شرح زاد المستقنع باب الشركة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الشركة]:

الشركة: نوع من أنواع العقود التي تقع بين المسلمين، وهذا النوع من العقود يشتمل على التوكيل بين الطرفين، فكل واحد من الشريكين، أو كل واحد من الشركاء قد وكل صاحبه ونظيره أن يتصرف في ماله، فأصبح وكيلاً عنه من وجه، وهو وكيل عنه في التصرف في ماله الذي اشتركا فيه.

ونظراً لاشتمال الشركة على هذا النوع من العقود، أعني: كونها من عقود الوكالات أو فيها وصف الوكالة ناسب أن يعتني المصنف بذكر أحكامها ومسائلها عقب باب الوكالة، فبعد فراغه من بيان المسائل والأحكام المتعلقة بالوكالة شرع في نوع خاص من التوكيل الضمني وذلك ببيان مسائل وأحكام الشركة.

الشَّرِكَة والشِّرْكَة أصلها في لغة العرب: الجمع والخلط، فإذا جمع بين الشيئين فقد شرَّك بينهما، وإذا اجتمع الجماعة حساً أو معنىً فقد اشتركوا، تقول العرب في الأشياء المحسوسة: اشترك الرعاة، إذا جمعوا الدواب بعضها مع بعض، وتسمى بالخُلْطَة.

وكذلك تقول العرب: اشترك القوم في الرأي -وهذا تابع للاشتراك المعنوي- إذا اجتمعوا على رأي واحد.

وأما في اصطلاح العلماء فالشركة هي: اجتماع في استحقاق أو تصرف.

فإذا اجتمع طرفان أو أكثر في استحقاق أو تصرف فإن ذلك يوصف بكونه شركة.

فالشركة نوعان:

النوع الأول: الاشتراك في الاستحقاق.

والنوع الثاني: الاشتراك في التصرف.

أما الاشتراك في الاستحقاق: فمن أمثلته: الورثة، إذا مات والدهم أو مورثهم وترك لهم -لو فرضنا- عقارات، كالبيوت والمزارع، فإن الورثة يشتركون في هذه البيوت ويشتركون في هذه المزارع كل على حسب نصيبه، فهم شركاء، كما قال تعالى: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12]، وقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فشرَّك سبحانه بين الورثة، وأعطى كل ذي حق حقه بقسمته سبحانه من المواريث من فوق سبع سماوات.

فهذا النوع من الشركات يسميه العلماء بـ(شركة الأملاك)، وشركة الأملاك هي: الاجتماع في الاستحقاق، وتنقسم إلى ضربين:

الضرب الأول: أن يكون الاشتراك في هذا النوع اختيارياً.

والضرب الثاني: أن يكون اضطرارياً قسرياً جبرياً.

الاشتراك الاختياري

فأما الاشتراك الاختياري: كرجلين دفع كل منهما خمسين ألفاً واشتريا منزلاً، فقد استحقا هذا المنزل واستحقا هذه الأرض وهما شركاء في ملكيتها، وبناءً على ذلك فهذه الشركة: شركة استحقاق؛ لكنها جاءت بطيبة نفس وبرضاً من الطرفين، وباختيار منهما، بمعنى أن اجتماعهما في هذه الدار أو اجتماعهما في هذه الأرض أو المزرعة لم يكن قهراً، وهذا النوع من أمثلته: اجتماع الطرفين -كما ذكرنا - في شراء أرض أو شراء سيارة تكون مناصفة بينهما، فقد اشتركا في ملكيتها، وقد يشترك الطرفان في المنافع، كرجلين استأجرا شقة، فإن هذه الشقة إذا دُفِع المبلغ بينهما مناصفة، كل منهما له حق الانتفاع بنصف هذه المنفعة، فإن شاءا أن يحددا زماناً يكون لأحدهما نصف السنة الأول، وللثاني النصف الثاني، أو يقسما الشقة قسمة مهيأة كل منهما يأخذ نصفها.

هذا يسمى بـ(شركة الأملاك)، وهذا النوع من الشركات لا نتكلم عنه هنا، وليس مراد العلماء -رحمهم الله- بباب الشركة أو كتاب الشركة أن يبحثوا مسائل هذا النوع، أعني: (شركة الأملاك).

الاشتراك الإجباري

والنوع الثاني من شركة الأملاك، وهي الشركة القسرية الجبرية: فتجمع بين اثنين، أو تُشَرِّك بين جماعة في حق، ويكون هذا التشريك ليس باختيارهما، مثل: الإرث، قالوا: تقع شركة الأملاك قسراً في المواريث، فإن الإرث قسمه الله عزَّ وجلَّ من فوق سبع سماوات، فحينما نعطي الزوج النصف أو نعطيه الربع يكون إذا أخذ النصف شريكاً للورثة بهذا النصف حتى يقسم المال ويكون قد جاءه هذا النصف قسراً، ولم يأته باختيار منه.

إذاً: شركة الأملاك تنقسم إلى قسمين:

- إما أن تكون اختيارية: كقوم اجتمعوا في دار شراءً أو إجارةً، أو لو كان هناك شخص عنده أرض فوهبها لشخصين، فإن هذه شركة أملاك اختيارية.

- والنوع الثاني: أن تكون قسرية وبدون اختيار، كما في الإرث، والوقف، فالوقف: إذا أوقَفْتَ داراً على عشرة من المساكين، أو أوْقِفَتِ الدارُ على المساكين، فإنهم ينتفعون بالسكنى فيها، أو ينتفعون بغلة الوقف، وهذا الانتفاع وهذا التشريك في المنفعة والملكية للمنفعة جاءت قسراً بدون اختيار الشركاء.

فأما الاشتراك الاختياري: كرجلين دفع كل منهما خمسين ألفاً واشتريا منزلاً، فقد استحقا هذا المنزل واستحقا هذه الأرض وهما شركاء في ملكيتها، وبناءً على ذلك فهذه الشركة: شركة استحقاق؛ لكنها جاءت بطيبة نفس وبرضاً من الطرفين، وباختيار منهما، بمعنى أن اجتماعهما في هذه الدار أو اجتماعهما في هذه الأرض أو المزرعة لم يكن قهراً، وهذا النوع من أمثلته: اجتماع الطرفين -كما ذكرنا - في شراء أرض أو شراء سيارة تكون مناصفة بينهما، فقد اشتركا في ملكيتها، وقد يشترك الطرفان في المنافع، كرجلين استأجرا شقة، فإن هذه الشقة إذا دُفِع المبلغ بينهما مناصفة، كل منهما له حق الانتفاع بنصف هذه المنفعة، فإن شاءا أن يحددا زماناً يكون لأحدهما نصف السنة الأول، وللثاني النصف الثاني، أو يقسما الشقة قسمة مهيأة كل منهما يأخذ نصفها.

هذا يسمى بـ(شركة الأملاك)، وهذا النوع من الشركات لا نتكلم عنه هنا، وليس مراد العلماء -رحمهم الله- بباب الشركة أو كتاب الشركة أن يبحثوا مسائل هذا النوع، أعني: (شركة الأملاك).

والنوع الثاني من شركة الأملاك، وهي الشركة القسرية الجبرية: فتجمع بين اثنين، أو تُشَرِّك بين جماعة في حق، ويكون هذا التشريك ليس باختيارهما، مثل: الإرث، قالوا: تقع شركة الأملاك قسراً في المواريث، فإن الإرث قسمه الله عزَّ وجلَّ من فوق سبع سماوات، فحينما نعطي الزوج النصف أو نعطيه الربع يكون إذا أخذ النصف شريكاً للورثة بهذا النصف حتى يقسم المال ويكون قد جاءه هذا النصف قسراً، ولم يأته باختيار منه.

إذاً: شركة الأملاك تنقسم إلى قسمين:

- إما أن تكون اختيارية: كقوم اجتمعوا في دار شراءً أو إجارةً، أو لو كان هناك شخص عنده أرض فوهبها لشخصين، فإن هذه شركة أملاك اختيارية.

- والنوع الثاني: أن تكون قسرية وبدون اختيار، كما في الإرث، والوقف، فالوقف: إذا أوقَفْتَ داراً على عشرة من المساكين، أو أوْقِفَتِ الدارُ على المساكين، فإنهم ينتفعون بالسكنى فيها، أو ينتفعون بغلة الوقف، وهذا الانتفاع وهذا التشريك في المنفعة والملكية للمنفعة جاءت قسراً بدون اختيار الشركاء.

النوع الثاني من الشركات -وهو الذي يبحثه العلماء هنا-: ما يسمى بـ(شركة العقود).

وشركة العقود: يجتمع فيها طرفان فأكثر:

- ويكونون شركاء في المال والعمل.

- أو يشتركا فيكون المال من أحدهما والعمل من الآخر.

- أو يشتركا في جاهيهما، فتكون لهما وجاهة عند التجار، فيستدين أحدهما، ثم يعملان بالمال على حسب خبرتهما.

- وقد تكون شركةً بالبدن، كما لو اشتركا في ما ينتجان من صنعتهما، كما لو اشترك النجارون أو الحدادون أو نحوهم من أصحاب الحِرَف.

فهذا النوع من الشركات وهو شركة العقود تم باتفاق الطرفين، وتعاقد الطرفان على أن يجتمعا، ويدفع كل منهما مالاً، أو يدفع أحدهما المال والثاني يقوم بالعمل، أو على حسب ما يتفقان من أنواع الشركة التي سنذكرها، فإذا اجتمعا وتعاقدا على ذلك فإنها شركة عقود.

أقسام شركة العقود

هذا النوع من الشركات ينقسم إلى خمسة أقسام عند فقهاء الحنابلة -رحمهم الله-:

القسم الأول: شركة العنان.

والقسم الثاني: شركة المفاوضة.

والقسم الثالث: شركة الأبدان.

والقسم الرابع: شركة الوجوه.

والقسم الخامس: شركة المضاربة.

ومباحث الشركات عند فقهاء الحنابلة رحمهم الله تُذْكَر فيها هذه الخمسة الأنواع:

- العنان.

- والمفاوضة.

- والوجوه.

- والأبدان.

- والمضاربة.

ونازع غير الحنابلة في أنواعٍ كشركة الوجوه، وشركة الأبدان.

ونازع بعضهم في اعتبار شركة المضاربة نوعاً من الشركات؛ لأن المضاربة في الحقيقة ليست بشركة من كل وجه، وسيأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله.

فقد قال طائفة من العلماء: إن المضاربة أو القراض هو من الإجارة المجهولة التي جازت على خلاف الأصل، وسنبين وجه ذلك ونقرره.

أما بالنسبة لهذه الخمسة الأنواع: فجملتها:

الحالة الأولى: أن يشترك الطرفان بالبدن والمال:

أن يشتركا ببدنيهما وماليهما:

ببدنيهما. يعني: يعملان ويشتغلان في ذلك المال تنميةً له وحرصاً على مصالحه.

وبماليهما: كأن يدفع أحدهما خمسين ألفاً والثاني يدفع خمسين ألفاً؛ فقد اجتمعا بالمال وبالبدن؛ وإذا اجتمعا بالمال وبالبدن، فهذا يشمل نوعين:

- شركة العنان.

- وشركة المفاوضة.

وشركة المفاوضة أقوى من شركة العنان من جهة الشيوع وكثرة العمل وأيضاً كثرة المال؛ لأن نطاقها ومحل العقد فيها أوسع من شركة العنان.

وشركة العنان أقوى من المفاوضة؛ لأنه أُجْمِع على جوازها، بخلاف شركة المفاوضة.

هذان نوعان من الشركة يرجعان إلى الاشتراك بالبدن والمال.

الحالة الثانية: أن يكون الاشتراك ببدن أحدهما، والمال من الآخر:

وهذه هي شركة المضاربة، أو ما يسمى بالقراض، فأحد الطرفين -وهو الغني- يدفع المال كمائة ألف، والطرف الثاني وهو العامل أو من عنده خبرة يقوم بالعمل -فقط- على تنمية هذا المال، ولا يدفع شيئاً، وإن ربح هذا المال كان الربح بينهما على ما شرطا، وإن خسر العامل في تجارته وعمله بدون تفريط وبدون سبب يوجب الضمانة؛ فإن الخسارة تكون على رب المال.

الحالة الثالثة: أن يشتركا ببدنيهما:

وهذا كما يقع في شركة الأبدان، فيتفق اثنان يكون أحدهما صاحب صنعة، والآخر صاحب صنعة.

هل يشترط اتفاق الصنعتين أو اختلافهما؟ سيأتي.

يشترك -مثلاً- اثنان في صنعة النجارة، فيتقبلان من الناس ما يريدون من أعمال النجارة، ويشتغلان سوياً في المحل، ويقومان بأداء تلك الأمور التي طُلِبت، والربح والمال بينهما على ما شرطا.

فهذا يسمى بشركة الأبدان، وقد تقع في الغزو والجهاد في سبيل الله، كأن يشترك اثنان أو ثلاثة في الغنيمة، كما وقع لـسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر رضي الله عن الجميع في يوم بدر، حيث اشتركوا في الغنيمة.

الحالة الأخيرة: أن يكون الاشتراك في الجاه:

يكون اشتراكهما وجاهةً، فيطلب أحدهما المال من التجار أو من السوق، وذلك راجع إلى ثقة الناس به ومعرفتهم له، ثم يقومان باستثمار هذا المال وتنميته والربح بينهما على ما شرطا، ويضمنان المال سوياً، وكذلك أيضاً يأخذان الربح على ما اتفقا عليه.

هذا حاصل أنواع شركة العقود.

هذا النوع من الشركات ينقسم إلى خمسة أقسام عند فقهاء الحنابلة -رحمهم الله-:

القسم الأول: شركة العنان.

والقسم الثاني: شركة المفاوضة.

والقسم الثالث: شركة الأبدان.

والقسم الرابع: شركة الوجوه.

والقسم الخامس: شركة المضاربة.

ومباحث الشركات عند فقهاء الحنابلة رحمهم الله تُذْكَر فيها هذه الخمسة الأنواع:

- العنان.

- والمفاوضة.

- والوجوه.

- والأبدان.

- والمضاربة.

ونازع غير الحنابلة في أنواعٍ كشركة الوجوه، وشركة الأبدان.

ونازع بعضهم في اعتبار شركة المضاربة نوعاً من الشركات؛ لأن المضاربة في الحقيقة ليست بشركة من كل وجه، وسيأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله.

فقد قال طائفة من العلماء: إن المضاربة أو القراض هو من الإجارة المجهولة التي جازت على خلاف الأصل، وسنبين وجه ذلك ونقرره.

أما بالنسبة لهذه الخمسة الأنواع: فجملتها:

الحالة الأولى: أن يشترك الطرفان بالبدن والمال:

أن يشتركا ببدنيهما وماليهما:

ببدنيهما. يعني: يعملان ويشتغلان في ذلك المال تنميةً له وحرصاً على مصالحه.

وبماليهما: كأن يدفع أحدهما خمسين ألفاً والثاني يدفع خمسين ألفاً؛ فقد اجتمعا بالمال وبالبدن؛ وإذا اجتمعا بالمال وبالبدن، فهذا يشمل نوعين:

- شركة العنان.

- وشركة المفاوضة.

وشركة المفاوضة أقوى من شركة العنان من جهة الشيوع وكثرة العمل وأيضاً كثرة المال؛ لأن نطاقها ومحل العقد فيها أوسع من شركة العنان.

وشركة العنان أقوى من المفاوضة؛ لأنه أُجْمِع على جوازها، بخلاف شركة المفاوضة.

هذان نوعان من الشركة يرجعان إلى الاشتراك بالبدن والمال.

الحالة الثانية: أن يكون الاشتراك ببدن أحدهما، والمال من الآخر:

وهذه هي شركة المضاربة، أو ما يسمى بالقراض، فأحد الطرفين -وهو الغني- يدفع المال كمائة ألف، والطرف الثاني وهو العامل أو من عنده خبرة يقوم بالعمل -فقط- على تنمية هذا المال، ولا يدفع شيئاً، وإن ربح هذا المال كان الربح بينهما على ما شرطا، وإن خسر العامل في تجارته وعمله بدون تفريط وبدون سبب يوجب الضمانة؛ فإن الخسارة تكون على رب المال.

الحالة الثالثة: أن يشتركا ببدنيهما:

وهذا كما يقع في شركة الأبدان، فيتفق اثنان يكون أحدهما صاحب صنعة، والآخر صاحب صنعة.

هل يشترط اتفاق الصنعتين أو اختلافهما؟ سيأتي.

يشترك -مثلاً- اثنان في صنعة النجارة، فيتقبلان من الناس ما يريدون من أعمال النجارة، ويشتغلان سوياً في المحل، ويقومان بأداء تلك الأمور التي طُلِبت، والربح والمال بينهما على ما شرطا.

فهذا يسمى بشركة الأبدان، وقد تقع في الغزو والجهاد في سبيل الله، كأن يشترك اثنان أو ثلاثة في الغنيمة، كما وقع لـسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر رضي الله عن الجميع في يوم بدر، حيث اشتركوا في الغنيمة.

الحالة الأخيرة: أن يكون الاشتراك في الجاه:

يكون اشتراكهما وجاهةً، فيطلب أحدهما المال من التجار أو من السوق، وذلك راجع إلى ثقة الناس به ومعرفتهم له، ثم يقومان باستثمار هذا المال وتنميته والربح بينهما على ما شرطا، ويضمنان المال سوياً، وكذلك أيضاً يأخذان الربح على ما اتفقا عليه.

هذا حاصل أنواع شركة العقود.

وقد اعتنى المصنف -رحمه الله- بذكر هذه الأنواع كلها، وفصل في أحكامها، وبين المهم من تلك الأحكام، ويبقى السؤال: ما هو الدليل على مشروعية هذا النوع من العقود؟

شرع الله عزَّ وجلَّ الشركة بين المسلمين بدليل كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم.

فأما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24].

فقوله: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ [ص:24]: الخلطاء: أي: الشركاء.

لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [ص:24]: ذَكَرَ شركةً قائمةً على الجَور مذمومةً، وشركةً قائمةً على العدل محمودةً، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [ص:24] فاستثنى من الجَور والظلم، والخطأ والخلل، فدل على شرعية الشركة إذا قامت على العدل دون أن يبغي أحد الشريكين على الآخر.

وجاءت آيات المواريث بالتشريك؛ لكن هذا النوع من الشركات في آيات المواريث إنما هو في شركة الأملاك كما ذكرنا، وهو راجع إلى الاستحقاقات.

وأما بالنسبة للسنة: فقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الأحاديث؛ لكنها لم تخلُ من كلام في أسانيدها، فمن أهل العلم من جعل الأحاديث للاستئناس، وجعل دليل السنة من جهة التقرير، أي: أن الناس كانوا في الجاهلية يتعاطون هذا النوع من العقود، وهو الشركة، ومع ذلك أقرهم الإسلام، وترك هذا النوع ولم يحرمه، فيجعل دليل السنة تقريرياً، ولا يجعله تفصيلياً بالقول والعمل؛ لأن الأحاديث بالقول والأحاديث بالفعل لم تخل من كلام في أسانيدها، وإن كان بعضها يقبل التحسين.

فهناك حديث عن السائب بن أبي السائب رضي الله عنه أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال له -وقد كان شريكاً للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وكان نِعْم الشريك، وكان كثير الصدقة والإحسان- قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نِعْم الشريك، كنتَ لا تداري ولا تماري) فأثنى عليه وعلى شركته.

وكذلك أيضاً استدلوا بالحديث القدسي، وهذا الحديث سكت عنه أبو داود في سننه، وصححه الحاكم ، وتعقَّبَه ابن القطان ، بأن فيه سعيد بن حبان ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وسكوت أبي داود قد يقوي، حتى أن بعض العلماء يحكم فيه بالتحسين، ولذلك بعض العلماء يميل إلى تحسين هذا الحديث، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخُن أحدُهما صاحبَه، فإن خان أحدهما صاحبه خرجتُ من بينهما)، وهذا الحديث من جهة قوله: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخُن أحدُهما صاحبَه) دل على مشروعية الشركة، وأنها تقوم على العدل والأمانة.

وكذلك أيضاً قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم تاجر بمال خديجة في الجاهلية، وفعل المضاربة في الجاهلية، وجاء الإسلام ولم ينكر هذا النوع من المعاملات، فكانت سنةً تقريرية.

وقالوا أيضاً: جاء في حديث أبي داود وابن ماجة والنسائي وحسَّنه غيرُ واحد أيضاً أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر اشتركوا يوم بدر فيما غنموا، فجاء سعد بأسيرين؛ لأنه قتل قتيلين فكان له سلبهما، ولم يَجِئْ عبد الله بن مسعود ولا عمار بن ياسر بشيء فشرَّك النبي صلى الله عليه وسلم بينهم.

فدل هذا على مشروعية شركة الأبدان، وهي التي ترجع إلى العمل.

وأيَّاً مَّا كان فإن السنة من حيث الجملة دالة على مشروعية الشركة، خاصة إذا نظرنا أن هذا العقد كان معروفاً عند العرب، ولا يشك أحد في وجوده، ومع ذلك لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت الشريعة قد هذبت وبينت الأحكام والحقوق والواجبات والأمانات والمسئوليات التي ينبغي على كلا الطرفين أن يراعيها في عقد الشركة.

أما من حيث الإجماع: فالإجماع من حيث الجملة على أن عقد الشركة جائز، وأنه عقد مشروع.

ولكن هناك خلاف: ما هي أنواع الشركات التي أحلها الله؟ وما أنواع الشركات التي حرمها؟ ثم هذا الحلال: ما هي شروط حله وجوازه والحكم باعتباره؟

كل ذلك مما فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله.

فإذا ثبت أن الشركة مشروعة من حيث الجملة، فإن الله سبحانه وتعالى حينما شرع هذا النوع من العقود تضمن المصالح العظيمة والغايات الكريمة، فعقد الشركة فيه مقاصد نبيلة، وغايات وأهداف طيبة، منها ما يرجع إلى الدين، ومنها ما يرجع إلى الدنيا.

وباختصار: من فوائدها التي ترجع إلى الدين: أنها تقوي أواصر الأخوة والمحبة؛ لأن الشريك يشعر أنه مع شريكه كالجسد الواحد، وأن ماله مع مال أخيه كالمال الواحد، وهذا يحدث نوعاً من الترابط والتكاتف والتعاطف والتآلف، وإذا وقعت الخسارة شعر كل منهما أنه يتضرر كأخيه، ومقصود الإسلام ومقصود الشريعة -من مثل هذا الشعور- أن يشعر المسلم أنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

وأما بالنسبة للمصالح الدنيوية: فإن عقد الشركة يقوي التجارة، ويحدث نوعاً من التكافل، ووجه ذلك أن التجارات أو الأسواق إذا قامت على الشركة قويت؛ لأن مجال التجارة يكون أفسح وأكثر شيوعاً مما لو كان العامل بماله مستقلاً، فأنت ترى أن مال الشركة يكون رأس المال كثيراً بخلاف ما لو انفرد كل واحد منهم بماله؛ فإنه لا يستطيع أن يخاطر، ولا يستطيع أن يتجاسر على ما يتجاسر عليه الشركاء، فإذا اجتمع الثلاثة والأربعة حصلت المصالح في السوق، ونشطت الأسواق التجارية، ولذلك قالوا: إنه إذا انتشرت الشركات في بيئة ومجتمع فإن التجارة تقوى في ذلك المجتمع، ويكون الناس أقوى على استثمار أموالهم؛ لأنه لو كان المال عند صاحبه إذا مرض فإن ذلك يعطل ماله، وإذا كانت مصالحه مرتبطة بالموضع الذي هو فيه لم يستطع جلب المال من مكان بعيد، ولم يستطع أن يسافر ولا أن يتغرب؛ لكن إذا كان معه شركاء أو كان معه آخرون -أو كانوا أكثر من رجل- فإن هذا يعين ويشجع على الانتقال، ويشجع على سعة التجارة وتنوُّعها وتعدد مجالها، كذلك من ناحية التجارة؛ فإن الأفكار والأفهام تتلاقح والأذهان يُكَمِّل بعضُها بعضاً، فهذا يكمل نقص هذا بما يعود لمصلحة التجارة ومنفعة السوق، كما لا يخفى، فقال العلماء: إن هذا يحقق من حكم مشروعية هذا النوع من العقود، أنه يعين على صلاح السوق، وانتشار التجارة فيه، وقوة التجارة، ثم إن فيه نوعاً من التكافل، فإن الرجل إذا دخل في التجارة وشاء الله -في ذلك الزمان الذي دخل فيه- أن تحصل خسارة أو تنكسر السوق؛ فإنه إذا كانوا شركاء انكسر على الجميع، فخفت المصيبة، وحصل نوع من التكافل، وحصل نوع من الجبر للضرر بخلاف ما إذا تاجر بنفسه كان الضرر متعلقاً به، وكانت المفاسد به أكثر من غيره، إلى غير ذلك من المصالح، ولا شك أنه ما من شيء يشرعه الله عزَّ وجلَّ ويبيحه لعباده إلا وفيه الخير في الدين والدنيا والآخرة، ولا يستطيع المخلوق أن يدرك حكم الخالق، ولذلك قال سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، وقال سبحانه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85]، فلا شك أن هذا النوع من العقود الذي دلت الأدلة على شرعيته، وأجمع العلماء رحمهم الله على جوازه فيه الخير الكثير في أمور الدين والدنيا.

بالنسبة لعقد الشركة من حيث تكييفه في الفقه يعتبر من العقود الجائزة، وقد قدمنا أن:

- هناك عقوداً لازمة.

- وهناك عقوداً جائزة.

- وهناك عقوداً تجمع بين الجواز واللزوم، فتكون جائزةً في أول الحال، لازمةً في آخر الحال.

وبينا هذا، وفصلناه في مقدمات البيوع.

فعقد الشركة من العقود الجائزة، والمراد بكونه جائزاً كما قدمنا: أي من حق الطرفين أو كل واحد من أطراف الشركة أن يفسخ الشركة في أي وقت شاء، فهو ليس بعقد لازم.

لو أن طرفين دفع كل منهما مائة ألف واتفقا على الشركة اليوم، وبعد ساعة من افتراقهما قال أحدهم: لا أريد. فلا نلزمه، ولا يكون ملزَماً بإتمام الشركة، كالبيع، وغيره من العقود اللازمة، وكالإجارة ونحوها، فهي عقد رفق، ويعتبر هذا النوع من العقود الجامعة بين المعاوضة والرفق، فالشركة فيها معاوضة، مثلاً: إذا دفعت أنت خمسين ألفاً ودفع الطرف الثاني خمسين ألفاً، فإن كلاً منكما قد جعل الخمسين في مقابل الخمسين الأخرى، فصار عقد معاوضة، ثم إن كلاً منكما يعمل في تنمية المائة ألف، فهو في هذه الحالة يعاوض صاحبه، كما أن صاحبه يعمل فهو أيضاً يعمل، فصار عقد معاوضة من جهة المال ومن جهة العمل، إلا في القراض، فالقراض عقد معاوضة بالتكافؤ، فرب المال يدفع المال، والعامل يقوم بالعمل؛ لكن شركة العنان، وشركة المفاوضة يكون فيها نوع من المعاوضة، ونوع من المقابلة للمال والعمل، كما سنبين إن شاء الله تعالى.

فهذا النوع من العقود فيه معاوضة، وفيه رفق، وقد ذكرنا أن عقود المعاوضات إجمالاً:

- إما أن تكون قائمة على الغبن المحض، مثل: البيع، والإجارة، وبيَّنَّا ذلك في مقدمة البيع.

- وإما أن تكون قائمة على الرفق المحض، كهبة الثواب، يعطيك هدية، فتعطيه هدية، فحصلت المعاوضة؛ لكنك لم تقصد غبنه، وإنما قصدتَ أن ترفق به، وقَصَد أن يرفق بك.

- وإما أن تكون -وهذا النوع الثالث من عقود المعاوضات- جامعة بين الغبن والرفق، وهذا مثل: أن يقول أحدهما: لي نصف الربح، ويقول الثاني: بل لك ربع الربح، فهذا غبن يريد أن يجعل الربح الأقل في حظ صاحبه، والربح الأكثر في حظه، كالبيع، وفيها رفق؛ لأن مالك مع مال شريكك تقويا وعملُك مع عمل شريكك أصبح قوياً وصارا كالشيء الواحد، وبناءً على ذلك رفق كل منكما بصاحبه.

ذكرنا في مقدمة البيوع أن عقود المعاوضات التي تقوم على الغبن تشدد الشريعة في شروطها، مثلاً: كالبيع، يعتبر من عقد المعاوضة القائم على الغبن؛ لأنك إذا أردت بيع الشيء تقول: أبيعه بمائة ألف، فيقول المشتري: أشتريه بثمانين ألفاً، فتقول: لا. بل مائة، فيقول: بثمانين. فمعناه أن هناك عشرين ألفاً إما أن تضعها غبناً على صاحبك، أو يضعها غبناً عليك.

فالبيع عقد غبن، فهذا النوع من العقود كعقد البيع وعقد الإجارة تجد الشروط الشرعية فيه أكثر؛ لأنه يقوم على الغبن والخطر؛ لكن عقود الرفق، مثل الهبات والعطايا التي تكون بالمقابل وبالمعاوضة لا يشترط فيها ما يشترط في البيع؛ لأنها قائمة على المكارمة والإحسان، فتخفف الشريعة في شروطها.

أما العقود التي تجمع بين الغبن والرفق كالشركات ففيه نوع من التشديد، وفيه نوع من التيسير، وسنبين هذا -إن شاء الله- في شروط عقود الشركات على حسب أنواعها، فتارةً تكون الشروط لتحقيق مصلحة للطرفين، وتارةً تكون لدفع الضرر عنهما أو عن أحدهما إذا أراد الآخر أن يضر بمصالحه.