شرح زاد المستقنع باب بيع السلم [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله: [باب السلم: وهو عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجلٍ بثمن مقبوض بمجلس العقد، ويصح بألفاظ البيع والسلم والسلف بشروط سبعة، أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع وأما المعدود المختلف كالفواكه والبقول والجلود والرءوس والأواني المختلفة الرءوس والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرءوس، والجواهر والحامل من الحيوان، وكل مغشوش، وما يجمع أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين: فلا يصح السلم فيه، ويصح في الحيوان والثياب المنسوجة من نوعين، وما خلطه غير مقصود كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها.

الثاني: ذكر الجنس والنوع وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً وحداثته وقدمه، ولا يصح شرط الأردأ أو الأجود بل جيد ورديء، فإن جاء بما شرط أو أجود منه من نوعه ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه: لزمه أخذه.

الثالث: ذِكرُ قدره بكيل أو وزن أو ذرع يُعلم، وإن أسلم في المكيل وزنا أو في الموزون كيلاً: لم يصح.

الرابع: ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن، فلا يصح حالاً ولا إلى الحصاد والجذاذ ولا إلى يوم، إلا في شيء يأخذه منه كل يوم: كخبز ولحم ونحوهما.

الخامس: أن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء لا وقت العقد، فإن تعذر أو بعضه: فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه].

أموال البيع

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب السلم]

فيقول رحمه الله: (باب السلم)، هذا الباب يعتبر أحد أنواع البيوع المهمة والتي رخص الله عز وجل لعباده فوسع عليهم فيها، وقد بين العلماء رحمهم الله وجه التوسعة في هذا النوع من البيع وذلك أن الإنسان إذا باع السلعة لا يخلو من ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن يدفع المشتري الثمن نقداً، ويدفع البائع المثمن معجلاً.

والحالة الثانية: أن يؤخر المشتري الثمن، ويقدم البائع المثمن.

والحالة الثالثة: أن يقدم المشتري الثمن ويؤخر البائع المثمن.

هذه ثلاثة أحوال للبيع، إذا دفعت المال حاضراً ودفع البائع لك السلعة حاضرة فإن هذا النوع من البيع يكون الثمن فيه مكافئاً للمثمن، فلو أردت أن تشتري سيارةً مثلاً أو داراً فقال لك: أبيعها لك بعشرة آلاف حاضرة، أي: نقداً، فإنك تراعي قيمة السيارة ويكون الثمن -غالباً- مكافئاً للمثمن، أي: أن السيارة تستحق هذا المبلغ دون زيادة أو نقص، الحالة الثانية: أن يكون المثمن مقدماً والثمن متأخراً كرجل أراد أن يستلم سيارةً، وطلب من البائع أن يؤخره سنةً كاملة فمعنى ذلك: أن المثمن معجل والثمن مؤجل، فإذا عجل البائع لك السلعة وقلت: لا أستطيع أن أعطيك المال حاضراً انتظرني سنة أو انتظرني سنتين، فالغالب أنه يثقل عليك في الثمن وتصبح القيمة قد زادت لقاء الأجل.

وعليه: تكون التوسعة على البائع في زيادة الثمن توسعة على المشتري في إنظاره وتأخيره، فيأخذ السيارة عاجلاً ويخف عليه دفع القيمة آجلاً، ولا يعتبر هذا كالربا؛ لأن الربا جاءت الزيادة فيه لقاء الأجل المحض، ولكن هنا: جاءت الزيادة لقاء السلعة، وقيمتها حاضرة ليست كقيمتها مؤجلة وقد جعل الله لكل شيءٍ قدراً.

التوسعة في بيع السلم

تبقى الصورة الثالثة: وهي أن تدفع الثمن معجلاً ويؤخر البائع المثمن مؤجلاً، وهذا هو الذي يقع في بيع السلم، مثلاً: رجل عنده مزرعة، وهذه المزرعة يزرعها براً أو يزرع فيها شعيراً، أو فاكهةً أو غير ذلك، هذا المزارع ليست عنده سيولة وليس عنده مال، وجاء الموسم للزراعة، وليس عنده ما يشتري به البذر، وقد لا يوجد من يدينه، فيأتي الرجل ويقول: أنا أسلفك ألف ريال، وتعطيني مائة صاعٍ في نهاية رجب أو في نهاية شعبان، فيقدم الثمن ويؤخر المثمن، في هذه الحالة سيكون الرفق بهذا المزارع، وسيكون التيسير على هذا المزارع حيث إنه انتفع بأرضه وقام بزرعها واشترى ما احتاج من بذره، ثم انتفع المشتري؛ لأنه يحتاج إلى المائة الصاع، إلا أن هذه المائة صاع لو أنه جاء لهذا الفلاح بعينه ولم يستلف منه وجاءه في نهاية رجب يريد أن يشتريها بقيمتها لكان قيمتها ألفاً وخمسمائة، ولكنه لقاء التعجيل سيشتريها بألف فقط، فأصبح السلم أن يقدم المشتري لك الثمن وتعده بالمثمن بكيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم، ويقع هذا في المكيلات وفي الموزونات، وتقدم معنا ضبط المكيلات وضبط الموزونات، فلو جاءه وقال: هذه عشرة آلاف ريال لقاء مائة صاع -مثلاً- من التمر السكري في نهاية شهر شوال، فإن هذا البيع تعجل فيه الثمن وتأخر فيه المثمن، ولو جئت في نهاية شوال تبحث عن تمرٍ بهذه الصفات لوجدته بأحد عشر ألفاً أو باثني عشر ألفاً، ولكن الله وسع على المشتري وخفف عليه المئونة؛ لأنك ستشتري والموسم ليس بحاضر، وأنت لا تريد السلعة الآن إنما تريدها إلى أجل، وكثيراً ما يقع هذا البيع عند التجار، ويقع كثيراً ما بين التاجر والمورد، فيقول التاجر للمورد: أريد -مثلاً في المكيلات- مائة صندوق من التمر بوزن كذا وكذا أو مائة صندوق من العسل أريدها لصيف كذا وكذا، فيحدد الشهر ويحدد الأجل الذي يريد أن يدفع له هذا الملتزم هذه السلعة فيه، فيقول البائع: قد التزمت لك هذه المائة صندوق من العسل أو من التمر أن أحضرها لك في نهاية شهر شوال، وقيمتها عشرة آلاف ريال أو قيمتها ثمانية آلاف ريال، فتعجل الثمن وتؤجل المثمن، وذلك في موزونٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم، وكذلك إذا وقع في الكيل فتقول له: أريد مائة صاعٍ من شعير أو أريد مائة صاع من بر، أريدها في نهاية شهر شوال بكم؟ قال له: بألفين أو بثلاثة آلاف ريال، فقال: خذ هذه الثلاثة آلاف ريال وهذه المائة صاع أكتبها ديناً عليك تحضرها لي في نهاية شهر شوال، فأسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم بثمنٍ معلوم، ويعطيه الثمن نقداً، هذا بالنسبة للمكيلات والموزونات، والمعدودات مثل ما يقع في بيع السيارات الموجودة الآن، يأتي ويقول لك مثلاً: السنة القادمة هناك نوع من السيارة سواءً كانت من هذا الصنف أو من هذا الصنف قيمتها عشرة آلاف ريال، أو قيمتها مائة ألف ريال فتدفع المائة ألف ريال مقدماً، قبل أن يأتي ما يسمى بالموديل أو بأي اسم يعبر عن الصنف الذي يهيأ للسنة القادمة تدفع المعجل مائة ألف أو مائتي ألف تدفع القيمة ثم يعطيك أوصاف السيارة كاملة، هذا إذا قيل بجواز السلم في المعدودات؛ لأن السيارة من المعدودات؛ ولأن من العلماء من يرى أن السلم لا يقع إلا في مكيل أو موزون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، وهناك من يرى أن المعدود كالمكيل والموزون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالمثل على مثله، ولم يرد استثناء المعدود كما ورد في بيع الربا، ولذلك قالوا: يبقى المعدود منبهاً عليه بالنظير على نظيره، فإذا قلنا بأن المعدود يقع فيه بيع السلم، فحينئذٍ يمكن أن يعطيه -مثلاً- مائة ألف لقاء السيارة أو لقاء السيارتين أو الثلاث أو اشترى منه دفعةً من السيارات من نوعٍ معين أو من صنف معين قال: هذا النوع إذا حضر فأنا: أشتريه منك بمليون أو بنصف مليون، كذلك أيضاً ربما يقع في المعدودات من أدوات الكهرباء فيقول له: أريد منك مائة غسالة أو مائة ثلاجة -مثل ما يقع بين التجار بعضهم مع بعض- هذه المائة غسالة أو المائة ثلاجة أريدها إلى أجل معلوم وهذا ثمنها، فإذاً هذا البيع فيه توسعةٌ على البائع من جهة كونه استفاد بثمنٍ معجل أو استفاد بزرع أرضه وأخذ ثمنٍ معجل، وتوسعةٌ على المشتري بتخفيف القيمة عليه.

مشروعية السلم

والسلم والسلف لغتان، يقال: السلم ويقال: السلف، والسلف لغة أهل المشرق، والسلم لغة أهل الحجاز، والأصل في مشروعيته دليل الكتاب في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، كان ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن يقول: (أشهد أن الله قد أحل السلم) ويتلو هذه الآية، وكأنه يرى أن هذه الآية نزلت في السلم؛ وذلك لأنها نصت على الدين، وبيع السلم يكون على إسلام الثمن وتعجيله والسلف في الْمُسلَّم وتأجيله، وأما دليل السنة فما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أسلف فليسف في كيل معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، فهذا الحديث -كما يقول العلماء- أصلٌ في مشروعية السلم، وكذلك حديث الأنباط من الشام أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسلفونهم في الحنطة ويعطونهم من الغنائم إذا غنموها إلى أجلٍ معلوم، وسئلوا: هل كان لهم زرع أو لم يكن لهم زرع؟ قال الراوي: ما كنا نسألهم عن شيء من ذلك.

فاتفقت هذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشروعية السلم وجوازه، ومن هنا أجمع العلماء على جواز بيع السلم. ومناسبة ذكر بيع السلم بعد باب النسيئة أن باب النسيئة ثبت فيه التحريم لبيع الدين بالدين، وبينا فيه أنه لا يجوز بيع الدين بالدين ثم ذكرنا الصرف وبينا في الصرف حرمة النسيئة من الطرفين أو من أحدهما، فلما كان الكلام متعلقاً بالصفقات المشتملة على البيوع المؤجلة، وكان بيع السلم بيعاً مؤجلاً مرخصاً فيه ناسب أن يذكر المباح المستثنى من المحرم فيما سبق، ومحل بيع السلم إذا لم يكن في الربويات، فإذا كان في الصنف الربوي كأن يقول له: أعطيك مائة صاع من البر بمائة صاع من البر مع اتحاد الصنف لا يجوز، أو أعطيك مائة صاع بر الآن وتعطيني مائة صاع شعير، أو أعطيك مائة صاع بر الآن وتعطيني مائة صاع من التمر السكري، فهذا لا يجوز؛ لأنه لا بد في البر مع التمر أن يكون يداً بيد، سواءً اتحد الربوي أو اختلف، هذا حاصل ما يقال في مقدمة باب السلم.

تعريف السلم

قال رحمه الله تعالى: [وهو عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجلٍ بثمن مقبوضٍ بمجلس العقد].

يقول رحمه الله برحمته الواسعة وأنار قبره بأنواره الساطعة: (وهو) أي: البيع السلم (عقدٌ)، العقد في لغة العرب: التوثيق والإبرام، يقال: عقد الحبل إذا أدخل بعضه في بعض، وعقدة الحبل معروفة، فيكون في المحسوسات كعقد الحبل وعقد العقال، ويكون في المعنويات، كعقدة النكاح وعقدة البيع فيقولون: عقد بيعٍ أو عقد نكاح قال تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، فالعقد يستعمل في المحسوسات ويستعمل في المعنويات، وأما في الاصطلاح فالعلماء إذا وجدتهم يقولون: هذا عقد، فاعلم أنه إيجاب وقبول، إيجاب من البائع وقبول من المشتري، إن كان الإيجاب والقبول على بيعٍ قلت: عقد بيع، وإن كان الإيجاب والقبول على إجارة قلت: عقد إجارة، وإن كان الإيجاب والقبول على رهن، قلت: عقد رهن.

فقال رحمه الله عن بيع السلم: (هو عقدٌ) أي: إيجاب وقبول على السلف، أو إيجاب وقبول على السلم، وعلى هذا إذا قال: أسلمتك هذه العشرة آلاف بمائة صاعٍ من بر، قال: قبلت، فقول المشتري: أسلمتك هذه العشرة آلاف بالمائة صاع من البر إلى نهاية السنة، وقوله: قبلت، إيجاب وقبول، وهذا عقدٌ، والعقد يستلزم وجود الطرفين: الموجب والقابل، والعقد يتضمن الصيغة، والصيغة تستلزم وجود الطرفين: الموجب والقابل.

وقوله رحمه الله: (عقدٌ على موصوفٍ في الذمة) الموصوف المراد به: محل العقد، وصفة الشيء: حليته وما يتميز به، سواء كانت من الأوصاف الحسية أو الأوصاف المعنوية، فقوله: (على موصوفٍ في الذمة) أي: أن الإيجاب والقبول ينصب على شيء موصوف في الذمة، فمثلاً: قوله: مائة صاع، يقول أولاً: مائة فيذكر القدر، ثم يقول: صاع، فيحددها ويميزها، سواءً من برٍ أو من تمر أو من شعيرٍ أو من زبيب... إلخ.

فإذاً السلم يكون على موصوفٍ، وهذا الموصوف يكون في الذمة، فخرج العقد على المعين، كأن يقول له: هذه العشرة آلاف بهذا البر هذا ليس بسلم وليس بسلف؛ لأنه حاضر وهو بيع معجل، ولا يكون السلم إلا في البيوع المؤجلة، لذلك بعض العلماء يقول في تعريفه: بيع العاجل بالآجل وبيع المعجل بالمؤجل، وقوله رحمه الله: (على موصوفٍ في الذمة) هذا ينبني على ما ذكرنا في السابق أن المبيع إما أن يكون بالعين وإما أن يكون بالذمة، فالمعين أن تقول: هذا، وتحدده وتبينه، أو تقول: سيارتي، وهو يعلم أنه ليس لك سيارة غيرها، هذا معين، أما الموصوف في الذمة فهو أن يصف الشيء ويحدده والذمة محل في الإنسان قابل للالتزام والإلزام، أي أن هذا المحل قابل أن يلتزم، فيقول لك: في ذمتي عشرة آلاف، فالذمة ليست بشيء مشاهد كالرأس واليد، بل الذمة وصف اعتباري، فقوله: (موصوفٌ في الذمة): أي أنه في ذمته، أي: أدخل في ذمته وتعلقت ذمته بذلك الشيء أنه يحضره لك، وأنه يقوم بإنجاز ما وعدك به عند حلول الأجل.

قال: (عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجل بثمنٍ).

الباء للمقابلة والبدلية، تقول: هذا بهذا، وعقود السلم تقوم على الثمن المعجل لقاء المثمن المؤجل، فقال: (بثمن) والثمن هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أسلف فليسلف، -يعني: فليعطِ، وهو الثمن المعجل-، في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجلٍ معلوم)إلخ. وهذا الثمن يكون حاضراً في مجلس العقد، وسيذكر المصنف رحمه الله له شروطاً لابد من توفرها لكي يحكم بصحة العقد واعتباره، فابتدأ رحمه الله بتعريف السلف وبيانه، وهذا مبنيٌ على أن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ومن عادة العلماء أنهم يبدءون أولاً بتعريف الأشياء ثم يبينون أحكامها.

ألفاظ السلم

قال رحمه الله: [ويصح بألفاظ البيع والسلم والسلف بشروط سبعة].

يقول رحمه الله: هذا النوع من البيع -وهو بيع السلم- يصح بألفاظ: البيع والسلم والسلف، فإذا سألك سائل وقال لك: قد علمتُ أن بيع السلم عقد وعلمتُ أن العقد يقوم على الإيجاب والقبول، فهذا الإيجاب وهو قوله: أسلفت، هل له ألفاظٌ مخصوصة؟ والإيجاب يكون تارةً من البائع وتارةً يكون من المشتري -فالجواب أنه إذا أوجب بالسلم وابتدأ به عرضاً وقال: أسلفتك، أو قال: أسلفني، أو قال: أسلمتك، أو قال: أسلمني عشرة آلاف الآن أعطيك بها مائة صاع إلى نهاية السنة، قال: قبلت فالإيجاب يقع بلفظ السلم، ويقع بلفظ السلف، ويقع بلفظ البيع، هذه ثلاثة ألفاظ اختار المصنف رحمه الله أن عقد السلم يقوم عليها: السلم والسلف والبيع، وغير ذلك لا يصح به؛ لأن السلم رخصة وبيوع الرخص تتقيد بألفاظها.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب السلم]

فيقول رحمه الله: (باب السلم)، هذا الباب يعتبر أحد أنواع البيوع المهمة والتي رخص الله عز وجل لعباده فوسع عليهم فيها، وقد بين العلماء رحمهم الله وجه التوسعة في هذا النوع من البيع وذلك أن الإنسان إذا باع السلعة لا يخلو من ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن يدفع المشتري الثمن نقداً، ويدفع البائع المثمن معجلاً.

والحالة الثانية: أن يؤخر المشتري الثمن، ويقدم البائع المثمن.

والحالة الثالثة: أن يقدم المشتري الثمن ويؤخر البائع المثمن.

هذه ثلاثة أحوال للبيع، إذا دفعت المال حاضراً ودفع البائع لك السلعة حاضرة فإن هذا النوع من البيع يكون الثمن فيه مكافئاً للمثمن، فلو أردت أن تشتري سيارةً مثلاً أو داراً فقال لك: أبيعها لك بعشرة آلاف حاضرة، أي: نقداً، فإنك تراعي قيمة السيارة ويكون الثمن -غالباً- مكافئاً للمثمن، أي: أن السيارة تستحق هذا المبلغ دون زيادة أو نقص، الحالة الثانية: أن يكون المثمن مقدماً والثمن متأخراً كرجل أراد أن يستلم سيارةً، وطلب من البائع أن يؤخره سنةً كاملة فمعنى ذلك: أن المثمن معجل والثمن مؤجل، فإذا عجل البائع لك السلعة وقلت: لا أستطيع أن أعطيك المال حاضراً انتظرني سنة أو انتظرني سنتين، فالغالب أنه يثقل عليك في الثمن وتصبح القيمة قد زادت لقاء الأجل.

وعليه: تكون التوسعة على البائع في زيادة الثمن توسعة على المشتري في إنظاره وتأخيره، فيأخذ السيارة عاجلاً ويخف عليه دفع القيمة آجلاً، ولا يعتبر هذا كالربا؛ لأن الربا جاءت الزيادة فيه لقاء الأجل المحض، ولكن هنا: جاءت الزيادة لقاء السلعة، وقيمتها حاضرة ليست كقيمتها مؤجلة وقد جعل الله لكل شيءٍ قدراً.

تبقى الصورة الثالثة: وهي أن تدفع الثمن معجلاً ويؤخر البائع المثمن مؤجلاً، وهذا هو الذي يقع في بيع السلم، مثلاً: رجل عنده مزرعة، وهذه المزرعة يزرعها براً أو يزرع فيها شعيراً، أو فاكهةً أو غير ذلك، هذا المزارع ليست عنده سيولة وليس عنده مال، وجاء الموسم للزراعة، وليس عنده ما يشتري به البذر، وقد لا يوجد من يدينه، فيأتي الرجل ويقول: أنا أسلفك ألف ريال، وتعطيني مائة صاعٍ في نهاية رجب أو في نهاية شعبان، فيقدم الثمن ويؤخر المثمن، في هذه الحالة سيكون الرفق بهذا المزارع، وسيكون التيسير على هذا المزارع حيث إنه انتفع بأرضه وقام بزرعها واشترى ما احتاج من بذره، ثم انتفع المشتري؛ لأنه يحتاج إلى المائة الصاع، إلا أن هذه المائة صاع لو أنه جاء لهذا الفلاح بعينه ولم يستلف منه وجاءه في نهاية رجب يريد أن يشتريها بقيمتها لكان قيمتها ألفاً وخمسمائة، ولكنه لقاء التعجيل سيشتريها بألف فقط، فأصبح السلم أن يقدم المشتري لك الثمن وتعده بالمثمن بكيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم، ويقع هذا في المكيلات وفي الموزونات، وتقدم معنا ضبط المكيلات وضبط الموزونات، فلو جاءه وقال: هذه عشرة آلاف ريال لقاء مائة صاع -مثلاً- من التمر السكري في نهاية شهر شوال، فإن هذا البيع تعجل فيه الثمن وتأخر فيه المثمن، ولو جئت في نهاية شوال تبحث عن تمرٍ بهذه الصفات لوجدته بأحد عشر ألفاً أو باثني عشر ألفاً، ولكن الله وسع على المشتري وخفف عليه المئونة؛ لأنك ستشتري والموسم ليس بحاضر، وأنت لا تريد السلعة الآن إنما تريدها إلى أجل، وكثيراً ما يقع هذا البيع عند التجار، ويقع كثيراً ما بين التاجر والمورد، فيقول التاجر للمورد: أريد -مثلاً في المكيلات- مائة صندوق من التمر بوزن كذا وكذا أو مائة صندوق من العسل أريدها لصيف كذا وكذا، فيحدد الشهر ويحدد الأجل الذي يريد أن يدفع له هذا الملتزم هذه السلعة فيه، فيقول البائع: قد التزمت لك هذه المائة صندوق من العسل أو من التمر أن أحضرها لك في نهاية شهر شوال، وقيمتها عشرة آلاف ريال أو قيمتها ثمانية آلاف ريال، فتعجل الثمن وتؤجل المثمن، وذلك في موزونٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم، وكذلك إذا وقع في الكيل فتقول له: أريد مائة صاعٍ من شعير أو أريد مائة صاع من بر، أريدها في نهاية شهر شوال بكم؟ قال له: بألفين أو بثلاثة آلاف ريال، فقال: خذ هذه الثلاثة آلاف ريال وهذه المائة صاع أكتبها ديناً عليك تحضرها لي في نهاية شهر شوال، فأسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم بثمنٍ معلوم، ويعطيه الثمن نقداً، هذا بالنسبة للمكيلات والموزونات، والمعدودات مثل ما يقع في بيع السيارات الموجودة الآن، يأتي ويقول لك مثلاً: السنة القادمة هناك نوع من السيارة سواءً كانت من هذا الصنف أو من هذا الصنف قيمتها عشرة آلاف ريال، أو قيمتها مائة ألف ريال فتدفع المائة ألف ريال مقدماً، قبل أن يأتي ما يسمى بالموديل أو بأي اسم يعبر عن الصنف الذي يهيأ للسنة القادمة تدفع المعجل مائة ألف أو مائتي ألف تدفع القيمة ثم يعطيك أوصاف السيارة كاملة، هذا إذا قيل بجواز السلم في المعدودات؛ لأن السيارة من المعدودات؛ ولأن من العلماء من يرى أن السلم لا يقع إلا في مكيل أو موزون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، وهناك من يرى أن المعدود كالمكيل والموزون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالمثل على مثله، ولم يرد استثناء المعدود كما ورد في بيع الربا، ولذلك قالوا: يبقى المعدود منبهاً عليه بالنظير على نظيره، فإذا قلنا بأن المعدود يقع فيه بيع السلم، فحينئذٍ يمكن أن يعطيه -مثلاً- مائة ألف لقاء السيارة أو لقاء السيارتين أو الثلاث أو اشترى منه دفعةً من السيارات من نوعٍ معين أو من صنف معين قال: هذا النوع إذا حضر فأنا: أشتريه منك بمليون أو بنصف مليون، كذلك أيضاً ربما يقع في المعدودات من أدوات الكهرباء فيقول له: أريد منك مائة غسالة أو مائة ثلاجة -مثل ما يقع بين التجار بعضهم مع بعض- هذه المائة غسالة أو المائة ثلاجة أريدها إلى أجل معلوم وهذا ثمنها، فإذاً هذا البيع فيه توسعةٌ على البائع من جهة كونه استفاد بثمنٍ معجل أو استفاد بزرع أرضه وأخذ ثمنٍ معجل، وتوسعةٌ على المشتري بتخفيف القيمة عليه.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3186 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع