خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/68"> الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/68?sub=33614"> شرح كتاب زاد المستقنع
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح زاد المستقنع زيارة القبور
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد بين المصنف رحمه الله الأحكام المتعلقة بالميت، حتى فرغ من بيان أحكام الدفن، وما يتبع ذلك من المسائل المتعلقة بالقبور، ثم شرع رحمه الله في هذا الفصل في بيان بعض الأمور المتعلقة بما بعد الدفن، فقال رحمه الله: [فصل: تسن زيارة القبور].
هذه السنية تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فأما القول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث ابن مسعود وأبي سعيد وأبي هريرة وأنس وعائشة رضي الله عن الجميع: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة).
ولما سألته أم المؤمنين ماذا تقول إذا زارت القبور؟ فقال: (قولي: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين...) الحديث.
وأما الفعل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم زار القبور ودعا لأهلها واستغفر، وأقر زيارتها، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه قام في جوف الليل، وتبعته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقام قياماً طويلاً ودعا لأهل القبور واستغفر، ثم رجعت قبله صلوات الله وسلامه عليه)، فدل هذا على مشروعية زيارة القبور.
وللعلماء تعبيران في هذه المسألة:
فمنهم من يعبر ويقول: تُسن، ومثل هؤلاء أيضاً من يقول: يباح، ومنهم من يقول: تشرع، فهذهِ ألفاظٌ متقاربة وهناك قولٌ آكد وأقوى، وهو التعبير الثاني: تستحب.
فأما من قال: إن زيارة القبور مباحة؛ فإنه نظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) فقال: إنه أمرٌ بعد الحظر، والأمر بعد النهي والحظر يقتضي الإباحة عند هؤلاء.
وأما من قال بالاستحباب والتأكد فقال: إنه أمرٌ مصروفٌ عن ظاهره الدال على الوجوب إلى الندب والاستحباب.
فأما الذين قالوا: إنه أمرٌ بعد حظر، فإنه إذا ورد نهيٌ في الكتاب والسنة، ثم جاء بعده أمرٌ بذلك المنهي عنه فللعلماء أقوال:
قال بعض العلماء: كل أمر بعد الحظر محمولٌ على الإباحة، وهذا يختاره جمعٌ من فقهاء الشافعية والحنابلة وكذلك المالكية رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني يقول: كل أمرٍ بعد الحظر محمولٌ على الوجوب، وهو مذهب الظاهرية.
والقول الثالث: كل أمرٍ بعد الحظر محمولٌ على حالته قبل النهي.
توضيح ذلك بالمثال: صيد البر حرمه الله على المحرم، ثم قال: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] فوقع قوله: (فاصطادوا) بصيغة الأمر التي هي بعد الحظر والتحريم، فهل نقول: إن الصيد واجب أو مندوبٌ أو مباح؟ فهذه هي مذاهب العلماء.
فمن يقول: إنه للوجوب، يقول: لأنه أمر، حتى أن بعض الظاهرية يوجبون الصيد على ظاهر الآية، وهو من أغرب الأقوال وأكثرها شذوذاً.
والذي قال: إنه للندب والاستحباب يقول: إن الأمر رفع النهي، فأصبح مصروفاً عن ظاهره المقتضي للوجوب إلى ما هو دون ذلك وهو الندب والاستحباب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، فقوله: (وَذَرُوا الْبَيْعَ): نهي وتحريم وحظر، جاء بعده قوله: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10] فقوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) أي: بالتجارة، كقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] فإنها نزلت فيمن يريد الحج والتجارة.
فهل قوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) محمولٌ على ظاهره من الوجوب أو للندب والاستحباب، أو للإباحة التفاتاً إلى ما كان عليه الحال قبل ورود النهي؟
فأصح الأقوال في هذه المسألة: أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى حالته قبل الحظر، فيرفع الأمرُ النهي، ويبقى الحكم للأصل، فلما كان الصيد في الأصل تعتريه الأحكام الخمسة: فيكون مكروهاً، ويكون مندوباً، ويكون واجباً ويكون حراماً، ويكون مباحاً؛ فإن الأمر بالتحلل في قوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] يرفع الحظر والتحريم، ويرجع حكم الصيد إلى التفصيل وهي الأحكام التكليفية الخمسة: إن كان صيداً لمحرم فمحرم، وإن كان صيداً لمكروه فمكروه، وإن كان صيداً لإنقاذ نفسٍ فواجب، وإن كان من أجل أن يتقوى به على طاعة الله فمستحب، وإن خلي من الدوافع والموانع فهو مباح.
كذلك أيضاً في قوله: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [الجمعة:10] فلما كانت التجارة من المباحات التي ليست بواجبة ولا لازمة على المكلف، ولا بمحرمةٍ على الإطلاق، وإنما تحظر أحياناً وتباح أحياناً؛ فإن أمر الله عز وجل بالبيع والشراء بعد صلاة الجمعة يرفع الحظر الذي كان موجوداً أثناء الصلاة، ويبقى حكم التجارة على الأصل.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) فالذين يقولون: تباح الزيارة ولا يعبرون بالاستحباب يلتفتون إلى هذا الأصل، فيقولون: إنه أمرٌ بعد حظر؛ فيرجع إلى الإباحة، والذين يقولون: إنه للندب والاستحباب، يقولون: الأمر في قوله: (فزوروها) رفع التحريم، وبقيت زيارة القبور مستحبة، خاصةً وأن في الحديث كلمة تدلّ على الاستحباب والندب بقوله: (فإنها تذكر الآخرة) فقوي هذا المذهب، ولذلك كان التعبير عند بعض العلماء بقوله: (وتستحب زيارة القبور) أقوى من التعبير بقوله: (تسن).
والإجماع منعقد من حيث الجملة على أن الزيارة سنة بالنسبة للرجال، أما بالنسبة لفضلها فإنها تستحب، والسبب في ذلك: أن الوسائل آخذة حكم مقاصدها، فما كان وسيلةً لواجبٍ فواجب، وما كان وسيلةً لحرام فحرام، وما كان وسيلة لمندوبٍ فمندوب، فلما كان تذكر القبور واستشعار الآخرة، وكون المكلف دائماً يستحضرها في قلبه مما يعينه على طاعة الله، ويقوي عزيمته على الخير، ويكفه عن كثيرٍ من الشر والمحارم والحدود، ويهذب أخلاقه ويقوّمُ سلوكه؛ كان هذا من جنس المستحبات لما له من الأثر العظيم.
ويبقى النظر بالنسبة لزيارة القبور: هل هي لمصلحة الزائر، أو لمصلحته ومصلحة المزور وهو المقبور الذي يزار؟
فإن كانت لمصلحة الزائر فظاهر قوله: (فإنها تذكر الآخرة) متعلق بالزائر، وحينئذٍ تكون الزيارة لمصلحة الحي.
والصحيح: أنها لمصلحة الحي والميت، أما الحي: فإنه ينتفع بالاتعاظ والادكار، خاصةً إذا صحب الزيارة حضور القلب، وهذا هو المقصود من قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنها تذكر الآخرة) فهو ينظر إلى القبور متقاربة، ولكنها في الأجور والحسنات والنعيم والجحيم متباعدة، فقد يكون القبر إلى جوار القبر، ولكن هذا في غاية النعيم، وهذا في درك الجحيم، نسأل الله السلامة والعافية! وتراهم وهم جيران قربٍ لا يتزاورون، وغرباء سفرٍ لا ينتظرون، قد حيل بينهم وبين ما يشتهون.
فإذا نظر الإنسان إلى حال القبور، خاصةً إذا كان على علمٍ بأهلها، فيعلم أهلها وأصحابها، وبالأخص إذا كانوا من الأقرباء والأصحاب والأحباب؛ فإن وقع ذلك في القلوب بليغ، ولذلك يتأثر الإنسان من مثل هذه الزيارات، ويصبح قصير الأمل في الدنيا، وإذا قصر أملُ الإنسان في الدنيا خشع قلبه، وإذا خشع قلبه صلُح، وإذا صلح القلب صلح سائر الجسد كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) فلا شك أنها لمصلحة الحي من هذا الوجه، حيث تعينه على ذكر الآخرة، وتكسر كثيراً من الغرور، وتحول بينه وبين كثيرٍ من الشرور؛ فلربما زار قبر إنسان مسرف على نفسه كثير العصيان فنظر إلى حاله فاتعظ وادّكر، وكره عمله وما كان عليه من حال، وإذا زار عبداً صالحاً مستقيماً على طاعة الله عز وجل؛ فإنه يحمد ما كان منه من طاعة وبر؛ فيكون حريصاً على التشبه به والتخلق بأخلاقه؛ لعل الله أن يبلغه منزلته، ولذلك جاء في دعاء المقابر: (اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي: لا تحرمنا ما كانوا فيه من الخير والبر والطاعة والاستقامة؛ حتى نكون مثلهم أو خيراً منهم.
وقوله: (تسن زيارة القبور) هذا بالنسبة للتعبير العام، وإلا فالحكم يستوي أن تزور قبراً معيناً أو قبوراً، فلو أن إنساناً أراد أن يزور قبراً معيناً بدون أن يشد له الرحل، فزاره ووقف عليه وسلّم على صاحبه، ودعا له بخير؛ فإن هذا له أثر، لأن العلة واحدة، سواء زرت الجماعة أو زرت الفرد؛ ولذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: (فإنها تذكر الآخرة) فهم العلماء من هذا أنه لا فرق بين زيارة قبر أو قبور، فكون الإنسان يزور قبراً ليتعظ لا شك أنه سيكون لمصلحته.
بقي أن ينظر في مصلحة الميت المزور، فمصلحته بالدعاء والاستغفار له والترحم عليه؛ فمن زار المقابر وترحم على أهلها لا شك أنه سينال أجر هذه الدعوة الصالحة، فلربما مررت عليهم في ساعة يعذب فيها أقوام، فسألت الله لهم الرحمة فرحمهم الله، ورفع عنهم ما هم فيه من العذاب، وقد يكونون أمم لا يحصون، فيكون لك كأجرهم؛ لأنك نفست عنهم هذه الكربة العظيمة، لأنهم انقطعوا عن أعمالهم، فإذا دعوت لهم بالخير وترحمت عليهم، وسألت الله أن يفسح لهم في قبورهم وأن ينور عليهم؛ فإن الله عز وجل يثيبك على هذه الدعوة الصالحة: (ولك بمثل)؛ لأنك تدعو لأخيك بظهر الغيب.
ومن هنا يعظم أثرها على الزائر ويتأكد ذلك في حق الوالدين والأرحام والقرابات والشيخ ونحوه ممن له فضل على الإنسان من العلماء والدعاة، ونحوهم ممن لهم فضلٌ على الأمة وفضلٌ على المسلمين؛ فهؤلاء لا شك أن زيارتهم أكثر خيراً في الدعاء لهم والترحم عليهم، ورد شيءٍ من جميلهم على الإنسان كالوالدين والأقرباء الذين لهم حقٌ عليه.
(تُسنّ زيارة القبور): هذه الزيارة المقصود منها -كما قلنا- أن يصلح الحي بالاتعاظ، وحصول الثواب بالدعاء، ومصلحة الميت بالاستغفار له والترحم عليه؛ ولذلك نص العلماء على أنه لا يجوز أن تخرج الزيارة عن هذا المقصود، خاصةً إذا اشتملت على الأمور المحرمة من الفتن، التي من أعظمها أن يُفتن بزيارة الصالح أو من يظن فيه الخير، فيغلو فيه، فيعتقد أنه ينفعه أو يضره، فيزور قبره من أجل أن يحسن إليه أو يكرمه، فهذا كله من المحرم الذي يصل بالإنسان إلى الشرك المخرج من الملة إذا دعاه وسأله واستجار به واستعاذ.
وقد أجمع العلماء والفقهاء في المذاهب كلها على تحريم الزيارة إذا اشتملت على دعاء الأموات أو الاستغاثة أو الاستجارة بهم، أو الذبح عند قبورهم أو الطواف عليها، فليس المقصود من الزيارة أن تحدث هذه الأمور المحرمة؛ إنما شرع الله الزيارة بقوله عليه الصلاة والسلام: (فإنها تذكر الآخرة) فإذا زرت عبداً صالحاً؛ فاسأل الله أن يبلغك ما بلغه من الصلاح.
ولا تكون الزيارة بقصد أن يسأل ما لله من عباد الله، أو يصرف حق الله إلى غيره ولو كان من أصلح عباده، فما للهِ لله، وما لعباد لله لعباد لله، ولا يجوز صرف حقوق الله سبحانه وتعالى إلى غيره، ولو كان ذلك الغير ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57] فلا شك أن هؤلاء إن كانوا صالحين فإنهم ما بلغوا الصلاح إلا بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
فزيارتهم على الوجه المشروع من الاتعاظ بحالهم، والنظر فيهم وفيما هم فيه هو المقصود، بل إنك إذا زرت قبر الصالح كان أدعى لأن تتعظ أكثر وأكثر من أن يصرف حق الله عز وجل لعبد الله؛ فإن المخلوق لو دعوته لا يسمعك، ولو سألته لا يجيبك، ولو وقفت عليه ترجو منه حرفاً واحداً يجيبك به ما استطاع، فهذا أبلغ في الاتعاظ من أن يصرف حق الله عز وجل إليه؛ ولذلك نص العلماء على أنه يجب على المسلم أن ينهى عن مثل ذلك وأن يبينه وأن يوضحه؛ لأنه من أعظم الأمور المفضية إلى هلاك العباد، أعني: الشرك بالله عز وجل.
فإنه إذا غُلي في القبور أصبح أهلها مشركين بالله عز وجل بسؤال أهلها والتعلق بهم والاستغاثة بهم، ومن نظر إلى حال كثير ممن فتنوا بالقبور رأى ذلك واضحاً بيناً، بل إنك لتدمع على الإسلام بين أهله؛ فإنك إذا نظرت إلى صاحب القبر كيف يُستغاث ويُستجار به، ويُذبح عنده ويطاف على قبره لرأيت عجباً، بل لو قلت لأحدهم: احلف بالله ما فعلت، لحلف بالله أيماناً مغلظةً ما فعل، ولو قلت له: احلف بقبر فلان ما استطاع أن يحلف، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظيم الفتنة والغلو في الصالحين.
إنما المنبغي للإنسان أن يجعل زيارته زيارة شرعية قائمة على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، نحب الصالحين وندعو لهم، ونترحم عليهم، ونتشبه بأفعالهم، ونرجو من الله سبحانه وتعالى كما بلغهم هذا الفضل أن يبلغنا من واسع فضله.
أما أن نغلو فيهم وأن نعظمهم وأن نرفعهم فوق أقدارهم فهذا شيءٌ لا يأذن الله عز وجل به، يأبى الله ويأبى رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل الله كتابه ولا بعث رسوله صلى الله عليه وسلم إلا لكي يعرف كل ذي حقٍ حقه، فيعرف ما لله وما لعباد الله، وما كان لله يصرف لله خالصاً لوجهه الكريم، وما كان لغير الله يؤدى إليه كاملاً لا إفراط ولا تفريط؛ ولذلك أثنى الله على المسلمين، وجعلهم على الصراط المستقيم، وجعل شهادة التوحيد قائمةً على هذه الوسطية، فأخرجهم من غلو النصارى في أنبيائهم، وكذلك رفعهم عن إجحاف اليهود في أنبيائهم، فقال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].
وجُعل في الشهادة التي لا يمكن أن ينظر الله لعمل عاملٍ كائناً من كان إلا بعد أن يحققها، ويعتقدها ويقوم بحقها، ويبتعد عما يناقضها، جعل فيها أن تشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن قلت: (عبد الله) خرجت من غلو النصارى، وإن قلت: (رسوله) خرجت من إجحاف اليهود، فرفعته عن انتقاص اليهود للأنبياء.
ولذلك ينبغي للإنسان إذا زار القبور أن يتقي الله عز وجل، وأن يعرف ما لله سبحانه وتعالى وما لعباد الله، وأن لا يغلو في ذلك، وأن يعلم أنه ربما تكون منه الكلمة الواحدة تخرجه من الإسلام والعياذ بالله! فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] وذلك بالغلو، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما دفع من مزدلفة قال
فالغلو في الدين، والغلو في زيارة القبور، أمره عظيم، حتى أن البعض يعتقد أن الدعاء مستجابٌ عند قبر فلان، فلو حج واعتمر ووقف أمام البيت لم يخشع كخشوعه أمام قبر فلان، نسأل الله السلامة والعافية! ولربما تجده في طوافه أو في يوم عرفة ساهياً غافلاً، ولا يكون منه الخشوع كوقوفه أمام قبر عبدٍ من عباد الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية!
ولذلك ينبغي أن تكون الزيارة شرعية بعيدة عن المحارم، ويجب على العلماء وطلاب العلم أن ينصحوا، وأن يبينوا وأن يوجهوا، وأن يأخذوا بهذه الحجج، والعلماء رحمة الله عليهم مجمعون، والمذاهب على اختلافها متفقة على أنه لا يجوز الغلو في القبور، وأنه يجب على أهل العلم وطلاب العلم أن يبينوا حكم الله في هذا؛ فإن هذا هو أصل الدين الذي لا صلاح ولا فلاح ولا نجاة للعبد إلا بتحقيقه.
ومن هنا إذا رأى الإنسان من يستغيث بصاحب القبر أو يستجير به، وسكت مقراً له، فالأمر خطير! وإذا رآه وسكت على منكره ولم ينصحه؛ فإنه يتعلق به يوم القيامة بين يدي الله عز وجل؛ يتعلق به أن ضيع حقاً من أعظم حقوق الله سبحانه وتعالى وهو حق الدعوة إلى توحيده، الذي من أجله أقام الله عز وجل هذه الشريعة، ودعا إليها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله: [تسن زيارة القبور إلا للنساء].
النساء اختلف فيهن على قولين:
القول الأول: تشرع زيارة القبور للنساء كما تشرع للرجال، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: تحرم زيارة القبور على النساء، ويختص الجواز بالرجال دون النساء، وهؤلاء انقسموا على طائفتين:
فمنهم من يقول: إنها محرمة وليست بكبيرة إلا إذا صحبها التكرار والعود؛ لقوله: (زوارات القبور).
ومنهم من يقول: هي كبيرة مطلقاً.
أما الذين قالوا: إن الزيارة مشروعة للنساء، فقد استدلوا بما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) قالوا: وهذا عام، والقاعدة في الأصول: (أن الأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه).
قالوا: ومن استدل بالتحريم بقوله: (لعن الله زائرات القبور) ، فإن هذا الحديث ورد أثناء التحريم، وأما حديث: (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور) فإنه نصٌ صحيح صريح، يدل على أن هذه الإباحة سبقها تحريم؛ ولذلك قالوا: إن ما ورد من التحريم محمولٌ على الزمان المنسوخ، وهذا بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (كنت قد نهيتكم) فلو كان النساء خارجين من هذا الحكم لقال: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها إلا النساء)، ولنص عليه الصلاة والسلام على استثناء النساء؛ فبقي التحريم منسوخاً.
واعترض عليهم بأن هذا الحديث: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها) لا يعارض حديث: (لعن الله زائرات القبور) فقوله: (فزوروها) هذا خاصٌ بالرجال، والتحريم للنساء ورد به النص، قالوا: ولا يوجد دليل يدل على النسخ.
وهذا الاعتراض أجيب عليه من وجهين:
الوجه الأول: أن دلالة النسخ في النص ظاهرة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: (كنت قد نهيتكم) وهذا عام، ثم قال: (فزوروها) وهذا أيضاً عام، فدل على أنه نهي تحريم في الأول، وإباحةٌ في الثاني، فالأول عام، والثاني عام، فلا وجه للتخصيص بدون مخصص.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه نص على النسخ، فقال: (كنت) ثم قال: (فزوروها) وهذه هي صيغة نص واضحة.
أما الدليل الثاني: فقالوا: إن أم المؤمنين عائشة زارت قبر أخيها عبد الرحمن -كما في الأثر الصحيح عنها- بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لها: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور)؟ فقالت رضي الله عنها: لكنه قال بعد: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) .
وهذا الحديث ليس من كلام عائشة ، إنما يكون أثراً عن عائشة يقدم عليه الحديث المرفوع لو كانت عائشة فهمت شيئاً، أما هنا فإنها تنقل النسخ بقولها: (لكنه قال بعد) فقد حضرت تحريماً وحضرت إباحة، ونصت على أن التحريم سابق والإباحة لاحقة، فمثل هذا لا إشكال في دلالته على النسخ وجهاً واحداً عند الأصوليين؛ لأنها حفظت الزمان، وحفظ الزمان في أصله تشريع، بخلاف ما لو اعترضت برأيها كقولها مثلاً: (بئس ما عدلتمونا به) في حديث الكلاب والحمير، فذلك واضح أنه اجتهاد.
ثم إنها رضي الله عنها من أفقه الصحابة وأعلمهن بأحكام النساء، وما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يختلفون في أمرٍ من أحكام النساء إلا رجعوا إليها، ولا أفتت بحكم فراجعها أحد، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما اختلف الصحابة في مسألة الإنزال المشهورة، بعث إلى أم المؤمنين عائشة فحدثته بالحديث، فقال: (من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً).
ونحن نفهم النسخ من ظاهر قوله: (كنت قد نهيتكم) وهو نصٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تأكد هذا بدلالة الصحابي، حيث يعضد ذلك بالبيان في قولها رضي الله عنها: (لكنه قال بعد).
وقد فعلت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال الجمهور: فهذا يدل على جواز زيارة النساء للقبور.
واستدل الذين قالوا بالتحريم بقوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله زائرات القبور -وفي روايةٍ: زوارات القبور-) قالوا: إن اللعن لا يكون إلا على فعل حرامٍ أو ترك واجب؛ وبناءً على ذلك: تكون الزيارة بالنسبة للمرأة محرمة؛ وقوله: (زائرات القبور) يقتضي تخصيص الحكم بالإناث دون الرجال.
ثم أكدوا ذلك من جهة النظر والمعنى، فقالوا: إن المرأة ضعيفة القلب، فلا تأمن إذا دخلت إلى القبور أن تتغير، ولربما تصرخ وتتكشف، خاصةً إذا زارت أقاربها، فإنها لا تأمن من شدة الفاجعة أن تذكر شيئاً أو تنظر إلى أحوال الميت، فيصدر منها الصوت أو يصدر منها الفعل على وجه محرمٍ محظور.
قالوا: بناءً على ذلك فإنه لا يشرع لها أن تزور المقابر، سواء كانت قبوراً عامة أو قبوراً خاصة، لكنها لو مرت بالقبر مروراً وسلمت فلا حرج عليها في ذلك.
والناظر في هذين القولين وأدلتهما يرى أن من قال بالتحريم له وجهٌ بالترجيح من جهة الأصول، والقائل بالجواز له وجهٌ وقوة من جهة الأدلة.
أما الذين قالوا بالتحريم؛ فإن القاعدة في الأصول: (إذا تعارض حاظر ومبيح، يقدم الحاظر على المبيح) ولذلك يقوى قول من قال بالتحريم على قول من قال بالجواز من جهة وجود هذا الأصل؛ لأنه لو قلنا للمرأة الآن: لا تزوري المقابر. فإنه في هذه الحالة يفوتها فضل الزيارة الذي يمكن أن تعوضه بالدعاء والاستغفار للميت والترحم عليه؛ لكننا لو قلنا لها: زوري المقابر. فإننا لا نأمن أن تكون قد أصابت المحظور، أو على الأقل شيئاً مكروهاً؛ ولذلك يكون تغليب باب الحظر من هذا الوجه أقوى وأولى.
ثم إذا نظرنا إلى واقع الناس وحالهم اليوم، وعدم انضباط كثير من النساء بالحدود والضوابط الشرعية؛ فإنه يقوي قول من قال بالحظر.
واتفق العلماء على أنه لا تجوز زيارة المقابر إذا كانت المرأة ضعيفة أو لا تتمالك نفسها أو غلب على الظن أنها تفعل المحظور عند القبر، وإذا كانت شابةً فاتنة وذهبت إلى القبر فتنت غيرها أو فتنت نفسها أو جمعت بين الفتنتين فلا تجوز بالإجماع، فليست هذه مسألة خلافية، إنما الخلاف يكون في امرأة عاقلة حكيمة الغالب على الظن أنها تضبط نفسها، وتريد أن تتعظ؛ فهذا هو الذي يجيزه جمهور العلماء لها من الزيارة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على المرأة وهي تبكي عند القبر لم يقل لها: لعن الله زائرات القبور، ولم يحظر عليها ذلك، قالوا: فقد أقرها عليه الصلاة والسلام؛ لكن الناظر في حال الناس اليوم قد يجد أغلب النساء -إلا من رحم الله- أنهن لا يطقن الزيارة، مع أنه بإمكانهن أن يعوضن هذا الأمر المشتبه فيه إلى أمرٍ لا شبهة فيه بالدعاء والاستغفار للموتى.
قال المصنف رحمه الله: [ويقول إذا زارها أو مر بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم].
هذا هو الدعاء المسنون عن النبي صلى الله عليه وسلم والوارد عنه، وهو من رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين حيث جعل للأموات دعاءً عند الأحياء، وجعل للمسلم على أخيه المسلم أن يذكره بعد موته بالدعوة الصالحة، فإذا مرّ على هذه القبور أو دخلها يقول: السلام عليكم.
السبب في هذا: أنه لما نُزّل الميت منزلة الحي، ودل النص على مشروعية السلام عليه؛ أخذ هذا السلام الأصل الشرعي، فأنت تسلم على من مررت به ومن جئته وجلست معه، فيشرع أن تسلم مارّاً ويشرع أن تسلم داخلاً.
قوله: (السلام عليكم) المراد به السلامة من الآفات والشرور، وهو اسمٌ من أسماء الله تعالى، لكنك إذا قلت: (السلام عليكم) لا تقصد هذا الاسم، وإنما تقصد معناه، أي: سلمكم الله من الآفات والشرور وغيرها من المصائب.
وأما بالنسبة للأموات فإن الأموات لا يأمنون في قبورهم من الفتن وعذاب القبر، وما في القبر من الأهوال والشدائد، نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا منها، وأن يلطف بنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
فشُرِع أن تقول: السلام عليكم، أي: سلمكم الله، فإن كانوا معذبين سلمهم الله بدعائك، وإن كان ينتظرهم العذاب فإن الله سبحانه وتعالى يقيهم بصالح دعائك.
قوله: (دار قومٍ مؤمنين) فيه فوائد:
الفائدة الأولى: وصف القبور بكونها داراً، فيدل على أن الدور ثلاثة، كما هو مذهب السلف الصالح رحمة الله عليهم: الدنيا، والآخـرة، والبرزخ.
وقد أشار الله عز وجل إلى ذلك، أما الدنيا والآخرة فواضح، قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا [القصص:83] فجعلها آخرة وجعل الدنيا للعمل، وكذلك أيضاً قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17] فذكر دارين.
أما الدار الثالثة -وهي البرزخ-: فقد أشار إليها: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100] فدل على أن البرزخ دار، وذلك في قوله: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين.
الفائدة الثانية: أنه لما قال: (دار) أخذ منه بعض العلماء أنه لو حلف وقال: والله لا أدخل داراً، فدخل القبر أنه يحنث، وقال بعض العلماء: لا يحنث؛ والسبب في هذا: أن الدار في العُرف هي الدار المعروفة ولا تشمل القبور؛ فانصرف هذا اللفظ اللغوي إلى المعروف عرفاً، وهذا من باب تعارض الحقيقة اللغوية مع الحقيقة العرفية.
فإن قيل: إنه يؤاخذ على وصفه بالدار فيستقيم قول من قال: إنه يحنث؛ لأنه المقابر وصفت بكونها داراً.
ومدة هذه الدار من يوم دفن الإنسان إلى أن يبعثه الله عز وجل؛ ولذلك ورد في حديث البراء (هذا مقامك حتى يبعثك الله) وبناءً على ذلك يقولون: حتى لو أن هذا الرفات نقلته الريح، وأشلاءه وأعضاءه أخذتها السباع ونحو ذلك فلا يزال الحكم للقبر الذي قُبِرَ فيه، ولذلك يقول بعض العلماء: إن العبرة بالقبر نفسه؛ لأنه داره ولو قُبر فيه الملايين.
ثم لو قبر ملايين الصالحين في مكانٍ واحد لأفسح الله لكل صالح مد البصر، ولا يعجزه سبحانه وتعالى شيء، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] وهذه من الغيبيات والسمعيات، التي لا يخاض فيها بالعقل؛ لأن العقل لا يمكن أن يدرك هذه الأشياء، ولا يمكنه أن يدخلها، ولما دخل فيها الفلاسفة بالعقل والمنطق وقعوا في الحيرة والظلام، ووقعت منهم زلات وأخطاء عظيمة، حتى أن بعضها تمس اعتقاد الإنسان، حتى إن بعضهم يقول: إن هذه تخيلات -أي: لا حقيقة لها-!! حسبنا الله ونعم الوكيل، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب يوم القيامة) وهو آخرك الذي تراه مثل الدائرة، فإنه إذا أذن الله عز وجل ببعث الناس تركب المخلوق وابتدأ خلقه من عجب الذنب، وقامت عليه أعضاؤه، فإذا هو قائمٌ بين يدي الله عز وجل.
وقوله: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين): فالدار دار قومٍ كافرين، ودار قوم مؤمنين، ومن هنا نفهم أن الزيارة تختص بمقابر المسلمين، فلما قال: (دار قومٍ مؤمنين) فهمنا أنه لا تشرع زيارة قبور الكفار؛ لكن إذا زارها الإنسان للاتعاظ لا للدعاء ففي هذه الحالة التي أشار إلى العلة فيها: أنه إذا كانت لمصلحة الحي جاز له أن يمر بها متدبراً متأملاً، ويبشرهم بما عند الله من العذاب والعقوبة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من مر بقبور الكفار أن يبشرهم بما عند الله من العذاب والنكال؛ حتى يزدادوا غماً إلى غمهم وهماً إلى همهم، نسأل الله السلامة والعافية.
فالزيارة تختص في الأصل بقبور المؤمنين، لكن بالنسبة لقبور الكفار: فإنه إذا نظر إليها متعظاً متدبراً أو موبخاً مبكتاً -كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في قليب بدر- فلا حرج في ذلك، أما لمصلحة المزور فلا، وهذا مما تختص به قبور المسلمين عن قبور الكافرين؛ قوله: (من المسلمين والمؤمنين) من باب التنويع؛ فإنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا ذُكر أحدهما شمل الآخر.
وقوله: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين) المراد بذلك أهل الإسلام، سواءٌ كانوا من المؤمنين أو في درجة الإسلام أو الإحسان، فالكل داخل في هذا العموم، وأما رواية (من المؤمنين) فإنها عامة بالنسبة لأهل الإسلام.
قوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: متى شاء الله، وهذا تعليق بالزمان، ويجوز التعليق بالزمان، مثل: متى شاء الله أزرك، ومتى شاء الله آتك، ومتى شاء الله أعطك.. فهذا تعليقٌ بالزمان، ولذلك يقسم العلماء (إن شاء الله) إلى تحقيقية وتعليقية:
فالتحقيقة: كقولك: (إن شاء الله أزرك) أي: أنك جزمت بأنك زائر فقصدت التحقيقية، كقولك: أنا إن شاء الله فاعلٌ كذا. بقصد أنه واقعٌ منك ولا بد بعد قدرة الله عز وجل لك.
وأما التعليقية: فهي التي يعلق بها المكلف الفعل فيما يستقبل من الزمان.
وهذا النوع الثاني -وهي التعليقية- تحظر في الدعاء، كأن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، لأنه يعلق مغفرة الله على مشيئة الله، فإن الله لا مستكره له، بل عليه أن يعزم المسألة ويقول: اللهم اغفر لي وارحمني.
فتشرع التحقيقية بأن يقولها الإنسان تحقيقاً للأمور كقوله: إن شاء الله سآتيك، ويقصد التحقيق والتعليق.
وهذا الحديث: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) تُحمَل فيه على التحقيقية إذا قُصِد بها الموت، فإنه لا محالة أننا ميتون؛ لأن الله يقول: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] فأخبر أن الإنسان ميت، وأنه لاحق بهؤلاء القوم إما عاجلاً أو آجلاً، وكل ما هو آتٍ قريب؛ ولذلك يقول: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: إن لحقونا بكم مؤكد، فلا يحول بين الإنسان والموت إلا عدم حضور أجله، وإلا فهو ميتٌ، إذا ثبت هذا على هذين الوجهين يكون التعليق لا إشكال فيه.
وقوله: (لاحقون): اللاحق هو الذي يأتي تبعاً للإنسان، فلما تأخر موت الزائر عن المزور وصف نفسه بكونه لاحقاً له.
قوله: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) وفي بعض الروايات: (يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين).
(المستقدمين): تَقدُّم الشيء على الشيء معلوم ومعروف، وقوله: (المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) هذا عموم بذكر أفراد العام، حيث قسم الناس إلى متقدم ومتأخر، والناس إما سابق وإما لاحق، فقال: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين).
ثم إن قوله: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) هذه دعوة عامة تشمل الأحياء والأموات، فالأموات متقدمون والأحياء متأخرون.
(اللهم) أي: يا ألله، والميم تأتي عوضاً عن حرف النداء (يا) ولذلك لا يصح أن يقال عربية: (يا اللهم) إلا في قريض الشعر؛ لأنه لا يجمع بين البدل والمبدل، وقد أشار ابن مالك إلى ذلك بقوله -رحمه الله-:
والأكثر اللهم بالتعويض وشذ يا اللهم في قريض
ومن هذا الشاذ الذي يكون في القريض والشعر قول الشاعر:
إني إذا ما حدث ألم ناديت يا اللهم يا اللهم
أي: يا ألله.. يا ألله.
وقوله: (اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي: لا تحرمنا ما كانوا فيه من الخير، والسبب في ذلك: أن الإنسان مع الميت على إحدى حالتين إذا كان الميت صالحاً؛ لأنك إذا زرت المؤمنين فالأصل أنهم توفوا على الإيمان فقد نجوا من الفتنة -أعني فتنة الكفر والخلود في النار- فإذا زارهم الزائر لا يخلو بعدهم من حالتين:
إما أن يكون بقاؤه بعدهم لخيرٍ يزداد منه، وإما أن يبقى لشرٍ يزداد فيه، أو لفتنة تنتظره يكون بها شقاؤه.. نسأل الله السلامة والعافية.
فإن بقي لخيرٍ فهو أفضل، حتى ورد في الحديث الصحيح في الرجلين الأخوين اللذين كان أحدهما أصلح من الثاني، فمات الصالح وتأخر من هو أقل صلاحاً أربعين يوماً فاختلفوا: أيهما أصلح؟ فخرج النبي عليه الصلاة والسلام
قال: (وما يدريكم ما الذي تبلغ به صلاة أربعين يوماً) فلا شك أن الإنسان إذا بقي بعد الميت ولو يوماً واحداً فإن الله قد يبلغه في هذا اليوم ما لم يبلغه في سنوات ودهور، كما في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم الرجل ثم حمل على القوم فقُتل شهيداً، قال صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأُجر كثيراً) .
ومن هنا كان الأمران، فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي: أحينا بعدهم حياةً طيبةً تبلغنا إن كانوا صالحين ما هم فيه من الصلاح، وزدنا من فضلك.
فقوله: (لا تحرمنا أجرهم) أي: ما بلغوه من الخير والفضل.
وقوله: (ولا تفتنا بعدهم) أي: لا تجعل بقاءنا بعدهم إلى فتنة ولا إلى شرٍ ومصيبة؛ ولذلك ورد في الدعاء المأثور: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) ففتنة المحيا: أن يبقى الإنسان إلى عيشٍ ودهرٍ لا خير فيه، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل على قبر أخيه ويقول: يا ليتني مكانك) وهو لا يريد الموت، وإنما من عظيم ما يرى من ضيق الدنيا ونكدها وأهوالها وفتنها.
وقال بعض العلماء -وهو الوجه الثاني-: (لا تحرمنا أجرهم) أي: احتساب الثواب فيهم من الصبر على مصابهم؛ لأن الزائر في الغالب يزور من يعرفه من الأقارب والأحباب والأصحاب، فإذا نظر إلى قريبه فإنه ربما يثور فيه الحزن، ولربما تهيج فيه الأشجان، وقد يزور صديقه فيتذكره فيتأثر.
اثنان لو بكـت الدماء عليهما عيناك حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهمـا فقد الشباب وفرقة الأحباب
ففراق الإنسان ممن يحبه، خاصةً إذا كانت المحبة في الله له أثر كبير على النفس، فإذا وقف على قبره تذكر حين كان بالأمس وهو بجواره يضحك معه ويؤنسه ويجالسه ويباسطه ثم صار لا يبصر منه شيئاً، فبعد أن كان معه:
كأن شيئاً لم يكن إذا انقضى وما مضى ممن مضى فقد مضى
فإذا به كأنه لم يعرفه وكأنه لم يره، فهذا لا شك أنه يثير في الإنساب الحزن والشجى، وخاصةً إذا زار قبر والده أو والدته، أو من له عليه حق كشيخه ونحو ذلك ممن له عليه فضل أو عليه مِنّة، كإنسان كان يحسن إليه في الحياة، وكان يقف معه في الشدائد بعد الله عز وجل، وكصديقه الصادق في محبته ومودته، فيقف اليوم في الدنيا ولا يجد إلا الله سبحانه وتعالى، لا شك أنه يحس بأثر الفقد ويتأثر بذلك؛ فيثور الحزن فيه غالباً، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الزيارة: (اللهم لا تحرمنا أجرهم) حتى إذا ثار له هذا الحزن تذكر ما عند الله من الثواب؛ فرجع وأناب إلى الله سبحانه وتعالى؛ فقوي يقينه على الصبر.
والأدعية تقوي اليقين عند الإنسان على الصبر وتقوي يقينه بالله سبحانه وتعالى؛ ولذلك إذا نظر الإنسان إلى دعاء المصيبة: (إنا لله وإنا إليه راجعون) خفت عليه المصيبة؛ لكن إذا قالها بتأمل وتدبر وتعقل، فإنه لم يقل: (إنا لله) كأن شيئاً لم يكن؛ لأن الشيء ما دام أنه راجعٌ لله وملكٌ لله، فالله يفعل ما يشاء، يحكم ولا معقب لحكمه، فإذا به تطمئن نفسه، لا يقول: لماذا مات، ولماذا فات، ولماذا ذهب؟ لأن الله عز وجل له حكمه في عباده.
(إنا لله) أي: نحن ملك لله يفعل ما يشاء.
ثم يقول: (وإنا إليه راجعون) فيتذكر أنه مثل ما صار إليه أخوه سيصير.
كذلك هنا: إذا تذكر ما بينه وبينه من الود فقال: (اللهم لا تحرمنا أجره) تذكر كذلك فزاده على الصبر؛ لأنه لا يكون له الأجر إلا بالصبر، فيدعوه ذلك أن يقوي يقينه على الصبر والثبات، فلا يجزع عند زيارته للقبر، فهذا من الدعاء المناسب للحال، بمعنى أن تكون كلمات الدعاء والألفاظ المختارة للدعاء مناسبة لحال الداعي، كقوله عليه الصلاة والسلام يوم الخندق: (اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا) فإن هذا من مناسبة الحال؛ لأن بني قريظة كانوا على العورة، وأما الروعات فممن أمامهم من الأحزاب، فيكون قوله: (لا تحرمنا أجرهم) من باب مناسبة الحال.
قوله: (ولا تفتنا بعدهم) الفتنة تشمل الفتنة الكاملة بالخروج من الإسلام -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك وصف الله عز وجل الكفر بكونه فتنة، والشرك بكونه فتنة، كما أخبر أنها أشد من القتل، قال تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:191] فتطلق الفتنة بالمعنى الكفر بالخروج من الملة، وتطلق بمعنى: ضعف الدين، وانصراف بقولٍ أو فعل إلى ما لا يرضي الله عز وجل. لأنه يُفتن عن صراط الله، فكل ذنبٍ يصرفه عن صراط الله عز وجل يعتبر فتنة.
وقوله: (واغفر لنا ولهم)، الغفر: هو الستر، غفر الشيء إذا ستره، ومنه سمي المغفر: وهو ما يوضع على الرأس لكي يقيه ضربات السيوف في الحرب، فسمي مغفراً لكونه يستر، ولما كان العبد إذا أذنب واستغفر ربه وسأله أن يغفر له؛ كأنما لم يكن منه ذنب وتاب عليه، كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه) فكأنه لم يقع منه شيء لا قولاً ولا فعلاً؛ فالشيء إذا سُتر وحجب عن الأنظار كأنه غير موجود.
فقوله: (واغفر لنا ولهم) هذا مما استحبه بعض العلماء، ولا يعتبر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (نسأل الله لنا ولكم العافية) العافية تكون في الدنيا والآخرة؛ ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه العافية في الدنيا والآخرة، والعافية فيها سلامةٌ للإنسان: (وقد جاء
والعافية تكون من مصائب الدين ومصائب الدنيا، هذا إذا كانت في الدنيا، وأما بالنسبة للآخرة فهي العافية مما فيها من العذاب والعقوبة، وغضب الله سبحانه وتعالى على العبد.
وقوله: (نسأل الله لنا ولكم العافية) هذا دعاء طيب محمود مناسب للمقام، فإنهم إذا كانوا في فتنة وضيق وشدة فإن الله يعافيهم منها، وإن كانوا قد عذبوا ونالوا آثار العذاب في أرواحهم وأجسادهم فإن الله سبحانه وتعالى يدفع ذلك بقوله: نسأل الله لنا ولكم العافية، فيكون من مصلحة الحي والميت.
قوله: (ونسأل الله لنا ولكم) قوله: (لنا) هذه هي السنة: أنك إذا كانت عندك دعوة للغير، وتريد أن تدعو لك ولغيرك أن تبدأ بنفسك قبل غيرك، فتقول: اللهم اغفر لي وللمسلمين، رب اغفر لي ولوالدي، كما قال تعالى: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41] فيبدأ الإنسان بنفسه، ثم بعد ذلك بالأقرب فالأقرب، ثم بعد ذلك عامة المسلمين.
فقوله: (نسأل الله لنا): هذا من باب الابتداء بالنفس، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأ بنفسك) وهذه هي السنة، ولذلك يعتبر مما يخالف السنة أن يقول: أسأل الله لك ولي العافية. فإنه إذا قال: أسأل الله لك ولي العافية، هذا التقديم من باب الإيثار في القرب، وأمور الدين لا يقدم فيها الإنسان على نفسه، وهذا يقوي قاعدة: (لا إيثار في القرب)؛ لأن الدعوة قربة وخير، فيبدأ بنفسه قبل أن يدعو لغيره، ولأنه إذا دعا لنفسه استحضر، وبعد ذلك يكون للغير على وجهٍ معتبر.