شرح زاد المستقنع كتاب البيع [8]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن يكون الثمن معلوماً].

شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الشرط الأخير من شروط البيع، وهو (أن يكون الثمن معلوماً)، وهذا الشرط دلت عليه أصول الشريعة الإسلامية، وذلك أن جهالة الثمن تُفضي إلى الغرر، وقد ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)، فإذا كان الثمن مجهولاً فإمّا أن يكون مجهولاً عند البائع، وإمّا أن يكون مجهولاً عند المشتري، أو يكون مجهولاً عندهما، وفي جميع هذه الأحوال الثلاث لا يجوز البيع، ولا يصح؛ لأنه غرر نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (وأن يكون الثمن معلوماً)، فيقول له: أشتري منك هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فيبين جنس الثمن، ويبين نوعه، ويبين قدره، ولا يجعله مجهولاً في أي حالةٍ من هذه الأحوال، فلا يجعله مجهولاً جهالة كليّة كأن يقول له: أشتري منك البيت، يقول له: بكم تشتريه؟ يقول: سأرضيك.. بما يرضيك.. نتفق.. لا يضرك.. سأعطيك ما تحب، ونحو ذلك من الألفاظ التي لا يبين فيها حقيقة الثمن، فإذا صار البيع بثمن مجهول فإنه لا يصح، وهكذا لو حدد له جنس الثمن ولكنه لم يحدد له القدر أو لم يحدد له النوع كقوله: أشتري منك هذه الدار بمالٍ، ولم يبين ما هو المال.. أشتري منك هذه الدار بذهب، ولم يحدد قدر هذا الذهب.. أشتري منك هذه الدار بفضة، ولم يحدد قدر هذه الفضة.. أشتري منك هذه الأرض بمئات الألوف، ولا يحدد أهي ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألف أو خمسمائة ألف، فقوله: (بمئات) وإن كان قد حدد النوع لكنه لا تبرأ به الذمة، ولا تزول به الجهالة، إذاً لابد وأن يكون الثمن معلوماً، ونحن قد ذكرنا أنه يُشترط أن يكون المثمن معلوماً، فكما أن الشيء الذي يباع ينبغي أن يكون معلوماً عند الطرفين؛ كذلك ينبغي أن يكون الشيء الذي يُدفع لقاء السلعة أو لقاء الصفقة معلوماً عند المتعاقدين، وحينئذٍ يكون كلا المتعاقدين على بينة من أمره، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء رده.

وقوله رحمه الله: (أن يكون الثمن معلوماً) هذا -كما ذكرنا- مبنيٌّ على نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر، وبإجماع العلماء على أن هذا الشرط يشترط لصحة البيع، فلا يصحُّ البيع بالثمن المجهول.

حكم البيع بالرقم

[فإن باعه برقْمه، أو بألف درهمٍ ذهباً وفضَّةً، أو بما ينقطع به السعر، أو بما باع به زيدٌ وجهلاه أو أحدهما: لم يصحّ].

قوله: (فإن باعه) أي: باع الشيء المعروض (برقمه)، بيع الرقم موجودٌ إلى الآن في زماننا، ويختلف من عصر إلى آخر، وأشبه ما يكون به في زماننا التسعيرة التي تكتب على الكتب، أو تكتب على الأقلام، أو على الساعات، فهذه التسعيرة رقم معين يذكر فيه المبلغ الذي يريده البائع في السلعة، فإذا كان الرقم معلوماً عند البائع غير معلوم عند المشتري لم يصحّ البيع، كأن يقول له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فيقول: برقمه الذي عليه، والمشتري لا يدري كم هو؟ فيقول المشتري: رضيت، فإنه قد رضي بمجهول؛ لأنه قد يظن أنه ثمن معقول فإذا به يطلب ثمناً غير معقول، وقد يظنه بعشرة فإذا به بعشرين، وهكذا.

فالمقصود: أنه إذا قال له: أبيعه برقمه، وكان الرقم مجهولاً عند المشتري، أو كان مجهولاً عند البائع، وهذا يقع في حالة ما إذا سعّروا الكتب، ثم مضت مدة من الزمان ونسي كم وضع على كتابه؟ فقال له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ قال له: برقمه، أي: التسعيرة التي عليه، فلربما أنه يرضى أن يعطيك الكتاب بتسعيرته، وإذا بها تسعيرة قد وضعها في زمان الكساد؛ لأن البيع يقع في حال الكساد والرخص وحال الزيادة، فلربما كان الثمن مكتوباً في حال الكساد، فيرضى به في حال الكساد، أما في حال الغلاء وحال الزيادة فلا يرضى البائع بهذا السعر، ومن هنا: لابد وأن يكون الرقم معلوماً عند البائع معلوماً عند المشتري، فإذا أخذت الكتاب، وقرأت تسعيرته وعلمت التسعيرة التي عليه، وجئت وقلت له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فقال: بعشرة التي هي مكتوبة عليه، صحَّ البيع إذا علماه، ولم يصحّ إذا جهلاه أو جهله واحدٌ منهما.

إذاً القاعدة: أن يكون الثمن معلوماً عند البائع معلوماً عند المشتري، فإن جَهل البائع بطل البيع، وإن جهل المشتري بطل البيع؛ لأن جهل البائع يفوت حقه في بذل السلعة بما يرضاه، وجهل المشتري كأنه أُخذ على غرة، ويكون من بيع المجهول؛ لأنه يُفضي إلى الغرر المنهي عنه شرعاً.

حكم التشريك في الثمن

[أو بألف درهم ذهباً وفضَّة].

والذهب يخالف الفضة، فهو أغلى وأنفس منها، ولا يمكن في زمان أن تستوي قيمة الذهب والفضة، بل إن قيمة الذهب دائماً أغلى من الفضة، وعلى هذا فإنه إذا أعطاه رقماً، وجعله متردداً بين الذهب والفضة، أو جعله جامعاً بين الذهب والفضة بدون تحديد النسبة لم يصحّ، كأن يقول له: بمائة من الدراهم والدنانير، فهذه مائة مشتركة فيها دراهم وفيها دنانير، أو يقول له: بمائة درهم أو دينار، فإن قيمة المائة درهم ليست كقيمة المائة دينار، هذا مثال ما كان في القديم، ونمثل بالموجود الآن، مثلاً: عندنا الريالات وعندنا الدولارات، فلو أن الدولار أصله ذهب، والريال أصله فضة، فيأتي ويقول له: أبيعك هذه السيارة أو أبيعك هذه الأرض بمائة ألف ريال ودولار، فإن المائة ألف ريال لا تساوي مائة ألف دولار، فلربما أن المشتري اشترى ونيته مائة ألف ريال؛ لأنها أرخص، فيقول له البائع: لا، بل قلت لك: أو دولار، أي: ألزمك إمّا بمائة ألف ريال، أو ألزمك بمائة ألف دولار، وهذا هو الذي جعل بعض العلماء يجعله في حكم بيعتين في بيعة، فهو يجعل له ثمنين مختلفين ليسا متكافئين، إمّا أن يدخلهما مع بعضهما بالتشريك ولا يحدد نسبة كل واحد منهما، وإمّا أن يجعلهما على المقابلة فيدمجهما مع بعضهما، كأن يقول: (بمائة دراهم ودنانير) -كما ذكرنا في القديم- وفي العصر الحديث يقول: (بمائة ألف ريالات ودولارات)، فقد يصدق على (99%) منها أن تكون ريالات، و(1%) تكون دولارات والعكس، ويصدق أن تكون مستوية، ويصدق أن تكون متباينة، إذاً: كأنه ردده بين أسعار متعددة مختلفة، فإن جاء المشتري يعطي القليل قال له البائع: لا بل نويت الكثير، فيصبح البيع متردداً بين القليل والكثير، وإذا شئت أن تحصرها أيضاً بصورة المقابلة أن تقول: أبيعك هذه السيارة بمائة ألف ريال أو بعشرة آلاف دولار، وتكون المائة ألف ريال لا تساوي العشرة آلاف دولار، أمّا لو ساوتها وردده بين قيمتين متساويتين كأن تكون المائة ألف ريال تعادل عشرة آلاف دولار صحَّ البيع؛ لأنه خيره بين مائة ألف ريال، وبين صرفها عشرة آلاف دولار، وهكذا لو قال له: بمائة دينار أو ألف درهم، أي: إن شئت أن تدفعها دنانير، وإن شئت أن تدفعها دراهم.

الخلاصة: أن العلماء رحمهم الله لما قالوا: يشترط في البيع أن يكون الثمن معلوماً، يُفهم من هذا أنه لا يصحّ البيع بالمجهول، وإذا كان لا يصحّ بالمجهول فمعناه أنهم سيذكرون لك أمثلة، فإمّا أن تكون الجهالة كليّة أو جزئية، والكليّة مثلما قال: (برقمه)، فلا ندري كم الرقم؟ فأنت تجهل قدر هذا الثمن؟ أو جزئية مثلما يقول لك: بمائة ألف ريال أو عشرة آلاف دولار، وتكون المائة ألف ريال والدولارات ليستا بمتكافئتين، فحينئذٍ رددك، وصحيح أنه ذكر لك الثمن؛ لكنه جعلك على جهالة هل هو الثمن الغالي أو الثمن الرخيص؟ أو يُدخل سعراً من الثمن الغالي مع السعر الرخيص ويجعلهما معاً، ولا يحدد تمييز الغالي من الرخيص، فلو حدد الغالي والرخيص كأن يقول له: هذه السيارة أبيعها بعشرة آلاف دولار وألف ريال، معنى ذلك: أن قيمتها جامعة بين الأمرين، كما لو قال له: أبيعك بثلاثة دراهم ودينارين، فحينئذٍ يكون الثمن معلوماً، صارت خمسة، والخمسة منقسمة ما بين الدنانير والدراهم، وهكذا لو قال له: عشرة آلاف ريال وألف دولار، أو عشرة آلاف ريال وألف جنيه.

إذاً التشريك في الثمن إمّا أن يفضي إلى الجهالة، وإمّا ألاَّ يفضي إلى الجهالة، فإن أفضى إلى الجهالة حرُم البيع، فإن لم يُفض إلى الجهالة بأن ردده بين ثمنين على سبيل التخيير أو دمج الثمنين مع بعضهما بصورة واضحة دون أن يكون هناك فرق في السعر صح البيع، كأن يقول له: بعشرة آلاف دولار أو بمائة ألف ريال، ويكون صرف العشرة آلاف دولار هو مائة ألف ريال، فحينئذٍ ردده بين ثمنين معلومين كما لو قال له: أبيعك إياها بعشرة آلاف دولار أو قال له: أبيعك إياها بمائة ألف ريال.

أو أن يدخل القيمتين أو العُمْلَتين مع بعضهما، ويميز لكل عملة حظها، فيقول: أبيعها بعشرة آلاف ريال وألف دولار، ففهمنا أن الثمن يشتمل على نوعين من النقد: الذهب وهي الدولارات، والفضة وهي الريالات، فإذا جاء يشتري يدفع حظ الذهب الذي ذكره من الدولارات، وحظ الفضة الذي ذكره من الريالات فصح البيع.

إذاً: القاعدة كلها تدور حول شيء معلوم، أي: أن يشتري الإنسان بشيء معلوم، فإن أدخل عليه الجهالة على وجه لا يستطيع الإنسان أن يميز فيه قيمة الصفقة بطل البيع، سواءً كانت جهالة كليّة أو جهالة جزئية.

حكم البيع بالمزاد العلني

قال رحمه الله: [أو بما ينقطع به السعر].

وهذا أكثر ما يقع فيما يسمى في زماننا (ببيع الحراج) وهو بيع المزادات، حيث يأتي الرجل بسيارة يريد أن يعرضها للبيع، أو -مثلاً- قطعة أرض مخططة، فيقول له: أبيعك قطعة الأرض بالمبلغ الذي يصل إليه السوم، الذي هو بما ينقطع به السعر، ففي القديم كانوا يقولون: (بما ينقطع به السعر)، وفي الحديث، يقولون: (قيمة السوم)، أي: القيمة التي وصل إليها السوم؛ والسبب في هذا: أنه إذا قال له: بالقيمة التي يصل إليها السوم ربما كان الحاضرون في السوم أناسٌ من الأغنياء، والأغنياء دائماً يتنافسون، وموجب تنافسهم ربما يجعلهم يدفعون في الصفقة أكثر من قيمتها على سبيل التنافس، وحينئذٍ تظن أن هذه السيارة لو أنها عرضت للبيع لا يمكن أن تجاوز عشرة آلاف ريال، فيتنافس فيها تاجران ربما يوصلانها إلى ثلاثين ألفاً؛ لأنك أنت تريدها كسيارة، وهما وقع بينهما السوم على سبيل التنافس والغيرة، والعكس: ربما أن البائع ظن أن سيارته تصل بالسوم إلى عشرة آلاف ريال؛ لأنه يعلم أن هذا الحراج أو هذا المزاد الذي يقام الآن من عادته أنه يصل في السيارة التي مثل هذه السيارة إلى عشرة آلاف ريال، ففوجئ في ذلك اليوم أنه ليس فيه إلا أناس لا يعرفون قيمة السلع ولا يعرفون السوم أو أناس فقراء، فساموا سوماً ضعيفاً، ووقف السوم ولم يزد أحد، فإذا بها قد سيمت بثمانية آلاف ريال. إذاً: معنى ذلك: أنه إذا قال له: (بما ينقطع به السعر) صارت الجهالة على الاثنين: فالبائع لا يدري كم ينقطع به السعر! والمشتري لا يدري كم ينقطع به السعر! وخذها قاعدة: إذا صارت الجهالة في طرفي العقد البائع والمشتري فمعناه أن البائع يخاطر بنفسه والمشتري يخاطر بنفسه؛ لأن البائع يقول: بما ينقطع به السعر.. بما يقف به السوق.. بما يقف به الحراج.. بما يقف به المزاد، ويظن أنه يقف عند سعر معين، فإذا به يقف دونه، والمشتري يقول: بما ينقطع به السعر.. بما يقف به السوم، يظن أنه يقف عند سعر معين، فإذا به يقف عند أعلى منه، وهذا كله من رحمة الله عز وجل، فلا يريدك أن تدفع المال في شيء إلا وأنت تعلم ما الذي لك وما الذي عليك، والبيع على هذا الوجه بثمنٍ مجهول فيه خطر على البائع وفيه خطر على المشتري، وتوجب الشحناء والبغضاء؛ فالبائع يقول: لم أكن أظن أن الحراج يصل إلى هذا المستوى من الرخص، وعلى الجانب الآخر يتظلم المشتري ويقول: ما كنت أظن أن الحراج يصل إلى هذا المستوى من الغلاء والسعر الزائد، ومعنى هذا أنه سيفضي البيع إلى قطع أواصر الأخوة وحدوث النزاعات، وهذا غالباً ما يقع في بيوع الجهالات، ولذلك المجتمعات التي تنتشر فيها البيوع بالأثمان المجهولة غالباً ما يكون بينها الحقد وبينها الكراهية والبغضاء؛ لأنهم يرون أن هذا البيع قد أفسد ما بينهم، كلٌ يحرص على مصلحته، وكلٌ يظن أنه هو الفائز، فإذا به الخاسر، أو العكس فيظن أنه سيخسر وإذا به يربح، فيأتيه ما يخالف ظنه، وأيًّا ما كان لابد من الضرر على المتعاقدين، إمّا البائع وإمّا المشتري، وإمّا هما معاً.

حكم تقييد قيمة السلعة بمثيلتها مع الجهالة

قال رحمه الله: [أو بما باع به زيدٌ وجهلاه أو أحدهما].

مثال ذلك: جئت إلى رجل وقلت له: بكم تبيعني سيارتك هذه؟ قال: سيارتي وسيارة فلان صفتها واحدة، وفلان باع سيارته، فالذي باع به سيارته أبيعك به سيارتي، فإذا كنت تعلم أنت القيمة وكان هو أيضاً يعلم صحَّ البيع، فمثلاً: لو كنتما معاً وذهبتما ورأيتما فلاناً باع سيارته بألف، أو كنتما معاً، وأخبركم فلان أنه باع سيارته بألف، فحينما يقول لك: أبيعك سيارتي هذه بمثل ما باع به زيد، كأنه قال: أبيعها بألف، وهذا -كما قلنا- إذا علم الاثنان القيمة، فهذه هي الحالة الأولى.

الحالة الثانية: أن يجهلا معاً، يقول له: زيدٌ باع سيارته بالأمس وهي مثل سيارتي، والقيمة التي باع بها أبيعك بها سيارتي، ولا يعلم البائع بكم بيعت، ولا يعلم المشتري أيضاً بكم باع زيد سيارته، فحينئذٍ جهل البائع وجهل المشتري، والجهالة مستحكمة، فيبطل البيع.

الحالة الثالثة: إذا جهل أحدهما، قال له: سيارتي هذه كسيارة زيد، وأبيعك سيارتي بمثل ما باع به زيدٌ سيارته، ويكون البائع يعلم أن زيداً قد باع سيارته بعشرة آلاف، والمشتري لا يعلم فلا يصح البيع والسبب في هذا: أنك قد تظن أن زيداً يبيع برخيص فإذا به عكس ذلك، فأنت إمّا مشترٍ وإمّا بائع، فتقول: أبيع بمثل ما باع فلان، أو تقول: أشتري بما باع به فلان أي: بنفس القيمة التي باع بها، فإن كنت بائعاً لعلك تظن أن القيمة تصل إلى حد، وإذا بها دون الحد الذي ظننته، وإن كنت مشترياً العكس، وذلك بأن تظن أن زيداً سيبيع سيارته بعشرة آلاف، وإذا به قد باعها بخمسة عشر، فهذه كلها أمثلة تنصب في غاية واحدة وهي الجهالة المفضية إلى النزاع وإلى الضرر، إمّا بالبائع وإمّا بالمشتري وإمّا بهما معاً، فهذا بالنسبة لمسألة (بما باع به زيد)، فاحتاط المصنف وقال: (بما ينقطع به السعر، أو بما باع به زيد وجهلاه أو أحدهما).

فجعل صورتين: انقطاع السعر، وبما باع به زيد، واشترط أن يكون ذلك مجهولاً عند الطرفين، أو عند واحد منهما، ومفهوم ذلك: أنه لو كان معلوماً عند الطرفين وعلم الطرفان أنه ينقطع السوم عند حدٍ معين، أو أن فلاناً باع سيارته بكذا وكذا، صحَّ البيع وجاز.

قال: [لم يصحّ].

أي: لم يصح البيع بهذه الصورة.

[فإن باعه برقْمه، أو بألف درهمٍ ذهباً وفضَّةً، أو بما ينقطع به السعر، أو بما باع به زيدٌ وجهلاه أو أحدهما: لم يصحّ].

قوله: (فإن باعه) أي: باع الشيء المعروض (برقمه)، بيع الرقم موجودٌ إلى الآن في زماننا، ويختلف من عصر إلى آخر، وأشبه ما يكون به في زماننا التسعيرة التي تكتب على الكتب، أو تكتب على الأقلام، أو على الساعات، فهذه التسعيرة رقم معين يذكر فيه المبلغ الذي يريده البائع في السلعة، فإذا كان الرقم معلوماً عند البائع غير معلوم عند المشتري لم يصحّ البيع، كأن يقول له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فيقول: برقمه الذي عليه، والمشتري لا يدري كم هو؟ فيقول المشتري: رضيت، فإنه قد رضي بمجهول؛ لأنه قد يظن أنه ثمن معقول فإذا به يطلب ثمناً غير معقول، وقد يظنه بعشرة فإذا به بعشرين، وهكذا.

فالمقصود: أنه إذا قال له: أبيعه برقمه، وكان الرقم مجهولاً عند المشتري، أو كان مجهولاً عند البائع، وهذا يقع في حالة ما إذا سعّروا الكتب، ثم مضت مدة من الزمان ونسي كم وضع على كتابه؟ فقال له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ قال له: برقمه، أي: التسعيرة التي عليه، فلربما أنه يرضى أن يعطيك الكتاب بتسعيرته، وإذا بها تسعيرة قد وضعها في زمان الكساد؛ لأن البيع يقع في حال الكساد والرخص وحال الزيادة، فلربما كان الثمن مكتوباً في حال الكساد، فيرضى به في حال الكساد، أما في حال الغلاء وحال الزيادة فلا يرضى البائع بهذا السعر، ومن هنا: لابد وأن يكون الرقم معلوماً عند البائع معلوماً عند المشتري، فإذا أخذت الكتاب، وقرأت تسعيرته وعلمت التسعيرة التي عليه، وجئت وقلت له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فقال: بعشرة التي هي مكتوبة عليه، صحَّ البيع إذا علماه، ولم يصحّ إذا جهلاه أو جهله واحدٌ منهما.

إذاً القاعدة: أن يكون الثمن معلوماً عند البائع معلوماً عند المشتري، فإن جَهل البائع بطل البيع، وإن جهل المشتري بطل البيع؛ لأن جهل البائع يفوت حقه في بذل السلعة بما يرضاه، وجهل المشتري كأنه أُخذ على غرة، ويكون من بيع المجهول؛ لأنه يُفضي إلى الغرر المنهي عنه شرعاً.

[أو بألف درهم ذهباً وفضَّة].

والذهب يخالف الفضة، فهو أغلى وأنفس منها، ولا يمكن في زمان أن تستوي قيمة الذهب والفضة، بل إن قيمة الذهب دائماً أغلى من الفضة، وعلى هذا فإنه إذا أعطاه رقماً، وجعله متردداً بين الذهب والفضة، أو جعله جامعاً بين الذهب والفضة بدون تحديد النسبة لم يصحّ، كأن يقول له: بمائة من الدراهم والدنانير، فهذه مائة مشتركة فيها دراهم وفيها دنانير، أو يقول له: بمائة درهم أو دينار، فإن قيمة المائة درهم ليست كقيمة المائة دينار، هذا مثال ما كان في القديم، ونمثل بالموجود الآن، مثلاً: عندنا الريالات وعندنا الدولارات، فلو أن الدولار أصله ذهب، والريال أصله فضة، فيأتي ويقول له: أبيعك هذه السيارة أو أبيعك هذه الأرض بمائة ألف ريال ودولار، فإن المائة ألف ريال لا تساوي مائة ألف دولار، فلربما أن المشتري اشترى ونيته مائة ألف ريال؛ لأنها أرخص، فيقول له البائع: لا، بل قلت لك: أو دولار، أي: ألزمك إمّا بمائة ألف ريال، أو ألزمك بمائة ألف دولار، وهذا هو الذي جعل بعض العلماء يجعله في حكم بيعتين في بيعة، فهو يجعل له ثمنين مختلفين ليسا متكافئين، إمّا أن يدخلهما مع بعضهما بالتشريك ولا يحدد نسبة كل واحد منهما، وإمّا أن يجعلهما على المقابلة فيدمجهما مع بعضهما، كأن يقول: (بمائة دراهم ودنانير) -كما ذكرنا في القديم- وفي العصر الحديث يقول: (بمائة ألف ريالات ودولارات)، فقد يصدق على (99%) منها أن تكون ريالات، و(1%) تكون دولارات والعكس، ويصدق أن تكون مستوية، ويصدق أن تكون متباينة، إذاً: كأنه ردده بين أسعار متعددة مختلفة، فإن جاء المشتري يعطي القليل قال له البائع: لا بل نويت الكثير، فيصبح البيع متردداً بين القليل والكثير، وإذا شئت أن تحصرها أيضاً بصورة المقابلة أن تقول: أبيعك هذه السيارة بمائة ألف ريال أو بعشرة آلاف دولار، وتكون المائة ألف ريال لا تساوي العشرة آلاف دولار، أمّا لو ساوتها وردده بين قيمتين متساويتين كأن تكون المائة ألف ريال تعادل عشرة آلاف دولار صحَّ البيع؛ لأنه خيره بين مائة ألف ريال، وبين صرفها عشرة آلاف دولار، وهكذا لو قال له: بمائة دينار أو ألف درهم، أي: إن شئت أن تدفعها دنانير، وإن شئت أن تدفعها دراهم.

الخلاصة: أن العلماء رحمهم الله لما قالوا: يشترط في البيع أن يكون الثمن معلوماً، يُفهم من هذا أنه لا يصحّ البيع بالمجهول، وإذا كان لا يصحّ بالمجهول فمعناه أنهم سيذكرون لك أمثلة، فإمّا أن تكون الجهالة كليّة أو جزئية، والكليّة مثلما قال: (برقمه)، فلا ندري كم الرقم؟ فأنت تجهل قدر هذا الثمن؟ أو جزئية مثلما يقول لك: بمائة ألف ريال أو عشرة آلاف دولار، وتكون المائة ألف ريال والدولارات ليستا بمتكافئتين، فحينئذٍ رددك، وصحيح أنه ذكر لك الثمن؛ لكنه جعلك على جهالة هل هو الثمن الغالي أو الثمن الرخيص؟ أو يُدخل سعراً من الثمن الغالي مع السعر الرخيص ويجعلهما معاً، ولا يحدد تمييز الغالي من الرخيص، فلو حدد الغالي والرخيص كأن يقول له: هذه السيارة أبيعها بعشرة آلاف دولار وألف ريال، معنى ذلك: أن قيمتها جامعة بين الأمرين، كما لو قال له: أبيعك بثلاثة دراهم ودينارين، فحينئذٍ يكون الثمن معلوماً، صارت خمسة، والخمسة منقسمة ما بين الدنانير والدراهم، وهكذا لو قال له: عشرة آلاف ريال وألف دولار، أو عشرة آلاف ريال وألف جنيه.

إذاً التشريك في الثمن إمّا أن يفضي إلى الجهالة، وإمّا ألاَّ يفضي إلى الجهالة، فإن أفضى إلى الجهالة حرُم البيع، فإن لم يُفض إلى الجهالة بأن ردده بين ثمنين على سبيل التخيير أو دمج الثمنين مع بعضهما بصورة واضحة دون أن يكون هناك فرق في السعر صح البيع، كأن يقول له: بعشرة آلاف دولار أو بمائة ألف ريال، ويكون صرف العشرة آلاف دولار هو مائة ألف ريال، فحينئذٍ ردده بين ثمنين معلومين كما لو قال له: أبيعك إياها بعشرة آلاف دولار أو قال له: أبيعك إياها بمائة ألف ريال.

أو أن يدخل القيمتين أو العُمْلَتين مع بعضهما، ويميز لكل عملة حظها، فيقول: أبيعها بعشرة آلاف ريال وألف دولار، ففهمنا أن الثمن يشتمل على نوعين من النقد: الذهب وهي الدولارات، والفضة وهي الريالات، فإذا جاء يشتري يدفع حظ الذهب الذي ذكره من الدولارات، وحظ الفضة الذي ذكره من الريالات فصح البيع.

إذاً: القاعدة كلها تدور حول شيء معلوم، أي: أن يشتري الإنسان بشيء معلوم، فإن أدخل عليه الجهالة على وجه لا يستطيع الإنسان أن يميز فيه قيمة الصفقة بطل البيع، سواءً كانت جهالة كليّة أو جهالة جزئية.

قال رحمه الله: [أو بما ينقطع به السعر].

وهذا أكثر ما يقع فيما يسمى في زماننا (ببيع الحراج) وهو بيع المزادات، حيث يأتي الرجل بسيارة يريد أن يعرضها للبيع، أو -مثلاً- قطعة أرض مخططة، فيقول له: أبيعك قطعة الأرض بالمبلغ الذي يصل إليه السوم، الذي هو بما ينقطع به السعر، ففي القديم كانوا يقولون: (بما ينقطع به السعر)، وفي الحديث، يقولون: (قيمة السوم)، أي: القيمة التي وصل إليها السوم؛ والسبب في هذا: أنه إذا قال له: بالقيمة التي يصل إليها السوم ربما كان الحاضرون في السوم أناسٌ من الأغنياء، والأغنياء دائماً يتنافسون، وموجب تنافسهم ربما يجعلهم يدفعون في الصفقة أكثر من قيمتها على سبيل التنافس، وحينئذٍ تظن أن هذه السيارة لو أنها عرضت للبيع لا يمكن أن تجاوز عشرة آلاف ريال، فيتنافس فيها تاجران ربما يوصلانها إلى ثلاثين ألفاً؛ لأنك أنت تريدها كسيارة، وهما وقع بينهما السوم على سبيل التنافس والغيرة، والعكس: ربما أن البائع ظن أن سيارته تصل بالسوم إلى عشرة آلاف ريال؛ لأنه يعلم أن هذا الحراج أو هذا المزاد الذي يقام الآن من عادته أنه يصل في السيارة التي مثل هذه السيارة إلى عشرة آلاف ريال، ففوجئ في ذلك اليوم أنه ليس فيه إلا أناس لا يعرفون قيمة السلع ولا يعرفون السوم أو أناس فقراء، فساموا سوماً ضعيفاً، ووقف السوم ولم يزد أحد، فإذا بها قد سيمت بثمانية آلاف ريال. إذاً: معنى ذلك: أنه إذا قال له: (بما ينقطع به السعر) صارت الجهالة على الاثنين: فالبائع لا يدري كم ينقطع به السعر! والمشتري لا يدري كم ينقطع به السعر! وخذها قاعدة: إذا صارت الجهالة في طرفي العقد البائع والمشتري فمعناه أن البائع يخاطر بنفسه والمشتري يخاطر بنفسه؛ لأن البائع يقول: بما ينقطع به السعر.. بما يقف به السوق.. بما يقف به الحراج.. بما يقف به المزاد، ويظن أنه يقف عند سعر معين، فإذا به يقف دونه، والمشتري يقول: بما ينقطع به السعر.. بما يقف به السوم، يظن أنه يقف عند سعر معين، فإذا به يقف عند أعلى منه، وهذا كله من رحمة الله عز وجل، فلا يريدك أن تدفع المال في شيء إلا وأنت تعلم ما الذي لك وما الذي عليك، والبيع على هذا الوجه بثمنٍ مجهول فيه خطر على البائع وفيه خطر على المشتري، وتوجب الشحناء والبغضاء؛ فالبائع يقول: لم أكن أظن أن الحراج يصل إلى هذا المستوى من الرخص، وعلى الجانب الآخر يتظلم المشتري ويقول: ما كنت أظن أن الحراج يصل إلى هذا المستوى من الغلاء والسعر الزائد، ومعنى هذا أنه سيفضي البيع إلى قطع أواصر الأخوة وحدوث النزاعات، وهذا غالباً ما يقع في بيوع الجهالات، ولذلك المجتمعات التي تنتشر فيها البيوع بالأثمان المجهولة غالباً ما يكون بينها الحقد وبينها الكراهية والبغضاء؛ لأنهم يرون أن هذا البيع قد أفسد ما بينهم، كلٌ يحرص على مصلحته، وكلٌ يظن أنه هو الفائز، فإذا به الخاسر، أو العكس فيظن أنه سيخسر وإذا به يربح، فيأتيه ما يخالف ظنه، وأيًّا ما كان لابد من الضرر على المتعاقدين، إمّا البائع وإمّا المشتري، وإمّا هما معاً.