شرح زاد المستقنع باب القرض [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين، أو يجعلها المدين على صاحب الدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: مشروعة، والثاني: ممنوعة، والثالث: مختلف فيها، والأصل أنه لا يجوز أن يأخذ صاحب الدين على المدين زيادة على دينه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فإذا سُئلت عن قضاء الدين؟ تقول: الأصل أن يرد له دينه دون زيادة أو نقص؛ لأنه إذا زاد فقد ظلم المدين، وإذا انتقص من الدين فقد ظلم صاحب الدين، فأنصف الشرع وعدل بين الطرفين، فأوجب أن يكون الرد مثل المأخوذ دون زيادة أو نقصان، وإذا سُئلت عن دليله؟ قلت: قوله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279].

ثم إن العلماء تكلموا على الفوائد والأمور التي تكون زائدة عن الدين، وفصلوا فيها؛ لأن الشريعة منعت وأجازت، فمنعت من الزيادة في قوله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] وأجازت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قضى الدين وزاد، والشرط في الدين أن يقول صاحب الدين للشخص المدين: أعطيك مائة ألف بشرط كذا وكذا، وهذا الذي يشترطه تارة يكون مالاً من جنس الذي دفع إلى المدين، كأن يقول: أعطيك مائة ألف بشرط أن تردها لي مائة وعشرة، فهذا شرط بزيادة.

وتارة يقول له: أعطيك مائة ألف ولكن بشرط أن تؤجرني دكانك أو تبيعني سيارتك أو عمارتك أو أرضك أو مخططك أو طعامك إلى آخره، فصار قرضاً وبيعاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع.

وبناءً على هذا يقول العلماء: إن الفوائد المستفادة فيها تفصيل: فإن كان صاحب الدين اشترط منفعة زائدة على المدين أياً كانت المنفعة إما بالمال والنقد أو ما يكون مقدراً له قيمة فإنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف) فالزيادة لا تجوز ولو كانت ضمن عقد آخر، فإنه لما نهى عن بيع وسلف، عندما يقول لك: هذه عشرة آلاف بشرط أن تبيعني سيارتك بثمانية آلاف تكون السيارة قيمتها عشرة آلاف، فتتنازل عن الألفين لقاء القرض، وعلى هذا قالوا: لا يجوز الشرط بالمنفعة.

هنا مسألة: وهي وجود المنافع كأن يقول لك: أعطيك مائة ألف مثلاً من الذهب، في القديم الدنانير تحتاج إلى حمل؛ لأنها من الذهب، والذهب يوضع في الأكياس، والأكياس لابد من حفظها، وإذا أعطاه في مكة، وقال: بشرط أن تعطيني المائة ألف في نهاية رمضان في المدينة، فإن حمل الذهب من المدينة إلى مكة فيه مخاطرة ومئونة؛ لأنه يحتاج إلى حمله والاستئجار للدواب لوضعه بها ثم نقله إلى المدينة، فإذا قال: أعطيك مائة ألف في مكة بشرط أن تقضيني إياها في المدينة أو الطائف، فهمنا أنه يريد منفعة السلامة من الخطر، والنجاة من ضمان الحمل.

فإن كان الحمل يكلف خمسمائة ريال مثلاً، فكأنه أعطاه مائة ألف ليردها مائة ألف وخمسمائة.

إذاً: الفوائد تكون ظاهرة وتكون خفية عن طريق المنافع، ومن هنا نهي عن قرض وشرط، فالقرض الذي يكون معه شرط فيه فائدة فهو محرم، فمثلاً: الودائع المصرفية كأن يودِع في المصرف عشرة آلاف على أنها وديعة، فيأخذ عشرة آلاف وخمسمائة بعد أجل مسند، فيشترط عليه المصرف شرطين:

الشرط الأول: أن لا يسحب هذه الوديعة قبل سنة؛ لأن الودائع المصرفية التي عليها فوائد لابد أن تمكث مدة معينة، وكل سنة فيها مثلاً (6%)، فمعناه أنه اشترط عليه بقاءها إلى أجل على أن لا يطالبه قبلها.

وثانياً: أن يعطيه زيادة عليها، فشرط الأجل من المصرف وشرط الزيادة من العميل؛ لأن العميل هو الذي يطالب بالزيادة.

وبناءً على ذلك: إذا كانت القروض تأتي بفوائد عينية كمائة بمائة وخمسة، أو مائة بمائة وعشرة فهذا واضح لا إشكال فيه، وهذا يدعونا إلى دراسة ما يسمى بالوديعة المصرفية؛ لأن الباب باب قرض، وفيه قديم وجديد، وطالب العلم قد يدخل إلى المصرف ويرى كلمة (حساب جاري) ولا يعرف ما معنى ذلك، ويرى مثلاً: الودائع بفوائد، وهو لا يدري عنها، فلابد أنه يعلم الحكم والموقف الشرعي من هذا النوع من القرض، فنحتاج إلى مسائل:

المسألة الأولى: هل الوديعة المصرفية قرض أو وديعة حقيقية؟

فإن كانت وديعة سنبحثها في باب الودائع، وإن كانت قرضاً فسنبحثها هنا؛ لأننا في باب القرض.

فما هي أنواع الودائع المصرفية، وما هي أحوالها وأمثلتها، وما موقف الشريعة الإسلامية من كل مثال وحالة؟

أما بالنسبة للوديعة المصرفية فصورتها أن يأتي العميل بمبلغ معين قليلاً كان أو كثيراً ويدفعه إلى المصرف، ونحن نعبر بالمصرف؛ لأنها أفصح من عبارة (بنك) وهي أوضح في الدلالة، وإن كان في المصطلح الاقتصادي الموجود اليوم يوجد فرق بين مصطلح البنك وبين مصطلح المصرف، لكن إذا قلنا: مصرفية تشمل المصرف بمعناه أو البنك بمعناه.

الوديعة المصرفية يقوم العميل فيها بوضع مبلغ معين، وهذا المبلغ المعين يكون فيه اتفاق بين المصرف وبين العميل، ففيه طرفان: موُدِع: الذي هو العميل، وموُدَع عنده: الذي هو المصرف، على أن يلتزم المصرف بحفظ هذا المبلغ ويلتزم بأدائه للعميل متى طلبه، لكن في بعض الأحوال يتفقان على مدة معينة كما ذكرنا، والسؤال: هل وضع مائة ألف مثلاً في المصرف نعتبره وديعة أم قرضاً؟

إن أي مسألة عصرية إذا جئت تبحثها بحثاً فقهياً منهجياً أول ما يجب عليك أن تأخذ الألفاظ وتدرس معانيها، ثم هذه المعاني الموجودة في واقعك ومعيشتك وعُرفك وبيئتك على حسب ما يفهمها الناس أو يتعاملون بها، هل تتفق مع المصطلحات الشرعية أو تختلف؟ فإن قالوا: وديعة، فالعلماء وضعوا للوديعة تعريفاً ومصطلحاً معيناً، فطبق المصطلح على الحقيقة والواقع، فإن اتفق أعطيتها حكم الوديعة، وإن اختلف بحثت ما هي حقيقته ولم تغتر بالاسم الظاهر، إذاً: لو جاءوا وسموا معاملة ما بيعاً، فنقول: ما هي حقيقة البيع؟ مبادلة المال بالمال، فهل هذا مال مبادل بمال؟ إذاً: فهو بيع، لكن لو كان منفعة بمال فهو إجارة، فالناس قد يخطئون في التعبير بقصد أو غير قصد.

فالوديعة في الشريعة تقوم على حفظ المال وأدائه بعينه دون تصرف فيه، فإذا جاءك بكيس ووضعه عندك وديعة، فمعناه أنه ينبغي أن تحفظ نفس الكيس وما فيه؛ لأنك أمرت بحفظ هذا الشيء بعينه دون أن تتصرف فيه، قالوا: فلو فتح الكيس انتقلت الوديعة من كونها وديعة إلى كونها قرضاً ويضمن؛ لأن الوديعة تستلزم أن تحفظ المودع بعينه وترده بعينه، فإن أخذ المال بأن أعطاك إياه خمسمائة ريال فأخذت الخمسمائة بعينها ووضعتها في الدرج وقفلت عليها: وكتبت عليها هذه وديعة فلان بن فلان، فجاءك بعد عشر سنين وأعطيته العين نفسها، فهذه وديعة، ولو أنك وضعتها فاحترق الصندوق والبيت واحترقت هذه الفلوس بهذه الطريقة التي لم تتصرف فيها لم تضمن؛ لأن يدك يد أمانة.

إذاً: كل شيء له في الشرع ضوابط، فلا يسير الإنسان على تعبيرات الناس وأهواء الناس، وهذا الفقه عُصارة أذهان أكثر من عشرة قرون، والعلماء يتعبون ويسهرون ويكدحون من أجل إعطاء كل ذي حقٍ حقه، فإذاً: عندما نقول: وديعة فعندنا ضابط معين، وهو أن يستلزم منك ذلك حفظ عين الشيء وأداءه بعينه متى ما طلبه دون مماطلة أو تأخير، فلو أن الإنسان جاء بالعشرة آلاف ووضعها في المصرف فهل يلتزم المصرف بحفظ عين المال ورد العين أم بحفظه ورد مثله؟

الجواب: رد المثل، ولا يوجد مصرف يأخذ منك عين المال ويرد لك عين المال، وإنما يأخذ ويعطي بدلاً عنه.

ولذلك ينبغي أن نتنبه إلى أن التسمية بالوديعة ليست صحيحة من ناحية شرعية، بل حتى في القوانين الوضعية، وفي العرف الاقتصادي الموجود المعاصر يسمون الودائع المصرفية قروضاً، وإنما سميت وديعة على حسب ما يقصد من هذا، سواءً كانت تسمية ظاهرة أو غير ظاهرة، حتى يقول: إن الوديعة مشروعة، وإذا كانت الوديعة مشروعة في الأصل؛ فإنه يترتب عليها نوع من إضفاء الشرعية على هذا الشيء.

وبناءً على ذلك: لا يمكن أن نحكم بكون الوديعة المصرفية وديعة بمعناها الشرعي الصحيح، حتى نفس العرف الاقتصادي يسلم بأن الودائع قروض، وإذا احترقت المصارف وصار عليها عارض ليس بيدها، فإنها تضمن المال الذي أودع فيها؛ لأنها لا تأخذ حكم الودائع.

إذا ثبت أن الوديعة المصرفية دين فهي قرض، وتكون معنا في الباقي على نفس الدراسة التي درسناها، فأصبحت المعاملة في الحقيقة على أن يدفع له المال ويرد له مثله، هذا من حيث الشكل العام والمضمون العام في الودائع، وإذا ثبت هذا فمعناه أنك تبني عليه جميع الأحكام الشرعية المبنية على القروض، وهذا يستلزم أن نقسم الودائع المصرفية إلى أقسام.

القسم الأول: الوديعة المستندية.

القسم الثاني: الحساب الجاري.

القسم الثالث: الودائع بالفوائد.

القسم الرابع: شهادات الاستثمار.

الوديعة المستندية

أما بالنسبة للوديعة المستندية فمن الممكن أن نسميها وديعة شرعية، وهذه الوديعة حقيقتها: أن يقوم العميل باستئجار صندوق معين في المصرف أو البنك، ويمكنه البنك من مفتاحه، على أن يضع فيه وثائقه ومستنداته، ويتكفل البنك بحفظ هذه الودائع والمستندات، ويمكن العميل من أخذها في أي وقتٍ شاء، على أن يدفع أجرة معينة على حسب المتفق عليه، وهذا النوع موجود الآن في بعض المصارف الكبيرة، ويسمونها مستندية؛ لأن الغالب أنها تستأجر من أجل المستندات، يكون التاجر عنده صكوك يخشى عليها السرقة أو الاحتراق أو التلف، أو عنده وثائق معينة لأعماله فيخشى أن يطلع إنسان عليها فتفسد تجارته، فيأتي ويستأجر هذا الصندوق ويحفظ فيه وثائقه ويقفله ويأخذ المفتاح، ومتى ما جاء التزم المصرف بتمكينه من أخذ ما شاء من هذا المكان.

إذاً: لو سألت هذا الصندوق الذي يضع فيه العميل حوائجه، هل يأخذ عين المودع أم مثله؟ الجواب: يأخذ العين، وهل أحد يتصرف في هذه العين غيره؟ لا. إذاً: هي وديعة وتأخذ حكم الوديعة الشرعية، لكن السؤال: اتفاق المصرف مع العميل على أن يدفع مبلغاً معيناً شهرياً أو سنوياً هل هو جائز أم ممنوع؟

يمكننا أن نقول: إنها إجارة؛ لأنه استأجر المصرف لحفظ هذا المبلغ خلال المدة المتفق عليها، وبناءً على ذلك يسري عليه ما يسري على الإجارة الشرعية؛ لأنك قد تستأجر شخصاً من أجل أن يحفظ لك مزرعتك أو يحفظ لك دوابك.

فالإجارة من أجل الحفظ مشروعة بالإجماع؛ لأن القاعدة أن الإجارة تجوز على كل منفعة مباحة، كذلك حفظ الصكوك والمستندات مباح فإذا استأجره لحفظها كان مباحاً، وبعض الناس يأخذ هذه الصناديق ويضع فيها مجوهرات وحلياً ونفائس موجودة عنده ويخشى عليها السرقة فيضعها ويقفل عليها، ويأتي ويأخذ عين المجوهر وعين الشيء الذي له، وهذا يأخذ نفس الحكم، سواء استأجرها للوثائق وللمستندات أو للجواهر أو للحلي، بل حتى لو جاء ووضع ماله في هذا الصندوق وأخذه بعينه فإنه جائز ومشروع؛ لأنها وديعة شرعية دون أن يختلط ماله بمال الغير، ودون أن يسري عليه أي شبهة أو أي محصول.

إذاً: الوديعة المستندية جائزة ومشروعة؛ لأنها عقد إجارة على منفعة مباحة، وشروط الإجارة مستوفية، فهي إجارة على منفعة مباحة، في مدة معلومة، وبثمن معلوم، واستوفت جميع الصفات المعتبرة شرعاً.

الحساب الجاري والودائع بالفوائد

القسم الثاني: الحساب الجاري، وحقيقته أن يقوم العميل بدفع مبلغٍ معينٍ للمصرف، ثم يلتزم المصرف تجاه هذا المبلغ المعين أن يمكن العميل من سحبه كله أو بعضه أي وقتٍ شاء، سواءً سحبه أصالة أو وكالة، والحساب الجاري في الحقيقة له ثلاث صور.

الصورة الأولى: أن يدفع المبلغ، فيسحب على قدر مبلغه دون أن يزيد أو ينقص.

الصورة الثانية: أن يدفع المبلغ ويعطيه المصرف زيادة إذا بقي المبلغ دون أن يطلبها هو، لكن إذا مضت فترة معينة حتى لو لم يقصد، فمثلاً: وضع مائة ألف على أساس أن يسحبها بعد شهر ثم تأخر سحبه إلى ثلاثة أشهر، وبعض المصارف تعطي فائدة على مدة بقائها ثلاثة أشهر، ولو لم يكن هناك اتفاق مسبق من باب المكافأة على وضعها هذه المدة، ففي هذه الحالة يكون المستفيد هو العميل، والاستفادة وقعت بدون شرط، إنما أعطاه المصرف من باب المكافأة على بقاء المبلغ هذه المدة، وهذا يقع في الخارج خاصة في أوروبا، فبعض البنوك تكافئ من يودع عندها مدة معينة ويكون المبلغ كبيراً فتجعل له الزيادة (6%) على بقائها ثلاثة أشهر دون أن يسحب أو ينزل رصيده عن حدٍ معين؛ لأنهم يستغلون هذه الأموال، ويحسون أن هذا الاستغلال لابد أن يرد فائدة، وهذا في نظرتهم.

الصورة الثالثة من الحساب الجاري: وهو العكس وهذا يقع في الدول الفقيرة، بخلاف النوع الثاني فهو يقع في الدول الغنية التي فيها ثراء والسيولة فيها كثيرة.

أما النوع الثالث فمثلاً: إذا دفع مبلغاً وبقي في المصرف أو البنك مدة وضعوا عليه ضريبة، فإذا جئت تسحب المال، ودفعت مائة ألف ومكثت سنة، فإنهم يأخذون ألفاً، فتأخذ تسعة وتسعين ألفاً.

إذاً الحالة الأولى: إذا دفع المبلغ ثم سحب مثله والتزم أن يعطى قدر مبلغه دون زيادة أو نقصان، فهذا قرض ليس فيه فائدة، وليس هناك شرط فائدة ولا زيادة ولا ربا، ومن حيث الأصل العام إذا أعطى شخص شخصاً مائة ألف وجاء وسحب كل المال، أو التزم الطرف الثاني وقال له: يا فلان! خذ المائة ألف هذه قرضاً، قد أبعث لك شخصاً في أي ساعة يسحبها كلها أو بعضها فأعطه، فهذا جائز، والأصل يقتضي الجواز، لكن الإشكال من كونه ذريعة معينة على الحرام، فإنه إذا كان يعطي المال للمصرف فهذا يفصل فيه، فإن كان تعامل المصرف يكون بشيء محرم كان وضعه على هذا الوجه معونة على الحرام، فلا يجوز، وإن كان لا يتعامل بالحرام كان جائزاً؛ لأنه يدفع المبلغ ثم يأخذه دون زيادة أو نقصان.

أما الحالة الثانية: إذا كان المصرف يعطيه الزيادة بدون موعد ولا عِدة، فهل يجوز ذلك؛ لأن: (خير الناس أحسنهم قضاءً) ؟ الجواب: إذا جئنا ننظر إلى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ورده خياراً رباعياً) نقول: يجوز، لكن المشكلة أن هذه العوائد تركبت من ديون بالآجال عليها فوائد، فهو يعطي لأشخاصٍ ديناً، ويأخذ عوائد هذا الدين باقتراضهم منه لكي يصرفها في الفوائد، وبناءً على ذلك صار أصله من حرام، فنقول: إن هذا الوجه يقتضي التحريم.

الوجه الثاني: لو قال قائل: يجوز في الحساب الجاري، لو سافر إلى بلد غني ووضع مليوناً، ثم سحب الحساب الجاري المليون وأعطي مليوناً وعشرة، نقول: لو قيل: إن هذا من باب مكافأة الدين لم يصح، أولاً: لأنه عائد من حرام والفرع تابع لأصله، وثانياً: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فلما جرت عادة المصرف بأنه يكافئ على الوضع فيه، فكأنه حينما أودع فيه اشترط مسبقاً على المصرف أن يكافئه، وهذا عين المحرم؛ لأن كل شرطٍ جر نفعاً فهو ربا، والإجماع منعقد كما حكاه ابن المنذر والإمام ابن قدامة وغيرهم على تحريم ذلك.

إذاً: مسألة وضع المال وإعطاء الفائدة بدون شرط مسبق، يصح تحريمها من وجهين:

الوجه الأول: أن عائده من حرام والفرع تابع لأصله.

الوجه الثاني: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ولفظاً كما يقول بعض العلماء، فكأنه حينما جرت عادة المصرف بذلك فإنه يكون عند وضعه للمال كأنه قد رضي بذلك وطلبه فينزل منزلته.

وهنا سؤال: لو أن شخصاً جاء ووضع المال في هذا النوع من المصارف، فدفع مائة ألف فأعطي أرباحاً (مائة وخمسة)، فهل يتركها أو يأخذها؟

الجواب: عندنا نصوص في الكتاب والسنة نرجع إليها إذا جئنا نحكم في المسائل ونركب بعضها على بعض، وقد أثبتنا أن الوديعة والحساب الجاري يعتبر قرضاً، والله تعالى يقول في القرض: فَلَكُمْ [البقرة:279] أي: هذا الذي تتملكونه وهو من حقكم: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فهو إذا سحب رصيده حينئذٍ يكون قد حقق المأمور به شرعاً، لم يظلم ولم يُظلم، وهذا بالنسبة للأصل العام، أنه إذا سحب رصيده وأصل ماله فإنه لا يظلم ولا يُظلم والنص آمر بذلك وملزم به، ودال على أنه إذا أخذ الزائد عنه فقد أخذ الحرام.

وقد يقول قائل: لو أخذ الزيادة واستفاد منها بإنفاقها في مشروع خير أو نحو ذلك، لكان أفضل من بقائها، خاصة وأنها إذا بقيت ربما أخذت لأمور تضر بالمسلمين، فهل يأخذها ولا يتركها؟

نقول: هذا اجتهاد في مقابل النص، والنص يقول: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] ثم لما اجتهدوا هذا الاجتهاد، وقالوا بجواز أخذ المال مع زيادة عادوا فقالوا: لكن لا تصرفها في بناء مسجد أو طبع كتاب، ولا تفعل بها أموراً فيها طعام أو شراب لمسكين، فيشتبه هو في هذا المال بعد حكمه بأخذه كيف يتصرف فيه؟

ودائماً إذا خالف الإنسان النص يقع في حيرة؛ لأنه إذا التزم بالنص ما عنده إشكال، ثم نقول: لو أنك أخذت رأس المال لم يقع الربا، فإذا قيل: له أن يأخذ الزيادة حتى لا تبقى عند الغير، عندئذٍ تحقق الربا، ولذلك احتار!

إذاً: ما دام أن هذه الزيادة محرمة فلماذا نفتي بجواز أخذها؟

ثانياً: لو أننا أخذنا هذه الزيادة حتى لا يستضر المسلم بها، فإننا نقول: تركها أكثر منفعة للمسلمين؛ بل إنه أبلغ في دعوة الكافر وتنبيهه على فضل الإسلام، فأنت إذا جئت لكافر يتعامل بالربا في مصرفه وأخذت رأس المال، وقلت له: ديني يأمرني أن لا آخذ إلا رأس المال، يقول لك: كيف تترك ربحاً قدره عشرة آلاف، فهم يكادون يعبدون المال من شدة تعظيمهم له، ولا يتعاملون إلا بالدينار والدرهم، ولا يعرفون إلا المال، فإذا وجد أنك لا تأخذ المال الربوي وأحس بعزتك؛ لأن الكافر يغتاظ إذا رأى المسلم معتزاً بدينه، قوي الشكيمة في الحق، لا يريد إلا دينه وما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: هو بنفسه يشعر بفضل هذا الأمر الشرعي؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين فإذا وجد أنك لا تأخذ إلا رأس مالك، وقلت له: ديننا يأمرنا أن نأخذ رأس المال، فإنه يتأثر ويحس أن هذا الذي تقوله هو عين العدل، فقد يكون سبباً في التأثير عليه، وقد يكون سبباً في شعوره بفضل الإسلام، فالدعوة كما تكون باللسان تكون أيضاً بالجوارح والأركان، لأنك بتعاملك معه تعرفه حقيقة الإسلام، وأن الإسلام دين عدل، فاليوم يأتي شخص لا يأخذ الفائدة، وآخر يأتي بموقف اجتماعي يقول: الإسلام يأمر بكذا، فلا تزال تجتمع عنده محاسن الإسلام حتى تكون سبباً في هدايته، وقد حكى بعض طلاب العلم أنه وقع في ذلك يقول: ولم أرض أن آخذ هذه الزيادة، فطلبني المسئول، وسألني: لماذا لا تأخذ الزيادة؟ فقلت له: ديني يأمرني أن آخذ رأس المال فقط، قال لي: لماذا؟ فقلت له: لأني أنا أعطيتك عشرة آلاف فآخذ عشرة آلاف فقط، فلا أظلمك بأخذ الزيادة، قال الأخ: فجعل يتعجب؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين، فالشاهد أننا إذا اجتهدنا لهذا فإن محاسن الشريعة بأخذ رأس المال أجل وأكمل، ولا نستطيع أن نجتهد في مقابل النص؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، فهذه الحالة الثانية: وهي أن يدفع المال ثم يعطى الزيادة عليه بدون عدة.

الحالة الثالثة: أن يدفع المال فيؤخذ من المال على قدر الحفظ، فإذا قال له: ضع المال عندي لمدة شهر وآخذ منه مقابل حفظه، فهذه المسألة تتفرع على مسألتين:

المسألة الأولى: رخص بعض العلماء رحمهم الله إذا أعطاه قرضاً، وقال له: خذ هذه المائة ألف قرضاً وردها لي تسعين، أو ثمانين، قالوا: يجوز؛ لأنه أبرأه وأسقط عنه ذلك، لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة أن هذا النقص إنما أخذ بدعاية الحفظ وهي غير موجودة، فصار من أكل المال بالباطل، فالصورة الأولى: محض تبرع، وهناك فرق بين الصورة الأولى والثانية، وقد ذكرت هذا حتى لا يلتبس على بعض طلاب العلم، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه إذا أعطاه القرض وأسقط عنه شيئاً منه جاز له ذلك، وقد رخص في هذا أئمة من السلف رحمة الله عليهم، وروي عن ابن عباس نحو هذا، لكن هذا غير ما نحن فيه؛ لأن الذي نحن فيه أن الآخذ يدعي استحقاقه للمال لقاء الحفظ، والحفظ غير موجود، فصار من أكل المال بالباطل، فالذي يأخذه يأخذه ظلماً، ولذلك قال الله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] ولو ساغ للمدين أن يأخذ من الدين شيئاً لما جعل الله الأخذ ظلماً، ولو ساغ للمدين أن يأخذ لقاء الاستدانة شيئاً لبين الله سبحانه وتعالى ذلك ولما جعله ظلماً، فكما أنه لا يجوز لرب المال أن يسقط عنه في الحفظ شيئاً، لا يجوز أن يسقط عنه فيما يدعيه حفظاً على هذا الوجه شيئاً.

إذاً: الصحيح في هذه الحالة الثالثة أنها لما كانت على سبيل التعاقد والإلزام كانت من أكل المال بالباطل، والدليل على تحريمها قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] ولأن النص أثبت أنه لا يجوز للمديون أن يأخذ لقاء وجود المال عنده على الدائن؛ لقوله: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فأمر الله المديون والدائن أن يكون الوفاء برأس المال، فدل على أنه إذا اقتطع منه شيئاً فقد ظلمه ولا يجوز ذلك.

أما بالنسبة للوديعة المستندية فمن الممكن أن نسميها وديعة شرعية، وهذه الوديعة حقيقتها: أن يقوم العميل باستئجار صندوق معين في المصرف أو البنك، ويمكنه البنك من مفتاحه، على أن يضع فيه وثائقه ومستنداته، ويتكفل البنك بحفظ هذه الودائع والمستندات، ويمكن العميل من أخذها في أي وقتٍ شاء، على أن يدفع أجرة معينة على حسب المتفق عليه، وهذا النوع موجود الآن في بعض المصارف الكبيرة، ويسمونها مستندية؛ لأن الغالب أنها تستأجر من أجل المستندات، يكون التاجر عنده صكوك يخشى عليها السرقة أو الاحتراق أو التلف، أو عنده وثائق معينة لأعماله فيخشى أن يطلع إنسان عليها فتفسد تجارته، فيأتي ويستأجر هذا الصندوق ويحفظ فيه وثائقه ويقفله ويأخذ المفتاح، ومتى ما جاء التزم المصرف بتمكينه من أخذ ما شاء من هذا المكان.

إذاً: لو سألت هذا الصندوق الذي يضع فيه العميل حوائجه، هل يأخذ عين المودع أم مثله؟ الجواب: يأخذ العين، وهل أحد يتصرف في هذه العين غيره؟ لا. إذاً: هي وديعة وتأخذ حكم الوديعة الشرعية، لكن السؤال: اتفاق المصرف مع العميل على أن يدفع مبلغاً معيناً شهرياً أو سنوياً هل هو جائز أم ممنوع؟

يمكننا أن نقول: إنها إجارة؛ لأنه استأجر المصرف لحفظ هذا المبلغ خلال المدة المتفق عليها، وبناءً على ذلك يسري عليه ما يسري على الإجارة الشرعية؛ لأنك قد تستأجر شخصاً من أجل أن يحفظ لك مزرعتك أو يحفظ لك دوابك.

فالإجارة من أجل الحفظ مشروعة بالإجماع؛ لأن القاعدة أن الإجارة تجوز على كل منفعة مباحة، كذلك حفظ الصكوك والمستندات مباح فإذا استأجره لحفظها كان مباحاً، وبعض الناس يأخذ هذه الصناديق ويضع فيها مجوهرات وحلياً ونفائس موجودة عنده ويخشى عليها السرقة فيضعها ويقفل عليها، ويأتي ويأخذ عين المجوهر وعين الشيء الذي له، وهذا يأخذ نفس الحكم، سواء استأجرها للوثائق وللمستندات أو للجواهر أو للحلي، بل حتى لو جاء ووضع ماله في هذا الصندوق وأخذه بعينه فإنه جائز ومشروع؛ لأنها وديعة شرعية دون أن يختلط ماله بمال الغير، ودون أن يسري عليه أي شبهة أو أي محصول.

إذاً: الوديعة المستندية جائزة ومشروعة؛ لأنها عقد إجارة على منفعة مباحة، وشروط الإجارة مستوفية، فهي إجارة على منفعة مباحة، في مدة معلومة، وبثمن معلوم، واستوفت جميع الصفات المعتبرة شرعاً.

القسم الثاني: الحساب الجاري، وحقيقته أن يقوم العميل بدفع مبلغٍ معينٍ للمصرف، ثم يلتزم المصرف تجاه هذا المبلغ المعين أن يمكن العميل من سحبه كله أو بعضه أي وقتٍ شاء، سواءً سحبه أصالة أو وكالة، والحساب الجاري في الحقيقة له ثلاث صور.

الصورة الأولى: أن يدفع المبلغ، فيسحب على قدر مبلغه دون أن يزيد أو ينقص.

الصورة الثانية: أن يدفع المبلغ ويعطيه المصرف زيادة إذا بقي المبلغ دون أن يطلبها هو، لكن إذا مضت فترة معينة حتى لو لم يقصد، فمثلاً: وضع مائة ألف على أساس أن يسحبها بعد شهر ثم تأخر سحبه إلى ثلاثة أشهر، وبعض المصارف تعطي فائدة على مدة بقائها ثلاثة أشهر، ولو لم يكن هناك اتفاق مسبق من باب المكافأة على وضعها هذه المدة، ففي هذه الحالة يكون المستفيد هو العميل، والاستفادة وقعت بدون شرط، إنما أعطاه المصرف من باب المكافأة على بقاء المبلغ هذه المدة، وهذا يقع في الخارج خاصة في أوروبا، فبعض البنوك تكافئ من يودع عندها مدة معينة ويكون المبلغ كبيراً فتجعل له الزيادة (6%) على بقائها ثلاثة أشهر دون أن يسحب أو ينزل رصيده عن حدٍ معين؛ لأنهم يستغلون هذه الأموال، ويحسون أن هذا الاستغلال لابد أن يرد فائدة، وهذا في نظرتهم.

الصورة الثالثة من الحساب الجاري: وهو العكس وهذا يقع في الدول الفقيرة، بخلاف النوع الثاني فهو يقع في الدول الغنية التي فيها ثراء والسيولة فيها كثيرة.

أما النوع الثالث فمثلاً: إذا دفع مبلغاً وبقي في المصرف أو البنك مدة وضعوا عليه ضريبة، فإذا جئت تسحب المال، ودفعت مائة ألف ومكثت سنة، فإنهم يأخذون ألفاً، فتأخذ تسعة وتسعين ألفاً.

إذاً الحالة الأولى: إذا دفع المبلغ ثم سحب مثله والتزم أن يعطى قدر مبلغه دون زيادة أو نقصان، فهذا قرض ليس فيه فائدة، وليس هناك شرط فائدة ولا زيادة ولا ربا، ومن حيث الأصل العام إذا أعطى شخص شخصاً مائة ألف وجاء وسحب كل المال، أو التزم الطرف الثاني وقال له: يا فلان! خذ المائة ألف هذه قرضاً، قد أبعث لك شخصاً في أي ساعة يسحبها كلها أو بعضها فأعطه، فهذا جائز، والأصل يقتضي الجواز، لكن الإشكال من كونه ذريعة معينة على الحرام، فإنه إذا كان يعطي المال للمصرف فهذا يفصل فيه، فإن كان تعامل المصرف يكون بشيء محرم كان وضعه على هذا الوجه معونة على الحرام، فلا يجوز، وإن كان لا يتعامل بالحرام كان جائزاً؛ لأنه يدفع المبلغ ثم يأخذه دون زيادة أو نقصان.

أما الحالة الثانية: إذا كان المصرف يعطيه الزيادة بدون موعد ولا عِدة، فهل يجوز ذلك؛ لأن: (خير الناس أحسنهم قضاءً) ؟ الجواب: إذا جئنا ننظر إلى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ورده خياراً رباعياً) نقول: يجوز، لكن المشكلة أن هذه العوائد تركبت من ديون بالآجال عليها فوائد، فهو يعطي لأشخاصٍ ديناً، ويأخذ عوائد هذا الدين باقتراضهم منه لكي يصرفها في الفوائد، وبناءً على ذلك صار أصله من حرام، فنقول: إن هذا الوجه يقتضي التحريم.

الوجه الثاني: لو قال قائل: يجوز في الحساب الجاري، لو سافر إلى بلد غني ووضع مليوناً، ثم سحب الحساب الجاري المليون وأعطي مليوناً وعشرة، نقول: لو قيل: إن هذا من باب مكافأة الدين لم يصح، أولاً: لأنه عائد من حرام والفرع تابع لأصله، وثانياً: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فلما جرت عادة المصرف بأنه يكافئ على الوضع فيه، فكأنه حينما أودع فيه اشترط مسبقاً على المصرف أن يكافئه، وهذا عين المحرم؛ لأن كل شرطٍ جر نفعاً فهو ربا، والإجماع منعقد كما حكاه ابن المنذر والإمام ابن قدامة وغيرهم على تحريم ذلك.

إذاً: مسألة وضع المال وإعطاء الفائدة بدون شرط مسبق، يصح تحريمها من وجهين:

الوجه الأول: أن عائده من حرام والفرع تابع لأصله.

الوجه الثاني: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ولفظاً كما يقول بعض العلماء، فكأنه حينما جرت عادة المصرف بذلك فإنه يكون عند وضعه للمال كأنه قد رضي بذلك وطلبه فينزل منزلته.

وهنا سؤال: لو أن شخصاً جاء ووضع المال في هذا النوع من المصارف، فدفع مائة ألف فأعطي أرباحاً (مائة وخمسة)، فهل يتركها أو يأخذها؟

الجواب: عندنا نصوص في الكتاب والسنة نرجع إليها إذا جئنا نحكم في المسائل ونركب بعضها على بعض، وقد أثبتنا أن الوديعة والحساب الجاري يعتبر قرضاً، والله تعالى يقول في القرض: فَلَكُمْ [البقرة:279] أي: هذا الذي تتملكونه وهو من حقكم: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فهو إذا سحب رصيده حينئذٍ يكون قد حقق المأمور به شرعاً، لم يظلم ولم يُظلم، وهذا بالنسبة للأصل العام، أنه إذا سحب رصيده وأصل ماله فإنه لا يظلم ولا يُظلم والنص آمر بذلك وملزم به، ودال على أنه إذا أخذ الزائد عنه فقد أخذ الحرام.

وقد يقول قائل: لو أخذ الزيادة واستفاد منها بإنفاقها في مشروع خير أو نحو ذلك، لكان أفضل من بقائها، خاصة وأنها إذا بقيت ربما أخذت لأمور تضر بالمسلمين، فهل يأخذها ولا يتركها؟

نقول: هذا اجتهاد في مقابل النص، والنص يقول: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] ثم لما اجتهدوا هذا الاجتهاد، وقالوا بجواز أخذ المال مع زيادة عادوا فقالوا: لكن لا تصرفها في بناء مسجد أو طبع كتاب، ولا تفعل بها أموراً فيها طعام أو شراب لمسكين، فيشتبه هو في هذا المال بعد حكمه بأخذه كيف يتصرف فيه؟

ودائماً إذا خالف الإنسان النص يقع في حيرة؛ لأنه إذا التزم بالنص ما عنده إشكال، ثم نقول: لو أنك أخذت رأس المال لم يقع الربا، فإذا قيل: له أن يأخذ الزيادة حتى لا تبقى عند الغير، عندئذٍ تحقق الربا، ولذلك احتار!

إذاً: ما دام أن هذه الزيادة محرمة فلماذا نفتي بجواز أخذها؟

ثانياً: لو أننا أخذنا هذه الزيادة حتى لا يستضر المسلم بها، فإننا نقول: تركها أكثر منفعة للمسلمين؛ بل إنه أبلغ في دعوة الكافر وتنبيهه على فضل الإسلام، فأنت إذا جئت لكافر يتعامل بالربا في مصرفه وأخذت رأس المال، وقلت له: ديني يأمرني أن لا آخذ إلا رأس المال، يقول لك: كيف تترك ربحاً قدره عشرة آلاف، فهم يكادون يعبدون المال من شدة تعظيمهم له، ولا يتعاملون إلا بالدينار والدرهم، ولا يعرفون إلا المال، فإذا وجد أنك لا تأخذ المال الربوي وأحس بعزتك؛ لأن الكافر يغتاظ إذا رأى المسلم معتزاً بدينه، قوي الشكيمة في الحق، لا يريد إلا دينه وما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: هو بنفسه يشعر بفضل هذا الأمر الشرعي؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين فإذا وجد أنك لا تأخذ إلا رأس مالك، وقلت له: ديننا يأمرنا أن نأخذ رأس المال، فإنه يتأثر ويحس أن هذا الذي تقوله هو عين العدل، فقد يكون سبباً في التأثير عليه، وقد يكون سبباً في شعوره بفضل الإسلام، فالدعوة كما تكون باللسان تكون أيضاً بالجوارح والأركان، لأنك بتعاملك معه تعرفه حقيقة الإسلام، وأن الإسلام دين عدل، فاليوم يأتي شخص لا يأخذ الفائدة، وآخر يأتي بموقف اجتماعي يقول: الإسلام يأمر بكذا، فلا تزال تجتمع عنده محاسن الإسلام حتى تكون سبباً في هدايته، وقد حكى بعض طلاب العلم أنه وقع في ذلك يقول: ولم أرض أن آخذ هذه الزيادة، فطلبني المسئول، وسألني: لماذا لا تأخذ الزيادة؟ فقلت له: ديني يأمرني أن آخذ رأس المال فقط، قال لي: لماذا؟ فقلت له: لأني أنا أعطيتك عشرة آلاف فآخذ عشرة آلاف فقط، فلا أظلمك بأخذ الزيادة، قال الأخ: فجعل يتعجب؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين، فالشاهد أننا إذا اجتهدنا لهذا فإن محاسن الشريعة بأخذ رأس المال أجل وأكمل، ولا نستطيع أن نجتهد في مقابل النص؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، فهذه الحالة الثانية: وهي أن يدفع المال ثم يعطى الزيادة عليه بدون عدة.

الحالة الثالثة: أن يدفع المال فيؤخذ من المال على قدر الحفظ، فإذا قال له: ضع المال عندي لمدة شهر وآخذ منه مقابل حفظه، فهذه المسألة تتفرع على مسألتين:

المسألة الأولى: رخص بعض العلماء رحمهم الله إذا أعطاه قرضاً، وقال له: خذ هذه المائة ألف قرضاً وردها لي تسعين، أو ثمانين، قالوا: يجوز؛ لأنه أبرأه وأسقط عنه ذلك، لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة أن هذا النقص إنما أخذ بدعاية الحفظ وهي غير موجودة، فصار من أكل المال بالباطل، فالصورة الأولى: محض تبرع، وهناك فرق بين الصورة الأولى والثانية، وقد ذكرت هذا حتى لا يلتبس على بعض طلاب العلم، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه إذا أعطاه القرض وأسقط عنه شيئاً منه جاز له ذلك، وقد رخص في هذا أئمة من السلف رحمة الله عليهم، وروي عن ابن عباس نحو هذا، لكن هذا غير ما نحن فيه؛ لأن الذي نحن فيه أن الآخذ يدعي استحقاقه للمال لقاء الحفظ، والحفظ غير موجود، فصار من أكل المال بالباطل، فالذي يأخذه يأخذه ظلماً، ولذلك قال الله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] ولو ساغ للمدين أن يأخذ من الدين شيئاً لما جعل الله الأخذ ظلماً، ولو ساغ للمدين أن يأخذ لقاء الاستدانة شيئاً لبين الله سبحانه وتعالى ذلك ولما جعله ظلماً، فكما أنه لا يجوز لرب المال أن يسقط عنه في الحفظ شيئاً، لا يجوز أن يسقط عنه فيما يدعيه حفظاً على هذا الوجه شيئاً.

إذاً: الصحيح في هذه الحالة الثالثة أنها لما كانت على سبيل التعاقد والإلزام كانت من أكل المال بالباطل، والدليل على تحريمها قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] ولأن النص أثبت أنه لا يجوز للمديون أن يأخذ لقاء وجود المال عنده على الدائن؛ لقوله: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فأمر الله المديون والدائن أن يكون الوفاء برأس المال، فدل على أنه إذا اقتطع منه شيئاً فقد ظلمه ولا يجوز ذلك.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع