شرح زاد المستقنع باب الحجر [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد تقدم أن الحجر على المفلس إنما شرع من أجل مصلحة الغرماء، وذلك أنه إذا أفلس صار حق الغرماء في ماله.

ومن هنا حكمت الشريعة بالحجر عليه بالتصرف في ماله، والكلام على هذا الحجر يستلزم أولاً بيان مشروعيته وسبب وجوبه، ثم بعد ذلك الحكم بالحجر، ثم الآثار المترتبة على الحكم.

وقد ذكرنا جملة من هذه المسائل فيما تقدم، ووقفنا عند بيع الحاكم أو القاضي لمال المفلس الذي هو ثمرة للحجر، فإنه إذا حجر على الشخص وتوفرت فيه شروط الحجر على المفلس وحكمنا بالحجر، فهناك آثار مترتبة على هذا الحكم منها: أن القاضي يحكم ببيع ماله وقلنا: إنه إذا حكم القاضي ببيع مال المفلس فإن هذا الحكم يفتقر إلى بيان الأموال التي يحكم ببيعها.

فأول ما يقوم به الحاكم أو من يوليه لبيع مال المفلس: فرز أموال المفلس وتصنيف هذه الأموال، فهناك أموال من الحيوانات وهناك أموال من العقارات وهناك أموال من المنقولات، فتجمع هذه الأموال وتصنف، ويُبْدأ بأخذ الأمور الضرورية التي يحتاجها المفلس فتخرج من هذه الأموال، ثم بعد ذلك يخرج منها الأمتعة والأموال التي وجدت بأعيانها وتدفع إلى أصحابها من الغرماء.

فكل غريم باع إلى هذا المفلس مالاً ووجده بعينه؛ فإنه من حقه أن يأخذ عين المال، وتوضيح هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) وهذا الحديث فيه:

أن أموال المفلسين يخرج منها ما كان باقياً بعينه من أموال الغرماء، فإذا طالب الغريم بهذا العيني فإن من حقه أن يخرج هذا المال ويرد إليه، وإذا رددنا هذا المال فهنا صور:

حكم من وجد متاعه عند المفلس بعينه من غير زيادة أو نقصان

الصورة الأولى: مثال هذه المسألة: رجل باع سيارة لرجل ثم أفلس، فإذا كانت السيارة بعينها ولم يتصرف بها، أي: لم يتغير فيها شيء بالزيادة أو بالنقص ولم يدفع شيئاً من ثمنها، كما هي الشروط المعتبرة في هذا المال فإن من حق صاحب السيارة أن يقول: هذه السيارة سيارتي، ويثبت ذلك، ثم يأخذ السيارة بعينها لقاء دينه، فيسقط كامل دينه الذي له من قيمة هذه السيارة.

فلو أن هذه السيارة اشتراها المفلس بعشرين ألفاً فإننا نقول: خذ السيارة، والعشرين ألفاً قد انتهت؛ لأن ذلك إلغاء للبيع الذي وقع بين المفلس والغريم.

وعلى هذا يشترط أولاً: أن يجد عين المتاع، فلا يجد -مثلاً- مثله، فلو وجد مثله فليس من حقه أن يطالب به.

وثانياً: ألا يكون قد أخذ شيئاً من قيمته، فلو دفع المفلس بعض القيمة فإنه لا يستحق أن يطالب بعين المتاع، والدليل على ذلك ظاهر الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) ولم يقل: وليرد ما أخذ.

فدل على أنه قد عاوضه وساومه على ذلك البيع دون أن يدفع له مقدماً أو شيئاً من ثمنه، فإن دفع شيئاً من ثمنه فجماهير العلماء على أنه لا يستحق الرد.

وأما بالنسبة لهذا المتاع كالسيارة أو الأرض أو العمارة إذا وجدت بعينها، فإما أن تكون قيمتها مساوية لقيمة بيعها، مثال ذلك: لو أن رجلاً اشترى سيارة بمائة ألف ثم أفلس بعد شهرين من البيع، أو اشتراها بمائتي ألف وأفلس بعد سنة والسيارة قيمتها مائة ألف لم تختلف؛ فحينئذٍ لا إشكال وسيطالب بسيارته؛ ولو لم يطالب بالسيارة فسيدخل ضمن الدين ويكون له بعض قيمتها وليس الكل، أي: سيدخل مع الغرماء مشاركاً لهم، والأفضل له أن يأخذ السيارة ويبيعها بدل أن يتركها حتى تكون أسوة للغرماء.

فالحالة الأولى: أن تكون القيمة لم تختلف، فالحكم أنه إذا رضي صاحب المتاع وطلب صاحب المتاع أن ترد له ردت.

الحالة الثانية: أن تكون القيمة أكثر، فلو أن هذه السيارة باعها الرجل أو الغريم بمائة ألف، ثم اشتراها المفلس ديناً إلى نهاية السنة وقبل نهاية السنة حجر عليه، فلما تمت سنة لهذه السيارة أصبحت قيمتها مائة وخمسين ألفاً، أي أنها زادت بمقدار الثلث، فمن حقه أن يطالب بعين السيارة ولو أصبحت بأغلى مما بيعت به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) ولم يفصل بين كونه أغلى أو أرخص أو مساوياً، فأخذ جمهور العلماء من هذا دليلاً على أنه يستحق رد السيارة غالية أو رخيصة وكأنه إلغاء للبيع الأول.

الحالة الثالثة: أن تكون قيمة السيارة أنقص، كأن يبيعه إياها بمائة ألف وتصبح قيمتها ثمانين ألفاً أو تسعين ألفاً أو سبعين ألفاً، فنقول له: أنت بالخيار بين أن تدخل أسوة للغرماء في أمواله على قدر دينك، وبين أن تأخذ السيارة لقاء دينك الذي هو قيمة السيارة، ولا شيء لك من قيمة السيارة، وهذا على ظاهر السنة في الصحيحين من حديث أبي هريرة المتقدم.

حكم من وجد متاعه بنقص عند مفلس

الصورة الثانية: لو أن هذه السيارة نقص منها شيء أو تغير فيها شيء بالنقص، أو تغير فيها الحال بالزيادة، فلا يخلو النقص إما أن يكون النقص بآفة سماوية أو بسبب من المشتري الذي هو المفلس، أو يكون النقص بسبب من أجنبي، أي: ليس من البائع ولا من المفلس المشتري.

الحالة الأولى: أن يكون النقص بآفة سماوية، كرجل اشترى منه رجل دابة ثم أصابها الشلل، فشلت يمينها أو شلت رجل منها، فهذا النقص حصل بآفة سماوية وليس بتفريط من المشتري -المفلس- وليس من أجنبي.

أو كرجل اشترى منه رجل أرضاً، فجاء السيل واجتاح ثلثها أو نصفها فهذه آفة سماوية.

أو كرجل اشترى منه رجل مزرعة، فجاء إعصار فأحرق ربعها، هذه كلها آفات سماوية، فالسؤال الآن: لو وجد متاعه على هذه الصفة بالنقص فهل يطالب بالرد، ويطالب المشتري بالضمان، أم أنه يأخذ عين المتاع؟

والجواب: أن يقال له: إن كان النقص بآفة سماوية، فإنك تستحق عين المتاع، ولا ضمان في الآفات السماوية على المشتري، لتقريرنا هذا في باب البيع حينما تكلمنا على مسائل العيوب في المبيعات، وأن من حقه أن يستردها دون أن يضمن المشتري.

وبناءً على ذلك فإننا نقول له: أنت بالخيار بين أمرين:

أن تقبل هذه السيارة وهذه الدابة وهذه الأرض معيبة بحالها ما دام أنها بآفة سماوية ولا ضمان في هذه الآفات ويسقط دينك كاملاً، فإذا كانت قيمة السيارة مائة ألف، فإنه يأخذها بعد الخسارة التي فيها بالمائة ألف على أنه رد لعين المتاع، فيصبح كأنه إلغاء للبيع الماضي أو البيع السابق على أن لا تكون هناك مطالبة بالمال الذي بيعت به السلعة.

الحالة الثانية: أن يكون النقص بسبب المشتري -المفلس- ففي هذه الحالة إذا كان النقص بسبب المفلس فمذهب طائفة من العلماء -رحمهم الله- أنه إذا حصل النقص بإتلاف للجزء ففيه تفصيل:

إما أن يمكن فصل المبيع، كأن يكون اشترى منه سيارتين كل سيارة بخمسين ألفاً فأتلف المشتري -المفلس- إحداهما وبقيت الثانية؛ فحينئذٍ نقول له: خذ الثانية بقيمتها من أصل البيع، أي: أنت بالخيار، إن أردت أن تأخذ متاعك فتأخذ الباقية وهي السيارة، فلو كانت قيمة السيارتين مائة ألف، إحداهما بخمسين والثانية بخمسين وأتلف إحداهما قالوا: من حقه أن يأخذ الثانية بخمسين ألفاً وتسقط الخمسين، وهذا مبني على مسألة تفريق الصفقة.

فالسيارتان في صفقة واحدة، لكن يفرق بينهما بوجود العيب في الثانية، فيبقى ضمان الثانية على ملك المفلس، فيأخذ خمسين ألفاً ويأخذ السيارة لقاء خمسين ألفاً، وتبقى ذمة المفلس مشغولة بالخمسين الباقية، وقد يكون الأحظ له والأفضل أن يفعل هذا؛ لأنه لو كان هناك رجلان كل منهما له مائة ألف على المفلس، فهو في هذه الحالة إذا كانت له مائة ألف مقسومة بين السيارات كل سيارة بخمسين ألفاً فمعناه أنه لو أخذ السيارة السليمة فإنه سيستعيد نصف دينه، لكن إذا لم يأخذها ودخل مع الآخر فإنه سيتحصل على ما يقرب من ربع الدين وهو خمسة وعشرون ألفاً؛ لأن السيارة ستباع ويكون له نصف المبيع وهو الشيء ونصفه، وهو القيمة التي ذكرناها، وهي ربع الصفقة خمسة وعشرون ألفاً.

فالأفضل له أن يأخذ السيارة ويبقى له نصف الدين أسوة مع الغريم الآخر.

وعلى هذا: إذا كان النقص على هذا الوجه فإنه يضمنه المشتري.

الحالة الثالثة: أن يكون النقص بسبب أجنبي، فمذهب طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- أنه إذا أتلف جزءاً من السيارة، فإن الضمان حينئذٍ يكون على الأجنبي، ثم يخير مالك السيـارة بين الرجـوع على المشتـري أو على الأجنبي الذي أتلف.

حكم من وجد متاعه بزيادة عند المفلس

إذا تغير المبيع بالزيادة كجارية حملت أو سمنت، أو اشترى منه بقرة أو ناقة أو شاة وحسن حالها وصلح، فإنه إذا كانت الزيادة متصلة لا يمكن فصلها عن المبيع؛ فإنه يردها، ولا يطالب بقدر تلك الزيادة؛ لأنها كانت على ضمانه.

وأما إذا كانت الزيادة منفصلة فاختلف العلماء رحمهم الله، وقد قدمنا هذا في مسألة خيار العيوب هل تكون تابعة للمبيع أم لا، والأشبه والأقوى أن تكون غير تابعة للمبيع وذلك على حديث المصراة الذي ذكرناه.

حكم المطالبة بعين المتاع إذا وجد بعد موت المفلس

يبقى معنا من مسائل الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس) لو أن هذا الرجل وهو المفلس مات، فقال طائفة من العلماء: إنه إذا مات فحينئذٍ يصبح مالك المتاع مع الغرماء سواءً بسواء، أي: يشترط شرط آخر لاسترداد المتاع وهو ألا يموت المفلس، فإن طالب بمتاعه بعد موت المفلس فإن المال ينتقل للورثة وحينئذٍ يكون أسوة مع الغرماء، وهذا ما اختاره المصنف -رحمه الله- وطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليهم.

والصحيح ما ذهب إليه جمع من أهل العلم: أنه إذا مات فإنه يستحق الرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس).

فأثبت بظاهر الحديث للمالك الحقيقي -الغريم- أن له اليد على متاعه إن وجده بعينه، ثم الموت لا يوجب النقل؛ لأن الله تعالى قال في كتابه في الميراث: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11] فجعل ملكية المال للورثة بعد الوصية والدين.

وعلى هذا فالدين يمنع انتقال المال للورثة، وعلى هذا تتعلق ذمة الميت بسبب هذا الدين، وسنبين -ذلك إن شاء الله تعالى- في مسألة: هل يحل الدين بالموت أو لا يحل، وهي الجملة التي تلي هذه الجمل.

والذين قالوا: إنه إذا مات تسقط المطالبة؛ استدلوا بمرسل أبي داود رحمه الله، وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن مات فهو أسوة الغرماء) ولكنها رواية ضعيفة، والأصل بقاء الحديث على ظاهره، ولم تصح رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ.

الصورة الأولى: مثال هذه المسألة: رجل باع سيارة لرجل ثم أفلس، فإذا كانت السيارة بعينها ولم يتصرف بها، أي: لم يتغير فيها شيء بالزيادة أو بالنقص ولم يدفع شيئاً من ثمنها، كما هي الشروط المعتبرة في هذا المال فإن من حق صاحب السيارة أن يقول: هذه السيارة سيارتي، ويثبت ذلك، ثم يأخذ السيارة بعينها لقاء دينه، فيسقط كامل دينه الذي له من قيمة هذه السيارة.

فلو أن هذه السيارة اشتراها المفلس بعشرين ألفاً فإننا نقول: خذ السيارة، والعشرين ألفاً قد انتهت؛ لأن ذلك إلغاء للبيع الذي وقع بين المفلس والغريم.

وعلى هذا يشترط أولاً: أن يجد عين المتاع، فلا يجد -مثلاً- مثله، فلو وجد مثله فليس من حقه أن يطالب به.

وثانياً: ألا يكون قد أخذ شيئاً من قيمته، فلو دفع المفلس بعض القيمة فإنه لا يستحق أن يطالب بعين المتاع، والدليل على ذلك ظاهر الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) ولم يقل: وليرد ما أخذ.

فدل على أنه قد عاوضه وساومه على ذلك البيع دون أن يدفع له مقدماً أو شيئاً من ثمنه، فإن دفع شيئاً من ثمنه فجماهير العلماء على أنه لا يستحق الرد.

وأما بالنسبة لهذا المتاع كالسيارة أو الأرض أو العمارة إذا وجدت بعينها، فإما أن تكون قيمتها مساوية لقيمة بيعها، مثال ذلك: لو أن رجلاً اشترى سيارة بمائة ألف ثم أفلس بعد شهرين من البيع، أو اشتراها بمائتي ألف وأفلس بعد سنة والسيارة قيمتها مائة ألف لم تختلف؛ فحينئذٍ لا إشكال وسيطالب بسيارته؛ ولو لم يطالب بالسيارة فسيدخل ضمن الدين ويكون له بعض قيمتها وليس الكل، أي: سيدخل مع الغرماء مشاركاً لهم، والأفضل له أن يأخذ السيارة ويبيعها بدل أن يتركها حتى تكون أسوة للغرماء.

فالحالة الأولى: أن تكون القيمة لم تختلف، فالحكم أنه إذا رضي صاحب المتاع وطلب صاحب المتاع أن ترد له ردت.

الحالة الثانية: أن تكون القيمة أكثر، فلو أن هذه السيارة باعها الرجل أو الغريم بمائة ألف، ثم اشتراها المفلس ديناً إلى نهاية السنة وقبل نهاية السنة حجر عليه، فلما تمت سنة لهذه السيارة أصبحت قيمتها مائة وخمسين ألفاً، أي أنها زادت بمقدار الثلث، فمن حقه أن يطالب بعين السيارة ولو أصبحت بأغلى مما بيعت به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) ولم يفصل بين كونه أغلى أو أرخص أو مساوياً، فأخذ جمهور العلماء من هذا دليلاً على أنه يستحق رد السيارة غالية أو رخيصة وكأنه إلغاء للبيع الأول.

الحالة الثالثة: أن تكون قيمة السيارة أنقص، كأن يبيعه إياها بمائة ألف وتصبح قيمتها ثمانين ألفاً أو تسعين ألفاً أو سبعين ألفاً، فنقول له: أنت بالخيار بين أن تدخل أسوة للغرماء في أمواله على قدر دينك، وبين أن تأخذ السيارة لقاء دينك الذي هو قيمة السيارة، ولا شيء لك من قيمة السيارة، وهذا على ظاهر السنة في الصحيحين من حديث أبي هريرة المتقدم.

الصورة الثانية: لو أن هذه السيارة نقص منها شيء أو تغير فيها شيء بالنقص، أو تغير فيها الحال بالزيادة، فلا يخلو النقص إما أن يكون النقص بآفة سماوية أو بسبب من المشتري الذي هو المفلس، أو يكون النقص بسبب من أجنبي، أي: ليس من البائع ولا من المفلس المشتري.

الحالة الأولى: أن يكون النقص بآفة سماوية، كرجل اشترى منه رجل دابة ثم أصابها الشلل، فشلت يمينها أو شلت رجل منها، فهذا النقص حصل بآفة سماوية وليس بتفريط من المشتري -المفلس- وليس من أجنبي.

أو كرجل اشترى منه رجل أرضاً، فجاء السيل واجتاح ثلثها أو نصفها فهذه آفة سماوية.

أو كرجل اشترى منه رجل مزرعة، فجاء إعصار فأحرق ربعها، هذه كلها آفات سماوية، فالسؤال الآن: لو وجد متاعه على هذه الصفة بالنقص فهل يطالب بالرد، ويطالب المشتري بالضمان، أم أنه يأخذ عين المتاع؟

والجواب: أن يقال له: إن كان النقص بآفة سماوية، فإنك تستحق عين المتاع، ولا ضمان في الآفات السماوية على المشتري، لتقريرنا هذا في باب البيع حينما تكلمنا على مسائل العيوب في المبيعات، وأن من حقه أن يستردها دون أن يضمن المشتري.

وبناءً على ذلك فإننا نقول له: أنت بالخيار بين أمرين:

أن تقبل هذه السيارة وهذه الدابة وهذه الأرض معيبة بحالها ما دام أنها بآفة سماوية ولا ضمان في هذه الآفات ويسقط دينك كاملاً، فإذا كانت قيمة السيارة مائة ألف، فإنه يأخذها بعد الخسارة التي فيها بالمائة ألف على أنه رد لعين المتاع، فيصبح كأنه إلغاء للبيع الماضي أو البيع السابق على أن لا تكون هناك مطالبة بالمال الذي بيعت به السلعة.

الحالة الثانية: أن يكون النقص بسبب المشتري -المفلس- ففي هذه الحالة إذا كان النقص بسبب المفلس فمذهب طائفة من العلماء -رحمهم الله- أنه إذا حصل النقص بإتلاف للجزء ففيه تفصيل:

إما أن يمكن فصل المبيع، كأن يكون اشترى منه سيارتين كل سيارة بخمسين ألفاً فأتلف المشتري -المفلس- إحداهما وبقيت الثانية؛ فحينئذٍ نقول له: خذ الثانية بقيمتها من أصل البيع، أي: أنت بالخيار، إن أردت أن تأخذ متاعك فتأخذ الباقية وهي السيارة، فلو كانت قيمة السيارتين مائة ألف، إحداهما بخمسين والثانية بخمسين وأتلف إحداهما قالوا: من حقه أن يأخذ الثانية بخمسين ألفاً وتسقط الخمسين، وهذا مبني على مسألة تفريق الصفقة.

فالسيارتان في صفقة واحدة، لكن يفرق بينهما بوجود العيب في الثانية، فيبقى ضمان الثانية على ملك المفلس، فيأخذ خمسين ألفاً ويأخذ السيارة لقاء خمسين ألفاً، وتبقى ذمة المفلس مشغولة بالخمسين الباقية، وقد يكون الأحظ له والأفضل أن يفعل هذا؛ لأنه لو كان هناك رجلان كل منهما له مائة ألف على المفلس، فهو في هذه الحالة إذا كانت له مائة ألف مقسومة بين السيارات كل سيارة بخمسين ألفاً فمعناه أنه لو أخذ السيارة السليمة فإنه سيستعيد نصف دينه، لكن إذا لم يأخذها ودخل مع الآخر فإنه سيتحصل على ما يقرب من ربع الدين وهو خمسة وعشرون ألفاً؛ لأن السيارة ستباع ويكون له نصف المبيع وهو الشيء ونصفه، وهو القيمة التي ذكرناها، وهي ربع الصفقة خمسة وعشرون ألفاً.

فالأفضل له أن يأخذ السيارة ويبقى له نصف الدين أسوة مع الغريم الآخر.

وعلى هذا: إذا كان النقص على هذا الوجه فإنه يضمنه المشتري.

الحالة الثالثة: أن يكون النقص بسبب أجنبي، فمذهب طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- أنه إذا أتلف جزءاً من السيارة، فإن الضمان حينئذٍ يكون على الأجنبي، ثم يخير مالك السيـارة بين الرجـوع على المشتـري أو على الأجنبي الذي أتلف.

إذا تغير المبيع بالزيادة كجارية حملت أو سمنت، أو اشترى منه بقرة أو ناقة أو شاة وحسن حالها وصلح، فإنه إذا كانت الزيادة متصلة لا يمكن فصلها عن المبيع؛ فإنه يردها، ولا يطالب بقدر تلك الزيادة؛ لأنها كانت على ضمانه.

وأما إذا كانت الزيادة منفصلة فاختلف العلماء رحمهم الله، وقد قدمنا هذا في مسألة خيار العيوب هل تكون تابعة للمبيع أم لا، والأشبه والأقوى أن تكون غير تابعة للمبيع وذلك على حديث المصراة الذي ذكرناه.

يبقى معنا من مسائل الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس) لو أن هذا الرجل وهو المفلس مات، فقال طائفة من العلماء: إنه إذا مات فحينئذٍ يصبح مالك المتاع مع الغرماء سواءً بسواء، أي: يشترط شرط آخر لاسترداد المتاع وهو ألا يموت المفلس، فإن طالب بمتاعه بعد موت المفلس فإن المال ينتقل للورثة وحينئذٍ يكون أسوة مع الغرماء، وهذا ما اختاره المصنف -رحمه الله- وطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليهم.

والصحيح ما ذهب إليه جمع من أهل العلم: أنه إذا مات فإنه يستحق الرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس).

فأثبت بظاهر الحديث للمالك الحقيقي -الغريم- أن له اليد على متاعه إن وجده بعينه، ثم الموت لا يوجب النقل؛ لأن الله تعالى قال في كتابه في الميراث: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11] فجعل ملكية المال للورثة بعد الوصية والدين.

وعلى هذا فالدين يمنع انتقال المال للورثة، وعلى هذا تتعلق ذمة الميت بسبب هذا الدين، وسنبين -ذلك إن شاء الله تعالى- في مسألة: هل يحل الدين بالموت أو لا يحل، وهي الجملة التي تلي هذه الجمل.

والذين قالوا: إنه إذا مات تسقط المطالبة؛ استدلوا بمرسل أبي داود رحمه الله، وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن مات فهو أسوة الغرماء) ولكنها رواية ضعيفة، والأصل بقاء الحديث على ظاهره، ولم تصح رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ.

قال رحمه الله: [ويبيع الحاكم ماله].

قوله: (يبيع الحاكم) الحاكم: القاضي، وقوله: (يبيع) يعني: يأمر ببيع متاعه، وإذا أراد أن يبيع أو يأمر بالبيع فالجاري عند قضاة الإسلام عادة أنهم يرجعون إلى أهل الخبرة، فالقاضي بنفسه لا يتولى البيع، وإنما يبحث عن أناس من التجار معروفين بالأمانة والصدق والحفظ، فيقول لهم: هذا مال فلان قوموا عليه. فيقومون عليه ويتولون أمره.

وقال بعض العلماء: يشرع للقاضي أن يجعل لمن يتولى بيع المال حظاً من بيت المال. أي: هؤلاء الذين يتولون النظر في أموال المفلسين لبيعها يكونون تابعين للقضاء ويفرض لهم شيء من بيت مال المسلمين.

فإذا قام هؤلاء الذين ينظرون في هذا المال، فالأولى أن يكون المفلس حاضراً، وذلك لكي ينظر الأحظ لماله، ويقام هذا المال بأفضل الأسواق، حتى لا يكون هناك ظلم للمالك الحقيقي، فيلتمس أفضل الأسواق؛ لأن هذا فيه مصلحة للمالك الحقيقي ومصلحة للغرماء حتى تسدد ديونهم.

ثم بعد ذلك يعرض المال للبيع، ولا تقبل الزيادة ممن جاء يساوم ويزيد إلا ممن لا تهمة فيه.

يقول رحمه الله: [ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه]

هذه المسألة أجمع عليها الصحابة -رضوان الله عليهم- كما في قصة العول، فإن امرأة توفيت وتركت زوجاً وأختين، فنصيب الأختين الثلثان، ونصيب الزوج النصف، ولا يمكن أن ينقسم المال عليهم.

فاستشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة رضوان الله عليهم، فأمروه أن يرد المسألة إلى سبع، فقال الزبير رضي الله عنه وأرضاه: (يا أمير المؤمنين ما أرى هذه المسألة إلا كرجل مات وعليه دين عشرة وقد ترك سبعة، فإننا نقسم المال على قدر حصص أصحاب الديون).

توضيح ذلك: مثلاً: عندنا مفلس بعنا متاعه بمليون، والديون التي عليه مليونان، والمليونان كل رجل له نصف مليون، فالمليون التي تحصلنا عليها من البيع ننظر حصة كل غريم من أصل الدين، فالذي له نصف الدين يأخذ نصف المليون التي بيع بها، ثم الذي له النصف الآخر يأخذها.

مثال آخر: لو أن ثلاثة أشخاص لهم دين على رجل تسعين ألفاً، كل رجل له ثلاثون ألفاً، فأصبح كل واحد منهم سهمه ثلث المال فيستحق ثلث الدين، الأول له الثلث، والبقية كل منهما له الثلث.

فلو أن هذا المفلس بيع متاعه بستين ألفاً، فالدين تسعون ألفاً، والستون لا يمكن قسمتها على تسعين، فحينئذٍ ما العمل؟ نقسم الستين ثلاثة أثلاث، ويعطى كل واحد منهم ثلثاً -عشرين ألفاً- فيأخذ كل واحد منهم الثلث من مال المفلس؛ لأن هذا هو حقه في أصل الدين أنه يستحق الثلث.

ولو كان هناك ثلاثة أشخاص أحدهم له نصف الدين، والثاني له الربع، والثالث له الربع، فحينئذٍ تقسم المال الذي نتج عن البيع على أربعة، تعطي من له النصف اثنين من أربعة الذي هو النصف، وتعطي من له الربع كل واحد منهما واحداً من أربعة، وهذا معنى يقسم على قدر دينهم.

قال رحمه الله: [ولا يحل مؤجل بفلس]

في هذه المسألة قصد المصنف أن يبين أن الحكم بفلس المديون لا يستلزم حلول الدين المؤجل، فلو أن رجلاً مفلساً عليه مائة ألف، خمسون منها قد حلت ويثبت بها الحجر، وخمسون منها تحل بعد السنة، وكان عنده بيت قيمته ثلاثون ألفاً، فحينئذٍ طالب أصحاب الدين بأن يحجر عليه، فنحجر عليه لقاء أصحاب الخمسين الحالة.

لكن لو جاء صاحب الدين الذي لم يحل بعد، فهل من حقه أن يزاحم أصحاب الديون الحالة، أم ينتظر حتى حلول أجل دينه؛ لأن الضرر قائم عليه؛ لأنه لو بيع البيت صار غريمه مفلساً؟

والجواب: قول المصنف: (ولا يحل مؤجل بفلس) أي: أنه إذا حكم بفلس إنسان فإنه لا تحل الديون المؤجلة عليه، هذا بالنسبة لمسألة حلول الدين.

والسبب في هذا: أن صاحب الدين قد رضي بتأجيله فلا يحكم له قبل وقته، ونحن ذكرنا في الحجر على المفلس أنه يشترط في الحجر عليه أن يكون الدين قد حل، فإذا كان دينه لم يحل فليس من حقه المطالبة.