خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف عليه رحمة الله: [باب صلاة التطوع].
تقدم تعريف الصلاة، وأما التطوع فهو تفعُّل من الطاعة، يقال: تطوع الرجل: إذا تبرع بالشيء، وأصل التطوع: النافلة التي ليست بواجبة على المكلف، ولذلك يوصف كل شيءٍ فعله الإنسان من العبادات دون أن يكون لازماً عليه على سبيل القربة والطاعة لله عز وجل بكونه تطوعاً، فيقال: هذه صلاة تطوعٍ، وهذه صدقة تطوعٍ. ونحو ذلك، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:79]، فالمراد بهم المتبرعون بصدقاتهم الذين دفعوها ولم تكن لازمةً عليهم.
ومن فوائد هذه النوافل أنه إذا كان هناك نقص في الفرائض فإنها تجبر بما كان من النوافل، وهذه النوافل فيها حِكَم، خاصةً إذا كانت قبل العبادات المفروضة، فإنها تهيئ المكلف لفعل العبادة المفروضة، فإذا دخل الإنسان إلى العبادة المفروضة وكان قد تنفل قبلها قويت نفسه على العبادة المفروضة لحدث عهده بالطاعة، وتوضيح ذلك أن الإنسان إذا دخل مباشرةً إلى الفريضة يكون إقباله على الله في حال أضعف من حاله إذا سبق الفريضة بنافلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)، إذا سبق الفريضة بنافلةٍ فإن نفسه تقوى على أداء الفريضة أكثر، ويكون أكثر انشراحاً صدره، وأقوى لفهم آيات ربه.
أقسام صلاة التطوع
وإخباره عن الله تعالى في الحديث القدسي أنه قال: (يا ابن آدم اكفني أربع ركعات في أول اليوم أكفك آخره) .
ففي هذه النوافل المقيدة كصلاة الضحى وركعتي الفجر فضل وعلو درجة على النافلة المطلقة، وأفضل الصلوات صلاة الليل، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار؛ لأن الليل مظنة أن يكون الإنسان مجهداً من عناء النهار، فكونه يتقرب إلى الله عز وجل مع أنه وقت راحته وسكونه واستجمامه وأنسه بأهله فإن ذلك أبلغ وأعظم في تقربه إلى الله عز وجل.
ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد يقوم من الليل، فإذا قام وصلى قال الله تعالى: يا ملائكتي: عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟)، فيكون نائماً بجوار زوجته فيذكر الجنة والنار فيتوضأ ويصلي بالليل، فيقول الله: (يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟ قالوا: إلهنا: يرجو رحمتك ويخشى عذابك. قال: أشهدكم أني قد أمنته من عذابي وأدخلته في رحمتي) ، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار، ولأن صلاة الليل فيها إخلاص، فإنها بعيدةٌ عن أنظار الناس، وبعيدة عن اطلاع الغير، ولذلك يكون الإنسان فيها أقرب، ولأن الليل فيه الثلث الذي ينزل فيه الله عز وجل، ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب له)، فلذلك فضّل العلماء هذا النوع من النوافل.
أما النوافل المقيدة فإنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما شرعت له الجماعة، كصلاة العيدين والاستسقاء والخسوف والكسوف والتراويح والتهجد ونحوها من الصلوات التي شرعت جماعةً.
القسم الثاني: ما يقع فرادى، كصلاة الضحى وغيرها.
فهذا نوع وهذا نوع، وكلٌ قد ثبت الشرع بجواز أدائه على حاله، إن كان يصلى جماعةً فجماعة، وإن كان يصلى فرادى ففرادى.
فقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة التطوع] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام المتعلقة بصلاة التطوع.
آكد صلاة التطوع
آكد الصلاة النافلة صلاة الكسوف، وهي الصلاة التي تكون بسبب ذهاب ضوء الشمس كله أو بعضه، فإن ذهب ضوء الشمس كله فإنه حينئذٍ يقال: كسوف كلي، وإن ذهب بعضه فإنه يقال: كسوف جزئي، وكذلك صلاة الخسوف، والخسوف: هو ذهاب ضوء القمر كله أو بعضه، وقد يطلق الخسوف على غياب الشمس، كما في حديث أم المؤمنين: (خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وصلاة الكسوف إنما فضلت على بقية الصلوات التي هي من النافلة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، حيث ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس على عهده قال الناس: كسفت لموت إبراهيم ، وكان الناس في الجاهلية يعتقدون أن الشمس لا تنكسف إلا لموت عظيم أو لولادة عظيم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ونادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس، فصلى بهم عليه الصلاة والسلام وأطال قيامه على الصفة التي ستأتي إن شاء الله في صلاة الكسوف، ثم لما سلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان ولا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، ثم قال: فإذا رأيتم ذلك -أي: كسوف الشمس- فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) ، فقوله: (فصلوا) أمر قالوا: فورد بها الأمر فكانت أعلى مراتب صلاة التطوع، ولأن هذا الأمر ورد على سبيل الجماعة على ظاهر النص.
الخلاف في أفضل الطاعات
فمن المعلوم أن العبد إذا تقرب إلى الله إمّا أن يتقرب بواجب لازمٍ عليه، فهذا الذي اصطلح عليه بالفرائض، وإما أن يتقرب بالنوافل التي لا تجب عليه.
فاختلف العلماء في الأفضل من النوافل الذي ينبغي للعبد أن يكثر منه، فهل الأفضل أن يكثر الإنسان من الصلوات، أم الأفضل أن يكثر من الصيام، أم الأفضل أن يكثر من الذكر، أم الأفضل أن يكثر من الجهاد في سبيل الله، أم من الدعوة، أم من العلم؟
فقال الجمهور: أفضل الطاعات وأشرفها وأزكاها وأعظمها نفعاً للعبد في الدنيا والآخرة طلب العلم وتعليم الناس، ويعبرون عنه بقولهم: العلم. فهو أفضل الطاعات وأشرف القربات لورود النصوص في الكتاب والسنة الدالة على عظيم منزلة أهله وشرفهم وعلوّ درجتهم وعظيم بلائهم، قال الله عز وجل في كتابه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وهذا الاستفهام يدل على أنهم لا يستوون، فهذا نصٌ من كتاب الله يدل على أنه لا يستوي العالم والجاهل.
ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى قد قرن العلم بالإيمان، وأخبر عن رفعة درجة أهل العلم والإيمان، فقال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، وقال: [درجات] ولم يقل: درجة. والتعبير بالنكرة بصيغة الجمع يدل على أنها كثيرةٌ بإذن الله عز وجل.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين فضل رباط طالب العلم وصبره على طلب العلم وتحمله لمشاق العلم، وكذلك تحمله لمشاق العمل بهذا العلم، ومجاهدته للنفس والشيطان والهوى حتى يبلغ مرتبة العلم والعمل، فإذا بلغ مرتبة العلم والعمل جاءت مرتبة الدعوة إلى الله عز وجل بتعليم الناس، فهذه المراتب الثلاث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن علو درجتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، قال بعض السلف: في هذا دليل على أن من حُرم الفقه في الدين فقد حُرِم خيراً كثيراً.
فقوله: (من يرد الله به خيراً) يدل على أن الله أراد لأهل العلم خيري الدنيا والآخرة؛ ولذلك هم أنفع الناس وأصلح الناس، وأقربهم إلى الخير وأدعاهم إليه، وبهم تشحذ الهمم إلى الطاعات، ويتنافس الناس في الخيرات.
وأيضاً ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) ، ولذلك قالوا: إن المراد بهذا الحديث أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم وهو يغدو إلى مجالس العلم لشرف هذه العبادة وعظيم منزلتها، فالدين لا يصان ولا يحفظ إلا بطلب العلم، ولذلك إذا كثر العلماء انتشر الدين بين الناس وانتشر الخير، وحمل الناس على الطاعات والخيرات، وإذا قلّ العلم كثر الجهل وعظمت المصائب والبلايا بين الناس، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة فشو الجهل وقلة العلماء، وكان ابن عباس رضي الله عنه من تلامذة زيد بن ثابت، فلما توفي زيد قام على قبره وبكى، وقال: (ألا من سره أن ينظر كيف يقبض الله العلم فلينظر هكذا، ثم ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا)، فصلاح الأمة موقوف على كثرة العلماء العاملين، وعلى وجود العلماء العاملين المخلصين في الدعوة إلى الله عز وجل.
وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن أفضل الأعمال فقال: أفضلها طلب العلم. وفي رواية عنه: أفضلها العلم إذا صحت فيه النية. قالوا: كيف تصح نيته؟ قالوا: ينوي أن يتواضع فيه، وأن يعلمه الناس. أي: ينوي أن يجعل علمه للآخرة، كما قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا [القصص:83] ، فينوي أن يصحح نيته، فهذا بخير المنازل عند الله عز وجل.
فهذا هو قول جمهور العلماء، ومن تأمل الواقع وتأمل الحال فإنه لا يشك أن طلب العلم هو أفضل القربات وأجلها وأعظمها.
فالمقصود أنه ظهر من ظاهر دليل الكتاب والسنة أن طلب العلم والعمل به وتعليمه للناس أفضل وأحب الأعمال إلى الله عز وجل، وإذا تعارضت عند الإنسان الأعمال الخيرية فليبدأ بطلب العلم، ثم انظر إلى دليل العقل والنظر، فإنك إذا تأملت كثيراً من المشاكل والنوازل والمعضلات والمشكلات تجد أنها لا تحل إلا بالعلم، ولا يمكن للناس أن يجدوا من يحل لهم المشكلات ويرفعها عنهم بإذن الله عز وجل إلا العالم العامل، فالرجل يأتيك في جوف الليل لا يدري هل امرأته تحل له أو لا تحل له، حيث قال لها: أنت طالق، فقال كلمةً لا يدري أهي بها حرام أم حلال.
ويأتيك الناس وقد عظمت الفتن والخصومات بينهم في الأراضي والأموال، ويحتاجون إلى من يفصل بينهم.
بل قد تجد العالم مشلول الجسد لا يستطيع أن يبرح مكانه، وقد تجده مشوه الخلقة، ولكن عنده لسان ينبئ به عن حكم الله عز وجل، فتضعه الناس فوق رؤوسها بهذا العلم، لشرفه وعلو منزلته وعظيم بلائه.
فالمقصود أنه لا يشك أحد في عظيم فضل هذا العمل، ولو تأملت العالم وهو يسهر الليالي فيجيب الناس عن المشكلات والمسائل فإنك لا تشك أن طلب العلم وتعليمه أفضل.
وقال بعض العلماء: إن الجهاد أفضل لما فيه من إعلاء كلمة الله عز وجل، وكسر بأس الذين كفروا، وصد العدو. وهذا إنما يراد به جهاد النفل وليس جهاد الفرض؛ لأنهم اتفقوا على أن الفرائض ليست بداخلة في هذا الخلاف، فإذا تعين العلم أو تعين الجهاد فلا يدخلان في هذا الخلاف، إنما الكلام هنا على النافلة، أي: جهاد النفل، وهو جهاد الطلب، واحتج هؤلاء الذين قالوا: إن الجهاد أفضل فقالوا: إن إعلاء كلمة الله عز وجل ونشر دين الله متوقفان على الجهاد، ويفتقران إلى مجالدة أعداء الله عز وجل، حتى ينتشر التوحيد، وترفع راية الإسلام، ويكون في ذلك الخير لأهل الأرض جميعاً، فلذلك يكون الجهاد هو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل. وهذا القول يقول به الإمام أحمد، ففي رواية عنه أن الجهاد أفضل الطاعات.
وهناك قول ثالث في المسألة أن أفضل الطاعات وأشرفها الصلاة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) ، ولما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من سعادة المؤمن كثرة الصلاة، وكثرة الصيام، وصحبة الفقيه).
فقالوا: إن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل الصلاة، ولأنها في أصلها عماد الدين، فتشرف بشرف أصلها.
وأصح هذه الأقوال كما ذكرنا هو القول بأن طلب العلم والعمل به والدعوة إليه أفضل وأشرف وأكمل هذه الطاعات كلها، بل إن ما ذُكِر من الأعمال الصالحة من الصلاة والجهاد يفتقر إلى العلم، فإذا نظرت إلى الجهاد فإن ثغور الجهاد لا تملأ ولا يمكن أن تقوى عزائم المجاهدين إلا بالعلم، وابحث عن ثغرٍ فيه طالب علمٍ يذكر الناس ويعظ الناس فستجد نفوسهم معلقة بالله سبحانه وتعالى، وتجدهم أقوى شكيمة وأشد بأساً وأعظم حميةً، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا مع أعلم من على وجه الأرض صلوات الله وسلامه عليه، فكيف يخرج الناس للنفير وتسد الثغور بغير العلماء؟ فالعلم هو أفضل الأعمال.
ثم إن الصلاة إذا تأملتها وجدتها تفتقر إلى علم، وتفتقر إلى معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ومعرفة ما يطرأ في الصلوات.
ترتيب بقية النوافل في الفضيلة
ذكرنا أنَّ أول النوافل فضلاً وأعلاها وآكدها صلاة الكسوف لما فيها من الدعاء برفع البلاء، ولذلك قالوا: إنها آكد مع ورود أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، فتأكد فضلها وتأكد القيام بها.
ثم تليها صلاة الاستسقاء. والاستسقاء: استفعالٌ من السقي، والمراد به هنا: طلب السقيا، أي: طلب الغيث من الله عز وجل، وأن يمطر العباد والبلاد، وإنما فضل الاستسقاء لما فيه من رفع البلاء عن الناس، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وسنه للأمة، وسيأتي إن شاء الله بيان صفة هاتين الصلاتين، صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، وسنبين إن شاء الله هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيهما، والأحكام المتعلقة بهما.
قال رحمه الله تعالى: [ثم تراويح].
التراويح: قيل: إنها مأخوذ من الراحة، والسبب في ذلك أنهم كانوا يرتاحون بين كل تسليمتين، فقد كانوا يطيلون حتى اعتمدوا على العصي، كما في الأثر حين جمع عمر الناس لصلاة التراويح وجعل أبياً الإمام، فقالوا: إنها سميت بذلك لمكان الاسترواح والراحة في أثناء هذه الصلاة والتراويح المراد بها: القيام جماعةً في ليالي رمضان، وقالوا: إنها من آكد السنن. وإذا قيل: سنةٌ مؤكدة فإنها تقارب الوجوب، لكن ليست بواجبة ولا لازمة، والنص في هذا واضح، كما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس صلواتٌ كتبهن الله في اليوم والليلة) ، فالفرض الخمس المعروفة، والكسوف والاستسقاء والتراويح كلها زائدة عن هذه الفرائض.
حكم صلاة الوتر
قوله: (ثم وتر) أي: آكد النوافل بعد الصلوات التي شرعت لها الجماعة الوتر، والوتر المراد به الواحد في الأصل، ويعبر به عن كل ما لا يقبل القسمة على اثنين فيقال: إنه وتري فيشمل ذلك الواحد والثلاثة والخمسة .. إلخ.
والوتر من آكد النوافل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الوتر حق، ومن لم يوتر فليس منا) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد زادكم صلاةً هي خيرٌ لكم من حمر النعم، جعلها لكم ما بين العشاء والفجر)، وقال الإمام أحمد رحمةُ الله عليه فيمن ترك الوتر: هذا رجل سوءٍ لا ينبغي أن تقبل شهادته. وهذا يدل على تأكد الوتر، ولذلك جعله العلماء رحمهم الله سنةً مؤكدة.
واختلف العلماء رحمهم الله في الوتر على قولين مشهورين:
فمذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم أن الوتر سنةٌ وليس بواجب، وبهذا القول قال فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، فلو ترك الإنسان الوتر فإنه لا يأثم، ولو فعله فإنه يثاب.
وذهب غيرهم إلى أن الوتر واجب، وبهذا القول قال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه وأصحابه.
واستدل الذين قالوا: إن الوتر ليس بواجب بأدلة منها:
أولاً: قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، ووجه الدلالة أن الله عز وجل قال: وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] ، فدل على أن الصلاة التي أُمر بالمحافظة عليها وهي واجبةٌ على المكلف وترية، ولو قيل بوجوب الوتر لصارت الصلوات ستاً، فيكون العدد شفعياً لا وسط فيه؛ لأن قوله: وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] يدل على أن العدد وتري؛ لأنها خمس، ونصف الخمس معناه أنه يكون في وسط الخمس واحدة، فيكون المقابل لها اثنتان واثنتان، فيكون العدد بهذا وترياً.
ثانياً: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُسْري به وعرج صلوات الله وسلامه عليه، قال الله له في آخر المرات حينما راجع ربه في الصلوات المفروضة: هي خمسٌ وهنّ خمسون)، فقوله تعالى: (هي خمس) أي: الصلوات التي كتبتها عليك يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- وعلى أمتك هي خمس، (وهن خمسون) أي: في الأجر والثواب تفضلاً من الله عز وجل، ثم قال تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)، فثبت أنها خمس إلى قيام الساعة لقوله تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي أنه لا يكون هناك تشريعٌ بزيادة.
الدليل الثالث: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله الأعرابي عن الصلوات التي فرضها الله عليه، قال له: (خمس صلوات في كل يوم وليلة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع)، فدلّ على أن الوتر ليس بواجب؛ لأن الوتر غير الصلوات الخمس، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بواجبٍ عليه.
الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلة)، فهذا الحديث -إذا تأملته- من آخر ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً في آخر حياته، ومع هذا قال له: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، فلو كان الوتر واجباً لقال: افترض عليهم خمس صلواتٍ ووتراً.
فالمقصود أن هذه الأدلة من الكتاب والسنة تدل على أن الوتر ليس بواجب.
أما الذين قالوا: بالوجوب فقد استدلوا بأحاديث السنن:
أولها: قوله عليه الصلاة والسلام: (أوتروا يا أهل القرآن) .
ثانيها: قوله عليه الصلاة والسلام: (الوتر حقٌ، ومن لم يوتر فليس منا) .
ثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد زادكم صلاةً هي خيرٌ لكم من حمر النعم، وهي الوتر) .
قالوا: أما الحديث الأول: (أوتروا) فهذا أمر، والأمر للوجوب، وأما الحديث الثاني: (إن الله قد زادكم صلاةً) فإنه يدل على أنها زائدة على الصلوات الخمس، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يوتر فليس منا) فإنه ذم، والذم لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم، فثبت أن الوتر واجب. فهذا حاصل أدلة القائلين بالوجوب.
والذي يظهر والله أعلم أن الوتر ليس بواجب، وذلك لصحة دلالة الكتاب والسنة على هذا القول.
أما استدلال من قال بالوجوب بقوله: (الوتر حق) فالجواب عنه بأن الحق معناه: الثابت، تقول: هذا حقي. أي: ثابتٌ في ملكي، فالحق يعبر به بمعنى الثابت، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الوتر سنة من هديه، أي ثابتٌ في الشرع ومسنونٌ فعله.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يوتر فليس منا) فمعناه: ليس على هدينا الكامل، وليس المراد به الهدي اللازم الذي يعتبر من تركه وأخل به مذموماً.
وأما قولهم: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد زادكم صلاةً) يدل على الوجوب، فيجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم قد قال مثل هذا في ركعتي الفجر، وأنتم لا تقولون بوجوبها، أي أنه عبر بالزيادة في ركعتي الفجر، ومع هذا لا يقول الحنفية بوجوبها، فكما أنهم رأوا أن صيغة الخبر هناك لا تدل على الوجوب فيلزمهم القول هنا بأن صيغته لا تدل على الوجوب.
فأصح ما يقال في الوتر أنه مسنون وفيه فضيلة، ومن فضائله أنه يسن فيه الدعاء، وهو خاتمة صلاة الليل، فتشرع صلاة الوتر بالليل. وأما صلاة الوتر بالنهار تنفلاً لا قضاءً، كما لو دخل المسجد وصلى ركعتين، ثم قال: أحب أن أتنفل بركعةٍ ركعة فقد أُثِر عن بعض الصحابة أنه فعل هذا، ومذهب جماهير العلماء رحمة الله عليهم أنك لا تسلم إلا من ركعتين إلا في الوتر وحده، على أن السنة والذي ينبغي للمصلي أن يصلي ركعتين ركعتين ولا يسلم من واحدة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وفي حديث آخر: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) ، فدل على أنه لا يسلم من واحدة، وما أثر عن الصحابي مردود إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يختص الوتر بأنه من صلاة الليل، والسنة فيه أن يكون في آخر الليل، كما سيأتي إن شاء الله بيان أحكامه.
وقت صلاة الوتر
العِشاء من العشي، وسميت بذلك لأنها تقع في وقت العشي بعد ذهاب الشفق الأحمر على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فتبدأ صلاة العشاء بمغيب الشفق الأحمر، ويستمر وقتها إلى طلوع الفجر الصادق.
وقد اختلف العلماء في كون العبرة في وقته بصلاة العشاء أم بوقت العشاء:
فبعض العلماء يقول: العبرة بصلاة العشاء، فإن صلى العشاء شُرِع له أن يصلي الوتر ولو لم يدخل وقت العشاء.
وقال بعض العلماء: العبرة بوقت العشاء لا بفعل العشاء.
والذي ينبني على هذا الخلاف أن العشاء لها حالتان:
الحالة الأولى: أن تصليها في وقتها، وحينئذٍ بالإجماع يجوز لك بعد أن تصلي العشاء أن توتر.
الحالة الثانية: أن تجمع العشاء مع المغرب، كالحال في ليلة مزدلفة، فإذا أقبلت على مزدلفة في أول الوقت وأدركت صلاة المغرب فصليت المغرب والعشاء، فإنك إن قلت: العبرة بصلاة العشاء فحينئذٍ توتر ولا حرج، وإن قلت: العبرة بدخول وقت العشاء نفسه فحينئذٍ لا بد وأن يكون وترك بعد مغيب الشفق الأحمر كما ذكرنا.
ومذهب الجمهور أنه لابد من مغيب الشفق، وأنه لا يصلى الوتر قبل دخول الشفق؛ لأن تقدم العشاء على خلاف الأصل، وإنما شُرِع على سبيل الرخصة فاقتصر فيها على موضعها، ولذلك جاء في الرواية الأخرى: (ما بين صلاة العشاء والفجر)، ويدل التعبير بقوله: (صلاة العشاء والفجر) على الوقت المعهود، وكذلك تعبيره: (ما بين العشاء والفجر) يدل على أن العبرة بالوقت نفسه كما في رواية السنن، فأقوى الأقوال أنه لا يصلي الوتر إلا بعد دخول وقت العشاء.
وقوله: (يفعل بين العشاء والفجر)
أي: يفعله المكلف ما بين العشاء إلى الفجر، فإذا دخل وقت الفجر فحينئذٍ لا يصح إيقاع الوتر بعد تبين الفجر الصادق من الكاذب بعد الأذان.
وقال بعض الصحابة: يشرع أن يصلي الوتر ما بين الأذان والإقامة من صلاة الفجر، وهو مذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أنه إذا أذن المؤذن لصلاة الصبح فإنك تمسك عن الوتر، وتنتظر إلى طلوع الشمس، ثم تقضيه بعد طلوع الشمس وتشفع الوتر بركعة، فإذا كنت صليت بالليل عشر ركعات، فلما كبرت ودخلت في صلاة الوتر أذن المؤذن لصلاة الفجر، فحينئذٍ تنوي أن هذه الصلاة شفعية، وتقلبها من الوتر إلى الشفع؛ لأن الوقت قد زال، ويجوز الانتقال في هذه الحالة من الوتر إلى الشفع، ثم إذا انتهيت من هاتين الركعتين انتظرت حتى طلوع الشمس، فإن طلعت الشمس صليت الوتر ركعة وشفعته بركعةٍ معه، فتصلي ركعتين إن كان وترك ركعة، وإن كان وترك بثلاث صليت أربعاً؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاته حزبه من الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة)، وكان حزبه من الليل إحدى عشرة ركعة، فلما قالت: (صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة) دل هذا على أن وتر الليل قد شُفع بركعةٍ واحدة.
ثم إن وتر النهار قضاءً فيه أحكام:
أولها: أن تشفع الوتر ولا تتركه على حاله.
ثانيها: أن لا تدعو بعد الركعة الأولى، فوتر الليل فيه دعاء ووتر النهار لا دعاء فيه.
ثالثها: أن صلاته في النهار سرّية، وصلاة الليل جهرية.
عدد ركعات صلاة الوتر وهيئاتها
قوله: (وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة) ثبت في عدد ركعات الوتر أحاديث مختلفة، أما الركعة -وهي أقله- فقد ثبت فيها الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة).
وأما الوتر بثلاث أو خمس أو سبع أو تسع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (الوتر حقّ، فمن شاء أن يوتر بثلاث أو بخمس أو بسبع أو بتسع...) الحديث.
كما ثبت الوتر بخمس في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أنه صلى الوتر خمساً) .
وثبت الوتر بسبع كذلك في حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر في الوتر بسبع) .
وثبت الوتر بالتسع كذلك في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بتسع، ولم يقعد إلا في الثامنة، ثم قام -أي: نهض عليه الصلاة والسلام- ولم يسلم، فصلى التاسعة -وهي الوتر- ثم سلم) صلوات الله وسلامه عليه.
وأما الوتر بإحدى عشر ركعة، فهو أكثره كما ذكر المصنف رحمه الله، وللوتر بإحدى عشرة ركعة صور:
الصورة الأولى: أن تجعل صلاتك مثنى مثنى، وتجعل الحادية عشر ركعةً مستقلة، وهي الصورة التي فيها حديث ابن عمر.
الصورة الثانية: أن تصلي أربعاً بتسليمة واحدة، ثم أربعاً بتسليمة واحدة، ثم توتر بثلاث، فيكون العدد إحدى عشرة ركعة، لما أخرجه النسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (...فمن شاء منكم أن يوتر بثلاث)، وكذلك ثبت في حديث أبي بن كعب في صلاته صلى الله عليه وسلم.
الصورة الثالثة: أن تصلي ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم خمساً متصلة، فهذه إحدى عشرة ركعة، ويكون وترك بخمس في الإحدى عشرة ركعة.
قال رحمه الله تعالى: [وإن أوتر بخمسٍ أو سبعٍ لم يجلس إلا في آخرها، وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم]
هذا الذي ذكره المصنف ثبت فيه حديث أم سلمة رضي الله عنها في السنن، فالسنة أن تصلي الخمس متصلة وتجلس في آخرها ثم تسلم، وإن أوترت بالسبع فكذلك، فتصلي السبع ثم تجلس في آخرها، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل في التسع خلاف ما فعل في الخمس والسبع، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام صلى ثماني ركعات متصلة ثم جلس عليه الصلاة والسلام في الثامنة، ثم قام إلى التاسعة ولم يسلم، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم، فهذا يدل على مشروعية الجلوس في وتر التسع قبل الأخيرة، فيجلس للتشهد في الركعة الثامنة ولا يسلم منها ويقوم للركعة التاسعة ثم يجلس، فيكون وتره بالتسع فيه جلستان في آخر الصلاة على ظاهر حديث عائشة.
وقد جاءت رواية أخرى تدل على خلاف ما اختاره المصنف في السبع، وذلك أنه جلس عليه الصلاة والسلام في السبع قبل تسليمه عليه الصلاة والسلام ثم أوتر بواحدة، وهذا يدل على أن الأمر واسع، لكن حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه الجلوس في الثامنة قالت فيه: (فلما كبر وضعف) عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه لم يستطع أن يصلها ببعضها صلوات الله وسلامه عليه، فأوتر على هذه الصورة التي ذكرناها، وهذا كله من باب التوسعة.
وأما السبب في مشروعية الوصل فقد ذكروا أنه لذلك حكماً عظيمة، ومنها أن المصلي يقوى على طول القيام؛ إذ إنّ للعلماء رحمهم الله تعالى في كون الأفضل في صلاة الليل كثرة الركعات أو طول القيام مذهبان:
فبعض العلماء يقول: الأفضل في صلاة الليل أن يكثر العدد ويكثر السجود.
وقال بعضهم: الأفضل أن يطيل القيام ولو قلّ السجود.
واحتج من قال: إن الأفضل أن يكثر من السجود بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ربيعة أنه لما كان يعد للنبي صلى الله عليه وسلم طهوره بالليل قال له صلى الله عليه وسلم: (سلني حاجتك؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: أو غير ذاك؟ قال: هو ذاك. قال: أعني على نفسك بكثرة السجود) قالوا: فهذا يدل على أن الأفضل أن تكثر من السجود، وهذا يدل على مشروعية الزيادة على إحدى عشرة ركعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، ولم يقيد ذلك بالليل ولا بالنهار، وإنما أطلق.
وأما الذين قالوا: إن الأفضل طول القيام في الليل فاحتجوا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر أنه لما سئل صلى الله عليه وسلم: (أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت)، أي: طول القيام في القراءة.
وهذا المذهب الثاني أرجح، فإن الأفضل أن يصلي إحدى عشرة ركعة يطيل القراءة فيها، وذلك لدليلين:
أحدهما: أنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يختار الله لنبيه إلا الأفضل والأكمل.
الثاني: أن الشخص إذا صلى إحدى عشرة ركعة وسجد في كل ركعة سجدتين فإنه يوصف بكونه قد أكثر من السجود؛ لأنه تكون له قرابة اثنتين وعشرين سجدة، ولذلك يكون موصوفاً بكونه قد أكثر من السجود، وعلى هذا فالأفضل طول القنوت، ولأن طول قنوتك ووقوفك فيه كثرة قراءة للقرآن، وكثرة القراءة يصحبها التدبر والتأمل والتأثر، وهذا هو المقصود من قيام الليل، وهو أن الإنسان يتأثر بالقراءة في وقتٍ لا شغل فيه، فلذلك قالوا: إن هذا كله يرجح مذهب من يقول بطول القنوت.
وفائدة الخلاف أنه لو كان رجلٌ عامي يحفظ سوراً قصيرة فالأفضل له أن يقرأ هذه السور، ولو بالتكرار ولا حرج عليه؛ لأن المراد شغل الركن الذي هو القيام بالقراءة.
فلو قال قائل: كيف نجمع بين هذا وبين كراهية تكرار الفاتحة؟ قلنا: إن الفاتحة ركن، وتكرار الأركان محظور، ولكن السنن التي هي القراءات ونحوها لا حرج فيها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كرر سورة الزلزلة في ركعتين، فقرأها في أولى الفجر وثانيتها)، وكذلك ثبت عنه أنه أقر الصحابي على قراءة سورة الإخلاص في كل ركعة، فالأفضل لمثل هذا أن يكثر من القراءة حتى يطول قنوته وقيامه. وعلى القول الثاني: يقرأ قصار السور ويكثر من السجود، فيعوض ما عنده من نقص في حفظ القرآن بكثرة السجود، والأرجح ما ذكرناه.
[وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين، يقرأ في الأولى بـ(سبح)، وفي الثانية بـ(قل يا أيها الكافرون)، وفي الثالثة بالإخلاص].
ثبت في حديث أبي بن كعب وحديث ابن عباس رضي الله عن الجميع في وتره عليه الصلاة والسلام أنه: (أوتر بثلاث، قرأ في الأولى بـ(سبح)، وفي الثانية بـ(قل يا أيها الكافرون)، وفي الثالثة بسورة الإخلاص)، وورد عنه أنه قرأ في الثالثة بالمعوذات مع سورة الإخلاص، فهذا يدل على أدنى الكمال الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثلاث.
ثم إن في صلاتها ثلاث ركعات ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن تصلي الثلاث متصلة وتجلس في آخرها وتسلم.
الصورة الثانية: أن تصلي ركعتين وتسلم، ثم تقوم للثالثة وتسلم، فتكون ثلاث ركعات.
الصورة الثالثة: أن تصلي الركعتين وتجلس للتشهد، حتى إذا فرغت من التشهد الأول قمت ولم تسلم وأتيت بالركعة الثالثة، فهذه ثلاث صور.
فالصورة الأولى -وهي صلاة جميع الركعات بدون وجود فاصل- لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في وتره عليه الصلاة والسلام بالخمس والسبع.
وأما إذا صلى ركعتين ثم سلم ثم قام إلى الثالثة فمذهب الجمهور أنه الأفضل، وأنه هو المعتبر، وأنه كذلك لا يفعل الصورة الثالثة، وهي أن يصل الثلاث بتسليمة واحدة، فيتشهد في الثانية، ثم يقوم ولا يسلم إلا في الثالثة.
وذهب أبو حنيفة إلى جواز أن تصل الثلاث في الوتر، فتجلس بعد الركعة الثانية للتشهد ولا تسلم، كصلاة المغرب سواءً بسواء، وقد جاء في حديث السنن: (لا تشبهوا بالمغرب)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر بثلاث تشبهاً بالمغرب.
والصحيح أنه يمنع، فلا يصليها ثلاثاً على صفة صلاة المغرب، والأفضل أن يسلم من ركعتين، وأن يقوم للركعة الثالثة كما ثبت في الحديث الذي ذكرناه.
حكم القنوت في الوتر ومحله
قوله: (ويقنت) أي: يدعو. والقنوت في الوتر سنة، وقد اختلف العلماء والسلف رحمة الله عليهم في هذا الدعاء في الوتر:
فمنهم من يقول: يشرع مطلقاً. أي: في جميع الوتر في سائر السنة.
ومنهم من يقول: إن السنة في دعاء الوتر أن يكون في آخر رمضان. أي: في النصف الثاني من رمضان دون النصف الأول.
ومنهم من يقول: في رمضان كله، فيخصه برمضان.
ومنهم من يقول: يقنت أحياناً ويترك أحياناً، وهذا القول هو أعدل الأقوال وأقربها إلى السنة، واختاره غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم، وإن داوم عليه فلا حرج، لكن لو علّم الناس السنة فترك القنوت في ليلة من ليالي الشهر فلا حرج، لكن في رمضان استحبوا أن يستديم القنوت؛ لأن هناك قولاً للسلف في استدامة القنوت في كمال رمضان خاصة، وذلك لما فيه من حصول البركة باجتماع الناس، كما ثبت في الحديث الصحيح اعتبار هذا النوع من الخير، ففي حديث العيد ذكرت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالخروج إلى المصلى، وقال في شأن الحيض : (يشهدن الخير ودعوة المسلمين) فاجتماع الناس في الدعاء فيه خيرٌ كثير؛ لأنه اجتماعٌ
الصلاة التي توصف بكونها تطوعاً تنقسم إلى قسمين: قسم محدد ومقيد، وقسم مطلق غير مقيد، ولا شك أن المحدد يعتبر أفضل من المطلق، وذلك أن تحديد الشرع له يدل على عنايته به، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن فضل النوافل المقيدة بأحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها).
وإخباره عن الله تعالى في الحديث القدسي أنه قال: (يا ابن آدم اكفني أربع ركعات في أول اليوم أكفك آخره) .
ففي هذه النوافل المقيدة كصلاة الضحى وركعتي الفجر فضل وعلو درجة على النافلة المطلقة، وأفضل الصلوات صلاة الليل، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار؛ لأن الليل مظنة أن يكون الإنسان مجهداً من عناء النهار، فكونه يتقرب إلى الله عز وجل مع أنه وقت راحته وسكونه واستجمامه وأنسه بأهله فإن ذلك أبلغ وأعظم في تقربه إلى الله عز وجل.
ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد يقوم من الليل، فإذا قام وصلى قال الله تعالى: يا ملائكتي: عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟)، فيكون نائماً بجوار زوجته فيذكر الجنة والنار فيتوضأ ويصلي بالليل، فيقول الله: (يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟ قالوا: إلهنا: يرجو رحمتك ويخشى عذابك. قال: أشهدكم أني قد أمنته من عذابي وأدخلته في رحمتي) ، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار، ولأن صلاة الليل فيها إخلاص، فإنها بعيدةٌ عن أنظار الناس، وبعيدة عن اطلاع الغير، ولذلك يكون الإنسان فيها أقرب، ولأن الليل فيه الثلث الذي ينزل فيه الله عز وجل، ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب له)، فلذلك فضّل العلماء هذا النوع من النوافل.
أما النوافل المقيدة فإنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما شرعت له الجماعة، كصلاة العيدين والاستسقاء والخسوف والكسوف والتراويح والتهجد ونحوها من الصلوات التي شرعت جماعةً.
القسم الثاني: ما يقع فرادى، كصلاة الضحى وغيرها.
فهذا نوع وهذا نوع، وكلٌ قد ثبت الشرع بجواز أدائه على حاله، إن كان يصلى جماعةً فجماعة، وإن كان يصلى فرادى ففرادى.
فقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة التطوع] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام المتعلقة بصلاة التطوع.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3185 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |