شرح زاد المستقنع باب صلاة الجمعة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الجمعة].

الجمعة: مأخوذة من الاجتماع، وهو ضد الانفراد.

وسميت الجمعة جمعة لأجل اجتماع الناس، وذلك أن الناس يجتمعون للخطبة والصلاة، فوصفت هذه الصلاة بهذا الوصف لاشتمالها على اجتماع الناس.

وقيل: لأن الله عز وجل جمع في هذا اليوم خلق آدم، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فيه خلق آدم).

وقيل: لاجتماع الخلق فيه بخلق آدم.

وقيل: سميت (جمعة) اسماً إسلامياً، ولم يكن ذلك معروفاً في الجاهلية، وذلك أن هذا اليوم كانوا يسمونه يوم العروبة، ثم إن الإسلام سماه باسم يوم الجمعة وهذا هو الصحيح، فلم يكن اسماً جاهلياً وإنما سمي في عصر الإسلام.

وهذا اليوم هو أفضل أيام الأسبوع، وهو خير أيام الأسبوع، وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه تاب الله عز وجل عليه، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وما من يوم جمعة يصبح العباد فيه إلا وكل دابة مصيخة -أي: مستمعة- تخاف أن تقوم الساعة، ولذلك عظم الله شأن هذا اليوم، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير الأيام.

وقد اختلف العلماء في خير الأيام:

فقال بعض أهل العلم: خير الأيام هو يوم الجمعة.

وقال بعض العلماء: خير الأيام هو يوم عرفة.

وهذان قولان مشهوران للعلماء، فمنهم من يقول: يوم الجمعة أفضل من يوم عرفة. ومنهم من يقول: يوم عرفة أفضل من يوم الجمعة. وفائدة هذا الخلاف تظهر فميا لو أن إنساناً قال: لله عليَّ أن أعتق عبدي في أفضل أيامه فمن يقول: إن يوم الجمعة هو أفضل الأيام يقول: إنه يقوم بفعل الطاعة في هذا اليوم ويجزيه، ومن يقول: إن يوم عرفة هو أفضل يقول: لا يخرج من نذره ولا تبرأ ذمته إلا بالعتق يوم عرفة.

وأصح الأقوال عند المحققين أن التفضيل نسبي، فيكون يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة أفضل أيام العام، وذلك أن الله اختار فكان الاختيار نسبياً، فإن نظر إلى أيام الأسبوع المتكررة فإن أفضل شيء هو يوم الجمعة، على ظاهر النص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة إلى العام كله فخيرها وأفضلها يوم عرفة، وهذا التفضيل النسبي فيه جمع بين النصوص، وذلك أن تفضيل كلا اليومين قد خرج من مشكاة واحدة، ولا شك أن الوحي بريء من التعارض، ولذلك يجمع بهذا الجمع، فيقال بتفضيل الجمعة بالنسبة للأسبوع، وبتفضيل يوم عرفة بالنسبة للعام كله.

وقد شرع الله الجمعة وفرضها، ودلّت الأدلة على هذه الفرضية، كما في دليل الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانعقد إجماع العلماء رحمة الله عليهم على وجوب الجمعة، وأنها فرض عين على المكلفين بشروطها المعتبرة.

أما دليل الكتاب على وجوبها فقوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، فإن قوله تعالى: (فاسعوا) أمر، والأمر دال على الوجوب، فأمر سبحانه وتعالى بالمضي إلى الجمعة، فدل على لزومها وأنها من فروض الأعيان.

كذلك أيضاً ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي دلت على وجوبها، ومن أقوى ما ورد في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليطبعن الله على قلوبهم -وفي رواية: أو ليختمن الله على قلوبهم- ثم ليكونن من الغافلين)، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أنه توعد من ترك الجمعة وتخلف عنها، وهذا يدل على حرمة تركها من غير عذر، وإذا كان تركها من غير عذر حراماً، فإن هذا يدل على وجوبها؛ لأن الوعيد إنما يأتي على ترك الواجب أو فعل المحرم.

وانعقد الإجماع على وجوب الجمعة ولزومها، وهذا على تفصيل سنذكره، فهناك من تلزمه وهناك من لا تلزمه إذا وجد العذر لسقوط الوجوب عنه.

والجمعة يوم فضله الله وشرفه، وقد شرعه الله عز وجل لهذه الأمة، وفضلها وشرفها بدلالتها على هذا اليوم، كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إننا السابقون، وإن أهل الكتاب تبع لنا) ، فأضل الله اليهود والنصارى عن هذا اليوم المفضل المكرم المشرف المعظم، وهدى إليه أمة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فأصبحت بهذه المنزلة العظيمة حيث شرّفها الله بهذا اليوم الذي فيه الفضائل العظيمة، حتى ذكر بعض العلماء أن هناك ما يقرب من مائة فضيلة تخص هذا اليوم، فاليهود ضلوا عنه فأصابوا يوم السبت ولم يصيبوا الجمعة، والنصارى ضلوا عنه فأصابوا يوم الأحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (اليهود غداً والنصارى بعد غد) ، وهذا يدل على فضل هذا اليوم، وتفضيل الأمة باختياره لها واختيارها لهذا اليوم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

فالناس في يوم الجمعة يجتمعون لكي يعرف المسلم إخوانه، وينظر أحوالهم، ويتفقد أمورهم، وقبل ذلك يجتمعون في كل يوم على خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فيجتمعون في أحيائهم، ثم إذا كان يوم الجمعة تداعى الناس من أطراف المدينة، فنظر المسلم إلى إخوانه الذين يعيشون معه في بلدته ومدينته، فإن كان غنياً عطف على الفقراء والضعفاء والمحتاجين وواساهم، وكذلك تنبه لإخوانه المرضى والمنكوبين فزارهم وعادهم، كما يجتمع الناس يوم الجمعة لكي يشعروا بألفة الإسلام ومودته ومحبته، ويشعر الناس أنهم أمة واحدة بهذا الدين الذي جمع بينهم على اختلاف أحسابهم وأنسابهم وأقطارهم وألوانهم، وكل ذلك من الله سبحانه وتعالى بحكم عظيمة ينبغي للمسلم أن يتنبه لها، فليس هذا الاجتماع يراد به أداء الصلوات مجردة عن هذا الشعور الإسلامي النبيل الذي يحس به المسلم أنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد يشد من أزره ويعضده ويناصره ويؤازره ويتعاون معه على الخير.

قال رحمه الله تعالى: [تلزم كل ذكر حر مكلف مسلم].

أي: تجب الجمعة على كل ذكر. وقلنا: إن اللزوم والوجوب دليله دليل الكتاب والسنة والإجماع.

وقوله: [ذكر] خرج به الأنثى، فالجمعة لا تلزم الأنثى، إذ قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن المرأة لا تجب عليها الجمعة، ولكن لو حضرت المرأة الجمعة فإنها تصح منها ولذلك تعتبر النساء من الطائفة الذين لا تلزمهم الجمعة، ولكن إذا حضرنها صحت منهن، ولذلك قالوا: إن النساء لا تلزمهن الجمعة ولا الجماعات، فلا تلزمهن الصلوات الخمس جماعة، وكذلك لا تلزمهن الجمعة.

وقوله: [حر].

خرج به العبد، فالعبد لا تلزمه الجمعة في قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وخالف داود الظاهري فقال بوجوبها ولزومها على العبد، ووافقه الإمام أحمد في رواية، وقالا: إن العبد يجب عليه أن يشهد الجمعة؛ لأنها فرض عيني فاستوى هو والحر.

وقد جاء في سقوط الجمعة عن العبد حديث عن طارق بن شهاب ، وهذا الحديث تكلّم العلماء رحمهم الله على سنده؛ لأن طارقاً لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض الرواة تكلم فيهم، وتسامح بعض أهل العلم رحمة الله عليهم فيه؛ لأنه وإن كان طارق لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صحابي؛ لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، فهو صحابي، ويكون حديثه أشبه ما يكون بمرسل الصحابي، وقد دل هذا الحديث على سقوط الجمعة عن العبد والمريض والمسافر والمرأة، فقالوا: إن العبد لا تجب عليه الجمعة؛ لأنه مشغول بخدمة سيده، والله أمره بأن يكون في خدمة سيده، فلذلك لا تجب عليه الجمعة.

والقول بوجوبها على العموم من القوة بمكان، إلا إذا وجد ما يشهد للحديث بالصحة فلا إشكال.

قوله: [مكلف].

التكليف شرطه البلوغ والعقل، فلا نقول للصبي صلِّ الجمعة على سبيل الإلزام، فلا تلزمه الجمعة ولا تنعقد به، والمجنون لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه، وسنبين معنى الانعقاد.

وأما بالنسبة للصبي فإنها لا تنعقد به ولا تلزمه، ولكن تصح منه إن فعلها، وهذا إذا كان مميزاً لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فدل على أن الصبي لو صلى صحت صلاته وكانت معتبرة، ولكن لا تجب عليه.

فالتكليف شرطه البلوغ والعقل، فالمجانين لا يطالبون بشهود الجمعة، وكذلك الصبيان، ولكن يؤمر الصبيان في قول بعض العلماء بشهود يوم الجمعة أمر تعليم وإرشاد، وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نأمر الصبيان بالصلاة، ولم يفرِّق بين الجمعة وغيرها، فلذلك يأمر الوالد ولده إذا بلغ سبع سنين أن يشهد الجمعة ولا يلزمه بها، ثم إذا بلغ العاشرة فإنه يضربه إن تخلف عنها.

والتكليف -كما قلنا- شرطه البلوغ والعقل، ولا يحصل التكليف باختلال أحد الشرطين، وقد نظمها من قال:

وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل

أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر

فقوله: مع البلوغ بدم أو حمل

أي: علامة البلوغ دم المرأة إذا حاضت، والحمل يعتبر دليلاً على كونها بالغة.

وقوله: أو بمن

أراد به الاحتلام لظاهر حديث علي رضي الله عنه.

وقوله: (أو بإنبات الشعر).

أي: يعتبر البلوغ: بإنبات الشعر كذلك، وأصح الأقوال أن الإنبات يعتبر دليلاً على البلوغ، أي: ظهور شعر العارضين، وشعر العانة، وشعر الإبط على خلاف فيه.

وقوله: أو بثمانية عشر حولاً ظهر

الصحيح أن سن البلوغ خمسة عشر، وثمانية عشر هو مذهب المالكية والحنفية في الذكور، وسبعة عشر في الإناث، وأما عند الشافعية والحنابلة فخمسة عشر، وهو الصحيح لحديث ابن عمر .

والحاصل أن الإنسان غير مكلف ومأمور بالجمعة أمر إلزام من جهة التكليف إلا إذا كان بالغاً عاقلاً، فلما قال: (مكلفٍ) أشار إلى هذين الشرطين.

وقوله: [مسلم].

خرج به الكافر، والكافر مختلف فيه، فمن يقول: إنه غير مخاطب بفروع الإسلام يقول: لا تلزمه حتى يسلم. ومن يقول: إنه مخاطب بفروع الإسلام يرى أن الكافر ممن تلزمه الجمعة ولا تصح منه.

قوله: [مستوطن ببناء اسمه واحد ولو تفرق].

أي: تلزمه الجمعة إذا كان مستوطناً ببناء، والسبب في ذلك أن الأصل في المكلف أن يصلي صلاة الظهر، فإذا انتقل عن هذا الأصل إلى صلاة الجمعة ركعتين فكأننا بالجمعة نسقط عنه التكليف بالركعتين الأخريين، فلا نسقطها إلا على الصفة التي وردت عليها الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت في دليل أن الجمعة يصليها غير المستوطن، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر وزال عنه وصف الإقامة والاستيطان لم يجمِّع صلوات الله وسلامه عليه، فدل هذا على أن الاستيطان شرط، وهناك أحاديث ضعيفة في اشتراط الاستيطان في الجامع، والصحيح أن هذا الاستيطان منتزع من صورة الأصل، ولذلك يقولون: لا تصح الجمعة لغير المستوطنين.

وبناء عليه فأهل البادية الذين يرحلون للمرعى، والذين إذا نزل المطر في موضع ينتقلون إليه ولا يثبتون في مكان، بل ينتقلون على حسب المراعي لا تجب عليهم الجمعة، ولا نلزمهم بها؛ لأنهم غير مستوطنين في موضعهم، ولو استوطنوا صيفاً فإنهم يرتحلون شتاءً، ولو استوطنوا شتاءً فإنهم يرتحلون صيفاً، ولو استوطنوا ربيعاً فإنهم يرتحلون في الخريف، وهكذا، فليسوا بمستوطنين، والاستيطان -كما ذكر المصنف- إنما يعتبر إذا كان ببناء وكانت فيه الجوامع، كالمدن والقرى العامرة، فهذا لا إشكال فيه، أما لو كانوا غير مستوطنين كأهل العمود والخيام فإنه لا يحكم بوجوب الجمعة عليهم، ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كانوا في البادية أن يجمِّعوا، فدلّ على أن الجمعة إنما تكون لأهل الجوامع والأمصار والمدن والقرى ونحوها.

قوله: [اسمه واحد ولو تفرق].

أي: يكون هذا البناء اسمه واحد ولو تفرقت بيوت أهله، فبعض المدن تكون فيها المحلات وقد تتباين وتتباعد، لكنها في حكم المدينة الواحدة واسمها واحد، ولو تفرق البنيان بأن تكون في منطقة خمسة بيوت، وفي أخرى خمسة بيوت، وخمسة بيوت في منطقة أخرى، ونحو ذلك لكنها في حكم المدينة الواحدة، فإنهم يعتبرون كالمستوطنين في الجامع، وتجب عليهم الجمعة.

قوله: [ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ].

أي: من شروط إلزام المكلف بالجمعة ألا يكون بين المكلف وبين المسجد الذي فيه الجمعة أكثر من فرسخ، والسبب في ذلك أن الجمعة إنما تجب بسماع النداء، والنداء يسمع في حدود فرسخ إذا كان في زمن ليس بشديد الحر، ولا تتحرك فيه الرياح كالحال في الفجر. ويقوِّي هذا ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد شهد الصحابة الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم من قباء، وكذلك من ضواحي المدينة كالعوالي، وهي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال أو أربعة، على حسب قرب المزارع ودنوها من المدينة، فهي في حدود الفرسخ، والفرسخ، ثلاثة أميال، كما قيل:

إن البريد من الفراسخ أربـع ولفرسخ فثلاثة أميال ضعوا

فالفرسخ ثلاثة أميال، وهذا القدر إنما هو نسبي تقريبي، فمن كان في هذه المسافة فإنه يسمع النداء وتلزمه، وبناء على ذلك قالوا: إذا كان بعيداً عن المصر أو عن الجامع بهذا القدر يلزمه أن يصلي الجمعة، أما لو كان -مثلاً- على بعد سبعة كيلو مترات فما فوق فإن هذا لا تجب عليه الجمعة، ولكن يصلي ظهراً، فإن نزل وجمَّع فلا حرج فمثل هذا يقال فيه: لا تلزمه، وإن حضرها صحت وانعقدت به، فهو على غير المسألة المعتبرة.

لكن بالنسبة للذين هم داخل المدن ولو كانوا على بعد عشرين كيلو متراً فإنه تلزمهم الجمعة، فلو كانت المدينة طولها -مثلاً- أربعون كيلو متراً وكان بعدهم عن وسط المدينة الذي يكون فيه المسجد قرابة عشرين كيلو متراً، فإنه تلزمهم الجمعة؛ لأنهم في حكم البلد الواحد، وبناء على ذلك يلزم القريب والبعيد داخل المدينة أن يصلي الجمعة، ولا يقال: إن من كان على بعد أحد عشر كيلو متراً من وسط المدينة لا تلزمه الجمعة. بل نقول: إن من كان على حدود المدينة يلزمه أن يجمِّع مع أهلها.

قال رحمه الله تعالى: [ولا تجب على مسافر سفر قصر ولا على عبد وامرأة].

أي: لا يلزم الإنسان إذا كان في السفر أن يصلي الجمعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة في السفر، ولم يثبت عنه في أي سفر من أسفاره أنه جمع، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المسافر لا تلزمه الجمعة، ويؤكد ذلك فعله صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة، فإنه خطب الناس خطبة حجة الوداع، وقد كان بالإمكان أن يصليها جمعة، وقد كان أهل مكة معه عليه الصلاة والسلام ومع ذلك لم يصل بهم جمعة.

ومن البدع والغرائب التي يقع فيها من لا ينتبه لهذه الأحكام الشرعية أنه ربما يخرج بعضهم إلى رحلة مبتعدين عن المدينة مسافة قصر ثم يصلون جمعة، وقد يمكثون شهراً أو أسبوعين أو ثلاثة، فجمعتهم باطلة وتلزمهم إعادتها ظهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الناس في السفر، وقد سافر صلوات الله وسلامه عليه ولم يثبت عنه حديث صحيح أنه صلى الجمعة في السفر، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا جمعة على المسافر إذا كان في حال السفر.

أما لو دخل المسافر المدينة، كرجل من أهل المدينة قدم إلى مكة يوم الجمعة، فقد اختلف في هذا العلماء: فمنهم من قال: يلزمه أن يصلي معهم الجمعة. ومنهم من قال: لا يلزمه، على الخلاف الذي ذكرناه في الجماعة.

وقد استدل العلماء بحديث طارق بن شهاب في ذكره للأربعة الذين لا تجب عليهم الجمعة حين ذكر منهم المسافر، فقالوا: إن المسافر لا تلزمه الجمعة.

قوله: [ولا على عبد].

أي أن العبد لا تلزمه الجمعة، فالمصنف شرع في ذكر عكس الشروط المتقدمة للايجاب من قوله: [ولا تجب على مسافر...]؛ فلما ذكر لنا أنها تلزم الحر ذكر هنا أنها لا تلزم العبد، فهو عكس ما ذكرناه من الشروط.

قوله: [وامرأة].

أي: لا تجب الجمعة على النساء لما ذكرناه.

قال رحمه الله تعالى: [ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به].

أي: من حضرها من العبيد ومن النساء؛ لأنهم ليسوا من أهل الجمعة.

قوله: [ولم تنعقد به].

مسألة الانعقاد ترجع إلى اشتراط عدد المصلين للجمعة، فمذهب الجماهير أنه يشترط لها عددد معين، ثم اختلفوا في هذا العدد:

فقال بعضهم: أربعون. وقال بعضهم: اثنا عشر. وقال بعضهم: أربعة. وقال بعضهم: اثنان. فهذه مشهورات الأقوال في هذه المسألة، فلو قلنا: إن العدد يشترط فيه أن يكون أربعين، فإنه إذا حضر تسعة وثلاثون من الرجال البالغين العاقلين وحضرت امرأة، لا تنعقد الجمعة، وكذلك لو حضر عبد على هذا القول الذي ذكرناه، لكن الصحيح أن العبد يلزم بالجمعة وتنعقد به، فلو حضر تسعة وثلاثون وعبد فإنه انعقدت به الجمعة.

قال رحمه الله تعالى: [ولم يصح أن يؤم فيها].

أي: أن امرأة حضرت فلا تصلي ولا تجمِّع بغيرها ولو بنساء، وكذلك العبد، فإنه لا يجمِّع بالأحرار في قول طائفة من أهل العلم رحمهم الله، واختاره المصنف.

وذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم إلى أن العبد تصح إمامته في الجمعة.

وقد قررنا أن العبد تصح جمعته ويلزم بها، وعلى ذلك فأنه لو صلى بهم صحت إمامته واعتد بتلك الجمعة وكانت مجزئة.

قال رحمه الله تعالى: [ومن سقطت عنه لعذر وجبت عليه إذا حضرها وانعقدت به].

من مرض مرضاً يعذر به في عدم شهود الجمعة فتحامل على نفسه واحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى حتى جاء ودخل المسجد، فحينئذٍ تجب عليه وتنعقد به وتصح إمامته للناس، فلو أن الإمام مرض فقوى الله سبحانه وتعالى نفسه وعزيمته فقال: أحتسب الأجر عند الله تعالى، وصلى بالناس صحت جمعته وأجزأته وانعقدت به، وعلى هذا فالمريض ممن لا تلزمه الجمعة، وتصح منه وتنعقد به، لا تلزمه الجمعة ولكن تصح منه إن حضرها وتنعقد به.

والعذر بالمرض يشمل المريض والممرض للمريض، فإن الممرض للمريض يعتبر معذوراً، فلو أذن المؤذن للجمعة وكان المكلف قائماً على مريضٍ عنده كوالده أو زوجته أو ابنته أو ابنه، وخشي عليه الضرر وتفاقم المرض، أو كان يحتاج إلى حمله للإسعاف ونحو ذلك، فله أن يجلس مع هذا المريض، ويعذر بترك الجمعة إذا خاف عليه.

وإذا كان المريض يحتاج إليه لسقي دواء وفعل علاج ونحو ذلك من الأمور التي يحتاج إليها المريض، فإن الشرع يرخص لمثل هذا، ويدل على ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما سمع الصارخ على ابن عمه وهو خارج إلى الجمعة ترك الجمعة وعاد إليه، فقام عليه حتى غسل وكفن ثم صلى عليه رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا فإن الممرض في حكم المريض، ويقال في الممرض مثلما يقال في المريض، فلا تلزمه الجمعة، ولكن إن حضرها انعقدت به وصحت، وأجزأت إمامته لو صلى بالناس.

ومن المعذورين أيضاً من كان بينه وبين الجمعة وحل شديد ومطر، ولو خرج إلى الجمعة في شدة المطر الذي يعذر به وشهد الجمعة صحت جمعته، فيقولون: لا تلزمه، وتصح منه، وتنعقد به.

قال رحمه الله تعالى: [ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح].

هذه المسألة -نسأل الله السلامة والعافية- في رجل في مدينة قادر على شهود الجمعة مسلم عاقل بالغ حر مستوطن سمع نداء الجمعة فتخلف -والعياذ بالله- متعمداً بدون عذر، فحينئذ يرد السؤال: متى يصلي الظهر؟

الجواب: الأصل فيه أن يصلي الجمعة، وبناء على ذلك فالواجب في حقه أن يمضي إلى الجمعة لظاهر قوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، فإذا لم يسع إلى ذكر الله فإنهم قالوا: هذا المكلف مكلف بالجمعة، فلا يصلي ظهراً حتى تفوته الجمعة؛ لأن الأصل أنه مخاطب بالجمعة وليس مخاطباً بالظهر، فيبقى حتى يفرغ الإمام من صلاة الجمعة، أو يقدر ذلك على غلبة الظن وحينئذٍ يصلي، فلو صلّى قبل أن يصلي الإمام لم تصح منه ظهراً؛ لأنه يصلي الظهر قبل أن يخاطب بها، وفِعْلُ الصلاةِ قبل الخطاب بها موجبٌ للحكم بعدم الاعتداد بها وعدم إجزائها، كما لو صلى قبل أذان الظهر.

وتوضيح ذلك أنه إذا صلى الظهر أثناء صلاة الناس للجمعة فإنه كالمتنفل للظهر؛ لأنه أثناء الصلاة كان بإمكانه أن يلحق ويصلي معهم الجمعة، فلا زال الخطاب متجهاً عليه أن يصلي ركعتي الجمعة وأن يشهد الجمعة، فلا يسقط عنه الخطاب بالجمعة حتى ينتهي وقت الجمعة فيتوجه عليه الخطاب بالظهر، ومن هنا قالوا: من لزمته الجمعة ولم يعذر بتركها لا تصح منه صلاة الظهر إلا بعد انتهاء الإمام من صلاة الجمعة. لكن من كان معذرواً لا يدخل في حكم هذا، وهو الذي سيذكره المصنف رحمة الله عليه.

قال رحمه الله تعالى: [وتصح ممن لا تجب عليه، والأفضل حتى يصلي الإمام].

قوله: [وتصح] أي: تصح صلاة الظهر.

وقوله: [ممن لا تجب عليه] أي: من عذر بتركها كالمرأة، فلو أن امرأة في بيتها أرادت أن تصلي الظهر يوم الجمعة، جاز لها أن تصلي أثناء صلاة الإمام، ويجوز لها أن تصلي قبل صلاة الإمام؛ لأن الجمعة ليست بواجبة عليها، والخطاب متوجه عليها بفعل صلاة الظهر بمجرد زوال الشمس، وعلى هذا يقولون: إنه يجب عليها أن تصلي الظهر بزوال الشمس فحينئذٍ لا علاقة لها بصلاة الإمام، فيستوي أن تصلي الظهر قبل الإمام وأن تصليه أثناء صلاة الإمام وأن تصليه بعد صلاة الإمام، كالحال في الصلوات العادية، فلو أذّن المؤذن للظهر، وبعد أذان الظهر مباشرة قامت وكبرت وصلت الظهر، فبالإجماع صلاتها صحيحة؛ لأنها مخاطبة بالظهر بمجرد دخول الوقت، وقد أدت الصلاة بعد دخول وقتها.

وهكذا لو أن المريض صلّى بعد زوال الشمس يوم الجمعة فلا حرج عليه، فكل إنسان معذور لا حرج عليه.

لكن قالوا: الأفضل في المعذور أن ينتظر انتهاء الإمام لاحتمال أن يزول عنه العذر، ولذلك قال: [والأفضل حتى يصلي الإمام] لما فيه من الاحتياط.

قال رحمه الله تعالى: [ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال].

أي: لا يجوز للمكلف الذي تلزمه الجمعة أن يسافر بعد زوال الشمس من يوم الجمعة، والسبب في هذا واضح، وهو أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، فقالوا: هو مكلف بفعل صلاة الجمعة بعد زوال الشمس ودخول وقت الجمعة، فإذا أراد أن يسافر فإنه يسقط هذا الوجوب ويحتال على الشرع. وبناء على ذلك قالوا: لا يجوز للإنسان أن يسافر بعد زوال الشمس من يوم الجمعة؛ لأن ذلك يؤدي إلى فوات صلاة الظهر.

لكن لو كان يريد أن يسافر ويمكنه أن يصلي الجمعة في موضع آخر غير المدينة -كأن يسافر إلى قرية بجوار مدينته بحيث يدرك فيها الجمعة- فإنهم قالوا: لا حرج عليه؛ لأنه لم يقع في المحذور الذي من أجله منع من السفر يوم الجمعة، ولا يكون مخالفاً لأمر الله عز وجل بالمضي إلى صلاة الجمعة. فاستثنوا من هذا أن يكون بإمكانه أن يصلي الجمعة في المحل الذي يسافر إليه، أو في الطريق، كما لو كان بينه وبين البلد الذي يقصده قرىً تقام فيها الجمعة، أو مواضع يصلى فيها الجمعة ويعتد بهذه الجمعة، فقالوا: يجوز له في هذه الحالة أن يسافر ولا حرج عليه؛ لأنه لم يقع المحذور في تركه للجمعة.

فالذي ذهب إليه بعض العلماء أن المنع يبتدئ من بعد الفجر؛ لأن نهار الجمعة يعتدّ به من طلوع الفجر الصادق.

والاعتداد بطلوع الفجر الصادق أو بعد طلوع الشمس في جريان الأحكام عليه مسألة خلافية بين العلماء:

فبعض العلماء يرى أن طلوع الفجر نهار، كما هو معلوم من قوله سبحانه وتعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ [هود:114]، فإن المراد بهذه الصلاة التي في طرفي النهار: صلاة الفجر وصلاة العصر؛ لأنهما في طرفي النهار، فالفجر في طرفه الأول، والعصر في طرفه الثاني، فلما قال: (طرفي النهار) قالوا: إن هذا يدل على أن النهار يبتدئ من تبين الفجر الصادق.

وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة تقسيم الليل لمعرفة الثلث الأخير منه، فإن قلت: ينتهي الليل بطلوع الفجر الصادق ويحكم بابتداء النهار بطلوع الفجر الصادق، فحينئذٍ تقسم الساعات من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق على ثلاثة، ويكون الثلث الأخير هو الثلث الذي قبل تبين الفجر الصادق، أما لو قلت: إنه يستمر إلى طلوع الشمس فلا إشكال.

حكم الخنثى المشكل في وجوب صلاة الجمعة

السؤال: هل تجب الجمعة على الجنثى المشكل؟

الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإن الخنثى حكمها حكم الأنثى، والسبب في ذلك أن القاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) فالخنثى متردد بين الرجل والمرأة، فلما كان الوصف بالرجولة أعلى قالوا: اليقين أنه أنثى حتى نتأكد أنه رجل. ولذلك فجماهير العلماء يعطون الخنثى حكم الأنثى، وقالوا: إنه يأخذ حكم الأنثى فلا تجب عليه الجمعة، وإنما تجب على الخنثى الذي استبان أنه رجل، وأما إذا كان خنثى مشكلاً فإنه لا تجب عليه الجمعة. والله تعالى أعلم.

العامل والأجير لا يأخذان حكم العبيد في إسقاط الجمعة عنهما

السؤال: هل المراد بالعبد الخصوص في سقوط الجمعة عنه، أم يدخل معه العامل والأجير؟

الجواب: لا يأخذ العامل والأجير حكم العبيد، ولكن العامل والأجير فيهما نظر، فلو كان عند الإنسان مال، وكان العامل أو الأجير هو الحارس لهذا المال والقائم عليه، فإنه يجوز له أن يتخلف عن الجمعة إذا غلب على ظنه أنه لو نزل وصلى الجمعة سرق المال أو تلف، وهكذا من كان في حراسة ونحوها، فإنه يشرع له أن يتخلف عن الجمعة إذا كان قائماً على مصالح المسلمين، أو قائماً على حراسة الأنفس، وهكذا الطبيب إذا كان قائماً على علاج المريض، ونحو ذلك، فهؤلاء يرخص لهم في ترك الجمعة، وهم في حكم المعذورين، وقد تقدم معنا في صلاة أهل الأعذار الإشارة إلى مثل هذه المسائل.

فإذا كان العامل يقوم على عمل فيه أموال وفيه مصالح لا يستطيع أن يتركها ويتخلف عنها، أو يغلب على ظنه أنه لو شهد الجمعة سرقت أو تلفت أو تعرضت للأذية والضرر، فإنه يجوز له حينئذٍ أن يتخلف للقيام عليها، ويكون معذوراً. والله تعالى أعلم.

ما يتفق فيه الرجل مع المرأة من أحكام الجمعة وما يختلفان فيه

السؤال: هل يجب على المرأة إذا حضرت الجمعة ما يجب على الرجل من الغسل، والصمت عند حضورها، وعدم مس الحصى ونحوها مما يبطل الجمعة؟

الجواب: تشارك المرأة الرجل في عدم جواز الكلام أثناء الخطبة، وكذلك يحكم بكونها لاغية إن تكلمت أو مست الحصى، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من مس الحصى فقد لغى)، والقاعدة في الأصول أن (مَنْ) من صيغ العموم، ولذلك يقولون: إن قوله صلى الله عليه وسلم : (من مس الحصى فقد لغى) محمول على العموم، وعلى هذا فإن المرأة لو كانت في المسجد فعبثت أو تكلمت فإنها لاغية، ويحكم عليها بما يحكم على الرجل.

وأما اغتسالها للجمعة فقد قال به بعض العلماء، لقوله عليه الصلاة والسلام: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) ، فقالوا: إن (كل) من ألفاظ العموم. ولذلك يقولون: إنه يجب عليها أن تغتسل حتى إن بعضهم يقول: تغتسل المرأة ولو لم تشهد الجمعة. وإن كان الصحيح أن الغسل واجب على من شهد الجمعة؛ لأن حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الترمذي يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالغسل من أجل الشهود، فقد قالت: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّال أنفسهم -أي: يقومون على أمورهم بأنفسهم-، وكانوا يغشون المسجد من العالية، وكانت الأرض أرض زرع، فعلت المسجد منهم زهومة، فأمروا أن يغتسلوا. فدل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل ليوم الجمعة إنما هو من أجل النتن، وذلك أن الناس إذا اجتمعوا ربما تضرروا بالرائحة الكريهة، حتى إن بعض العلماء يقول: كل صلاة شرع لها الاجتماع ينبغي أن يتنظف لها الإنسان ويتطيب حتى لا يؤذي الناس، ولذلك أمر بالتطيب صلوات الله وسلامه عليه. وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: إن المرأة إذا شهدت الجمعة فإنها تغتسل -أي: تتنظف- ولكن لا تتطيب كالرجل؛ لأن الطيب ورد للرجال دون النساء، وفي قوله عليه الصلاة والسلام : (مس من طيب امرأته) ، وفي رواية: (مس من طيب أهله) كما في الصحيح، فقالوا: إن هذا يدل على أنه للرجال دون النساء، خاصة أنه قد قال صلى الله عليه وسلم: : (أيما امرأة مرت بقوم فوجدوا ريحها أو طيبها فهي زانية) قالوا: هذا يؤكد أنها لا تتطيب. والله تعالى أعلم.

حكم جمع صلاة العصر مع الجمعة للمسافر

السؤال: مسافر صلى الجمعة مع المقيمين، ثم قدّم صلاة العصر وصلاها قصراً، فما حكم صلاته للعصر؟

الجواب: هذه المسألة فيها خلاف، فلو أن مدنياً نزل بمكة يوم الجمعة، فقضى حاجته، وأراد أن يصلي الجمعة ثم يمشي بعد الجمعة مباشرة إلى المدينة، فجمع مع صلاة الجمعة العصر، فإنه قد قال جمع من العلماء رحمة الله عليهم: لا يجمعُ العصر مع الجمعة، وذلك لأن الجمع خارج عن الأصل، وإنما يقتصر فيه على الوارد، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع مع الجمعة صلاة العصر. قالوا: والرخص تقصر على صورة الإذن والجواز، أي: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يفصل بين الصلاتين إلا بالفاصل اليسير الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، واشترطوا لها شروطاً مخصوصة؛ لأنها خارجة عن الأصل.

وقال جمع من العلماء بجواز ذلك. ولكن الأحوط ألا يفعله.

الواجب على المسافر إذا لم يصل الجمعة ظهراً

السؤال: كنا نخرج للعمل خارج القرية على بعد خمسة عشر كيلو متراً في البر، ونجتمع ونصلي الجمعة، فهل صلاتنا -على القول الذي رجحتموه- باطلة وتلزمنا إعادتها، أم أنا معذورون بالجهل؟

الجواب: تلزمكم إعادة هذه الجمعات كلها، ولو تعددت إلى سنوات، والجهل لا تعذرون به؛ لأنكم أقدمتم على أحكام شرعية مع إمكان الرجوع إلى العلماء، فليس هذا مسوغاً لإسقاط فرض الله عليكم الذي هو صلاة الظهر، ولذلك يقولون: من قصر عوقب بعاقبة تقصيره. فإنه كان بالإمكان أن تسألوا العلماء وتستأذنوهم، وأن تعرفوا أنه يحل لكم أن تصلوا الجمعة أو لا، أما أن يقال بالعذر بالجهل مطلقاً فإنه محل نظر، فجمعتكم هذه على غير الوجه الشرعي، ولا يستطيع الإنسان أن يتحمل مسؤولية أمام الله عز وجل، فما دمتم أنكم قصرتم في سؤال العلماء والرجوع إليهم فإنكم تتحملون مسئولية تقصيركم، وتعيدون هذه الصلوات، فإن كنتم لا تستطيعون عدّها فإنكم تبنون على غالب الظن وتقدرون، وغالب الظن كالمحقق، وبناء على ذلك فإنكم تبنون على غالب ظنكم العدد الذي تحسون أنكم أبرأتم به الذمة، فتعيدون صلوات الظهر في هذا كله؛ لأنها جمعة لاغية وغير معتد بها شرعاً. والله تعالى أعلم.

دخول غسل الجمعة تحت غسل الجنابة

السؤال: من أصابته جنابة يوم الجمعة هل يلزمه غسلان للجنابة والجمعة؟

الجواب: من كان قبل صلاة الجمعة قد أجنب، ثم أراد أن يصلي الجمعة، فأصح الأقوال أن غسل الجمعة يندرج تحت غسل الجنابة بشرط أن ينوي، فينوي بغسل الجنابة غسل الجمعة، ويقع غسل الجمعة تحت غسل الجنابة، وهذه من مسائل الاندراج، فإذا تحقق مقصود الشرع بالاندراج يندرج.

وتوضيح ذلك أن مقصود الشرع من غسل الجمعة أن يكون الإنسان نظيفاً على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة ، فإذا اغتسل لجنابته تحقق مقصود الشرع من زوال التفث، وزوال النتن عن البدن، فحينئذٍ إذا نوى بغسله غسل جنابته وغسل الجمعة أجزأه واعتد به. والله تعالى أعلم.

الواجب على المسافر إذا طلب منه إلقاء خطبة الجمعة

السؤال: بعض طلاب العلم يخرج في سفر، ويطلب منه أن يخطب خطبة الجمعة، فما حكم هذا الفعل؟ وهل فيه خلاف بين أهل العلم؟

الجواب: هذه المسألة على الأصل الذي ذكرناه، فإنه لم يجمِّع عليه الصلاة والسلام بالمقيمين، ألا تراه قد جاء إلى مكة -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- ولم يصل بأهل مكة الجمعة، ولذلك لا يجمِّع المسافر بالمقيمين لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن المسافر لو حضر وصلى الجمعة فإنها تنعقد وتصح به الجمعة على مذهب طائفة من العلماء. أي أنه إذا صلى بهم فإن صلاته يعتد بها. وفي النفس شيء من هذا القول، والذي ينبغي لطلاب العلم دائماً أن يحتاطوا، لكن لو أن الإنسان ترجح عنده القول الذي يرى أن المسافر يجمِّع وجمَّع بالناس فإنه لا حرج عليه في ذلك، خاصة إذا كان طالب علم وجاء إلى قرية أو إلى بادية وأراد أن يفقههم في أمور دينهم، وأن يبين لهم أموراً يحتاجون إليها فقدموه للصلاة بهم، فهذا يرخص فيه بعض العلماء، لكن الذي تميل إليه النفس الاحتياط في صلوات الناس، وعدم تعريضها للمحتمل. والله تعالى أعلم.

الجمع بين أدلة صلاة النبي للجمعة قبل الزوال وصلاته بعد الزوال

السؤال: كيف نجمع بين حديث جابر: (كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس) ، وحديث: (ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به) ، وحديث: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة ....

الجواب: حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه هو عمدة، وهو أقوى ما احتج به من يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع صلاته وخطبته قبل زوال الشمس، ولكن أجيب عن هذا القول بأن حديث جابر رضي الله عنه معارض بحديثين:

أولهما: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ثانيهما: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في صلاته عليه الصلاة والسلام حين تزول الشمس.

والقاعدة أنه إذا تعارض حديثان يحمل المحتمل على الوجه الذي يجمع به بينه وبين غير المحتمل، فإن حديث أنس من أقوى الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى إلا بعد زوال الشمس، فيكون قوله: (نريح نواضحنا) متأخراً عن قوله: (صلى عليه الصلاة والسلام...) أي: كنا نصلي حين تزول الشمس، ثم نريح نواضحنا. لأن إراحة النواضح ليست مقصودة بالذكر، وليس زمانها مقصوداً ولا مبحوثاً عنه، فذكرت تبعاً لا أصلاً، وإنما يستقيم الاستدلال لو كان المعنى المفهوم أنه يخطب ثم يصلي ثم تراح النواضح حين تزول الشمس، وهذا -كما قلنا- ليس مراداً، على أن جابراً رضي الله عنه قصده أنه عليه الصلاة والسلام ابتدأ صلاته وخطبته عند زوال الشمس.

وأما حديث أنهم كانوا يتبعون الفيء فلم يكن للحيطان ظل فهو حديث صحيح، ومعناه أنه ليس لها ظل يستظل به، كما قال جماهير الشرّاح، وهذا صحيح؛ فإن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تزيد على خمس دقائق، وهذا أمر حقيقي وواقعي، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن من مئنة فقه الرجل طول صلاته وقصر خطبته، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي بالجمعة والمنافقين، فإذا جئت تنظر إلى الجمعة فهي صفحة كاملة، وإذا جئت تنظر إلى المنافقين فهي كذلك صفحة كاملة، فمعنى ذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام دون الصفحتين، مع أنه عليه الصلاة والسلام من الفصاحة بمكان، وكلامه من الوضوح في غاية البيان صلوات الله وسلامه عليه، فتقسم الخطبتين على صفحة ونصف، فالخطبة الواحدة لا تبلغ الصفحة الكاملة، فكانت خطبته عليه الصلاة والسلام من القصر بمكان، وصلاته -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- بالجمعة والمنافقين مع ترتيله وحسن أدائه صلوات الله وسلامه عليه قد لا تعدو ربع ساعة. والزوال يحتاج إلى حساب دقيق؛ لأن الشمس إذا تحركت من الزوال تحتاج إلى وقت، وهذا التحرك يستغرق قرابة أربع دقائق في انسحاب الشمس عند زوالها، ثم تحسب تبين الزوال، فإذا كان انسحاب الشمس في زوالها في حدود هذا الوقت اليسير فمتى يكون الفيء والظل للحيطان؟!!

فإذا ابتدأ صلى الله عليه وسلم بعد زوال الشمس أو عند زوالها وخطب في هذا القدر اليسير، ثم صلى بالناس عليه الصلاة والسلام -وكان لا يملهم- ثم انصرفوا، فإن الحيطان حينئذٍ لها ظل، ولكن ليس بذاك الظل؛ لأنه إذا كان لها ظل كبير فقد اقترب خروج وقت الظهر.

فالمشكلة أن بعض الأحاديث تفهم بناءً على الواقع؛ لأن الإنسان إن نظر إلى أن الجمعة تأخذ نصف ساعة، وأنه يركب سيارته، ثم يدخل إلى المسجد، ثم ينظر إلى الوقت الذي يضيع، فإنه يظن أن الجمعة تستغرق هذا الوقت الكبير، مع أنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج من حجرته إلى المنبر مباشرة، ولا يصلي ولا يتنفل قبل خطبته، ويلغى كلامه على الناس عند ابتداء الزوال، ويؤذن بلال بدون تمطيط ولا أخذ وقت، ثم يقوم عليه الصلاة والسلام ببيانه وفصاحته بالكلمات اليسيرة، ثم يصلي بالناس وتنتهي الجمعة، فهذا القدر إذا جئت تحسبه ربع ساعة أو ثلث ساعة صدق عليه أنه لو انصرف الناس بعده لا يجدون للحيطان ظلاً، وفي رواية: أنهم كانوا يتتبعون الفيء، ومعنى ذلك أن هناك حيطاناً، وأنه قد زالت الشمس.

ثم إننا نقول: إن حديث جابر قد عارضه حديث أنس ، فعارض المحتمل غيرُ المحتمل، إضافة إلى حديث سلمة .

وأما حديث: (ما كنا نتغدى ولا نقيل إلا بعد الجمعة) ، فهذا لا إشكال فيه؛ فإن غداء الناس ومقيلهم نسبي، والقيلولة المعروفة قيلولة الضحى؛ لأن الوقت من طلوع الشمس إلى زوالها وقتان: ضُحى وضَحى، فإذا طلعت الشمس فهو الضُحى إلى أن تصل إلى ثلاث ساعات، وبعده يبدأ الضَحى -بالفتح- والضَحى قبل الزوال ما بين الضُحى وزوال الشمس، ثم بعد ذلك إذا زالت الشمس فإنه قد انتهى انتصاف النهار ودخل الإنسان في العشي، وقد كان من عادتهم أنهم ينامون قبل الظهر، وهذه هي القيلولة، وهذه القيلولة تعين على قيام الليل؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا نامها يستعين بها على قيام الليل، وهذا شيء معروف ومجرب، ولذلك تجد كبار السن يسهل عليهم قيام الليل، وهم يحافظون على هذه النومة التي قبل الظهر، وتكون قبل الظهر بحدود الساعة، وهي قائلة الضَحى التي عناها الصحابي بقوله في البخاري : (فنقيل قائلة الضَحى) ، فكانوا لأجل اشتغالهم بالجمعة اغتسالاً وتهيؤاً لا يتمكنون من هذا النوم، فكانوا يؤخرونه إلى ما بعد صلاة الجمعة، فقوله: (ما كنا نتغدى ونقيل إلا بعد الجمعة) لا علاقة له بالوقت، وليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع الجمعة أثناء وقت الضَحى، ولم يصرح الصحابي بهذا، وإنما قال: (ما كنا نتغدى ونقيل إلا بعد الجمعة) ، وهذا ليس كصريح حديث أنس رضي الله عنه الذي يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وابتدأ صلاة الجمعة حين زالت الشمس، وأياً ما كان فعندنا أصول، والفقه الرجوع إلى الأصول، ألا ترى الصحابة رضوان الله عليهم لما مضوا إلى بني قريظة قال عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فاختلف الصحابة رضوان الله عليهم في قوله: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فقالت طائفة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد التعجيل فتصلى العصر في وقتها، وطائفة قالت: لا نصلي إلا في بني قريظة. فلما قدموا على بني قريظة قدموا بعد غروب الشمس فصلوا العصر بعد الغروب، فلما حكوا للنبي صلى الله عليه وسلم لم يعنفهم، فعذر الطائفتين؛ لأن الجميع عنده نص، لكن قال صلى الله عليه وسلم للذين صلوا في الوقت: (أصبتم السنة) التفاتاً إلى الأصل.

فإذا كانت الجمعة قائمة مقام الظهر بدليل الشرع وإجماع العلماء على أن من فاتته الجمعة يصلي الظهر، وهي بدل عن الظهر، فالأصل أنها تصلى بعد الزوال، وعندنا نصوص تؤكد أنها بعد الزوال، فإذا جاءت نصوص تدل على أنها تقع قبل الزوال، أو يفهم منها أنها تقع قبل الزوال، فإنه يرجع إلى ما يكون أبرأ وأقرب إلى الأصل، فنقول: إنه لا يجمِّع إلا بعد الزوال، ولكن الأفضل أن يوقع الجمعة عند ابتداء الزوال تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على نبينا محمد.