شرح زاد المستقنع باب الفدية


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

يقول المصنف عليه رحمة الله: [باب الفدية].

(الفدية): ما يدفع أو يبذل لقاء الشيء، ومنه فداء الأسير، وكأن الإخلال بالمحظورات يوجب الضمان على المكلف فيما ورد الضمان فيه، كحلقه لشعره ونحو ذلك من المحظورات، فكأنه إذا أدى ما أوجب الشرع عليه لقاء هذا الإخلال قد فدى.

وقوله رحمه الله: (باب الفدية) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالفدية، أي: ما يجب على المحرم بالحج والعمرة إذا أخل بالمحظورات.

والأصل في هذه التسمية قوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، فسمى الله عز وجل ما يكون من الحاج والمعتمر لقاء إخلاله بحلقه لشعره فدية، فقال العلماء: باب الفدية.

وقوله: [يخير بفدية حلق وتقليم وتغطية رأس وطيب ولبس مخيط بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر، أو شعير، أو ذبح شاة].

فقوله رحمه الله: (يخير بفدية حلق) أي: أن الله عز وجل خير المكلف فيما يدفعه لقاء إخلاله بمحظور الحلق، فإذا حلق رأسه، أو نتف شعر إبطيه، أو حلق عانته، أو قص الشعر فإننا نقول: عليك الفدية. وهذه الفدية فدية تخييرية، والفدية منها ما يكون المكلف فيه مخيراً كفدية الأذى وفدية جزاء الصيد، وكذلك منها ما يكون على سبيل الترتيب كما أوجب الله عز وجل على من لم يجد الهدي أن يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.

فقوله: (يخير بفدية حلق) الأصل في هذا التخيير قوله سبحانه وتعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] فجاءت (أو) للدلالة على التخيير، أي: إن شاء افتدى بالصيام، وإن شاء افتدى بالإطعام، وإن شاء افتدى بذبح النسيكة، وأكدت السنة هذا فيما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من قوله: (انسك نسيكة، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صم ثلاثة أيام) فخير رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة ، وجاء نص السنة موافقاً لما في الكتاب، ولذلك قال العلماء: (الفدية في الأذى تخييرية) فلو قال: أريد الإطعام. لا نلزمه بالصيام، ولو قال: أريد الصيام. لا نلزمه بالإطعام، فلو اختار أي واحد من هذه الثلاث فلا حرج عليه؛ لأن الله خيره.

وقوله: [يخير بفدية حلق وتقليم].

يخير بفدية الحلق إذا حلق شعر رأسه أو قصه أو نتفه، أو حلق شعر سائر البدن أو قصه أو نتفه من أي موضع من البدن، هذا الحلق.

(وتقليم) أي: تقليم الأظفار؛ لأن الله عز وجل جعل تقليم الأظفار من التفث، فقال سبحانه وتعالى في المتحلل: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] فلما قال: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29] نبه على أنهم أثناء إحرامهم بالحج كان عليهم ذلك، بمعنى: أنهم تاركون لأظفارهم وأبشارهم وهيئتهم، ولذلك قال العلماء: يحظر تقليم الأظفار، كما تقدم معنا في المحظورات، فلما حرم الله على المحرم بالنسك أن يحلق شعر رأسه جعل الفدية لقاء الإخلال بحلق الشعر، ويعتبر هذا الدليل أصلاً في التنبيه على وجود الفدية فيه، فكأن الله عز وجل أورد الفدية لحلق الشعر لكي ينبه على المثل، وهي مسألة القياس، فكما أن المكلف أثناء إحرامه بالحج والعمرة إذا أحرم بالحج والعمرة وتلبس بالنسك، وحرم عليه أن يحلق شعره أو يأخذ شيئاً من شعر بدنه، وحظر عليه أن يقلم أظفاره، فإذا اعتدى بمخالفة الشرع هنا كان معتدياً في الآخر مثله سواء بسواء، فإذا خاطب الشرع بالضمان في قص الشعر وحلقه من سائر البدن فكأنه يقول: ألحقوا بهذا ما كان في حكمه. إذ لا يعقل أن تقول: محظور عليه أن يقلم أظفاره، ومحظور عليه أن يتطيب، ومحظور عليه أن يلبس المخيط، فإذا حلق شعر رأسه تقول: عليه الفدية، وإذا غطى رأسه أو لبس المخيط تقول: لا فدية عليه! فيكون هذا من التفريق بين المتماثلين، وقد عهدنا من الشرع أنه يسكت عن المثل حتى يؤجر المجتهد بالاجتهاد والقياس، ولذلك قد وردت النصوص في السنة بحجية القياس؛ لكي يكون هناك أجر للمجتهد بإلحاق النظير بنظيره، كما قال عمر رضي الله عنه لـأبي موسى : (اعرف الأشباه، ثم قس الأمور بنظائرها)، وذلك في كتابه المشهور الذي بعث به إليه، وقد ذكره الإمام ابن القيم في (أعلام الموقعين)، وبين في أكثر من صفحة حجية القياس، وأورد أدلة السنة، وأن الشرع يسكت عن المثل حتى ينبه بعلة المثل على أنه آخذ حكم أصله.

وعلى هذا فإنه لا يستقيم أن تقول: إذا حلق شعر رأسه عليه الفدية، وإذا تطيب ولبس المخيط وغطى رأسه وقلم أظفاره تقول: لا شيء عليه؛ لأن الكل محظور، والكل نهى عنه الله عز وجل وحرمه على المحرم كما ثبتت بذلك السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونبه الكتاب عليه كما في تقليم الأظفار، فإذا قلت: وجبت عليه الفدية هنا بنص الكتاب، فإن نص الكتاب يعتبر تنبيهاً على أن ما ماثل ذلك أخذ حكمه، كما نص على ذلك جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم، فقالوا: في حلق الشعر وتقليم الأظفار والطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس الفدية؛ لأن الكل جاء بمرتبة واحدة في الشرع، حيث حرم الله عز وجل على المحرم أن يفعل هذه الأشياء، فإذا فعلها متعمداً فتلزمه الفدية.

ثم لو نظرت إلى حديث كعب بن عجرة الثابت في الصحيحين أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من على رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى، ثم قال له: أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة) فهذا مريض ومعذور، ومع ذلك احتاج إلى حلق شعره وخاطبه الله بالفدية: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ [البقرة:196] فهو مع كونه معذوراً يخاطبه الشرع بالفدية، فما ظنك بمن اعتدى وتطيب عامداً متعمداً أليس هو أحرى بالفدية؟ ولذلك قالوا: إن قياس الأولى يقتضي إلحاق من أخل بهذه المحظورات بمن حلق شعر رأسه بدون إشكال أو ريب.

وقوله: [وتغطية رأسه].

كأن يلبس عمامة أو طاقية أو يضع حائلاً على الرأس من سائر الغطاء فإنه يعتبر منتهكاً للحرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تلبسوا العمائم) والعمامة سميت بذلك لأنها تعم الرأس بالتغطية، فلما نهى صلوات الله وسلامه عليه عن لبس العمامة، قالوا: من غطى رأسه فإنه قد وقع في المحظور الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيلزم بالفدية، فكما أنه إذا حلق رأسه مع وجود العذر لزمته الفدية، فلأن تجب عليه الفدية إذا غطاه من باب أولى وأحرى، خاصة إذا لم يكن له عذر.

وقوله: [وطيب].

وهكذا الطيب سواء وضعه في بدنه أو في رأسه أو في مغابنه، فإنه تلزمه الفدية التي نص الله عز وجل عليها وهي فدية الأذى.

وقوله: [ولبس مخيط].

وكذلك لبس المخيط، فجميع هذه الأشياء حظرت على المحرم، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس)، فحرم تغطية الرأس ولبس المخيط والطيب في البدن والثياب، فدل على أن هذه الأمور كلها تعتبر محظورة وهي في حكم واحد، فمن أخل بواحد منها كان كمن أخل بغيره سواء بسواء.

الفدية بصيام ثلاثة أيام

وقوله: [بين صيام ثلاثة أيام].

يخير بين صيام ثلاثة أيام، نقول له: اختر، إما أن تصوم ثلاثة أيام حيث شئت فالصيام لا يتقيد بمكة، ولا يتقيد بحال إحرام، ولا يتقيد بزمان ولا مكان، لكن ينبغي عليه أن يبادر إبراء للذمة وخشية الاشتغال. ولا يجب أيضاً في هذا الصيام أن يكون متتابعاً، فلو صام في الوقت الحاضر يوماً، وفي الأسبوع القادم اليوم الثاني، وفي الأسبوع الذي بعده اليوم الثالث فلا حرج، سواء وقعت الأيام الثلاثة متتابعة أو متفرقة؛ لأن الله تعالى قال: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ [البقرة:196] وأطلق، وقال صلى الله عليه وسلم: (صم ثلاثة أيام)، والقاعدة: (أن المطلق يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده) ففي القرآن إطلاق في الصيام، وفي السنة إطلاق في الصيام، فإطلاق القرآن في قوله سبحانه: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ [البقرة:196] هذا إطلاق قيدته السنة بقوله عليه الصلاة والسلام: (صم ثلاثة أيام)، فقيدته في العدد ولم تقيده في الوصف، فلم يقل: صم ثلاثة أيام متتابعة، ولم يقيده بالمكان، فلم يقل: صم ثلاثة أيام في حجك، أو صم ثلاثة أيام في عمرتك، ولم يقيده بمكان كأن يقول: صم ثلاثة أيام بمكة، أو صم ثلاثة أيام في مكان إخلالك، فأصبح هذا الصيام له جملة من الأحكام:

أولاً: أنه لا يتقيد بمكان معين فله أن يصوم حيث شاء.

وثانياً: أن الواجب أنه مقيد بثلاثة أيام، وهذه الأيام الثلاثة لا يشترط فيها التتابع، فإن صامها متفرقة أو متتابعة فلا حرج عليه في ذلك.

وهذا الصيام جعله الله عز وجل على الخيار، فإن اختاره فله أن يصوم لأكثر من فدية، فلو كانت عليه ثلاث فديات فأحب أن يصوم تسعة أيام فلا حرج.

الفدية بإطعام ستة مساكين

وقوله: [أو إطعام ستة مساكين].

هذا الخيار الثاني، نقول له: صم ثلاثة أيام حيث شئت، أو أطعم ستة مساكين، ولكل مسكين نصف صاع، وإطعام ستة مساكين الأصل فيها: قوله تعالى: أَوْ صَدَقَةٍ [البقرة:196] فإن (صدقة) نكرة؛ والقاعدة: (النكرة تفيد العموم) فهذا يشمل أي صدقة، ولذلك يقولون: إن القرآن لما ورد بالصدقة ورد بها على سبيل العموم أياً كانت قليلة أو كثيرة، فجاءت السنة وخصصت، والسنة تقيد مطلق القرآن وتخصص عمومه وتبين إجماله، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] فهذا من بيان السنة للقرآن، فيكون بتقييد المطلقات وتخصيص العمومات وبيان المجملات، فلما قال سبحانه: أَوْ صَدَقَةٍ [البقرة:196] شملت الصدقة سواء أكانت قليلة أو كثيرة، فلو سكت القرآن على هذا وسكتت السنة عليه لكان أي صدقة تجزئ، لكن لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أطعم ستة مساكين) لكل مسكين قال: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) والفرق: ثلاثة آصع، فإذا كان الفرق ثلاثة آصع ويفرق بين ستة مساكين فمعناه أن لكل مسكين نصف صاع، وعليه قالوا: فدية الأذى يعطي نصف صاع من تمر، أو شعير أو بر أو غيره.

فلذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) دل على أنه يعطي لكل مسكين نصف صاع، لكنه لم يحدد صلوات الله وسلامه عليه الإطعام بمكان، فليس بواجب على من لزمته هذه الفدية أن يطعم ستة مساكين من مساكين الحرم، بل إنه إذا أطعم ستة مساكين في أي مكان أجزأه، ففدية الأذى بالإطعام والصدقة لا تختص بالحرم، ولذلك لو أطعم المساكين في الحرم وغيره فإنه يُبرئ ذمته بذلك الإطعام.

وكذلك لو كانوا فقراء فإنه يجزيه إذا أطعم ستة فقراء، ولذلك قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطعم ستة مساكين) لأن المسكين يعتبر أحسن حالاً من الفقير، فإذا جاز إطعامه للمسكين فمن باب أولى أن يطعم الفقراء، والسبب في ذلك: أن المسكين يصل به الضيق إلى أنه لا يجد قدر كفايته الكاملة، إنما يجد بعض الكفاية، ولكن الفقير قد لا يجد كفايته، ولذلك جعل الله المسكين أفضل حالاً من الفقير فقال سبحانه: وأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] فأثبت لهم وصف المسكنة مع كونهم يملكون السفينة، ولذلك يقولون: إن المسكين أحسن حالاً من الفقير. وهذا على أصح قولي العلماء، فالمسكين لا يجد كفايته، ولكن الفقير لا يجد لا قوته ولا أقل القوت في بعض الأحيان، بل قد لا يجد شيئاً، ويوصف بكونه فقيراً، ولكن المسكين يجد دون الكفاية فلا يجد قدر الكفاية، فيكون مسكيناً، وكان نص النبي صلى الله عليه وسلم على المسكين من باب التنبيه على من هو أدنى وأحرى، فكأنه على من هو أدنى يقول: أطعم ستة مساكين، وإن شئت أطعمت ستة فقراء.

وقوله: [لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير].

يلاحظ أن المصنف رحمه الله فرق بين البر وبين غيره، فقال: (مد بر، أو نصف صاع من شعير أو غيره) والصحيح: أن نصف الصاع من أي طعام شاء، فيشمل التمر والبر والشعير، وأنه لا فرق بينها، والدليل: السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) فإنه لما نص عليه الصلاة والسلام على الفرق دل على أن ما دونه لا يجزئ، إذا لو قلت: إن مد بر يجزئ لكل مسكين لكان الإطعام صاعاً ونصف من بر وثلاثة آصع من غير البر، والصحيح: أنه لا يجزئ أقل من ثلاثة آصع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) دل على أن ما دون الفرق لا يجزئ، فلو قلنا: إنه يجزئ مد البر فإن هذا يؤدي إلى أن دون الفرق يجزئ، وهو خلاف ظاهر السنة، وقد قال به بعض الصحابة اجتهاداً كما هو فعل معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وخالفه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنكروا ذلك، ولا شك أن العمل يكون بما قال به جمهور الصحابة، بالإضافة إلى أنه هو الموافق لظاهر السنة؛ ولذلك لا وجه للتفريق بين البر وبين غيره.

الفدية بذبح شاة

وقوله: [أو ذبح شاة].

الخيار الثالث أن نقول له: اذبح شاة، وفي الشاة مسائل:

أولاً: أن هذه الشاة يشترط فيها أن تكون قد بلغت السن المعتبر، فلا يجزئ أقل من المسنة من الماعز، والجذع من الضأن، إذا أراد أن يذبح من الماعز فإنه لا يجزئ ما كان منها دون السنة، وإذا أراد أن يذبح من البقر فلا يجزئ ما دون السنتين -أي لابد أن يكون بلغ السنتين ودخل في الثالثة- وأما بالنسبة لجذع الإبل فلا يجزئ أقل مما أتم الرابعة وطعن في الخامسة، هذا بالنسبة للجذع من الماعز والبقر والإبل.

أما بالنسبة للضأن فإنه يجزئ فيه الجذع، وهو ما تم له ستة أشهر فأكثر، فإذا أراد أن يذبح الشاة فإنه يخير بين أن يذبح مسنة من الماعز وبين أن يذبح جذعة من الضأن، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) وعلى هذا: فليست كل شاة تجزي، فلو ذبح جفرة من المعز لا تجزي، ولو ذبح العناق لا تجزي؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث البراء في الصحيح لما سأله أبو بردة رضي الله عنه أنه ذبح العناق فقال له: (تجزيك ولا تجزي غيرك) فدل على أنه لا يجزئ بالنسبة للماعز ما كان دون السنة التامة وهو المسن.

وأما بالنسبة للبقر فيجزئ سبعها، وكذلك الإبل يجزي سبعها، فلو وجبت عليه الفدية وكانت عليه ثلاث إخلالات، فاشترى ثلاثة أسباع بعير أو ثلاثة أسباع بقرة فإنه يجزيه ذلك إذا بلغ البعير أو البقرة السن المعتبر.

إذاً: تجزيه الشاة والسبع من البدنة والبقر لقاء هذه الفدية، ولو كان عليه أكثر من محظور وبلغت محظوراته السبع، فتكررت له في حج وعمرة وبلغت سبعاً، وأراد أن يذبح ناقة أجزأته عن جميع هذه المحظورات، وهكذا لو أراد أن يذبح عنها بقرة كما في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه: (أن الصحابة كانوا يشتركون السبعة في البعير) فدل على أن سبع البدنة يجزئ عن شاة، وكذلك ضحى رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر، والبقر منزل منزلة البعير، وهذا عليه قضاء جماهير السلف والخلف رحمة الله على الجميع.

فيجزيه في فدية الأذى أن يذبح شاة -وهو الخيار الثالث- أو يذبح سبع البدنة أو يذبح سبع البقرة، والذبح يجزيه في أي موضع، ومن هنا تختلف الفدية عن هدي التمتع والقران ودم الجبران، فهدي التمتع وهدي القران ودم الجبران لا يجزئ ذبحه إلا بمكة وداخل حدود الحرم، فلو ذبح هدي التمتع خارج حدود الحرم، كأن يذبحه في عرفات أو في التنعيم خارج حدود الحرم، فإنه لا يجزيه، ويكون صدقة من الصدقات، ويلزمه أن يكون ذبحه داخل مكة، ولذلك قال الله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95].

ومثل ذلك: جزاء الصيد؛ لأن الله نص فيه ببلوغه للكعبة، والمراد بقوله سبحانه: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] أي: بالغاً حدود الحرم، من باب إطلاق الجزء على الكل، كما قال سبحانه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1] والمراد: أطلق الجزء وأراد الكل، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (لا سبق إلا في خف أو حافر) فأطلق الجزء وأراد الكل، وقوله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] أي: بالغاً حدود الحرم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (نحرت هاهنا، وفجاج مكة وشعابها كلها منحر) فدل على أنه يجزئ أن يذبح الشاة الواجبة عليه في الهدي، وهدي التمتع والقران وجزاء الصيد -كما ذكرنا- بمكة، وأما ما عداها من فدية الأذى ونحوها فيجزيه في أي مكان.

أما الدليل الصريح الذي يدل على أنه يجزيه أن يذبح فديته في الأذى خارج مكة: ما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة ، أنه في عام الحديبية لما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابه ما أصابه، وهو دون الحرم لم يبلغ الحرم بعد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انسك نسيكة) النسك: هو الذبح، ومنه قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] أي: ذبحي، كما قال تعالى:فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] فالنسك المراد به: الذبح، فقوله: (انسك نسيكة) أي: اذبح ذبيحة، ولم يقل له: بمكة، ولم يقل له: بالحرم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلما أطلق صلوات الله وسلامه عليه قال العلماء: يجزيه أن يذبح الشاة في فدية الأذى والحلق والتقصير ونحوه في أي موضع شاء، ولا يلزمه أن يكون ذبحه بمكة، فإذا ذبحها فإنه قد أدى ما عليه.

وقوله: [بين صيام ثلاثة أيام].

يخير بين صيام ثلاثة أيام، نقول له: اختر، إما أن تصوم ثلاثة أيام حيث شئت فالصيام لا يتقيد بمكة، ولا يتقيد بحال إحرام، ولا يتقيد بزمان ولا مكان، لكن ينبغي عليه أن يبادر إبراء للذمة وخشية الاشتغال. ولا يجب أيضاً في هذا الصيام أن يكون متتابعاً، فلو صام في الوقت الحاضر يوماً، وفي الأسبوع القادم اليوم الثاني، وفي الأسبوع الذي بعده اليوم الثالث فلا حرج، سواء وقعت الأيام الثلاثة متتابعة أو متفرقة؛ لأن الله تعالى قال: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ [البقرة:196] وأطلق، وقال صلى الله عليه وسلم: (صم ثلاثة أيام)، والقاعدة: (أن المطلق يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده) ففي القرآن إطلاق في الصيام، وفي السنة إطلاق في الصيام، فإطلاق القرآن في قوله سبحانه: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ [البقرة:196] هذا إطلاق قيدته السنة بقوله عليه الصلاة والسلام: (صم ثلاثة أيام)، فقيدته في العدد ولم تقيده في الوصف، فلم يقل: صم ثلاثة أيام متتابعة، ولم يقيده بالمكان، فلم يقل: صم ثلاثة أيام في حجك، أو صم ثلاثة أيام في عمرتك، ولم يقيده بمكان كأن يقول: صم ثلاثة أيام بمكة، أو صم ثلاثة أيام في مكان إخلالك، فأصبح هذا الصيام له جملة من الأحكام:

أولاً: أنه لا يتقيد بمكان معين فله أن يصوم حيث شاء.

وثانياً: أن الواجب أنه مقيد بثلاثة أيام، وهذه الأيام الثلاثة لا يشترط فيها التتابع، فإن صامها متفرقة أو متتابعة فلا حرج عليه في ذلك.

وهذا الصيام جعله الله عز وجل على الخيار، فإن اختاره فله أن يصوم لأكثر من فدية، فلو كانت عليه ثلاث فديات فأحب أن يصوم تسعة أيام فلا حرج.

وقوله: [أو إطعام ستة مساكين].

هذا الخيار الثاني، نقول له: صم ثلاثة أيام حيث شئت، أو أطعم ستة مساكين، ولكل مسكين نصف صاع، وإطعام ستة مساكين الأصل فيها: قوله تعالى: أَوْ صَدَقَةٍ [البقرة:196] فإن (صدقة) نكرة؛ والقاعدة: (النكرة تفيد العموم) فهذا يشمل أي صدقة، ولذلك يقولون: إن القرآن لما ورد بالصدقة ورد بها على سبيل العموم أياً كانت قليلة أو كثيرة، فجاءت السنة وخصصت، والسنة تقيد مطلق القرآن وتخصص عمومه وتبين إجماله، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] فهذا من بيان السنة للقرآن، فيكون بتقييد المطلقات وتخصيص العمومات وبيان المجملات، فلما قال سبحانه: أَوْ صَدَقَةٍ [البقرة:196] شملت الصدقة سواء أكانت قليلة أو كثيرة، فلو سكت القرآن على هذا وسكتت السنة عليه لكان أي صدقة تجزئ، لكن لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أطعم ستة مساكين) لكل مسكين قال: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) والفرق: ثلاثة آصع، فإذا كان الفرق ثلاثة آصع ويفرق بين ستة مساكين فمعناه أن لكل مسكين نصف صاع، وعليه قالوا: فدية الأذى يعطي نصف صاع من تمر، أو شعير أو بر أو غيره.

فلذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) دل على أنه يعطي لكل مسكين نصف صاع، لكنه لم يحدد صلوات الله وسلامه عليه الإطعام بمكان، فليس بواجب على من لزمته هذه الفدية أن يطعم ستة مساكين من مساكين الحرم، بل إنه إذا أطعم ستة مساكين في أي مكان أجزأه، ففدية الأذى بالإطعام والصدقة لا تختص بالحرم، ولذلك لو أطعم المساكين في الحرم وغيره فإنه يُبرئ ذمته بذلك الإطعام.

وكذلك لو كانوا فقراء فإنه يجزيه إذا أطعم ستة فقراء، ولذلك قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطعم ستة مساكين) لأن المسكين يعتبر أحسن حالاً من الفقير، فإذا جاز إطعامه للمسكين فمن باب أولى أن يطعم الفقراء، والسبب في ذلك: أن المسكين يصل به الضيق إلى أنه لا يجد قدر كفايته الكاملة، إنما يجد بعض الكفاية، ولكن الفقير قد لا يجد كفايته، ولذلك جعل الله المسكين أفضل حالاً من الفقير فقال سبحانه: وأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] فأثبت لهم وصف المسكنة مع كونهم يملكون السفينة، ولذلك يقولون: إن المسكين أحسن حالاً من الفقير. وهذا على أصح قولي العلماء، فالمسكين لا يجد كفايته، ولكن الفقير لا يجد لا قوته ولا أقل القوت في بعض الأحيان، بل قد لا يجد شيئاً، ويوصف بكونه فقيراً، ولكن المسكين يجد دون الكفاية فلا يجد قدر الكفاية، فيكون مسكيناً، وكان نص النبي صلى الله عليه وسلم على المسكين من باب التنبيه على من هو أدنى وأحرى، فكأنه على من هو أدنى يقول: أطعم ستة مساكين، وإن شئت أطعمت ستة فقراء.

وقوله: [لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير].

يلاحظ أن المصنف رحمه الله فرق بين البر وبين غيره، فقال: (مد بر، أو نصف صاع من شعير أو غيره) والصحيح: أن نصف الصاع من أي طعام شاء، فيشمل التمر والبر والشعير، وأنه لا فرق بينها، والدليل: السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) فإنه لما نص عليه الصلاة والسلام على الفرق دل على أن ما دونه لا يجزئ، إذا لو قلت: إن مد بر يجزئ لكل مسكين لكان الإطعام صاعاً ونصف من بر وثلاثة آصع من غير البر، والصحيح: أنه لا يجزئ أقل من ثلاثة آصع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) دل على أن ما دون الفرق لا يجزئ، فلو قلنا: إنه يجزئ مد البر فإن هذا يؤدي إلى أن دون الفرق يجزئ، وهو خلاف ظاهر السنة، وقد قال به بعض الصحابة اجتهاداً كما هو فعل معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وخالفه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنكروا ذلك، ولا شك أن العمل يكون بما قال به جمهور الصحابة، بالإضافة إلى أنه هو الموافق لظاهر السنة؛ ولذلك لا وجه للتفريق بين البر وبين غيره.

وقوله: [أو ذبح شاة].

الخيار الثالث أن نقول له: اذبح شاة، وفي الشاة مسائل:

أولاً: أن هذه الشاة يشترط فيها أن تكون قد بلغت السن المعتبر، فلا يجزئ أقل من المسنة من الماعز، والجذع من الضأن، إذا أراد أن يذبح من الماعز فإنه لا يجزئ ما كان منها دون السنة، وإذا أراد أن يذبح من البقر فلا يجزئ ما دون السنتين -أي لابد أن يكون بلغ السنتين ودخل في الثالثة- وأما بالنسبة لجذع الإبل فلا يجزئ أقل مما أتم الرابعة وطعن في الخامسة، هذا بالنسبة للجذع من الماعز والبقر والإبل.

أما بالنسبة للضأن فإنه يجزئ فيه الجذع، وهو ما تم له ستة أشهر فأكثر، فإذا أراد أن يذبح الشاة فإنه يخير بين أن يذبح مسنة من الماعز وبين أن يذبح جذعة من الضأن، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) وعلى هذا: فليست كل شاة تجزي، فلو ذبح جفرة من المعز لا تجزي، ولو ذبح العناق لا تجزي؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث البراء في الصحيح لما سأله أبو بردة رضي الله عنه أنه ذبح العناق فقال له: (تجزيك ولا تجزي غيرك) فدل على أنه لا يجزئ بالنسبة للماعز ما كان دون السنة التامة وهو المسن.

وأما بالنسبة للبقر فيجزئ سبعها، وكذلك الإبل يجزي سبعها، فلو وجبت عليه الفدية وكانت عليه ثلاث إخلالات، فاشترى ثلاثة أسباع بعير أو ثلاثة أسباع بقرة فإنه يجزيه ذلك إذا بلغ البعير أو البقرة السن المعتبر.

إذاً: تجزيه الشاة والسبع من البدنة والبقر لقاء هذه الفدية، ولو كان عليه أكثر من محظور وبلغت محظوراته السبع، فتكررت له في حج وعمرة وبلغت سبعاً، وأراد أن يذبح ناقة أجزأته عن جميع هذه المحظورات، وهكذا لو أراد أن يذبح عنها بقرة كما في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه: (أن الصحابة كانوا يشتركون السبعة في البعير) فدل على أن سبع البدنة يجزئ عن شاة، وكذلك ضحى رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر، والبقر منزل منزلة البعير، وهذا عليه قضاء جماهير السلف والخلف رحمة الله على الجميع.

فيجزيه في فدية الأذى أن يذبح شاة -وهو الخيار الثالث- أو يذبح سبع البدنة أو يذبح سبع البقرة، والذبح يجزيه في أي موضع، ومن هنا تختلف الفدية عن هدي التمتع والقران ودم الجبران، فهدي التمتع وهدي القران ودم الجبران لا يجزئ ذبحه إلا بمكة وداخل حدود الحرم، فلو ذبح هدي التمتع خارج حدود الحرم، كأن يذبحه في عرفات أو في التنعيم خارج حدود الحرم، فإنه لا يجزيه، ويكون صدقة من الصدقات، ويلزمه أن يكون ذبحه داخل مكة، ولذلك قال الله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95].

ومثل ذلك: جزاء الصيد؛ لأن الله نص فيه ببلوغه للكعبة، والمراد بقوله سبحانه: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] أي: بالغاً حدود الحرم، من باب إطلاق الجزء على الكل، كما قال سبحانه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1] والمراد: أطلق الجزء وأراد الكل، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (لا سبق إلا في خف أو حافر) فأطلق الجزء وأراد الكل، وقوله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] أي: بالغاً حدود الحرم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (نحرت هاهنا، وفجاج مكة وشعابها كلها منحر) فدل على أنه يجزئ أن يذبح الشاة الواجبة عليه في الهدي، وهدي التمتع والقران وجزاء الصيد -كما ذكرنا- بمكة، وأما ما عداها من فدية الأذى ونحوها فيجزيه في أي مكان.

أما الدليل الصريح الذي يدل على أنه يجزيه أن يذبح فديته في الأذى خارج مكة: ما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة ، أنه في عام الحديبية لما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابه ما أصابه، وهو دون الحرم لم يبلغ الحرم بعد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انسك نسيكة) النسك: هو الذبح، ومنه قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] أي: ذبحي، كما قال تعالى:فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] فالنسك المراد به: الذبح، فقوله: (انسك نسيكة) أي: اذبح ذبيحة، ولم يقل له: بمكة، ولم يقل له: بالحرم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلما أطلق صلوات الله وسلامه عليه قال العلماء: يجزيه أن يذبح الشاة في فدية الأذى والحلق والتقصير ونحوه في أي موضع شاء، ولا يلزمه أن يكون ذبحه بمكة، فإذا ذبحها فإنه قد أدى ما عليه.

وقوله: [و بجزاء صيد بين مثل إن كان، أو تقويمه بدراهم يشترى بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً أو يصوم عن كل مد يوماً].

الحكم عند قتل المحرم لصيد له مثل

فقوله: [و بجزاء صيد بين مثل إن كان ].

نحن قدمنا أنه لا يجوز للمحرم بالحج والعمرة أن يقتل الصيد، وهذا ترتيب من المصنف رحمه الله، فبدأ بالمحظورات التي في جسد الإنسان وفي نفسه من الحلق والتقليم والتطيب وتغطية الرأس ولبس المخيط، ثم انتقل إلى ما يحتاجه لبدنه وهو جزاء الصيد فقال: (إذا أخل بجزاء الصيد)، ففي جزاء الصيد تكون الفدية تخييرية، والمراد بذلك: أن يقتل المحرم صيداً.

ويشترط أن يكون الحيوان من الصيد، ولذلك بعض الناس اليوم يسأل: إذا كان في سيارة وهو محرم بالحج والعمرة، ثم يشاء الله أن يقتل شاة في الطريق، فالشاة ليست من الصيد، ونحن نتكلم على الصيد، فلو قتل حيواناً أصله من المتوحش الذي هي الصيود، وأما ما عدا الصيد من الحيوانات المستأنسة التي تكون مع الآدميين كالإبل والبقر والغنم فهذه لها حكم الضمان الشخصي، فلو صدمها بسيارته لا يجب ضمان الصيد في هذا؛ لأنها ليست بصيد، وإنما حرم عليه قتل الصيد، ولذلك يجوز لك وأنت محرم أن تذبح الشاة لضيوفك أو تذبح الشاة في سفر، أو تنحر البعير لك أو لضيوفك أو لرفقتك، فلا حرج عليك في هذا، فمحل الإخلال قتل الصيد.

لكن مثلاً: لو كان في سيارته فارتطمت به حمامة أو عصافير فقتلها، أو دهس أرنباً أو نحو ذلك من الحيوانات سواء من الطيور أو غيرها من العوادي كتيس الجبل والوعول والظباء، فصدم مثل هذا وقتله، أو أطلق النار عليه فقتله، فحينئذٍ يقع السؤال: قد أخل بما نهاه الله عز وجل عنه من قتل الصيد، فما الذي يلزمه؟

إذا قتل المحرم الصيد فينظر إلى الموضع الذي قتل فيه الصيد، ويبحث عن شخصين عدلين من الرجال دون النساء؛ لأن مثل هذه الأمور يطلع عليها الرجال أكثر من النساء، وحكمهم خاص بهم: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:106] فيأخذ اثنين من العدول الذين لهم معرفة في الموضع الذي قتل فيه الصيد، واختلف العلماء إذا لم يتيسر له ذلك، فقال بعضهم: يجزيه من أي موضع، بل حتى ولو تيسر له في موضع الصيد وذهب إلى غيره -كما أثر عن عمر رضي الله عنه في قضائه- فلا حرج.

وقال بعض العلماء: الاثنان يمكن أن يكون هو واحد منهما مع آخر إذا كان عدلاً، فيحكم على نفسه، واستشهدوا بذلك في قضية عمر رضي الله عنه في الموطأ وغيره.

فالمقصود: أن يأخذ هذين العدلين لينظرا في هذا الشيء الذي قتله من الصيد، وهذا الشيء الذي قتله من الصيد إما أن يكون له مثل من بهيمة الأنعام أو لا يكون له مثل من بهيمة الأنعام، فبهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم، فينظر الحكمان في هذا الشيء الذي قتله ما هو الذي يماثله من بهيمة الأنعام، فإن كان -مثلاً- تيس جبل فينظرون في حجمه، فيجدون أن الذي يماثله تيس من الماعز مثلاً، فيقولون حينئذٍ: مثله شاة من ماعز أو ضأن (طلي) مثلاً. ثم ينظرون أيضاً إلى مثله من البقر إن كان بقر وحش أو غزالاً أو ريماً، فإن قتل غزالاً أو ريماً أو وعلاً فينظرون فيه إلى ما يعادله، فقالوا: عدل حمار الوحش وبقر الوحش البقرة، فحينئذٍ يوجب عليك بقرة، أو ينظرون إلى أنه قتل نعامة، فيقولون: عدل النعامة البعير، فكل شيء من هذه الصيود التي لها عدل ومثل يحكم عليه بذلك المثلي.

فالمرحلة الأولى: أن يبحث عن العدلين.

الثانية: بعد وجود العدلين يقوم العدلان بالنظر فيما قتل وما الذي يماثل المقتول، فإن كان له مثلي من بهيمة الأنعام من إبل أو بقر أو غنم حكما عليه بذلك المثلي، فإذا أصدر الحكم أن عليه شاة فيقولان له: عليك شاة. ويحددان له هذه الشاة المطلوبة، فإذا حددت فيقولان له: أنت بالخيار: إما أن تذبح هذه الشاة بمكة وتتصدق بها على فقراء الحرم -هذا الخيار الأول- أو تقوم الشاة بالنقد، فقيمتها -مثلاً- مائة ريال، فالمبلغ الذي تبلغه يقدر به الطعام، فيُشترى به آصع من التمر، فرضنا أن الصاع بعشرة ريالات، فحينئذٍ إذا كانت قيمة الشاة مائة ريال فيكون عليه عشرة آصع، فيعطونه الخيار الثاني، يقولون له: إما أن تذبح الشاة بمكة، أو تطعم عشرة آصع لكل مسكين ربع صاع، وقيل: نصف صاع، على خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فإذا قلنا بربع الصاع فنقول: إذا كان عليه عشرة آصع ولكل مسكين ربع صاع، فيكون عليه إطعام أربعين مسكيناً.

فيقال له: إما أن تذبح الشاة بمكة، أو تطعم أربعين مسكيناً بمكة -على خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم- أو تصوم عدل كل مسكين يوماً، فإن قلت: نصف صاع يكون حينئذٍ عليه عشرون يوماً، وإن قلت: ربع صاع يكون عليه أربعون يوماً، فيقال له: إما أن تذبح الشاة بمكة أو تطعم المساكين الذي هو عدل قيمة الشاة، أو تصوم من الأيام عدل النصف أو الربع على قولي العلماء رحمة الله عليهم، ورجح أكثر من واحد الربع، أي: أن عليه ربع صاع لكل مسكين.

وعلى هذا: يكون جزاء الصيد ليس بالترتيب وإنما هو بالتخيير، فيقال له: إن شئت أخرجت العدل والمثل، ولا نلزمك به عيناً، وإن شئت أطعمت وإن شئت صمت عدل المساكين الذين وجب عليك إطعامهم.

الحكم عند قتل المحرم لصيد ليس له مثل كالعصفور

إن لم يكن للصيد مثل، كأن يكون -مثلاً- عصفوراً، فالعصفور حينما تنظر إليه لا يعادل شاة ولا بقرة ولا بعيراً، فهذا مما لا مثل له من بهيمة الأنعام، والله تعالى يقول: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95] فإذا كان لا مثل له من بهيمة الأنعام فيقولون: ينقطع الخيار الأول -وهو بهيمة الأنعام- وحينئذٍ إذا كان قد قتل عصفوراً فنقول للحكمين: قدرا قيمة العصفور. فيقدران أن قيمة العصفور عشرة ريالات، فنقول له: أنت بالخيارين، إما أن تطعم بالعشرة وتشتري بها، فلو فرضنا أن العشرة تعادل صاعاً، فنقول له حينئذٍ: خذ الصاع وأطعم المساكين إما ربعاً أو نصفاً، وإن قلنا: النصف؛ فحينئذٍ كم مسكيناً يكون عليه أن يطعم؟ إذا كان الصاع الواحد بعشرة ريالات، فيكون عليه أن يطعم مسكيناً؛ لأن قيمة العصفور عشرة ريالات، والعشرة الريالات قيمة للصاع الواحد، فإن كان عليه نصف صاع لكل مسكين فمعناه أنه يطعم مسكينين، وإن قلنا: ربع صاع، فيطعم حينئذٍ أربعة مساكين؛ لأن لكل مسكين ربع صاع، فعلى هذا يقال له: إما أن تصوم يومين على أن الواجب النصف، أو تصوم أربعة أيام على أن الواجب الربع.

هذا بالنسبة إذا لم يوجد للمقتول من صيد البر مثلٌ من بهيمة الأنعام، وعليه قالوا: إن قتل الصيد إما أن يكون بمثل فيخير بين ثلاثة أشياء: المثل، أو عدله من الطعام، أو عدله من الصيام. وأما إذا لم يوجد له مثل فإنه ينتقل إلى الإطعام أو عدل الإطعام من الصيام، هذا بالنسبة لجزاء الصيد.

وقوله: [و بجزاء صيد بين مثل إن كان].

(بين مثل إن كان) أي: وجد له مثل.

وقوله: [أو تقويمه بدراهم إن كانت].

(أو تقويمه) تقويم المثل على أصح أقوال العلماء؛ لأن هناك قولاً يقول: يقوم الصيد. والصحيح: أن الذي يقوم هو المثل؛ لأن المثل هو الذي وجب، والله تعالى يقول: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ [المائدة:95] وهناك فرق بين أن يقوم الصيد وبين أن يقوم بهيمة الأنعام، فلو فرضنا أنه: قَتل حمار وحش، فإذا عدلته ببقرة فإنك تجد قيمة البقرة -مثلاً- خمسمائة ريال، لكن حمار الوحش يكون غالياً، فقد تصل بقرة الوحش -مثلاً- إلى سبعمائة أو ثمانمائة ريال، فحينئذٍ يكون هناك فرق بين قيمة المثل وقيمة الصيد، ولذلك اختلف العلماء هل العبرة بقيمة الصيد أو العبرة بقيمة المثل؟

والصحيح: أن العبرة بقيمة المثل؛ لأن الله عز وجل أوجب عليه أن يخرج المثل الذي هو عدل ما قتل من بهيمة الأنعام، فلما وجب عليه أن يخرج العدل وهو من بهيمة الأنعام صارت ذمته مشغولة بالعدل من بهيمة الأنعام لا بالصيد؛ لأن هذا العدل وقع بدلاً عنه، فحينئذٍ يكون بدلاً عن ذلك الذي وجب عليه، فيُلزم بالنظر إلى قيمة المثلي من بهيمة الأنعام لا إلى قيمة الصيد المقتول.

وقوله: [أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً].

وهذا يرجع في التقويم إلى قول أهل الخبرة، والأصل في الشريعة الإسلامية في القضاء، وفي مثل هذه المسائل في فصل الخصومات أنه إذا احتيج إلى التقديرات أنه يرجع إلى أهل الخبرة والنظر، فلا يقبل تقدير كل أحد، وإنما يسأل أهل الخبرة كم قيمة هذا العدل أو المثل من بهيمة الأنعام؟

فمثلاً: لو فرضنا أن المحرم يرى أن الشاة تساوي ثلاثمائة ريال، لكن أهل الخبرة قالوا: قيمتها أربعمائة ريال أو خمسمائة ريال، فلا يلتفت إلى تقديره هو، وإنما ينظر إلى قول أهل الخبرة؛ لأنه يرجع في كل فن وعلم إلى أهله، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة: (أن الشرع يأخذ بشهادة كل قوم فيما يختص بهم) فإذا شهد الشهود العدول أهل كل صنعة بصنعتهم اعتدَّ بشهادتهم وأخذ بها.

وقوله: [فيطعم كل مسكين مداً].

المُد: وهو ربع الصاع، بمقدار ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وهو مد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكلمنا على هذه المسألة في الزكاة، فهناك ربع الصاع الذي يسمى بالمد النبوي، وهو أصغر المكاييل النبوية، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، وهناك الصاع الذي يعادل أربعة أمداد، وهناك المد الكبير وهو موجود في زماننا، والمد الكبير يعادل ثلاثة آصع، فأصبح المد الكبير يعادل من المد الصغير اثني عشر مداً صغيراً، وهذا موجود إلى زماننا، ويقال للصغير: المد النبوي، ويقال للمتوسط: الصاع النبوي، وهو الذي كان يغتسل به صلوات الله وسلامه عليه.

قوله: [أو يصوم عن كل مد يوماً].

سواء أوقع الصيام متتابعاً أو متفرقاً.

وقوله: [وبما لا مثل له بين إطعام وصيام].

ويخير فيما لا مثل له بين إطعام وصيام؛ لأنه سقط المثلي لتعذره؛ ولأنه لا مثل له، فالله أوجب المثل إن وجد، فأما إذا كان عصفوراً ولا مثل له فحينئذٍ لا يلزمه إلا الإطعام وعدل الإطعام من الصيام.

فقوله: [و بجزاء صيد بين مثل إن كان ].

نحن قدمنا أنه لا يجوز للمحرم بالحج والعمرة أن يقتل الصيد، وهذا ترتيب من المصنف رحمه الله، فبدأ بالمحظورات التي في جسد الإنسان وفي نفسه من الحلق والتقليم والتطيب وتغطية الرأس ولبس المخيط، ثم انتقل إلى ما يحتاجه لبدنه وهو جزاء الصيد فقال: (إذا أخل بجزاء الصيد)، ففي جزاء الصيد تكون الفدية تخييرية، والمراد بذلك: أن يقتل المحرم صيداً.

ويشترط أن يكون الحيوان من الصيد، ولذلك بعض الناس اليوم يسأل: إذا كان في سيارة وهو محرم بالحج والعمرة، ثم يشاء الله أن يقتل شاة في الطريق، فالشاة ليست من الصيد، ونحن نتكلم على الصيد، فلو قتل حيواناً أصله من المتوحش الذي هي الصيود، وأما ما عدا الصيد من الحيوانات المستأنسة التي تكون مع الآدميين كالإبل والبقر والغنم فهذه لها حكم الضمان الشخصي، فلو صدمها بسيارته لا يجب ضمان الصيد في هذا؛ لأنها ليست بصيد، وإنما حرم عليه قتل الصيد، ولذلك يجوز لك وأنت محرم أن تذبح الشاة لضيوفك أو تذبح الشاة في سفر، أو تنحر البعير لك أو لضيوفك أو لرفقتك، فلا حرج عليك في هذا، فمحل الإخلال قتل الصيد.

لكن مثلاً: لو كان في سيارته فارتطمت به حمامة أو عصافير فقتلها، أو دهس أرنباً أو نحو ذلك من الحيوانات سواء من الطيور أو غيرها من العوادي كتيس الجبل والوعول والظباء، فصدم مثل هذا وقتله، أو أطلق النار عليه فقتله، فحينئذٍ يقع السؤال: قد أخل بما نهاه الله عز وجل عنه من قتل الصيد، فما الذي يلزمه؟

إذا قتل المحرم الصيد فينظر إلى الموضع الذي قتل فيه الصيد، ويبحث عن شخصين عدلين من الرجال دون النساء؛ لأن مثل هذه الأمور يطلع عليها الرجال أكثر من النساء، وحكمهم خاص بهم: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:106] فيأخذ اثنين من العدول الذين لهم معرفة في الموضع الذي قتل فيه الصيد، واختلف العلماء إذا لم يتيسر له ذلك، فقال بعضهم: يجزيه من أي موضع، بل حتى ولو تيسر له في موضع الصيد وذهب إلى غيره -كما أثر عن عمر رضي الله عنه في قضائه- فلا حرج.

وقال بعض العلماء: الاثنان يمكن أن يكون هو واحد منهما مع آخر إذا كان عدلاً، فيحكم على نفسه، واستشهدوا بذلك في قضية عمر رضي الله عنه في الموطأ وغيره.

فالمقصود: أن يأخذ هذين العدلين لينظرا في هذا الشيء الذي قتله من الصيد، وهذا الشيء الذي قتله من الصيد إما أن يكون له مثل من بهيمة الأنعام أو لا يكون له مثل من بهيمة الأنعام، فبهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم، فينظر الحكمان في هذا الشيء الذي قتله ما هو الذي يماثله من بهيمة الأنعام، فإن كان -مثلاً- تيس جبل فينظرون في حجمه، فيجدون أن الذي يماثله تيس من الماعز مثلاً، فيقولون حينئذٍ: مثله شاة من ماعز أو ضأن (طلي) مثلاً. ثم ينظرون أيضاً إلى مثله من البقر إن كان بقر وحش أو غزالاً أو ريماً، فإن قتل غزالاً أو ريماً أو وعلاً فينظرون فيه إلى ما يعادله، فقالوا: عدل حمار الوحش وبقر الوحش البقرة، فحينئذٍ يوجب عليك بقرة، أو ينظرون إلى أنه قتل نعامة، فيقولون: عدل النعامة البعير، فكل شيء من هذه الصيود التي لها عدل ومثل يحكم عليه بذلك المثلي.

فالمرحلة الأولى: أن يبحث عن العدلين.

الثانية: بعد وجود العدلين يقوم العدلان بالنظر فيما قتل وما الذي يماثل المقتول، فإن كان له مثلي من بهيمة الأنعام من إبل أو بقر أو غنم حكما عليه بذلك المثلي، فإذا أصدر الحكم أن عليه شاة فيقولان له: عليك شاة. ويحددان له هذه الشاة المطلوبة، فإذا حددت فيقولان له: أنت بالخيار: إما أن تذبح هذه الشاة بمكة وتتصدق بها على فقراء الحرم -هذا الخيار الأول- أو تقوم الشاة بالنقد، فقيمتها -مثلاً- مائة ريال، فالمبلغ الذي تبلغه يقدر به الطعام، فيُشترى به آصع من التمر، فرضنا أن الصاع بعشرة ريالات، فحينئذٍ إذا كانت قيمة الشاة مائة ريال فيكون عليه عشرة آصع، فيعطونه الخيار الثاني، يقولون له: إما أن تذبح الشاة بمكة، أو تطعم عشرة آصع لكل مسكين ربع صاع، وقيل: نصف صاع، على خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فإذا قلنا بربع الصاع فنقول: إذا كان عليه عشرة آصع ولكل مسكين ربع صاع، فيكون عليه إطعام أربعين مسكيناً.

فيقال له: إما أن تذبح الشاة بمكة، أو تطعم أربعين مسكيناً بمكة -على خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم- أو تصوم عدل كل مسكين يوماً، فإن قلت: نصف صاع يكون حينئذٍ عليه عشرون يوماً، وإن قلت: ربع صاع يكون عليه أربعون يوماً، فيقال له: إما أن تذبح الشاة بمكة أو تطعم المساكين الذي هو عدل قيمة الشاة، أو تصوم من الأيام عدل النصف أو الربع على قولي العلماء رحمة الله عليهم، ورجح أكثر من واحد الربع، أي: أن عليه ربع صاع لكل مسكين.

وعلى هذا: يكون جزاء الصيد ليس بالترتيب وإنما هو بالتخيير، فيقال له: إن شئت أخرجت العدل والمثل، ولا نلزمك به عيناً، وإن شئت أطعمت وإن شئت صمت عدل المساكين الذين وجب عليك إطعامهم.

إن لم يكن للصيد مثل، كأن يكون -مثلاً- عصفوراً، فالعصفور حينما تنظر إليه لا يعادل شاة ولا بقرة ولا بعيراً، فهذا مما لا مثل له من بهيمة الأنعام، والله تعالى يقول: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95] فإذا كان لا مثل له من بهيمة الأنعام فيقولون: ينقطع الخيار الأول -وهو بهيمة الأنعام- وحينئذٍ إذا كان قد قتل عصفوراً فنقول للحكمين: قدرا قيمة العصفور. فيقدران أن قيمة العصفور عشرة ريالات، فنقول له: أنت بالخيارين، إما أن تطعم بالعشرة وتشتري بها، فلو فرضنا أن العشرة تعادل صاعاً، فنقول له حينئذٍ: خذ الصاع وأطعم المساكين إما ربعاً أو نصفاً، وإن قلنا: النصف؛ فحينئذٍ كم مسكيناً يكون عليه أن يطعم؟ إذا كان الصاع الواحد بعشرة ريالات، فيكون عليه أن يطعم مسكيناً؛ لأن قيمة العصفور عشرة ريالات، والعشرة الريالات قيمة للصاع الواحد، فإن كان عليه نصف صاع لكل مسكين فمعناه أنه يطعم مسكينين، وإن قلنا: ربع صاع، فيطعم حينئذٍ أربعة مساكين؛ لأن لكل مسكين ربع صاع، فعلى هذا يقال له: إما أن تصوم يومين على أن الواجب النصف، أو تصوم أربعة أيام على أن الواجب الربع.

هذا بالنسبة إذا لم يوجد للمقتول من صيد البر مثلٌ من بهيمة الأنعام، وعليه قالوا: إن قتل الصيد إما أن يكون بمثل فيخير بين ثلاثة أشياء: المثل، أو عدله من الطعام، أو عدله من الصيام. وأما إذا لم يوجد له مثل فإنه ينتقل إلى الإطعام أو عدل الإطعام من الصيام، هذا بالنسبة لجزاء الصيد.

وقوله: [و بجزاء صيد بين مثل إن كان].

(بين مثل إن كان) أي: وجد له مثل.

وقوله: [أو تقويمه بدراهم إن كانت].

(أو تقويمه) تقويم المثل على أصح أقوال العلماء؛ لأن هناك قولاً يقول: يقوم الصيد. والصحيح: أن الذي يقوم هو المثل؛ لأن المثل هو الذي وجب، والله تعالى يقول: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ [المائدة:95] وهناك فرق بين أن يقوم الصيد وبين أن يقوم بهيمة الأنعام، فلو فرضنا أنه: قَتل حمار وحش، فإذا عدلته ببقرة فإنك تجد قيمة البقرة -مثلاً- خمسمائة ريال، لكن حمار الوحش يكون غالياً، فقد تصل بقرة الوحش -مثلاً- إلى سبعمائة أو ثمانمائة ريال، فحينئذٍ يكون هناك فرق بين قيمة المثل وقيمة الصيد، ولذلك اختلف العلماء هل العبرة بقيمة الصيد أو العبرة بقيمة المثل؟

والصحيح: أن العبرة بقيمة المثل؛ لأن الله عز وجل أوجب عليه أن يخرج المثل الذي هو عدل ما قتل من بهيمة الأنعام، فلما وجب عليه أن يخرج العدل وهو من بهيمة الأنعام صارت ذمته مشغولة بالعدل من بهيمة الأنعام لا بالصيد؛ لأن هذا العدل وقع بدلاً عنه، فحينئذٍ يكون بدلاً عن ذلك الذي وجب عليه، فيُلزم بالنظر إلى قيمة المثلي من بهيمة الأنعام لا إلى قيمة الصيد المقتول.

وقوله: [أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً].

وهذا يرجع في التقويم إلى قول أهل الخبرة، والأصل في الشريعة الإسلامية في القضاء، وفي مثل هذه المسائل في فصل الخصومات أنه إذا احتيج إلى التقديرات أنه يرجع إلى أهل الخبرة والنظر، فلا يقبل تقدير كل أحد، وإنما يسأل أهل الخبرة كم قيمة هذا العدل أو المثل من بهيمة الأنعام؟

فمثلاً: لو فرضنا أن المحرم يرى أن الشاة تساوي ثلاثمائة ريال، لكن أهل الخبرة قالوا: قيمتها أربعمائة ريال أو خمسمائة ريال، فلا يلتفت إلى تقديره هو، وإنما ينظر إلى قول أهل الخبرة؛ لأنه يرجع في كل فن وعلم إلى أهله، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة: (أن الشرع يأخذ بشهادة كل قوم فيما يختص بهم) فإذا شهد الشهود العدول أهل كل صنعة بصنعتهم اعتدَّ بشهادتهم وأخذ بها.

وقوله: [فيطعم كل مسكين مداً].

المُد: وهو ربع الصاع، بمقدار ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وهو مد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكلمنا على هذه المسألة في الزكاة، فهناك ربع الصاع الذي يسمى بالمد النبوي، وهو أصغر المكاييل النبوية، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، وهناك الصاع الذي يعادل أربعة أمداد، وهناك المد الكبير وهو موجود في زماننا، والمد الكبير يعادل ثلاثة آصع، فأصبح المد الكبير يعادل من المد الصغير اثني عشر مداً صغيراً، وهذا موجود إلى زماننا، ويقال للصغير: المد النبوي، ويقال للمتوسط: الصاع النبوي، وهو الذي كان يغتسل به صلوات الله وسلامه عليه.

قوله: [أو يصوم عن كل مد يوماً].

سواء أوقع الصيام متتابعاً أو متفرقاً.

وقوله: [وبما لا مثل له بين إطعام وصيام].

ويخير فيما لا مثل له بين إطعام وصيام؛ لأنه سقط المثلي لتعذره؛ ولأنه لا مثل له، فالله أوجب المثل إن وجد، فأما إذا كان عصفوراً ولا مثل له فحينئذٍ لا يلزمه إلا الإطعام وعدل الإطعام من الصيام.

وقوله: [وأما دم متعة وقران فيجب الهدي].

هذا مما لزم بالترتيب، والأول لزم بالتخيير، ففي التمتع والقران يجب عليه أن يذبح شاة بالصفة التي ذكرناها، يشترط فيها: أن تكون بلغت السن المعتبرة، وأن تكون سالمة من العيوب، وأن يكون هدي القران والتمتع ذبحه ونحره بمكة، فهذه أمور لابد من توافرها للحكم ببراءة ذمته من هذا الواجب، فإذا لم يجد الشاة فإنه ينتقل إلى البدن، فليست بلازمة على التخيير وإنما هي لازمة على الترتيب؛ لأن الله رتبها في كتابه في آية البقرة في التمتع: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196].

كيفية الصيام إن عدم الهدي في المتعة والقران

وقوله: [فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام].

فإن عدم الهدي ولم يجده، كأن يكون ذهب وليس عنده مال يشتري به الهدي بالنسبة له وهو في الحج، والعبرة به وهو في الحج، فلو كان عنده مال ببلده لم يؤثر كما في المتيمم، فإن المتيمم إذا سافر وفقد الماء في السفر فإنه سوف يجده في بيته وفي الحضر، فوجدانه في بيته لا عبرة به إنما العبرة بحاله حينما خوطب وأُلزم، والعبرة في قدرته على الإتيان بالهدي، وللعلماء في هذه المسألة أقوال، أصحها: أن العبرة بصبيحة يوم النحر، فإذا أصبح يوم النحر وليس عنده قدرة على شراء الهدي وأصبح فقيراً فإنه لا يلزمه الهدي، وقيل: بمجرد إحرامه -العبرة بالإحرام- وفائدة الخلاف: أنه لو كان غنياً قبل يوم النحر ثم افتقر يوم النحر بسرقة ماله، أو وجود غرامة عليه فذهب ماله في تلك الغرامة، أو احتاج رفيقه إلى مال فأخذه واستنفده في سفره ونحو ذلك فحينئذٍ إذا قلنا: العبرة بإهلاله وجب عليه الهدي عيناً، وأما إذا قلنا: إن العبرة بصبيحة يوم النحر فحينئذٍ ينظر إلى حاله صبيحة يوم النحر؛ لأنه حينئذٍ يلزمه التحلل من نسكه بالهدي.

وعلى هذا فإذا كان في صبيحة يوم النحر فقيراً أو معسراً فلا يلزمه الدم، وكذلك أيضاً لو لم يجد الدم، عنده المال ولكنه لم يجد الشاة ولم يجد سبع البدنة ولا سبع البقرة، فذهب إلى السوق فلم يجد شيئاً، فحينئذٍ يلزمه أن ينتقل إلى البدل ويسقط عنه الدم إذا مضت أيام التشريق ولم يجده.

وقوله: [والأفضل صوم آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله].

يصوم ثلاثة أيام إذا لم يجد في الحج، واختُلف هل العبرة بإهلاله للعمرة لأنها سبب في التمتع وسبب في لزوم الدم، أم أنها تكون من بداية إهلاله بالحج، فظاهر القرآن: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196] أنه يصوم بعد إهلاله بالحج، وقال به طائفة من السلف، وهو مذهب المالكية والحنفية، على أن الله عز وجل قيد هذا الصيام بالحج، فلا يجزيه أن يبدأ به وهو في العمرة، وتوضيح ذلك: أنه لما قيد بظرفية الحج: ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196] دل على أنها لا تجزي في غير الحج، فقالوا حينئذٍ: يلزمه الصيام إذا شرع في الحج، وأما قبل الحج فلا يصح منه، وقال بعض العلماء -وهو رواية الإمام أحمد ، اختارها جمع من أصحابه-: إذا أحرم بالعمرة أجزأه أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت العمرة في الحج، وشبك بين أصابعه)، ولكن رد على هذا الدليل بأن الله تعالى فصل بين العمرة والحج في الآية التي أوجب فيها البدل، فقال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] ففصل بين العمرة وبين الحج، وهذا القول -الذي يقول: إنها تكون بعد الإحرام بالحج- هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لأن ظاهر القرآن فيه قوي، ودخول العمرة في الحج قصد منه النبي صلى الله عليه وسلم جواز العمرة في أشهر الحج، وهي مسألة خارجة عن موضوعنا.

ولذلك يقوى أن يقال: إنه لا يصومها إلا بعد إحرامه بالحج، فإذا أحرم بالحج فيصوم الثلاثة الأيام، ويستحب أن يكون صيامه قبل يوم عرفة، وهذا هو قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عمر، وكانت أم المؤمنين عائشة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يريان الصيام عن دم التمتع قبل الحج -كما ذكرنا في مذهب من سمينا من العلماء- وكانا يريان ظاهر القرآن في قوله: (في الحج) فيصومها فيما بين إحرامه بالحج وقبل يوم عرفة، واختارا أن يكون إهلاله -مثلاً- بالحج من اليوم السادس ليصوم السادس والسابع والثامن، فإذا جاء يوم عرفة فتكون ذمته قد برئت، ولا يُدخل يوم عرفة في الصيام، وقال بعض السلف -كما هو قول طاوس ومجاهد والشعبي والنخعي وجمع من السلف- : (إنه يجوز أن يصوم ويجعل يوم عرفة آخرها) وهذا القول قول مرجوح، ولكن إذا احتاج الإنسان إليه بمعنى: أنه لم يستطع أن يصوم فيما قبل يوم عرفة فإنه يصوم يوم عرفة؛ لأنه صيام واجب عليه.

واختلف العلماء: هل الأفضل أن يفطر يوم عرفة ويصومها من أيام التشريق، أو الأفضل أن يصوم يوم عرفة ولا يصوم أيام التشريق؟ والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيام منى أيام أكلٍ وشربٍ وبعال)، قالوا: فهذا يدل على أنه لا ينبغي للحاج أن يصومها، ولذلك قالوا: لا تصام أيام التشريق للحاج، فمن يقول بأفضلية تأخيرها عن يوم عرفة يقول: يجوز أن يؤخر هذا اليوم، والأفضل: ألا يصوم يوم عرفة ويؤخرها إلى أيام التشريق، فيجعل هذا اليوم الثالث من الأيام الواجبة عليه من أيام التشريق؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ثبت عنهم أنهم كانوا يصومون أيام التشريق في دم التمتع، ولذلك قالوا: نفضل له أن يفطر يوم عرفة؛ لأنه الركن الأعظم، وقد قصد من هذا الركن أن يتفرغ للدعاء فيكون أبلغ وأقوى وأجلد له على الدعاء، ثم بعد ذلك يصوم هذا اليوم من أيام التشريق.

وقال بعض العلماء بل يصوم يوم عرفة؛ وذلك لأن يوم عرفة له أصل من فعل الصحابة، فكانت أم المؤمنين عائشة تصومه كما جاء في الموطأ، حتى إذا ابيضت الأرض بينها وبين الحاج دعت بفطورها فأفطرت، قالوا: حينئذٍ يصوم يوم عرفة، وكان طاوس بن كيسان -وهو من تلامذة ابن عباس - وسعيد بن جبير وكذلك الحسن البصري والشعبي وإبراهيم النخعي -وهو قول طائفة من السلف- يرون أنه يصوم هذا اليوم -أعني: يوم عرفة- ويجعله ضمن الأيام.

والذي يظهر -والله أعلم-: أنه يصوم السادس والسابع والثامن، ولا يصوم يوم عرفة، وإذا بقي عليه شيء من الثلاثة الأيام يؤخره إلى أيام التشريق؛ فإنه أفضل من صيام يوم عرفة لما ذكره أصحاب هذا القول، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصومون أيام التشريق، وحينئذٍ لما جاءنا عن الصحابة أنهم صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أيام التشريق يقوى أن يقال: بأنه ينصرف إلى أيام التشريق ويقدمها على يوم عرفة.

وقوله: [والأفضل كون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله].

وهذا لما ذكرناه من قول بعض السلف كـطاوس وغيره، ولكن قلنا: إن هذا مرجوح، والصحيح: مذهب من سمينا أنه لا يصوم يوم عرفة؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عمر كانا يقولان: (يصومها فيما بين إحرامه بالحج وقبل يوم عرفة) وعلى هذا إذا شاء فإنه يحرم بالحج ليلة الخامس، فيصوم الخامس والسادس والسابع، وإن شاء يحرم بالحج ليلة السادس فيصوم السادس والسابع والثامن، فهذا أفضل له وأبلغ في إبراء ذمته وانصرافه إلى حجه متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم بفطر يوم عرفة وبفطر أيام التشريق.

وقوله: [وسبعة إذا رجع إلى أهله].

ويلزمه صيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، قال بعض العلماء: (العبرة في الرجوع بالشروع) فلو مثلاً: انتهى من الحج، وركب في السفر وهو راجع إلى أهله يجوز أن يصوم؛ لأنه راجع إلى أهله، وقيل: (إذا رجع) أي: إذا وصل إلى أهله، فإذا وصل إلى أهله صام السبعة.

وقوله: [فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام].

فإن عدم الهدي ولم يجده، كأن يكون ذهب وليس عنده مال يشتري به الهدي بالنسبة له وهو في الحج، والعبرة به وهو في الحج، فلو كان عنده مال ببلده لم يؤثر كما في المتيمم، فإن المتيمم إذا سافر وفقد الماء في السفر فإنه سوف يجده في بيته وفي الحضر، فوجدانه في بيته لا عبرة به إنما العبرة بحاله حينما خوطب وأُلزم، والعبرة في قدرته على الإتيان بالهدي، وللعلماء في هذه المسألة أقوال، أصحها: أن العبرة بصبيحة يوم النحر، فإذا أصبح يوم النحر وليس عنده قدرة على شراء الهدي وأصبح فقيراً فإنه لا يلزمه الهدي، وقيل: بمجرد إحرامه -العبرة بالإحرام- وفائدة الخلاف: أنه لو كان غنياً قبل يوم النحر ثم افتقر يوم النحر بسرقة ماله، أو وجود غرامة عليه فذهب ماله في تلك الغرامة، أو احتاج رفيقه إلى مال فأخذه واستنفده في سفره ونحو ذلك فحينئذٍ إذا قلنا: العبرة بإهلاله وجب عليه الهدي عيناً، وأما إذا قلنا: إن العبرة بصبيحة يوم النحر فحينئذٍ ينظر إلى حاله صبيحة يوم النحر؛ لأنه حينئذٍ يلزمه التحلل من نسكه بالهدي.

وعلى هذا فإذا كان في صبيحة يوم النحر فقيراً أو معسراً فلا يلزمه الدم، وكذلك أيضاً لو لم يجد الدم، عنده المال ولكنه لم يجد الشاة ولم يجد سبع البدنة ولا سبع البقرة، فذهب إلى السوق فلم يجد شيئاً، فحينئذٍ يلزمه أن ينتقل إلى البدل ويسقط عنه الدم إذا مضت أيام التشريق ولم يجده.

وقوله: [والأفضل صوم آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله].

يصوم ثلاثة أيام إذا لم يجد في الحج، واختُلف هل العبرة بإهلاله للعمرة لأنها سبب في التمتع وسبب في لزوم الدم، أم أنها تكون من بداية إهلاله بالحج، فظاهر القرآن: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196] أنه يصوم بعد إهلاله بالحج، وقال به طائفة من السلف، وهو مذهب المالكية والحنفية، على أن الله عز وجل قيد هذا الصيام بالحج، فلا يجزيه أن يبدأ به وهو في العمرة، وتوضيح ذلك: أنه لما قيد بظرفية الحج: ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196] دل على أنها لا تجزي في غير الحج، فقالوا حينئذٍ: يلزمه الصيام إذا شرع في الحج، وأما قبل الحج فلا يصح منه، وقال بعض العلماء -وهو رواية الإمام أحمد ، اختارها جمع من أصحابه-: إذا أحرم بالعمرة أجزأه أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت العمرة في الحج، وشبك بين أصابعه)، ولكن رد على هذا الدليل بأن الله تعالى فصل بين العمرة والحج في الآية التي أوجب فيها البدل، فقال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] ففصل بين العمرة وبين الحج، وهذا القول -الذي يقول: إنها تكون بعد الإحرام بالحج- هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لأن ظاهر القرآن فيه قوي، ودخول العمرة في الحج قصد منه النبي صلى الله عليه وسلم جواز العمرة في أشهر الحج، وهي مسألة خارجة عن موضوعنا.

ولذلك يقوى أن يقال: إنه لا يصومها إلا بعد إحرامه بالحج، فإذا أحرم بالحج فيصوم الثلاثة الأيام، ويستحب أن يكون صيامه قبل يوم عرفة، وهذا هو قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عمر، وكانت أم المؤمنين عائشة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يريان الصيام عن دم التمتع قبل الحج -كما ذكرنا في مذهب من سمينا من العلماء- وكانا يريان ظاهر القرآن في قوله: (في الحج) فيصومها فيما بين إحرامه بالحج وقبل يوم عرفة، واختارا أن يكون إهلاله -مثلاً- بالحج من اليوم السادس ليصوم السادس والسابع والثامن، فإذا جاء يوم عرفة فتكون ذمته قد برئت، ولا يُدخل يوم عرفة في الصيام، وقال بعض السلف -كما هو قول طاوس ومجاهد والشعبي والنخعي وجمع من السلف- : (إنه يجوز أن يصوم ويجعل يوم عرفة آخرها) وهذا القول قول مرجوح، ولكن إذا احتاج الإنسان إليه بمعنى: أنه لم يستطع أن يصوم فيما قبل يوم عرفة فإنه يصوم يوم عرفة؛ لأنه صيام واجب عليه.

واختلف العلماء: هل الأفضل أن يفطر يوم عرفة ويصومها من أيام التشريق، أو الأفضل أن يصوم يوم عرفة ولا يصوم أيام التشريق؟ والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيام منى أيام أكلٍ وشربٍ وبعال)، قالوا: فهذا يدل على أنه لا ينبغي للحاج أن يصومها، ولذلك قالوا: لا تصام أيام التشريق للحاج، فمن يقول بأفضلية تأخيرها عن يوم عرفة يقول: يجوز أن يؤخر هذا اليوم، والأفضل: ألا يصوم يوم عرفة ويؤخرها إلى أيام التشريق، فيجعل هذا اليوم الثالث من الأيام الواجبة عليه من أيام التشريق؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ثبت عنهم أنهم كانوا يصومون أيام التشريق في دم التمتع، ولذلك قالوا: نفضل له أن يفطر يوم عرفة؛ لأنه الركن الأعظم، وقد قصد من هذا الركن أن يتفرغ للدعاء فيكون أبلغ وأقوى وأجلد له على الدعاء، ثم بعد ذلك يصوم هذا اليوم من أيام التشريق.

وقال بعض العلماء بل يصوم يوم عرفة؛ وذلك لأن يوم عرفة له أصل من فعل الصحابة، فكانت أم المؤمنين عائشة تصومه كما جاء في الموطأ، حتى إذا ابيضت الأرض بينها وبين الحاج دعت بفطورها فأفطرت، قالوا: حينئذٍ يصوم يوم عرفة، وكان طاوس بن كيسان -وهو من تلامذة ابن عباس - وسعيد بن جبير وكذلك الحسن البصري والشعبي وإبراهيم النخعي -وهو قول طائفة من السلف- يرون أنه يصوم هذا اليوم -أعني: يوم عرفة- ويجعله ضمن الأيام.

والذي يظهر -والله أعلم-: أنه يصوم السادس والسابع والثامن، ولا يصوم يوم عرفة، وإذا بقي عليه شيء من الثلاثة الأيام يؤخره إلى أيام التشريق؛ فإنه أفضل من صيام يوم عرفة لما ذكره أصحاب هذا القول، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصومون أيام التشريق، وحينئذٍ لما جاءنا عن الصحابة أنهم صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أيام التشريق يقوى أن يقال: بأنه ينصرف إلى أيام التشريق ويقدمها على يوم عرفة.

وقوله: [والأفضل كون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله].

وهذا لما ذكرناه من قول بعض السلف كـطاوس وغيره، ولكن قلنا: إن هذا مرجوح، والصحيح: مذهب من سمينا أنه لا يصوم يوم عرفة؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عمر كانا يقولان: (يصومها فيما بين إحرامه بالحج وقبل يوم عرفة) وعلى هذا إذا شاء فإنه يحرم بالحج ليلة الخامس، فيصوم الخامس والسادس والسابع، وإن شاء يحرم بالحج ليلة السادس فيصوم السادس والسابع والثامن، فهذا أفضل له وأبلغ في إبراء ذمته وانصرافه إلى حجه متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم بفطر يوم عرفة وبفطر أيام التشريق.

وقوله: [وسبعة إذا رجع إلى أهله].

ويلزمه صيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، قال بعض العلماء: (العبرة في الرجوع بالشروع) فلو مثلاً: انتهى من الحج، وركب في السفر وهو راجع إلى أهله يجوز أن يصوم؛ لأنه راجع إلى أهله، وقيل: (إذا رجع) أي: إذا وصل إلى أهله، فإذا وصل إلى أهله صام السبعة.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع