحة تقتضي بقاءهم في خيبر، وقيامهم على النخل بالسقي؛ لأن الأنصار والمهاجرين سيرجعون معه إلى المدينة، ومن هنا رأى عليه الصلاة والسلام أن المصلحة في إبقاء النخل، يقومون على سقيه ورعايته فتخرج الثمرة ويبقى الأصل، ثم يأخذون جزءاً من الثمرة، وحينئذٍ تكون مصلحة الإسلام في المعاملة بهذا النوع من العقود، فأقرَّهم عليه الصلاة والسلام، ولما سألوه أن يبقوا في الأرض بقاءً مستديماً قال عليه الصلاة والسلام: (نقركم فيها ما أقركم الله)، أي: أننا نبقيكم وليس العقد مؤبداً، وإنما هو مؤقت إلى وقت أن يشاء الله عز وجل فنخرجكم منها، ولذلك نفذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقاهم صدراً من خلافته، ثم أخرجهم عن خيبر وأجلاهم منها.

فالشاهد أن ثمر خيبر ونخلها كان يُحتاج إلى صيانته ورعايته، فأقرهم عليه الصلاة والسلام.

فأصبح عقد المساقاة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود على النحو الآتي:

الْمُساقِي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الركن الأول في عقد المساقاة؛ لأنها تستلزم مساقياً، ومُسَاقَى، ومُسَاقَى عليه وهو المحل، وصيغة يتم بها العقد، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأرض لأنه ولي المؤمنين والقائم على مصالحهم.

والمساقَى هم اليهود، وهم العمال الذي يقيمون باستصلاح الأرض.

ثم المُسَاقَى عليه وهو نخل خيبر وما كان فيها من زروع.

وأما الصيغة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم فيها وقال: (نقركم ما شاء الله).

فعاملهم، وكان الاتفاق بينه وبينهم على أنهم دائماً يوفون بعقد المساقاة الذي يستلزم جانبين:

الجانب الأول: أن يقوم العامل بالعمل.

والجانب الثاني: أن يلتزم رب النخل بإعطاء الأجرة والمقابل له بعد تمام عمله.

فإذاً عندنا عمل العامل وهو رعايته للنخل وسقيه لها، وسنبين ما الذي يُطَالب به من القيام على مصالح النخيل.

إذا قام العامل بسقي النخل ورعى المزرعة رعايةً تامة كاملة على الوجه المعتبر استحق الأُجرة التي اتُّفِق عليها، وهي نصف الثمرة أو ربعها الثمرة أو ثلثها أو غيره، فإذا جُذَّ النخل وأُخْرِجت منه ثمرته وحُصِد فإنه يأخذ الثمرة المتفق عليه.

وبناءً على ذلك عقد عليه الصلاة والسلام هذا العقد على هذا الوجه، فدلَّت السنة على مشروعيته.

ولذلك أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز هذا النوع من العقود، وقد حكى إجماعهم غير واحدٍ من أهل العلم، ونقل الإمام ابن قدامة رحمه الله عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ثم أبو بكر ثم عمر ثم المسلمون من بعدهم) دل على أنه كان أمراً معروفاً وشائعاً ذائعاً بين المسلمين.

فتبين أن جماهير السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على جوازه، لكن خالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه، وعَدَّ عقد المساقاة من العقود التي فيها غرر، ووافقه على ذلك صاحبه زفر بن الهذيل رحمه الله، فقال بعدم مشروعية المساقاة، والصحيح ما قاله جماهير السلف والخلف وأئمة الصحابة والتابعين رحمة الله عليهم أجمعين؛ أن عقد المساقاة عقدٌ مشروع.

وأما ما قاله من الغرر فإن الشريعة قد أذِنت بهذا النوع على سبيل الرخصة، والأصل يقتضي أنها إجارةٌ بمجهول جهالة الزمان وجهالة العمل؛ لأننا لا ندري متى تخرج الثمرة؟ ولا ندري هل تخرج كاملةً أو ناقصة؟ ولا ندري هل تسلَم من الآفات أو لا تسلم؟ فهو عقد فيه مخاطرة ولكن الشريعة الإسلامية أجازته.

وبناءً على ذلك فالقول المعتبر قول من قال بجوازه، لدلالة السنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك.

ومن الحِكم التي تُستفاد من جواز عقد المساقاة عظيم الرفق الذي جعله الله في هذا العقد، فإنك ربما ملكت مزرعةً لا تستطيع القيام بها، وقد لا تستطيع دفع النقود وسيولة المال للعامل، وأنت تريد أن تبقى هذه المزرعة، كأن يكون عندك مائة من النخل، فإن النخل يحتاج إلى جهدٍ عظيم، ومشقة وعناية، وخبرة ودراية، فليس كل إنسانٍ يُحسِن القيام على مزارع النخيل كما لا يخفى.

فإذا كان هذا النوع من المال عندك فإنه لو قيل لك: استأجر عاملاً. ربما لا توجد عندك السيولة التي تستأجره بها، ولا تجد من يتبرع، ولا تستطيع بنفسك، فجاءت الشريعة بالسماحة واليسر، وقالت للعامل: اعمل وخذ جزءاً من الثمرة، فأصبحت هناك مصلحة لرب البستان ومصلحةٌ للعامل، وهذا النوع لا شك أنه يقضي على البطالة؛ لأنه ربما وظفت عاملاً لم يجد عملاً، وأيضاً فيه نوعٌ من التكافل واستغلال الأموال وتنميتها دون أن تبقى معطَّلة.

وعلى هذا فلا شك أن القول بمشروعيته تتضمن الخير للأفراد والجماعات، ثم بقاء هذا البستان وخروج ثمرته وحصول منفعته؛ منفعةٍ للمجتمع، فإن المجتمعات تنتفع بالنخيل وبالثمار التي تكون من المزروعات.

إذا ثبت القول بمشروعية عقد المساقاة، وأن فيه حكماً عظيمة، فعقد المساقاة يستلزم الأركان التي ذكرناها، ومنها المُسَاقِي، وهو صاحب المزرعة، وقد تكون المزرعة لأكثر من شخص، كرجلين اشتريا مزرعة واستأجرا عاملاً ليقوم بسقيها على أن يعطيه جزءاً من الثمرة، فيكون الْمُسَاقِي أكثر من شخص.

وقد تكون المزرعة عند شخص ثم يموت ويتركها لورثته، والورثة يحبون بقاء المزرعة، أو لا يرغبون في بيعها، فحينئذٍ يكون الْمُسَاقِي أكثر من شخص وهم الورثة، ويوكلون من يقوم عنهم لإبرام العقد مع العامل.

والركن الثاني: المسَاقَى، وهو العامل، وقد يكون عاملاً واحداً وقد يكون أكثر من شخص، كأن تساقي شخصين أو ثلاثة وتقول لهم: اعملوا في هذه المزرعة واسقوها وقوموا برعايتها، ولكم نصف ما يخرج منها، فحينئذٍ يكون الطرف الثاني في العقد وهو المُسَاقَى أكثر من شخص، ويتفق هؤلاء الثلاثة أو الأربعة على القيام بالمزرعة، خاصةً إذا كانت كبيرةً لا يستطيع شخص واحد أن يقوم بها وإنما يقوم بها أكثر من شخص.

كذلك تستلزم المساقاة محلاً، وهو مورد العقد، ويشمل ذلك جانبين؛ فالاتفاق بينك وبين العامل يستلزم جانبين: جانبٌ لك وجانبٌ عليك، والعامل جانبٌ له وجانبٌ عليه.

فأما الذي لك أنت صاحب النخل، فحقك عند العامل أن يقوم بتنظيف النخل وإصلاحه ورعايته وسقيه على الوجه الذي تحصل به الثمرة على أتم الوجوه وأحسنها، هذا بالنسبة للحق الذي لك على العامل.

والحق الذي للعامل عليك أن تدفع له ما اتفقتما عليه من نصف الثمرة أو ربعها أو جزء منها، ولا بد من أن يكون هذا الحق الذي للعامل معلوماً، فلا يصح أن تقول له مثلاً: اسق المزرعة وأعطيك جزءاً منها، أو أعطيك شيئاً منها، أو أُرضيك بثمرةٍ منها أو نحو ذلك.

وبناءً على ذلك تتمحض المساقاة في كونها على جزءٍ مما يخرج من النخل.

قد يكون الاتفاق على نخلٍ ليس له ثمرة في الحال، وإنما في المستقبل، كما يقع في النخل الصغير، وهو ما يسمى بفسائل النخل، فإنها قد تتأخر في الطلع وتحتاج إلى سنتين أو ثلاث، وذلك يختلف باختلاف جودة الصنف والفسيلة، ووجود الرزق فيها من كونها تُطْلِع بعد سنة أو سنتين، فتقول له: قم على هذا النوع من الفسائل وإذا خرجت ثمرته فإني أُعطيك نصفها، فقد يجلس أربع سنوات وهو يعمل ثم تخرج الثمرة بعد أربع سنوات، ويستحق نصف الخارج أو ربعه كما سيأتي إن شاء الله.

فمحل العقد من حيث الأصل لك فيه حقٌ من حيث إصلاح ثمرتك ورعايتها بالسقي وما يلزم. وسنبين ذلك.

وللعامل حق أن تدفع له جزءاً من الثمرة متفقاً عليه، لكن لا يجوز أن تجمع له بين النقد وبين الجزء الخارج، فتقول له مثلاً: اسق المزرعة وأُعطيك ألف ريالٍ في الشهر ولك نصف الخارج.

وبناءً على ذلك فالإجارة هنا تتمحض في جزءٍ من الخارج ولا يكون معه مالٌ خارجٌ عن هذا العقد؛ لأنها من العقود المستثناة ووردت على سبيل الرخصة، ولأنها إجارةٌ في مجهول وهذا مسلك طائفة من العلماء كما هو مذهب الحنفية والمالكية، وهو أصح القولين في هذه المسألة.

قال رحمه الله تعالى: [تصح على كل شجرٍ له ثمرٌ يؤكل، وعلى ثمرةٍ موجودة، وعلى شجرٍ يغرسه، ويعمل عليه حتى يثمر، بجزءٍ من الثمرة]

قوله رحمه الله: [تصح] أي: المساقاة.

وعندما قال: (تصح) أفادنا أن عقدها من العقود الجائزة والمشروعة، وهذا كما قلنا قول جماهير العلماء، ودليل هذه الصحة حديث ابن عمر : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها) فدل على الجواز والمشروعية.

وقوله: (على كل شجر) هذا عموم.

إذا قلنا: يجوز للمسلم أن يُساقي على أرضه، فتصوير المسألة: إذا كان عندك مزرعة وفيها نخل فإنك قد تختار في بعض الأحيان أن تأتي بعامل وتعطيه مبلغاً شهرياً أو أسبوعياً أو سنوياً وتقول له: قم على هذه المزرعة ولك في كل يومٍ خمسون ريالاً، أو كل أسبوع مائة ريال، أو كل شهر ألف ريال، أو كل سنة اثنا عشر ألف ريالاً مثلاً، هذا النوع من العقد يسمى عقد إجارة؛ لأن العمل فيه بالمياومة أو بالمشاهرة -بالشهر- أو بالمسانهة -بالسنة- وسيأتي إن شاء الله بيان أحكام الإجارة.

أما بالنسبة للمساقاة فإنها تختلف، فإنه يكون المقابل للعامل جزءاً من الثمرة، وبناءً على ذلك تقوم على السقي؛ لأنه الأغلب كما ذكرنا وإن كان عقدها لا ينحصر عليه؛ لأنه يستلزم التأبير والقيام على الثمرة بمصالحها، أما من حيث الأصل فإن المساقاة لا تكون بالنقود وإنما تكون بجزءٍ مما يخرج من الثمرة.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع