شرح زاد المستقنع باب الرهن [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب الرهن].

هذا الباب يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وذلك أن المداينات إذا وقعت بين الناس، قد يحتاج فيها صاحب الدين إلى شيءٍ يستوثق به من حقه، وهذا هو الذي يقوم عليه الرهن، فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله أحكام بيع السلم، وأتبعها بأحكام القرض، بين بعد ذلك أحكام الرهن.

والرهون توضع غالباً عند أصحاب الديون، أو من يقوم مقامهم من الوكلاء والأمناء، الذين يتفق عليهم الطرفان، وهذه الرهون يُقصد منها أن يستوثق صاحب الحق من حقه، فلما فرغ رحمه الله من بيان أحكام الدين، شرع في بيان أحكام الرهن، لتعلقه بباب الدين.

والرهن له معنيان: لغوي واصطلاحي، أما المعنى اللغوي: فإنه يدور حول الدوام والثبات والاستقرار، ومنه قولهم: نعمة راهنة، أي: محبوسة، وماء راهن، أي: راكد دائم ومستقر.

ومن معانيه: المنع والحبس، ومنه قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، أي: مرهونة ومحبوسة بما فعلت من خيرٍ أو شر.

وأما المعنى الاصطلاحي: فقد عرّفه بعض العلماء بقولهم: استيثاق الدين بالعين، ليُستوفى منها عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه.

فقولهم: (ليُستوفى منها)، أي: من العين أو من ثمنها.

وقولهم: (عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه)، هذا قيدٌ مهم، ولذلك ذكره طائفة من الفقهاء رحمهم الله.

وقولهم: (استيثاق الدين بالعين)، معنى هذا: لو أن رجلاً جاءك وقال: أريد منك مائة ألف ريال ديناً، وأنت قد تخاف أن يعجز عن سداد هذا المبلغ، وقد تخشى من مماطلته، أو من عُسره مستقبلاً، وأنت محتاج إلى هذا المال، ولا تستطيع رده، ومن هنا جاز أن تستوثق من دينك بعينٍ تطالبه برهنها، فتقول له: أعطني رهناً، فإذا قلت: أعطني رهناً، فكأنك تريد شيئاً تستوثق به من حقك، فأنت مستعدٌ للدين، وعندك الرغبة أن تدينه وتعطيه المال الذي طلب؛ ولكنك تخشى من عجزه عن السداد أو امتناعه منه، وحينئذٍ تطالب بهذه العين، حتى إذا عجز أو امتنع من السداد، أمكنك أن تبيع هذه العين التي رُهنت لقاء الدين، وتصل إلى حقك، من ثمنها، إما كل حقك، أو بعض حقك على حسب الرهن الذي رضيت به كاملاً أو ناقصاً.

إذا: هذا هو استيثاق الدين بالعين، فعندنا دين وهو المائة ألف ريال، وعندنا عين مرهونة، وهي العمارة -مثلاً- فاستوثق صاحب الدين بالعين وهي العمارة، والأصل بينهما أنه إذا عجز عن السداد وحضر الأجل، فإنه يحق لصاحب الدين أن يبيع العمارة، أو يكون ذلك عن طريق القضاء، فيرفع أمره إلى القاضي، أو بدون قضاء، كأن يقول المديون له: إذا لم أسددك في محرّم فبع العمارة وخذ حقك، فيقول: قبلت، فحينئذٍ استوثق من دينه بالعين، لكي يستوفي من العين في حال عجزه عن السداد.

ولذلك عندما يُقال: ليُستوفى منها، هكذا بإطلاق، هذا خطأ؛ لأنه قد يسدد المديون الدين، وحينئذٍ لا نحتاج إلى بيع العمارة، إذاً القيد الذي ذكروه في التعريف: عند العجز عن السداد أو الامتناع منه، قيد مهم؛ لأنه لا يتدخل صاحب الدين في هذه العمارة فيبيعها ويتصرف فيها، إلا إذا عجز المدين أو امتنع من سداده حقه.

مشروعية الرهن

الرهن مشروع وجائز، وقد دل على جوازه دليل الكتاب، ودليل السنة، وإجماع الأمة، فإن هذا النوع من المعاملات المالية شرعه الله في كتابه، فقال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فقوله سبحانه: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، يدل دلالة واضحة على أنه إذا أراد صاحب الدين أن يستوثق بدينه بالعين وبالرهن فإن ذلك مشروع وجائز.

كما دل دليل السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كما في الصحيح من حديث أنس : (أنه عليه الصلاة والسلام توفي ودرعه مرهونة في آصُعٍ من شعير، استدانها عليه الصلاة والسلام من يهودي)، فقد استدان من اليهودي هذا القدر من الطعام، ورهن عنده درعه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

وقال عليه الصلاة والسلام: (الرهن محلوبٌ ومركوبٌ بنفقته)، فبيَّن أحكامه وآثاره، فدلّت هذه السنة على مشروعية الرهن، وقد كان الناس في الجاهلية يرهنون، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقرّهم على ذلك، فاجتمع دليل الكتاب ودليل السنة القولية والفعلية والتقريرية.

أما دليل الإجماع: فإن العلماء رحمهم الله قد أجمعوا على أن الرهن مشروع، لكنهم اختلفوا في جواز الرهن في الحضر، فمنهم من يقول: هو مشروعٌ مطلقاً، سواءً كنت في سفر أو كنت في حضر، أي: أنه يجوز للمسافرين أن يرهنوا، ويجوز للمقيمين أن يرهنوا، فلو أن اثنين في داخل المدينة استدان أحدهم من الآخر مالاً، فطلب منه رهناً، شُرع ذلك.

وقال بعض السلف -كما هو قول مجاهد وغيره-: إن الرهن لا يجوز إلا في السفر، وهو قول ضعيف؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، ورهن في الحضَر، فدلّ على مشروعية الرهن في داخل المدن، وأنه لا يختص جوازه بالسفر على ظاهر القرآن، والجواب عن آية البقرة، وهي آية الدين: أنها جاءت بالوصف الغالب، والقاعدة في الأصول: أن النص إذا خرج مخرج الغالب، فإنه لا يعتبر مفهومه، بمعنى: أن الآية بيّنت حكم الرهن في السفر؛ لأن الغالب أن الرهن يُحتاج إليه في الأسفار، وأما بالنسبة للحضر، فغالباً ما يكون التعامل بين الأشخاص الذين يأمن بعضهم ببعض ويثق بعضهم بعضاً، وتكون التجارات بينهم حاضرة في الغالب، والنص -كما سبق- إذا خرج مخرج الغالب لم يُعتبر مفهومه. أو نقول: دل الكتاب على مشروعية الرهن في السفر، ودلّت السنة على مشروعية الرهن في الحضر، فهذا نوع من الرهن، وهذا نوع من الرهن، فلا بأس أن يرهن في الحضر، كما لا بأس أن يرهن في السفر.

الحكمة من مشروعية الرهن

المسألة الثانية: إذا عرفنا أن الرهن مشروع وجائز بإجماع المسلمين، وبهذه الأدلة الشرعية، فقد شرع الله عز وجل الرهن للناس لحكم وفوائد عظيمة، منها: أن صاحب الدين يستوثق بدينه، وهذا يجعله في طمأنينة، ومن هنا لما وُجِد الرهن في الشريعة الإسلامية، وأمكن للمسلم أن يجد شيئاً يحفظ به ماله، أو يحفظ به حقه عند العجز عن السداد، فإن هذا يشجع الناس على الدين، ويجعل الثقة بينهم قوية، ومن هنا يكون صاحب الدين في مأمن من ضياع حقه.

ومن حكم هذا النوع من المعاملات: تسهيل المداينات، وإذا سهُلَت المداينات انتفع أفراد المجتمع، وهذا فيه نوع من التكافل، ونوع من التراحم والتعاطف؛ لأن المسلم إذا وجد من يعطيه المال في ساعة الحاجة، فإنه يشكره ويحبه ويذكره بالخير، وهذا يجعل القلوب يعطف بعضها على بعض، ويحب المسلمون بعضهم بعضاً.

فمن هنا استوثق صاحب الحق من حقه، وانتفع أفراد المجتمع، فانتشر بينهم الدين، وهي مصلحة دنيوية؛ حيث يقضون مصالحهم الدنيوية، ومصلحة دينية؛ لأنها تُحدث شيئاً من المحبة والألفة والأخوَّة، والشعور بالرحمة والمودة والتعاطف بين أفراد المجتمع، خاصة المعسر والضعيف إذا انتابته النوائب، ووجد من يفرج كربته بعد الله عز وجل بإعطائه المال.

ومن الحكم: أن المدين إذا كان لديه رهن، فإنه يحفظ ماء وجهه، ويمكنه أن يستدين ممن شاء، فيقول له: أعطني المال وهذا رهن لقاء مالك، ولقاء دينك، وحينئذٍ يتمكن من الوصول إلى بغيته وحاجته بالدين، أي: أن الشرع يمكِّنه من حاجته، ويمكِّنه من سد عوزه وفاقته عند النوائب، وذلك عن طريق استيثاق الدين بالعين، فإنه إذا شعر أنه يخاطب الناس بما يضمن حقوقهم، أمكَنه أن يسألهم حاجته، ولا شك أن الرهن محقق لهذه الفائدة العظيمة.

ومن الحكم: أن في الرهن عدلاً وقطعاً للتلاعب بالحقوق، فإن المديون إذا دفع العين، سواءً كانت سيارةً أو أرضاً أو طعاماً، وجعلها رهناً؛ فإنه ربما كان متلاعباً بحقوق الناس، ويريد أن يأكل أموال الناس، فإذا وضع الرهن انقطع السبيل عنه، ومُنِع من التلاعب بحقوق الناس، فإذا جاء من يتلاعب بحقوق الناس ليستدين؛ قيل له: ادفع الرهن، فإذا دفع الرهن؛ فإن معنى ذلك أنه لا يستطيع أن يضيع حق صاحب الحق. ومن هنا فإن شرعية الرهن تقطع وتمنع من التلاعب، ومتى ما قيل لك: إن فلاناً لا يسدد، أو إن فلاناً يتلاعب بالحقوق، أو إن فلاناً مماطل أو نحو ذلك، فإنه إذا جاء يطلبك ربما أحرجك، وربما جاءك بشخص لا تستطيع رد شفاعته، فحينئذٍ أعطاك الشرع شيئاً تضمن به حقك، فتقول له: أعطني رهناً، لا مانع عندي أن أعطيه الدين، ولكن بشرط أن يعطيني رهناً لقاء حقي، فإذا قلتَ: أريد الرهن؛ لم يعاتبك أحد، ولم يستطع أحد أن يصفك بالظلم؛ لأنك لا تطالب أكثر من حقك، وعلى هذا: فلا شك أن في الرهن الخير الكثير.

ومن الحكم: أن في الرهن منعاً للأذية والإضرار؛ لأن المديون إذا عجز عن السداد مع عدم الرهن، فإن الخصومة، والأذية تقع بين الناس؛ لكن إذا وُجِد الرهن، فسيقول له: بِع الرهن وخذ حقك، فالرهن يقطع أسباب الخصومة وأسباب النزاع.

وأياً ما كان فإن الله عز وجل شرع الرهن، وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، فهو يعلم ولا نعلم، ويحكم ولا معقِّب لحكمه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].

والحكم من مشروعية الرهن كثيرة والأسرار لا شك أنها موجودة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

أهمية معرفة أحكام الرهن

يقول المصنف رحمه الله: (باب الرهن) أي: كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرهون، وأنت كطالب علم تحتاج أن تبحث هذا الباب، وكدارسٍ في الفقه تحتاج أن تلِمّ بهذه المسائل والأحكام، فإنه يأتيك الرجل ويريد أن يستدين من الناس فتنصحه بالرهن، أو يأتيك الرجل ويريد أن يدين الناس فتنصحه بالرهن، وكذلك أيضاً إذا أراد الرهن سألك: ما الذي يجوز رهنه؟ وما الذي لا يجوز رهنه؟ ثم إذا رُهن هذا الشيء، فهل من حقي أنا صاحب الدين أن أنتفع برهني، أو ليس ذلك من حقي؟ كذلك أيضاً صاحب الدين الذي له الدين على المدين، هل من حقه أن ينتفع بالشيء المرهون عنده، أو ليس ذلك من حقه؟ كذلك أيضاً يسألك لو أن هذا الرهن نما وزاد وكثُر، فهل تكون الزيادة المتصلة أو المنفصلة للدائن والمدين أو تكون لأحدهما؟

هذا كله من المسائل التي يُحتاج إلى بحثها، ومن هنا نجد العلماء رحمهم الله يقولون: باب الرهن.

حكم الرهن وحالات الدائن مع المدين

وحكم الرهن الجواز، فليس بواجب، ولا فريضة، بمعنى إذا أراد الشخص أن يعطي الناس الدين، فإنه لا يخلو من أحوال:

الحالة الأولى: أن يكون الذي يطلب الدين موثوقاً به، فحينئذٍ لا تحتاج إلى رهن، فتقول له: خذ مائة ألف، ومتى ما يسّر الله لك سدادها فسدِّد، وهذا جائز بإجماع العلماء رحمهم الله.

الحالة الثانية: أن يكون الشخص الذي يأخذ منك المال لا تعرفه، أو شخص تعرفه بالمماطلة، وتخاف على المبلغ الذي طلبه منك، فحينئذٍ أنت بالخيار، إن شئت طلبت الرهن، وإن شئت لا تطلب الرهن، والأفضل إذا كنت تعلم أنه محتاج وأنه مكروب، وأن هذا المال الذي يطلبه منك ليس فيه ضرر لو تأخر في سداده، فالأفضل أن تعطيه إياه بدون رهن؛ لأن الرهن يحمِّله المشقة والعناء، وقد يكون الشيء الذي يريد رهنه غير موجود عنده، ومن هنا يُفرَّق في الرهن، فإن كان الذي يريد منك الدين رجلاً عاجزاً، ولا يستطيع أن يعطيك رهناً؛ لأنه ليس عنده شيءٌ له قيمة حتى يضعه رهناً عندك؛ فالأفضل والأكمل أن تديِّنه ولا تطالبه بالرهن، وكفى بالله عز وجل وكيلاً، فإن الله يتكفل بحفظ حقك، وما دمت تعرفه بالصلاح والخير، فإنه إن شاء الله لن يُقصِّر ولن يمتنع في إبراء ذمته. أما إن وجدته مماطلاً، ووجدته رجلاً متلاعباً بحقوق الناس، وأحرجك بالدين، أو جاءك بإنسان لا تستطيع أن ترد شفاعته، فالأفضل في مثل هذا أن توقفه عند حده فتطالبه بالرهن، حتى يكون ذلك مانعاً له من تلاعبه بحقوق الناس، وأدعى لسد الباب من أن يُضر بك في ادعائه الحاجة إلى الدين؛ لأن بعض الناس قد يدعي الحاجة إلى الدين، وهو ليس بحاجة إليه، وقد يطلب الدين وهو لا يريد السداد.

فحينئذٍ يقول العلماء: حكم الرهن جائز، ولكن في بعض الأحيان الأفضل أن لا تطالب بالرهن من الفقير المعدم، ونحو ذلك ممن له فضل عليك، كخاصة القرابة: كالأعمام، والأخوال، ومن لهم حق كبير، فإن طلب الرهن من هؤلاء فيه إجحاف، وأما إذا كان من الصنف الذي ذكرنا؛ فإن الأفضل أن يطالب الإنسان بالرهن، وذلك راجع إليه على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض.

أركان الرهن وشروطه

للرهن أركان:

أولاً: هناك راهن، وهو الشخص المديون.

ثانياً: هناك مُرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، وقد يكون صاحب الدين، أو من يقوم مقامه.

ثالثاً: هناك شيءٌ مرتَهن، وهي العين التي توضع كرهينة.

رابعاً: هناك صيغة. فهذه أربعة أركان:

الراهن، والمرتَهَن، والشيء المرتَهَن، والصيغة التي يقوم عليها الرهن.

أما الراهن فيشترط أن يكون ممن له أهلية التصرُّف في المال، فلو جاءك طفل صغير، وقال لك: أعطني عشرة ريالات، وهذا القلم رهن عندك، فالطفل ليس من أهل التصرُّف، وليس ممن يصح رهنه، فإذا كان الطفل لم يبلغ، فإنه لا يحق له التصرف في المال إلا إذا قارب البلوغ، كما سيأتي -إن شاء الله- في الكلام على الصبي المأذون له بالتجارة. إذاً: الرهن لا يصح إلا من شخصٍ هو أهل للتصرف.

وبناءً على ذلك فلا بد أن يكون بالغاً عاقلاً، فلو أن مجنوناً جاء بسيارةٍ -ولو كان يملكها- أو رجلاً في حال سكره، أو حال تعاطيه لمخدِّر أو نحوه مما يزيل العقل -والعياذ بالله!- جاء ورهن عمارته في دين، أو نحو ذلك، فإن الرهن لا يصح ممن هو ليس بأهلٍ للتصرف.

كذلك يشترط أن يكون له أهلية التصرُّف في الشيء الذي يريد رهنه، فلا يرهن مال غيره، كأن يقول: أعطني سيارتك لأذهب بها إلى مكان ما، فأخذ سيارتك ثم ذهب واستدان عشرة آلاف ريال، ووضع سيارتك رهناً، وحينئذٍ لو ثبت عند القاضي أن السيارة سيارتك، فإنه يُسحب هذا الرهن ويُلغى، ويطالب بالبديل على تفصيلٍ سيأتي إن شاء الله في مسألة فوات الشيء المرتهن.

إذاً لا بد في الشخص الراهن أن يكون أهلاً للتصرُّف.

كذلك بالنسبة للمرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، يشترط أيضاً أن يكون أهلاً للتصرف.

أما بالنسبة للصيغة، فهي الإيجاب والقبول، وهي التي يقوم عليها عقد الرهن، كأن يقول له: أعطني مائة ألفٍ وسيارتي هذه رهنٌ عندك، فيقول: قبلت. فقول الراهن: سيارتي هذه رهن، هذا هو الإيجاب، وقول صاحب الدين: قبِلت، هذا هو القبول.

والشيء المرتهن يشترط فيه أن يكون مما يجوز بيعه، فإذا كان مما يجوز بيعه، فإنه يجوز رهنه، حتى لو قال: خذ كتابي، وقلمي، وساعتي، بل حتى النظارة، كأن يأتي ويشتري من البقالة، ولا يجد شيئاً كبيراً يرهنه، فيضع مثلاً شيئاً له قيمة، كالنظارة ونحوها.

إذاً: لدينا العاقدان، والصيغة التي هي الإيجاب والقبول، والشيء المرتَهَن الذي هو محلٌ للرهن.

وبالنسبة للصيغة يقول بعض العلماء: يمكن أن يقع الرهن بالتعاطي بدل الإيجاب والقبول، فكما أن البيع يقع بالتعاطي، فإنه ينعقد الرهن بالتعاطي دون إيجابٍ ولا قبول.

وقد قدمنا أن البيع يجوز بالتعاطي:

ينعقد البيع بما يـدل على الرضا وإن تعاطى الكل

ومثال التعاطي في الرهن: لو جاء شخص وقال لآخر: أعطني عشرة دراهم ديناً إلى غد، وخذ هذه الساعة، فصاحب الدين أخذ الساعة ولم يقل: قبلت، أو رضيت، بل أعطاه العشرة مباشرة، فبإعطائه العشرة كأنه قال: قبلت أن أديِّنك العشرة، وقبلت الساعة رهناً إلى السداد.

إذاً: يقع الرهن بالأفعال، كما يقع بالأقوال.. هذا بالنسبة لمجمل أركان الرهن.

الرهن مشروع وجائز، وقد دل على جوازه دليل الكتاب، ودليل السنة، وإجماع الأمة، فإن هذا النوع من المعاملات المالية شرعه الله في كتابه، فقال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فقوله سبحانه: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، يدل دلالة واضحة على أنه إذا أراد صاحب الدين أن يستوثق بدينه بالعين وبالرهن فإن ذلك مشروع وجائز.

كما دل دليل السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كما في الصحيح من حديث أنس : (أنه عليه الصلاة والسلام توفي ودرعه مرهونة في آصُعٍ من شعير، استدانها عليه الصلاة والسلام من يهودي)، فقد استدان من اليهودي هذا القدر من الطعام، ورهن عنده درعه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

وقال عليه الصلاة والسلام: (الرهن محلوبٌ ومركوبٌ بنفقته)، فبيَّن أحكامه وآثاره، فدلّت هذه السنة على مشروعية الرهن، وقد كان الناس في الجاهلية يرهنون، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقرّهم على ذلك، فاجتمع دليل الكتاب ودليل السنة القولية والفعلية والتقريرية.

أما دليل الإجماع: فإن العلماء رحمهم الله قد أجمعوا على أن الرهن مشروع، لكنهم اختلفوا في جواز الرهن في الحضر، فمنهم من يقول: هو مشروعٌ مطلقاً، سواءً كنت في سفر أو كنت في حضر، أي: أنه يجوز للمسافرين أن يرهنوا، ويجوز للمقيمين أن يرهنوا، فلو أن اثنين في داخل المدينة استدان أحدهم من الآخر مالاً، فطلب منه رهناً، شُرع ذلك.

وقال بعض السلف -كما هو قول مجاهد وغيره-: إن الرهن لا يجوز إلا في السفر، وهو قول ضعيف؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، ورهن في الحضَر، فدلّ على مشروعية الرهن في داخل المدن، وأنه لا يختص جوازه بالسفر على ظاهر القرآن، والجواب عن آية البقرة، وهي آية الدين: أنها جاءت بالوصف الغالب، والقاعدة في الأصول: أن النص إذا خرج مخرج الغالب، فإنه لا يعتبر مفهومه، بمعنى: أن الآية بيّنت حكم الرهن في السفر؛ لأن الغالب أن الرهن يُحتاج إليه في الأسفار، وأما بالنسبة للحضر، فغالباً ما يكون التعامل بين الأشخاص الذين يأمن بعضهم ببعض ويثق بعضهم بعضاً، وتكون التجارات بينهم حاضرة في الغالب، والنص -كما سبق- إذا خرج مخرج الغالب لم يُعتبر مفهومه. أو نقول: دل الكتاب على مشروعية الرهن في السفر، ودلّت السنة على مشروعية الرهن في الحضر، فهذا نوع من الرهن، وهذا نوع من الرهن، فلا بأس أن يرهن في الحضر، كما لا بأس أن يرهن في السفر.

المسألة الثانية: إذا عرفنا أن الرهن مشروع وجائز بإجماع المسلمين، وبهذه الأدلة الشرعية، فقد شرع الله عز وجل الرهن للناس لحكم وفوائد عظيمة، منها: أن صاحب الدين يستوثق بدينه، وهذا يجعله في طمأنينة، ومن هنا لما وُجِد الرهن في الشريعة الإسلامية، وأمكن للمسلم أن يجد شيئاً يحفظ به ماله، أو يحفظ به حقه عند العجز عن السداد، فإن هذا يشجع الناس على الدين، ويجعل الثقة بينهم قوية، ومن هنا يكون صاحب الدين في مأمن من ضياع حقه.

ومن حكم هذا النوع من المعاملات: تسهيل المداينات، وإذا سهُلَت المداينات انتفع أفراد المجتمع، وهذا فيه نوع من التكافل، ونوع من التراحم والتعاطف؛ لأن المسلم إذا وجد من يعطيه المال في ساعة الحاجة، فإنه يشكره ويحبه ويذكره بالخير، وهذا يجعل القلوب يعطف بعضها على بعض، ويحب المسلمون بعضهم بعضاً.

فمن هنا استوثق صاحب الحق من حقه، وانتفع أفراد المجتمع، فانتشر بينهم الدين، وهي مصلحة دنيوية؛ حيث يقضون مصالحهم الدنيوية، ومصلحة دينية؛ لأنها تُحدث شيئاً من المحبة والألفة والأخوَّة، والشعور بالرحمة والمودة والتعاطف بين أفراد المجتمع، خاصة المعسر والضعيف إذا انتابته النوائب، ووجد من يفرج كربته بعد الله عز وجل بإعطائه المال.

ومن الحكم: أن المدين إذا كان لديه رهن، فإنه يحفظ ماء وجهه، ويمكنه أن يستدين ممن شاء، فيقول له: أعطني المال وهذا رهن لقاء مالك، ولقاء دينك، وحينئذٍ يتمكن من الوصول إلى بغيته وحاجته بالدين، أي: أن الشرع يمكِّنه من حاجته، ويمكِّنه من سد عوزه وفاقته عند النوائب، وذلك عن طريق استيثاق الدين بالعين، فإنه إذا شعر أنه يخاطب الناس بما يضمن حقوقهم، أمكَنه أن يسألهم حاجته، ولا شك أن الرهن محقق لهذه الفائدة العظيمة.

ومن الحكم: أن في الرهن عدلاً وقطعاً للتلاعب بالحقوق، فإن المديون إذا دفع العين، سواءً كانت سيارةً أو أرضاً أو طعاماً، وجعلها رهناً؛ فإنه ربما كان متلاعباً بحقوق الناس، ويريد أن يأكل أموال الناس، فإذا وضع الرهن انقطع السبيل عنه، ومُنِع من التلاعب بحقوق الناس، فإذا جاء من يتلاعب بحقوق الناس ليستدين؛ قيل له: ادفع الرهن، فإذا دفع الرهن؛ فإن معنى ذلك أنه لا يستطيع أن يضيع حق صاحب الحق. ومن هنا فإن شرعية الرهن تقطع وتمنع من التلاعب، ومتى ما قيل لك: إن فلاناً لا يسدد، أو إن فلاناً يتلاعب بالحقوق، أو إن فلاناً مماطل أو نحو ذلك، فإنه إذا جاء يطلبك ربما أحرجك، وربما جاءك بشخص لا تستطيع رد شفاعته، فحينئذٍ أعطاك الشرع شيئاً تضمن به حقك، فتقول له: أعطني رهناً، لا مانع عندي أن أعطيه الدين، ولكن بشرط أن يعطيني رهناً لقاء حقي، فإذا قلتَ: أريد الرهن؛ لم يعاتبك أحد، ولم يستطع أحد أن يصفك بالظلم؛ لأنك لا تطالب أكثر من حقك، وعلى هذا: فلا شك أن في الرهن الخير الكثير.

ومن الحكم: أن في الرهن منعاً للأذية والإضرار؛ لأن المديون إذا عجز عن السداد مع عدم الرهن، فإن الخصومة، والأذية تقع بين الناس؛ لكن إذا وُجِد الرهن، فسيقول له: بِع الرهن وخذ حقك، فالرهن يقطع أسباب الخصومة وأسباب النزاع.

وأياً ما كان فإن الله عز وجل شرع الرهن، وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، فهو يعلم ولا نعلم، ويحكم ولا معقِّب لحكمه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].

والحكم من مشروعية الرهن كثيرة والأسرار لا شك أنها موجودة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.