شرح زاد المستقنع باب سجود السهو [3]


الحلقة مفرغة

حكم القهقهة والنفخ والانتحاب والتنحنح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ وقهقهة ككلام ].

القهقة: هي الضحكة المعروفة، والقهقهة للعلماء فيها قولان إذا وقعت في الصلاة:

فمنهم من يقول: من ضحك في صلاته فإن صلاته باطلة ويلزمه أن يعيد الوضوء. وهذا مذهب الحنفية.

ومنهم من يقول: من ضحك في أثناء صلاته فصلاته باطلة ووضوءه صحيح، وهذه هو مذهب الجمهور.

واستدل الحنفية بحديث ضعيف وهو: (أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا أعمى تردى فضحكوا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الوضوء والصلاة).

وهذا حديث ضعيف السند والمتن:

أما ضعف سنده فالكلام فيه، وأما ضعف متنه فلأن الصحابة أورع وأتقى لله وأخشى من أن يروا أعمى ويضحكون عليه، خاصة وأنهم وقوف بين يدي الله عز وجل، بل إنهم أبعد من أن يضحكوا لو سقط الأعمى في غير صلاة، فكيف وهم واقفون بين يدي الله عز وجل؟!! فهذا حديث ضعيف لا يعول على مثله في بناء الأحكام عليه.

وبناءً على ذلك فإذا قهقه أو ضحك في الصلاة فإن صلاته باطلة لخروجه عن كونه مصلياً، ولا شك أن الضحك في الصلاة يعتبر من الآثام، أما لو غلب الإنسان عليه، كأن ذكر أمراً لم يستطع دفعه فهذا له حكمه، لكن أن يضحك قاصداً متعمداً فهذا على خطر، ولذلك يخشى عليه أن يكون مستهزئاً، ومعلوم ما للمستهزئ بالدين من حكم، فالضحك في الصلاة على سبيل العبث واللهو واللعب أمر خطير، ولذلك قال الله عز وجل: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [الأنعام:70] ، فلذلك لا يجوز للإنسان أن يتشبه بأمثال الكفار الذين قال تعالى عنهم: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا [المائدة:58] ، فالاستهزاء في داخل الصلاة أمره عظيم، وهو من صنيع أهل النفاق والكفر، والعياذ بالله.

ولا يقع من إنسان إلا إذا كان في قلبه مرض -نسأل الله السلامة والعافية-، أما لو غُلِب على ذلك فإنه يدل على ضعف إيمانه؛ لأنه لو استشعر مقامه بين يدي الله عز وجل، ووقوفه بين يدي الله ملك الملوك وجبار السموات والأرض، وأن الله مطلع عليه حال وقوفه لما ضحك، خاصة وأنه يتدبر ويتأمل الآيات، فإنه في هذه الحالة أبعد من أن يضحك، ولو تذكر ما يضحك الإنسان فإنه لشدة الهيبة والمقام بين يدي الله يستطيع أن يتماسك ويمتنع من الضحك. فنسأل الله العافية من هذا البلاء، ونسأل الله أن لا يبتلينا بالاستخفاف بعظمته وهيبة المقام بين يديه.

وقد قال بعض العلماء مستنداً إلى بعض الأحاديث، وإن كان قد تكلم في سندها: (إن مقام الناس بين يدي الله يوم القيامة على قدر خشوعهم في الصلاة). فيقف الإنسان بين يدي الله يوم القيامة على قدر ما كان منه من حال أثناء صلاته، فإن كان أثناء وقوفه بين يدي الله في الصلاة يعظمه ويجله كان مقامه بين يدي الله يوم القيامة على أكمل المقامات وأتمها وأحبها إلى الله، ويكون حاله على حال السعداء، وإن كان حاله على الاستخفاف والتلاعب والتشاغل فهو بحسبه، نسأل الله السلامة والعافية.

قال رحمه الله تعالى: [وإن نفخ، أو انتحب من غير حشية الله تعالى، أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت ].

وقوله: (وإن نفخ) النفخ في الصلاة هو إخراج الهواء من الفم، ويكون في بعض الأحوال متضمناً لبعض الحروف والكلمات، خاصة إذا كان نفخه فيه شيء من التأوه والتألم والتضجر والسآمة، فإنه في هذه الحالة يخرج شيء أشبه بالأصوات، فقد يقول: آه. فإن فيه الهمز والهاء، وهذان حرفان.

وقوله: (أو انتحب من غير خشية الله) أي: بكى، وذلك كالشخص الذي يكون حزيناً لأمر، فيدخل في الصلاة وهو حديث عهد بالحزن، فيبكي في صلاته لحزنه لا لخشية الله، فهذا البكاء إذا كان فيه نحيب وصوت فإنه يوجب بطلان صلاته.

وقوله: (أو تنحنح لغير حاجة) التنحنح استثناه بعض العلماء لحاجة، كأن يجد في صدره ما يوجب التنحنح، أو يتنحنح للتنبيه، فقالوا: إنه يكون في حكم التسبيح، وقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه: (كان إذا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بالليل تنحنح له عليه الصلاة والسلام)، فهذا يعتبره العلماء بمثابة التسبيح؛ فإن التسبيح فيه حروف وجمل، فإن (سبحان الله) جملة، وبناءً على ذلك قالوا: لا تبطل الصلاة إذا وجدت الحاجة الداعية إلى أن يتنحنح، خاصة لورود حديث علي رضي الله عنه في السنن.

أما إذا انتحب -وهو الصوت الذي يكون مع البكاء-، وكان نحيبه من خشية الله فبعض العلماء يقول: إذا أصدر الأصوات وأزعج فإن صلاته تبطل، وخرج عن كونه مصلياً، وقد أثر عن عمر رضي الله عنه أنه: (كان يسمع نشيجه وبكاؤه من آخر الصفوف)، لكن هذا النحيب من عمر وأمثال عمر إنما هو من مغلوب عليه، أما أن يتكلف الإنسان ويحاول أن يغلب نفسه لكي تبكي، ويرفع صوته بذلك فلا شك أن هذا يوجب بطلان صلاته، خاصة إذا علت الأصوات وشوش على المصلين، ولا يأمن على صاحبه من الرياء، نسأل الله السلامة والعافية.

ولذلك تجد بعض العلماء والأخيار والصالحين يغالب نفسه في البكاء، ويحاول أن لا يبكي حتى يغلب، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه الله برحمته الواسعة (إذا خطب في الناس وبكوا قطع الخطبة وجلس خوف الرياء).

فإذا كان الإنسان مغلوباً على البكاء فلا حرج، خاصة إذا كان من خشية الله عز وجل، أما إذا كان بكاؤه تكلفاً ويغالب به نفسه وحصلت من الأصوات الحروف فإنه يحكم ببطلان صلاته وخروجه عن كونه مصلياً.

ترك الركن وغاية تداركه

قال المصنف رحمه الله: [فصل: ومن ترك ركناً فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت التي تركه فيها].

من ترك ركناً فإما أن يكون تكبيرة الإحرام، وإما أن تكون غيرها، فمن ترك تكبيرة الإحرام بطلت صلاته؛ لأن الصلاة لا تنعقد بغير تكبيرة الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث علي : (تحريمها التكبير)، وهو حديث صحيح، فلو أن إنساناً وقف ظاناً أنه كبر تكبيرة الإحرام وقرأ الفاتحة وركع وسجد، ثم تذكر أنه لم يكبر تكبيرة الإحرام فصلاته لم تنعقد أصلاً، فتكبيرة الإحرام لا تنعقد الصلاة بغيرها.

أما بالنسبة لغير تكبيرة الإحرام، كأن ترك قراءة الفاتحة، بأن كبّر ثم سها فقرأ السورة التي بعد الفاتحة، ثم ركع، فتذكر وهو في الركوع أو بعد الركوع، فحينئذٍ قال بعض العلماء: من نسي ركناً وشرع في الركن الذي يلي الركن الذي بعده فإنه يلزمه قضاء الركعة؛ لأنهم يرونه بدخوله في الركن البعدي قد ابتعد ولم يمكنه التدارك؛ لأنه قد اشتغل بركن غير الركن الذي هو فيه، فلا يرجع.

وقال بعضهم: العبرة بأربعة أركان، فإن دخل في الركن الرابع لم يرجع للذي قبله؛ لأنه في الركن الأول والثاني والثالث يمكنه أن يتدارك، أما فيما بعد الأركان الثلاثة بدخوله للرابع فإنه لا يمكنه التدارك.

وقال بعضهم: إن دخل أو شرع في قراءة الركعة التي بعد الركعة التي سها فيها فحينئذٍ قد خرج عن التدارك، وإن كان قبل ذلك يتـدارك. وهذا هو الذي درج عليه المصنف، وهو الأقوى والأرجح إن شاء الله، فمن نسي ركناً وتذكر هذا الركن قبل أن يدخل في قراءة الركعة التي تلي الركعة التي سها فيها فإنه يرجع ويتدارك الركن، فلو نسي الفاتحة فركع وتذكر وهو راكع فإنه يرفع رأسه بدون ذكر، ويقرأ الفاتحة ويقرأ السورة التي تليها، ويتم الصلاة على سننها وطريقتها، ثم يسجد بعد السلام؛ لأنه زاد ركن الركوع قبل أن يفعل ركن القراءة.

وكذلك لو تذكر في ركن ثان، كأن نسي قراءة الفاتحة وركع ثم رفع من الركوع، فإذا تذكر في حال الرفع من الركوع فإنه يقرأ الفاتحة ثم ما بعدها من سورة، ثم يتم الصلاة على سننها ويسجد للزيادة.

وكذلك لو تذكر أنه لم يقرأ الفاتحة وهو في السجدة الأولى، أو بين السجدتين، أو في السجدة الثانية من الركعة التي نسي فيها، فإنه يقوم مباشرة بدون ذكر ويقرأ الفاتحة والسورة التي تليها، ويتم الصلاة على سننها ويسجد للزيادة. والسبب في هذا أنه بمجرد تركه للركن لا يزال خطاب الشرع عليه بقراءة الفاتحة، فلما ركع أوقع الركوع في غير موقعه؛ لأن الركوع في هذه الركعة لا يصح إلا بعد قراءة الفاتحة، فكأنه فعل شيئاً خارجاً عن الصلاة، فلم يعتد بوقوع ذلك الشيء ورجع للتدارك، وهكذا لو رفع أو سجد أو كان بين السجدتين، ففي الجميع قد توجه عليه الخطاب أن يقرأ الفاتحة فيرجع تداركاً لأمر الشرع، ويكون انتقاله لهذه الأركان مغتفراً لمكان السهو، ويلزم بسجود السهو البعدي لمكان الزيادة، فقد زاد شيئاً من جنس الصلاة، فهذا وجه كونه لم يرجع ما لم يدخل في ركعة ثانية.

أما لو دخل في الركعة الثانية، كما لو نسيت الفاتحة فركعت ورفعت وسجدت، ثم سجدت السجدة الثانية، ثم قمت إلى الركعة الثانية وقرأت الفاتحة، فقد دخلت في ركعة جديدة، وألغيت ركعتك الأولى، وحينئذٍ وقع الخلاف في كونه يلفق أو يلقي:

فقال بعض العلماء: يلغي الركعة الأولى كأنها لم توجد؛ لأن هذه الركعة وجودها وعدمها على حد سواء.

وقال بعضهم: يقضي ركعة بعد انتهائه من الصلاة.

وفائدة الخلاف: أنك لو صليت الركعة الأولى ونسيت فيها الفاتحة، ثم قمت إلى الركعة الثانية وشرعت في قراءة الفاتحة، فبعد انتهائك من الركعة الثانية فإنك على أحد القولين تقوم بناءً على أن الركعة الأولى ألغيت وأنت في الثانية، وهو الأقوى والأصح إن شاء الله.

وعلى القول الآخر تجلس للتشهد، ثم تأتي بالركعتين الأخريين، ثم تقضي ركعة كاملة.

والأقوى ما ذكرناه؛ لأن الأولى تلغى لكونها غير معتدٍ بها، ويلزمه أن يأتي بالركعة الثالثة بعد الركعة الثانية على الصورة المعهودة في الصلوات.

قال رحمه الله تعالى: [وقبله يعود وجوباً فيأتي به وبما بعده].

أي: قبل أن يشرع في الركعة الثانية يرجع ويتدارك وجوباً، كما لو نسي الفاتحة وتذكرها وهو راكع فإنه يرجع مباشرة، وهكذا لو تذكرها وهو ساجد، وقس على هذا.

قال رحمه الله تعالى: [وإن علم بعد السلام فكترك ركعة كاملة].

ذلك بأنه إذا لم يقرأ الفاتحة في الأولى، أو الثانية، أو في الثالثة، أو الرابعة فكتركه لركعة، أي: يلزمه أن يرجع إلى مصلاه، أو يستقبل القبلة إن بعد عنه المصلى ويتم ركعة كاملة.

فكأنه يقول: ابن الحكم في هذه المسألة على المسألة التي تقدمت معنا فيمن سلم من ركعتين، فلو أنك سهوت عن الفاتحة ولم تتذكر إلا بعد السلام، فإن طال الفصل فإنك حينئذٍ تستأنف الصلاة وتعيدها كاملة، وإن لم يطل الفصل فحينئذٍ تأتي بركعة كاملة. فهذا وجه تشبيهه؛ لأنه كتركه لركعة، وبناءً على ذلك فإن طال فصله فعلى مذهب المصنف رحمه الله يستأنف الصلاة وتبطل صلاته الأولى، وإن لم يطل الفصل فإنه يبني ويأتي بركعة كاملة قضاءً لهذه الركعة التي اختلت بفوات ركنها.

وأما على المذهب الذي قلنا: إنه أقوى فعلى ظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن تذكر أنه لم يقرأ الفاتحة وهو داخل المسجد فإنه يستقبل القبلة ويتم صلاته على الصورة التي ذكرناها.

ترك التشهد الأول ومتى يتدارك حال النسيان

قال رحمه الله تعالى: [وإن نسي التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائماً ].

هذه المسألة تتعلق بنسيان الواجبات، والمسألة الأولى في نسيان الأركان، فذكر لك رحمه الله حكم ما إذا نسي الركعة بكاملها، وفصّل لك بين أن يطول الفصل وألا يطول، ثم إن نسي جزء الركعة، وفصّل بين أن يتذكر داخل الصلاة أو بعد الفراغ من الصلاة، ثم انتقل إلى نسيان الواجبات، كأن ينسى التشهد الأول ويقوم إلى الركعة الثالثة، فإذا نسي التشهد الأول، كما لو صلى الركعة الأولى والثانية، ثم بدل أن يجلس للتشهد انتصب قائماً، فحينئذٍ إذا انتصب قائماً فإنه انتصب عوده واستتم قائماً فإنه لا يرجع إلى التشهد، ويسقط عنه التشهد لحديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، وسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم)، ومثله حديث المغيرة بن شعبة حينما كان أميراً على الكوفة، فإنه سها وقام ولم يجلس في التشهد الأول، فسبحوا له، فأشار إليهم أن: قوموا... ورفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل فدل هذا على أن من نسي التشهد الأول واستتم قائماً أنه لا يرجع، بل يمضي في صلاته، ثم يسجد سجدتي السهو قبل السلام تداركاً لهذا الواجب الذي تركه.

وهناك أقوال أخر للعلماء في هذه المسألة:

فقد قال بعضهم: بمجرد مفارقته للأرض لا يعود.

- وقال بعضهم: إذا استتم قائماً وشرع في الفاتحة.

- وقال بعضهم: ما لم يركع.

فهذه كلها أقوال للسلف رحمهم الله.

وأقواها أنه يعود ما لم يستتم قائماً؛ لأنها صورة حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه انتصب قائماً، ولم يذكر الراوي شروعه في الفاتحة، ولا قدر الشروع في الفاتحة، والذي يظهر أن الصحابة رفعوا رءوسهم مباشرة، وأنت إذا تأملت حاله فالغالب أنه إذا كبّر عليه الصلاة والسلام فتكبيره كان مقارناً بقيامه، فإذا تأملت حال الصحابة أنهم رفعوا رءوسهم سيكون تسبيحهم بمجرد استتمامه قائماً، ولا شك أنه يقوي القول بأنه قبل قراءته للفاتحة، وأن العبرة باستتمامه قائماً، فكما أنه قوي من جهة الأثر فإنه قوي من جهة النظر؛ لأنه إذا استتم قائماً قد دخل في الركعة التي تلي واجب التشهد، فيقوى حينئذٍ اشتغاله بالركن عن الرجوع إلى الواجب.

وعليه فيقوى أن يقال: إنه يتم بناءً على وقوفه، ولا يشترط قراءته للفاتحة.

قال رحمه الله تعالى: [فإن استتم قائماً كره رجوعه وإن لم ينتصب لزمه الرجوع، وإن شرع في القراءة حرم الرجوع وعليه السجود للكل].

المصلي إذا يستتم قائماً، كأن تحرك أو وثب فلما وصل إلى درجة الركوع سبحوا له فإنه يلزمه الرجوع؛ لأنه لا يعتبر متلبساً بالركن ولا داخلاً فيه إلا عند استتمامه بالقيام، ويلزمه حينئذٍ الرجوع، وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مفاد قوله: (وإن لم ينتصب لزمه الرجوع) وحينئذٍ إذا تركه متعمداً بطلت صلاته، فلو أنه تحرك للقيام فسبحوا له وعلم أنه قد ترك التشهد فقام عالماً متعمداً، ولم يتأول مذهب من يقول بمفارقة الأرض، فحينئذٍ يحكم ببطلان صلاته؛ لأن من ترك واجباً من واجبات الصلاة متعمداً بطلت صلاته.

قوله: [وإن شرع في القراءة حرم الرجوع] أي: حرم عليه أن يرجع إلى التشهد، فبين لك رحمه الله متى يلزم بالرجوع للتشهد، ومتى يلزم بالبقاء وإتمامها، فقال: إن فارق الأرض ولم يستتم قائماً وجب عليه أن يرجع؛ لأن الخطاب متوجه عليه بالجلوس للتشهد، وإن استتم قائماً لزمه إتمام الركن؛ لأن الخطاب متوجه عليه بإتمام الركعة، وحينئذٍ لا يرجع للتشهد، فلو رجع فقد حكم بعض العلماء ببطلان صلاته؛ لأنه زاد ركن القيام.

وقال بعضهم: يحكم ببطلان صلاته؛ لأنه زاد التشهد بعد سقوطه عنه.

وكلا القولين والتخريجين صحيح.

وقال بعض العلماء بالتفريق بين الجاهل وبين العالم على الأصل الذي يسلكه بعض الأصوليين في العذر بالجهل، وكون الجاهل يعذر بالجهل بعد استقرار الأحكام أو لا يعذر مسألة معروفة عند الأصوليين.

وقوله: [وعليه السجود للكل]. فيه صورتان:

الأولى: أن يستتم قائماً ويقرأ الفاتحة ولا يرجع، فيكون سجوده عن نقص، ويكون قبل السلام.

الثانية: أن يكون قد ارتفع من الأرض ولم يستتم قائماً ورجع فيكون سجوده للزيادة؛ لأنه زاد الحركة -التي هي قيامه ومفارقته للأرض قبل استتمامه- ما بين جلوسه وما بين استتمامه قائماً، وهذه الحركة زائدة؛ لأنه مطالب أن يجلس للتشهد، فكونه يزيد الوقف أو التحرك للوقوف فإنه يطالب بسجدتي السهو جبراً لهذه الزيادة.

ولما كان المذهب لا يفرق بين الزيادة والنقص قال: (وعليه السجود) للكل وسكت، لكن من يفصل يقول: يسجد للزيادة إن كان قد رجع، ويسجد للنقص إن كان قد استتم قائماً.

الشك في الركعات والأركان

قال رحمه الله: [ومن شك في عدد الركعات أخذ بالأقل، وإن شك في ركن فكتركه].

بعد أن بيّن لنا رحمه الله النقص والزيادة وأحكامها في سجود السهو شرع بإلحاق مسائل ملتحقة بهذا، وهي تصرف الإنسان في حال الشك.

والشك: هو استواء الاحتمالين، فلو صليت الصبح ولم تدر هل صليت الركعة الثانية، أم صليت ركعة واحدة فحينئذٍ كأنك لم تصل الثانية إذا استوى عندك الاحتمالان، أما لو ترجح عندك أو غلب على ظنك رجحان أحد الاحتمالين فحينئذٍ تبني على غالب ظنك، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام سلم من اثنتين، بناءً على ظنه الغالب.

وقال بعض العلماء: الشك والتردد يوجب البناء على الأقل مطلقاً.

والأقوى أنه يتحرى الصواب ويبني على غالب ظنه.

والبناء على غالب الظن هو أن توجد قرائن تدل على أنه ليس في الركعة الثانية، كأن يحس أن الوقت قصير جداً بحيث لا يتسع لصلاة ركعتين، فحينئذٍ يبني على واحدة، أما لو أحس بطول الزمان، وقراءته قليلة، وغلب على ظنه أنه صلى الركعتين فحينئذٍ يبني على أنه أتم الصلاة ولا يأتي بالركعة الثالثة.

والأصل في هذا حديث أبي سعيد الخدري في الصحيح أن النبي صلى قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان)، فدل على أنه مطالب بالأخذ بالأقل، وهذا مفرّع على القاعدة المشهورة: (اليقين لا يزول بالشك)، فمن كان شاكاً: هل صلى واحدة أو اثنتين فهو على يقين من واحدة وشك من اثنتين، واليقين أنه مأمور بركعتين، فحينئذٍ لا تبرأ ذمته إلا بيقين، فيلزمه حينئذٍ أن يأتي بالركعة الثانية، ويقاس على هذا تكبيرات الجنائز، فلو شك هل كبّر واحدة أو اثنتين فإنه يبني على واحدة، ولو شك في أشواطه في طوافه بالبيت فإنه يبني على الأقل، وهكذا السعي بين الصفا والمروة، فكل هذا يبني فيه على الأقل، وفي الصلاة يسجد سجدتين قبل أن يسلم.

وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من هاتين السجدتين، فقال: (إن كان صلى تماماً -يعني: أربعاً- كانتا ترغيماً للشيطان)، وذلك أن الشيطان يتألم من سجود ابن آدم، فإذا رأى ابن آدم ساجداً تولى يصيح: يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار.

فإن كنت صليت تماماً فيكون بناؤك صحيحاً واعتبارك لليقين صحيحاً، وتكون السجدتان ترغيماً للشيطان؛ لأنه أدخل عليك الوسوسة بالشك فيؤذى بالسجود، وأما إن كانت صلاتك زائدة وكانت الركعة التي صليتها ركعة خامسة في رباعية، أو رابعة في ثلاثية، أو ثالثة في ثنائية، فإن السجدتين تشفعان هذه الركعة، فتلغيانها كأنها لم توجد، وصلاتك صحيحة ومعتبرة.

وقوله: [وإن شك في ترك ركن فكتركه]، أي: إذا شك في ترك الفاتحة أو عدم تركها فإنه كما لو تركها، ويلزمه أن يقرأ الفاتحة، وهكذا أي ركن سواها.

حكم الشك في ترك واجب

وقوله: [ولا يسجد لشك في ترك واجب أو زيادة].

فرق العلماء بين الواجب والركن لوجود الأصل في الركن الذي دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أم اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثاً فليبن على اثنتين) ، فاعتبر عليه الصلاة والسلام في الأركان الأقل، وبقي الواجبات على الأصل، وبناءً على ذلك فإنه يلزم بسجود السهو إذا تيقن أن شكه باطل، سواء أتيقن أثناء أدائه أم تيقن بعد انتهائه.

مثال ذلك: لو قام إلى الركعة الخامسة ظاناً أنه قد صلى ثلاثاً، وأن هذه التي قام لها هي الرابعة، فإنه إذا تذكر أثناء صلاته للركعة الخامسة وأدائه لها لزمه أن يجلس مباشرة، وحينئذٍ يسجد بعد السلام لمكان الزيادة بالقيام والقراءة إن وجدت.

وكذلك الحال لو تذكر أنه لم يفعل واجباً ثم تبين له أنه فعله، كما لو رفع رأسه من الركوع فقال: (سمع الله لمن حمده)، ثم شك: هل قال أو لم يقل، أو شك هل كبر للسجود أو للركوع أو لم يكبر؟ هذه الواجبات إذا شك في وقوعها فإنه حينئذٍ يتدارك إذا أمكنه التدارك، وأما إذا لم يمكنه التدارك فإنه حينئذٍ يسجد للسهو قبل السلام، على الأصل الذي ذكرناه: أن نقص الواجبات يجبر بسجود السهو.

ما يحمله الإمام عن المأموم

قال رحمه الله تعالى: [ولا سجود على مأموم إلا تبعاً لإمامه].

وهذا مبني على أن الإمام يحمل عن المأموم نقص الواجبات، ولا يحمل عنه نقص الأركان، ويحمل عن مأمومه الزيادة، فإذا زاد المأموم وراء إمامه سهواً فإن الإمام يحمل عنه هذه الزيادة. فلو أنك كنت وراء الإمام، فسهوت وركعت ظاناً أن الإمام راكع، أو قرأ الإمام فاختلجت عليك القراءة فظننت أنه يكبر فكبرت راكعاً، فهذه زيادة وراء الإمام، وهي ركن، فالإمام يحمل عنك هذا الركن الذي زدته.

وكذلك لو زدت واجباً وراء الإمام، فعلى القول بأن المأموم يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد) فإن قلت وراء الإمام ساهياً: (سمع الله لمن حمده) فزدت واجباً، فإن الإمام يحمل عنك هذا الواجب الذي زدته سهواً.

والدليل على أن الإمام يحمل عن المأموم الواجبات ظاهر حديث أبي هريرة عند أبي داود وأحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن)، وهذا الضمان فسره غير واحد من أهل العلم أنه حمل الإمام عن المأموم.

وبناءً على ذلك فيحمل عن المأموم الواجبات إذا نسيها، ويحمل عنه زيادة الأركان، فيعتبر كأنه لم يزد في صلاته إذا كان وراء إمامه.

حكم سجود السهو

قال رحمه الله تعالى: [وسجود السهو لما يبطل عمده واجب].

أي أن سجود السهو لجبر الواجبات وجبر الأركان واجب.

وقد اختلف العلماء في حكم سجود السهو:

فمنهم من قال: إنه واجب.

ومنهم من قال: إنه سنة.

ومنهم من يفصل بين سجود الزيادة وسجود النقص، فيوجبه في النقص ولا يوجبه في الزيادة.

والصحيح وجوبه على العموم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فليسجد سجدتين)، فهذا أمر والأمر ظاهره الوجوب، ولا دليل يدل على صرف هذا الأمر عن ظاهره.

فالأصل في سجود السهو أنه للوجوب، لكن هذا الوجوب يتقيد في جبر الواجبات؛ والأركان لا تجبر إلا بفعلها.

وبناءً على ذلك فإن سجود السهو لجبر الواجبات واجب، أما لو سها في صلاته بزيادة ذكر في غير موضعه كقراءة الفاتحة في حال الركوع أو السجود فإنه يشرع ولا يجب، على التفصيل الذي ذكرناه عند كلام المصنف رحمه الله على زيادة الأقوال المشروعة في غير موضعها.

قال رحمه الله تعالى: [وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط وإن نسيه وسلم سجد إن قرب زمانه ].

سجود النقص إذا تركه متعمداً بطلت صلاته إذا كان السجود قبل السلام، أما عند من يقول بالسجود بعد السلام فإنه يمكن أن يتدارك بعد سلامه، فلو تعمد ترك السجود عند من يقول بوجوبه فهو كترك واجبات الصلاة، وهذا المذهب صحيح، فمن ترك واجباً كالتسميع والتحميد وتكبيرات الانتقال، ثم علم أنه ترك هذا الواجب ناسياً، وتعمد ترك سجود السهو قبل السلام بطلت صلاته كما لو ترك واجباً متعمداً، وذلك أن سجدتي السهو جبر، لهذا الواجب، فكونه يترك سجدتي السهو متعمداً كما لو تعمد ترك هذا الواجب أصالة، وبناءً على ذلك تبطل صلاته بترك سجود السهو من هذا الوجه.

وقوله: [وإن نسيه وسلم سجد إن قرب زمانه]

أي: إن نسي سجود السهو جبره إن قرب زمانه، كالحال في الأركان، فإذا كانت الركعات يمكن تداركها مع قرب الزمان فإن الواجبات من بابٍ أولى وأحرى.

مثال ذلك: لو صليت فنسيت تكبيرات الانتقال أو التسميع أو التحميد، أو نسيت التشهد الأول، ثم صليت وسلمت ونسيت أنك قد نسيت هذا الواجب فلم تسجد للسهو، ومكثت في مصلاك، ثم تذكرت قبل أن يطول الفصل فإنك تسجد سجدتي السهو وتسلم، ولا يلزمك شيء.

وكذلك الحال لو أنه قام من مصلاه -على القول بأنه ما دام في داخل المسجد- ثم تذكر، فإنه يستقبل القبلة ويسجد سجدتي السهو، ويصح ذلك منه ويجزيه.

تكرار السهو في الصلاة

قال رحمه الله تعالى: [ومن سها مراراً كفاه سجدتان].

أي: من ترك أكثر من واجب فإنه تكفيه سجدتان، ويدل على ذلك ظاهر السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول كان التشهد مشتملاً على الجلوس للتشهد، وعلى تشهده، وعلى التكبير الجلسة؛ لأن تكبيره الذي قام فيه للركعة واقع بعد التشهد.

وبناءً على ذلك فقد حصل هنا أن ثلاثة واجبات قد تركت، فتداخلت في سجود النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبرها بمثابة الواجب الواحد، فهكذا الحال لو ترك واجبات متفرقة فيسجد لها سجدتين وتجزيه، ويتداخل السهو في هذه المسألة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ وقهقهة ككلام ].

القهقة: هي الضحكة المعروفة، والقهقهة للعلماء فيها قولان إذا وقعت في الصلاة:

فمنهم من يقول: من ضحك في صلاته فإن صلاته باطلة ويلزمه أن يعيد الوضوء. وهذا مذهب الحنفية.

ومنهم من يقول: من ضحك في أثناء صلاته فصلاته باطلة ووضوءه صحيح، وهذه هو مذهب الجمهور.

واستدل الحنفية بحديث ضعيف وهو: (أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا أعمى تردى فضحكوا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الوضوء والصلاة).

وهذا حديث ضعيف السند والمتن:

أما ضعف سنده فالكلام فيه، وأما ضعف متنه فلأن الصحابة أورع وأتقى لله وأخشى من أن يروا أعمى ويضحكون عليه، خاصة وأنهم وقوف بين يدي الله عز وجل، بل إنهم أبعد من أن يضحكوا لو سقط الأعمى في غير صلاة، فكيف وهم واقفون بين يدي الله عز وجل؟!! فهذا حديث ضعيف لا يعول على مثله في بناء الأحكام عليه.

وبناءً على ذلك فإذا قهقه أو ضحك في الصلاة فإن صلاته باطلة لخروجه عن كونه مصلياً، ولا شك أن الضحك في الصلاة يعتبر من الآثام، أما لو غلب الإنسان عليه، كأن ذكر أمراً لم يستطع دفعه فهذا له حكمه، لكن أن يضحك قاصداً متعمداً فهذا على خطر، ولذلك يخشى عليه أن يكون مستهزئاً، ومعلوم ما للمستهزئ بالدين من حكم، فالضحك في الصلاة على سبيل العبث واللهو واللعب أمر خطير، ولذلك قال الله عز وجل: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [الأنعام:70] ، فلذلك لا يجوز للإنسان أن يتشبه بأمثال الكفار الذين قال تعالى عنهم: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا [المائدة:58] ، فالاستهزاء في داخل الصلاة أمره عظيم، وهو من صنيع أهل النفاق والكفر، والعياذ بالله.

ولا يقع من إنسان إلا إذا كان في قلبه مرض -نسأل الله السلامة والعافية-، أما لو غُلِب على ذلك فإنه يدل على ضعف إيمانه؛ لأنه لو استشعر مقامه بين يدي الله عز وجل، ووقوفه بين يدي الله ملك الملوك وجبار السموات والأرض، وأن الله مطلع عليه حال وقوفه لما ضحك، خاصة وأنه يتدبر ويتأمل الآيات، فإنه في هذه الحالة أبعد من أن يضحك، ولو تذكر ما يضحك الإنسان فإنه لشدة الهيبة والمقام بين يدي الله يستطيع أن يتماسك ويمتنع من الضحك. فنسأل الله العافية من هذا البلاء، ونسأل الله أن لا يبتلينا بالاستخفاف بعظمته وهيبة المقام بين يديه.

وقد قال بعض العلماء مستنداً إلى بعض الأحاديث، وإن كان قد تكلم في سندها: (إن مقام الناس بين يدي الله يوم القيامة على قدر خشوعهم في الصلاة). فيقف الإنسان بين يدي الله يوم القيامة على قدر ما كان منه من حال أثناء صلاته، فإن كان أثناء وقوفه بين يدي الله في الصلاة يعظمه ويجله كان مقامه بين يدي الله يوم القيامة على أكمل المقامات وأتمها وأحبها إلى الله، ويكون حاله على حال السعداء، وإن كان حاله على الاستخفاف والتلاعب والتشاغل فهو بحسبه، نسأل الله السلامة والعافية.

قال رحمه الله تعالى: [وإن نفخ، أو انتحب من غير حشية الله تعالى، أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت ].

وقوله: (وإن نفخ) النفخ في الصلاة هو إخراج الهواء من الفم، ويكون في بعض الأحوال متضمناً لبعض الحروف والكلمات، خاصة إذا كان نفخه فيه شيء من التأوه والتألم والتضجر والسآمة، فإنه في هذه الحالة يخرج شيء أشبه بالأصوات، فقد يقول: آه. فإن فيه الهمز والهاء، وهذان حرفان.

وقوله: (أو انتحب من غير خشية الله) أي: بكى، وذلك كالشخص الذي يكون حزيناً لأمر، فيدخل في الصلاة وهو حديث عهد بالحزن، فيبكي في صلاته لحزنه لا لخشية الله، فهذا البكاء إذا كان فيه نحيب وصوت فإنه يوجب بطلان صلاته.

وقوله: (أو تنحنح لغير حاجة) التنحنح استثناه بعض العلماء لحاجة، كأن يجد في صدره ما يوجب التنحنح، أو يتنحنح للتنبيه، فقالوا: إنه يكون في حكم التسبيح، وقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه: (كان إذا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بالليل تنحنح له عليه الصلاة والسلام)، فهذا يعتبره العلماء بمثابة التسبيح؛ فإن التسبيح فيه حروف وجمل، فإن (سبحان الله) جملة، وبناءً على ذلك قالوا: لا تبطل الصلاة إذا وجدت الحاجة الداعية إلى أن يتنحنح، خاصة لورود حديث علي رضي الله عنه في السنن.

أما إذا انتحب -وهو الصوت الذي يكون مع البكاء-، وكان نحيبه من خشية الله فبعض العلماء يقول: إذا أصدر الأصوات وأزعج فإن صلاته تبطل، وخرج عن كونه مصلياً، وقد أثر عن عمر رضي الله عنه أنه: (كان يسمع نشيجه وبكاؤه من آخر الصفوف)، لكن هذا النحيب من عمر وأمثال عمر إنما هو من مغلوب عليه، أما أن يتكلف الإنسان ويحاول أن يغلب نفسه لكي تبكي، ويرفع صوته بذلك فلا شك أن هذا يوجب بطلان صلاته، خاصة إذا علت الأصوات وشوش على المصلين، ولا يأمن على صاحبه من الرياء، نسأل الله السلامة والعافية.

ولذلك تجد بعض العلماء والأخيار والصالحين يغالب نفسه في البكاء، ويحاول أن لا يبكي حتى يغلب، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه الله برحمته الواسعة (إذا خطب في الناس وبكوا قطع الخطبة وجلس خوف الرياء).

فإذا كان الإنسان مغلوباً على البكاء فلا حرج، خاصة إذا كان من خشية الله عز وجل، أما إذا كان بكاؤه تكلفاً ويغالب به نفسه وحصلت من الأصوات الحروف فإنه يحكم ببطلان صلاته وخروجه عن كونه مصلياً.