شرح زاد المستقنع سنن الصلاة


الحلقة مفرغة

السترة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وتسن صلاته إلى سترة قائمة كمؤخرة الرجل]

ذكر المصنف رحمه الله تعالى جملةً من الأحكام والمسائل التي كانت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، وشرع بعد بيان صفة الصلاة في بيان الأمور التي يسن للإنسان أن يحصلها في صلاته، ومنها السترة.

فيقول رحمه الله: [وتسنّ]، وهذا التعبير يَدل على أن جعلك للسترة إنما هو على سبيل الندب والاستحباب، بمعنى أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلّى صلّى إلى سترة.

والسترة أصلها: ما يستتر به الإنسان، ويشمل ذلك ما يستر عورته، أو يستره إذا كان في مكان، ولكن المراد بها هنا سترة مخصوصة حَكَم الشرع باعتبارها، فأنت إذا صَلَّيت تحتاج إلى حدٍ معين تمنع فيه الناس أن يمروا بينك وبينه، وهذا الحد وَضَعه الشرع على سبيل العبادة؛ لأن المكلَّف إذا خَلِي من مرور الناس بين يديه كان ذلك أدعى لخشوعه، وأدعى لحضور قلبه، ثم إن هذه الصلاة تكون لها حرمة، فيمتنع المار أن يمر بين يدي المصلي، وذلك إنما يكون بوضع حدٍ معين، وهو الذي وصف في الشرع بكونه سترةً.

وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن السترة: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، أي: مثل مؤخرة الرحل سترةً للمصلي، ثم لا يضره من مر وراء هذه السترة.

وأمر عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث إذا صلى المصلي أن يجعل السترة تلقاء وجهه، ولذلك ذهب طائفةٌ من أهل العلم رحمة الله عليهم إلى أن جعل السترة أمام المصلي في صلاته أمر واجب، ولا شك أن هذا القول أقرب لظاهر السنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إننا إذا تأمّلنا خطر المرور بين يدي المصلي وتشديد الشرع في أمره وترهيب المار من مروره فإنه يتضمن الدلالة على أن السترة واجبة.

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو يعلم المار بين يدي المصلي -أي ما في ذلك من الوعيد والعذابِ- لكان أن يقف أربعين أهون من أن يمر بين يديه). قال أبو النضر :لا أدري أقال أربعين يوماً، أو أربعين سنةً، أو أربعين شهراً. فأمر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول أمر عظيم يدل على عظم خطر المرور بين يدي المصلي، فإذا كان الأمر كذلك فإن من مقصود الشرع صيانة الناس عن هذا الخطر، وحفظهم عن الوقوع في هذا الضرر، وذلك إنما يكون بسبيل الإلزام، فإذا أُلزِم المصلي بجعل السُّترة كان ذلك أدعى لحفظ الناس من الوقوع في هذا المحظور.

والسترة تكون جداراً، وتكون جماداً، وتكون حيواناً، فلا حرج أن تستتر بظهر إنسان، ولا حرج أن تستتر بحيوان، فلو أنك دخلت المسجد وأردت أن تصلي تحية المسجد ولا تجد شاخصاً إلا ظهر إنسان أمامك فإنه لا حرج أن تصلي وراء ظهره، وقد جعلت في نفسك أن هذا الظهر بمثابة السترة لك، ويحق لك إذا وقع موقفك في الصف الذي يلي الصف أن تجعل الصف الأمامي بمثابة السترة.

وتكون السترة حيواناً، كأن يُنيخ الإنسان بعيره ثم يجعل أحد جنبي البعير سترةً له؛ لأنه لا يليق أن يجعل وجهه أمامه، وهكذا بالنسبة للرجل، حتى لا يُظَن أنه ساجدٌ للبعير أو ساجدٌ للإنسان، فسدّاً لذريعة السجود لغير الله عز وجل، لا تجعل الحي قبل وجهك، وإنما تأتي من قفاه إذا استُحسِن أن تكون في القفا، أو تأتي من جنبه، كالحيوان من بهيمةٍ أو إبلٍ أو بقرٍ أو غير ذلك، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يُنيخ بعيره ويصلي إليه.

وكذلك تكون السترة جماداً، وهذا الجماد قد يكون حائلاً كالجدار وكالبناء، فهذا لا إشكال في كونه سترةً مؤثرة. لكنه يكون في بعض الأحيان شاخصاً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلى كلٍ منهما، فلما دخل الكعبة اقترب من جدارها وصلى إلى الجدار، وكذلك اعتبر الجماد الشاخص كما في حديث أبي جحيفة وهب ابن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ثم ركزت له عنزة)، وهذا يدل على جواز الصلاة إلى الشاخص، كأن تغرز عوداً أو عصاً أو رمحاً أو نحو ذلك ثم تصلي إليه، أو تضع حجراً، لكنهم قالوا: إذا صليت إلى الحجر فاجعله عدة أحجارٍ حتى لا تشابه عبدة الأوثان، سداً لذريعة المشابهة لعبدة الأوثان؛ لأنه إذا جعل حجراً واحداً فكأنه يُشَابه أهل الأوثان بعبادتهم للأنصاب ونحوها، فقالوا: تجعل حجرين أو ثلاثة بجوار بعضها حتى تخرج من مشابهتهم.

وكذلك قالوا: السنة في الصلاة إلى الحجر أو الشاخص أن تجعل الشاخص إما على حاجبك الأيمن، أو على حاجبك الأيسر، ولكن لا تجعله أمامك مباشرة حتى لا تشابه عبدة الأوثان. وفيه حديث أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عليه الصلاة والسلام إذا صلّى جعل السترة على جانبه الأيمن، أو على جانبه الأيسر، ولم يصمُد لها صمْداً، أي: ما جعلها أمامه كأنه يسجد لها كحال عبدة الأوثان.

قوله: [قائمة كمؤخرة الرحل]

الرحل: هو ما يكون على ظهر البعير، ومؤخرته -كما ضبطها بعض العلماء- بقدر ذراع، وهي تحفظ الراكب من ورائه.

فإن كانت السترة صغيرة الحجم طلب ما هو أعلى منها، وذلك أن العالي أدعى لانتباه الناس له وتوقيهم المرور بين يدي المصلي.

ثم السنة في هذا الشاخص أن تجعل بين سجودك وبين مكانه قدر ممر الشاة، فمكن أن يكون قدر ذراع، وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان بين منبره والجدار قدر ممر الشاة قال بعض العلماء: الحكمة فيه -والعلم عند الله- أنه يمنع من مشابهة عبدة الأوثان؛ لأنه إذا كان بينك وبين السترة حائلاً دلّ على أنك لا تقصدها.

قال رحمه الله تعالى: [فان لم يجد شاخصاً فإلى خط].

الخط يكون في الأرض التي هي كالبرية، والتي يمكن وضع الخطوط فيها، وللعلماء في مشروعية هذا الخط قولان مشهوران:

فقال الجمهور بعدم مشروعيته، وذلك لشدة الضعف في الحديث الذي ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن لم يجد فليخط خطاً)، فالضعف في الحديث قوي جداً، وأشار بعض العلماء إلى تحسينه كـالحافظ ابن حجر وغيره، ولكن الكلام فيه قوي، لكن قال العلماء رحمةُ الله عليهم: لو لم يدل عليه الحديث لاقتضاه الأصل؛ لأن المقصود منع الناس، وليس المراد به أن يكون سُترةً.

ثم اختلفوا في صورة هذا الخط، فقال بعضهم: يجعله في أحد جانبيه كالحال في العصا.

وقيل: يجعل الخط من أمامه على آخر ما ينتهي إليه سجوده كالحال في الجدار المعترض. وقيل: يجعله كالهلال. أي: كالمحراب الذي يدخل فيه الإنسان، وأصح الأقوال أن الأمر واسع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليخط خطاً) -على القول بثبوت الحديث- ولم يبين كيف يكون، فيبقى الأمر على إطلاقه إعمالاً للأصل.

قال رحمه الله تعالى: [وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط].

أي: تبطل الصلاة إن صليت إلى السترة بمرور كلبٍ أسود بهيمٍ، وهذا فيه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب)، فهؤلاء الثلاثة بأمر الشرع يقطعون الصلاة، أي أن الشرع دلّ على أنهم يقطعون الصلاة على سبيل العبادة، والله تعالى أعلم بعلة ذلك، وإن كانوا قد ذكروا في الكلب وخَصُّوه بالأسود لورود الخبر أنه شيطان.

وهذا القول -أعني القول بقطع الصلاة بمرور أحد هؤلاء الثلاثة- هو أصح الأقوال وأعدلها، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة من أهل الحديث، بمعنى أن المكلف يُطَالب باستئناف الصلاة، ومثال ذلك: لو قمت تصلي تحية المسجد، فجاءت امرأةٌ، أو مَرّ حمارٌ -أكرمكم الله- بينك وبين السترة، فهذا المرور لهذه الدابة يُوجِب قطع الصلاة، فلو صليت ركعةً من تحية المسجد فكأنك لم تصلِّ، فتسأنف الصلاة ولو كنت في التشهد الأخير، فمروره بين يديك في هذه الحالة يُوجِب انقطاع الصلاة من أصلها فتستأنف الصلاة، وكأنك في غير صلاةٍ، ولو كانت فرضاً، أي ولو كنت في فرض فإنك تستأنف الصلاة، وهذا على أصح أقوال العلماء.

وخَالَف الجمهور رحمةُ الله عليهم من الحنفية والمالكية والشافعية، فقالوا: لا يقطع الصلاة واحدٌ من هؤلاء الثلاثة.

قالوا: أما الحمار فلثبوت حديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد).

ووجه الدلالة أن الأتان مرَّت بين المصلين فلم يوجب ذلك قطع صلاتهم، فدل على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة.

قالوا: وأما المرأة فلما ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح).

كانت حجرته عليه الصلاة والسلام صغيرة الحجم إلى درجة أنها لو نامت رضي الله عنها لا يجد مكاناً يسجد فيه صلوات الله وسلامه عليه، ولكنها وإن كانت ضيقة فهي واسعةٌ بما فيها من الإيمان والحكمة ونور القرآن، وبما فيها من خير النبي صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الآفاق صلوات الله وسلامه عليه.

قالوا: لو كان مرور المرأة يقطع الصلاة لامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على هذه الصورة.

وعند التأمل لهذه النصوص التي احتجّ بها جمهور العلماء رحمةُ الله عليهم فإننا نرى أن الدليل الذي دلّ على قطع الصلاة أرجح، وذلك لكونه نصاً في موضع النزاغ.

ثانياً: أن اعتراض أم المؤمنين عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو اعتراض الجزء، والقاعدة في الأصول أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، ولذلك لو حَلَفت وقلت: والله لا أدخل الدار، فأدخلت رجلاً ولم تدخل الأخرى لم تحنث؛ لأنه لا يَصْدُق عليك أنك قد دخلت إلا بالجرم كله، وكذلك هنا. ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين عائشة وهو معتكفٌ بالمسجد: (ناوليني الخُمرة قالت: إني حائض. قال: إن حيضتك ليست في يدك). أي أن جُزءَك ليس آخذاً حكم الكل. فلذلك دلت السنة على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، فيكون اعتراض القدمين بين يديه لا يوجب الحكم بكونها معترضةً بالكل، والحديث الذي ورد في القطع إنما هو للكل، وفرقٌ بين الجزء والكل، فهذا وجه.

الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حَكَم بكون الصلاة تنقطع بالمرور، وكونها تمد الرجل وتقبضها ليس بمرور حقيقة، ولذلك يُعتبر حديث الذين قالوا بالقطع أقوى من حديث الذين قالوا بعدم القطع.

أما استدلالهم رحمة الله عليهم بحديث ابن عباس رضي الله عنهما في صلاته بخيف مِنَى فيجاب عنه بأنه أرسل الأتان ومر بالأتان بين الصفوف، أي مر بين يدي المأمومين، والمرور بين يدي المأمومين لا يؤثر، وإنما مورد النص في المنفرد والإمام، أما المأموم فإنه يجوز أن تمر بين يديه كما هو معلوم، فمحل الخلاف أن يمر بين يدي الإمام أو يمر بين يدي المنفرد، فأصبح حديث ابن عباس خارجاً عن موضع النزاع.

ولذلك لا يَقْوَى على معارضة ما ذكرناه من النص الصريح في كون الصلاة تنقطع بمرور هؤلاء، وخصّه المصنف بالكلب الأسود البهيم لورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلب الأسود دون غيره.

التعوذ عند آية وعيد والسؤال عند آية رحمة في الصلاة

قال رحمه الله تعالى: [وله التعوذ عند آية وعيدٍ والسؤال عند آية رحمة ولو في فرض].

قوله: [وله] أي: للمصلي، فلك إذا صليت نافلة أو فريضة وقرأت آية عذابٍ أن تسأل الله أن يُعيذَك منه، أو قرأت آية رحمةٍ أن تسأل الله من فضله.

والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في قيام الليل من حديث حذيفة أنه ما مر بآيةٍ فيها ذكر رحمةٍ إلا وقف وسأل الله من فضله، ولا مر بآيةٍ فيها ذكر عذابٍ إلا استعاذ بالله عز وجل. قالوا: فهذا يدل على مشروعية أن يسأل المكلف ربه من فضله إن مرّ بالرحمة، ويستعيذ به إن مر بالعذاب، ولا فرق عند القائلين بهذا القول بين الفرض والنفل.

والصحيح أنه يُفَرَّق في السؤال بين الفرض والنفل كما ذهب إليه الجمهور؛ فإنه -كما في الحديث الصحيح- لما نزل قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، قال الراوي: (فأُمِرنا بالسكوت ونُهِينا عن الكلام)، فدل على أن الأصل في المصلي أن يسكت، وقال عليه الصلاة والسلام في الإمام: (إذا قرأ فأنصتوا)، فالأصل عدم الكلام، فلما ثبتت السنة بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، ولم يثبت حديث صحيح واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل هذا في الفرض؛ إذ لا يُعقَل أنه يصلي بأصحابه صلوات الله وسلامه عليه هذا الردح من الزمان الطويل ولا يثبت عنه في فرضٍ واحدٍ أنه فعل ذلك، فحينئذٍ نقول: يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، فيُشرع فعل ذلك في النفل دون الفرض، وهذا هو أعدل الأقوال وأقربها إلى السنة، فعلى المصلي إذا كان وراء الإمام أن ينصت ويمتنع عن الحديث، ويختص حكم هذه المسألة بالنفل دون الفرض.

ولذلك قال المصنف: [ولو في فرضٍ]، وكلمة (لو): تشير إلى الخلاف، ومعنى ذلك أن هناك من يقول بتخصيصه بالنفل دون الفرض، وهو مذهب الجمهور، وهو أقرب الأقوال وأعدلها، ولذلك ينبغي الاقتصار عليه في النوافل دون غيرها، أعني: الفرائض.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وتسن صلاته إلى سترة قائمة كمؤخرة الرجل]

ذكر المصنف رحمه الله تعالى جملةً من الأحكام والمسائل التي كانت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، وشرع بعد بيان صفة الصلاة في بيان الأمور التي يسن للإنسان أن يحصلها في صلاته، ومنها السترة.

فيقول رحمه الله: [وتسنّ]، وهذا التعبير يَدل على أن جعلك للسترة إنما هو على سبيل الندب والاستحباب، بمعنى أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلّى صلّى إلى سترة.

والسترة أصلها: ما يستتر به الإنسان، ويشمل ذلك ما يستر عورته، أو يستره إذا كان في مكان، ولكن المراد بها هنا سترة مخصوصة حَكَم الشرع باعتبارها، فأنت إذا صَلَّيت تحتاج إلى حدٍ معين تمنع فيه الناس أن يمروا بينك وبينه، وهذا الحد وَضَعه الشرع على سبيل العبادة؛ لأن المكلَّف إذا خَلِي من مرور الناس بين يديه كان ذلك أدعى لخشوعه، وأدعى لحضور قلبه، ثم إن هذه الصلاة تكون لها حرمة، فيمتنع المار أن يمر بين يدي المصلي، وذلك إنما يكون بوضع حدٍ معين، وهو الذي وصف في الشرع بكونه سترةً.

وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن السترة: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، أي: مثل مؤخرة الرحل سترةً للمصلي، ثم لا يضره من مر وراء هذه السترة.

وأمر عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث إذا صلى المصلي أن يجعل السترة تلقاء وجهه، ولذلك ذهب طائفةٌ من أهل العلم رحمة الله عليهم إلى أن جعل السترة أمام المصلي في صلاته أمر واجب، ولا شك أن هذا القول أقرب لظاهر السنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إننا إذا تأمّلنا خطر المرور بين يدي المصلي وتشديد الشرع في أمره وترهيب المار من مروره فإنه يتضمن الدلالة على أن السترة واجبة.

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو يعلم المار بين يدي المصلي -أي ما في ذلك من الوعيد والعذابِ- لكان أن يقف أربعين أهون من أن يمر بين يديه). قال أبو النضر :لا أدري أقال أربعين يوماً، أو أربعين سنةً، أو أربعين شهراً. فأمر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول أمر عظيم يدل على عظم خطر المرور بين يدي المصلي، فإذا كان الأمر كذلك فإن من مقصود الشرع صيانة الناس عن هذا الخطر، وحفظهم عن الوقوع في هذا الضرر، وذلك إنما يكون بسبيل الإلزام، فإذا أُلزِم المصلي بجعل السُّترة كان ذلك أدعى لحفظ الناس من الوقوع في هذا المحظور.

والسترة تكون جداراً، وتكون جماداً، وتكون حيواناً، فلا حرج أن تستتر بظهر إنسان، ولا حرج أن تستتر بحيوان، فلو أنك دخلت المسجد وأردت أن تصلي تحية المسجد ولا تجد شاخصاً إلا ظهر إنسان أمامك فإنه لا حرج أن تصلي وراء ظهره، وقد جعلت في نفسك أن هذا الظهر بمثابة السترة لك، ويحق لك إذا وقع موقفك في الصف الذي يلي الصف أن تجعل الصف الأمامي بمثابة السترة.

وتكون السترة حيواناً، كأن يُنيخ الإنسان بعيره ثم يجعل أحد جنبي البعير سترةً له؛ لأنه لا يليق أن يجعل وجهه أمامه، وهكذا بالنسبة للرجل، حتى لا يُظَن أنه ساجدٌ للبعير أو ساجدٌ للإنسان، فسدّاً لذريعة السجود لغير الله عز وجل، لا تجعل الحي قبل وجهك، وإنما تأتي من قفاه إذا استُحسِن أن تكون في القفا، أو تأتي من جنبه، كالحيوان من بهيمةٍ أو إبلٍ أو بقرٍ أو غير ذلك، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يُنيخ بعيره ويصلي إليه.

وكذلك تكون السترة جماداً، وهذا الجماد قد يكون حائلاً كالجدار وكالبناء، فهذا لا إشكال في كونه سترةً مؤثرة. لكنه يكون في بعض الأحيان شاخصاً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلى كلٍ منهما، فلما دخل الكعبة اقترب من جدارها وصلى إلى الجدار، وكذلك اعتبر الجماد الشاخص كما في حديث أبي جحيفة وهب ابن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ثم ركزت له عنزة)، وهذا يدل على جواز الصلاة إلى الشاخص، كأن تغرز عوداً أو عصاً أو رمحاً أو نحو ذلك ثم تصلي إليه، أو تضع حجراً، لكنهم قالوا: إذا صليت إلى الحجر فاجعله عدة أحجارٍ حتى لا تشابه عبدة الأوثان، سداً لذريعة المشابهة لعبدة الأوثان؛ لأنه إذا جعل حجراً واحداً فكأنه يُشَابه أهل الأوثان بعبادتهم للأنصاب ونحوها، فقالوا: تجعل حجرين أو ثلاثة بجوار بعضها حتى تخرج من مشابهتهم.

وكذلك قالوا: السنة في الصلاة إلى الحجر أو الشاخص أن تجعل الشاخص إما على حاجبك الأيمن، أو على حاجبك الأيسر، ولكن لا تجعله أمامك مباشرة حتى لا تشابه عبدة الأوثان. وفيه حديث أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عليه الصلاة والسلام إذا صلّى جعل السترة على جانبه الأيمن، أو على جانبه الأيسر، ولم يصمُد لها صمْداً، أي: ما جعلها أمامه كأنه يسجد لها كحال عبدة الأوثان.

قوله: [قائمة كمؤخرة الرحل]

الرحل: هو ما يكون على ظهر البعير، ومؤخرته -كما ضبطها بعض العلماء- بقدر ذراع، وهي تحفظ الراكب من ورائه.

فإن كانت السترة صغيرة الحجم طلب ما هو أعلى منها، وذلك أن العالي أدعى لانتباه الناس له وتوقيهم المرور بين يدي المصلي.

ثم السنة في هذا الشاخص أن تجعل بين سجودك وبين مكانه قدر ممر الشاة، فمكن أن يكون قدر ذراع، وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان بين منبره والجدار قدر ممر الشاة قال بعض العلماء: الحكمة فيه -والعلم عند الله- أنه يمنع من مشابهة عبدة الأوثان؛ لأنه إذا كان بينك وبين السترة حائلاً دلّ على أنك لا تقصدها.

قال رحمه الله تعالى: [فان لم يجد شاخصاً فإلى خط].

الخط يكون في الأرض التي هي كالبرية، والتي يمكن وضع الخطوط فيها، وللعلماء في مشروعية هذا الخط قولان مشهوران:

فقال الجمهور بعدم مشروعيته، وذلك لشدة الضعف في الحديث الذي ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن لم يجد فليخط خطاً)، فالضعف في الحديث قوي جداً، وأشار بعض العلماء إلى تحسينه كـالحافظ ابن حجر وغيره، ولكن الكلام فيه قوي، لكن قال العلماء رحمةُ الله عليهم: لو لم يدل عليه الحديث لاقتضاه الأصل؛ لأن المقصود منع الناس، وليس المراد به أن يكون سُترةً.

ثم اختلفوا في صورة هذا الخط، فقال بعضهم: يجعله في أحد جانبيه كالحال في العصا.

وقيل: يجعل الخط من أمامه على آخر ما ينتهي إليه سجوده كالحال في الجدار المعترض. وقيل: يجعله كالهلال. أي: كالمحراب الذي يدخل فيه الإنسان، وأصح الأقوال أن الأمر واسع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليخط خطاً) -على القول بثبوت الحديث- ولم يبين كيف يكون، فيبقى الأمر على إطلاقه إعمالاً للأصل.

قال رحمه الله تعالى: [وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط].

أي: تبطل الصلاة إن صليت إلى السترة بمرور كلبٍ أسود بهيمٍ، وهذا فيه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب)، فهؤلاء الثلاثة بأمر الشرع يقطعون الصلاة، أي أن الشرع دلّ على أنهم يقطعون الصلاة على سبيل العبادة، والله تعالى أعلم بعلة ذلك، وإن كانوا قد ذكروا في الكلب وخَصُّوه بالأسود لورود الخبر أنه شيطان.

وهذا القول -أعني القول بقطع الصلاة بمرور أحد هؤلاء الثلاثة- هو أصح الأقوال وأعدلها، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة من أهل الحديث، بمعنى أن المكلف يُطَالب باستئناف الصلاة، ومثال ذلك: لو قمت تصلي تحية المسجد، فجاءت امرأةٌ، أو مَرّ حمارٌ -أكرمكم الله- بينك وبين السترة، فهذا المرور لهذه الدابة يُوجِب قطع الصلاة، فلو صليت ركعةً من تحية المسجد فكأنك لم تصلِّ، فتسأنف الصلاة ولو كنت في التشهد الأخير، فمروره بين يديك في هذه الحالة يُوجِب انقطاع الصلاة من أصلها فتستأنف الصلاة، وكأنك في غير صلاةٍ، ولو كانت فرضاً، أي ولو كنت في فرض فإنك تستأنف الصلاة، وهذا على أصح أقوال العلماء.

وخَالَف الجمهور رحمةُ الله عليهم من الحنفية والمالكية والشافعية، فقالوا: لا يقطع الصلاة واحدٌ من هؤلاء الثلاثة.

قالوا: أما الحمار فلثبوت حديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد).

ووجه الدلالة أن الأتان مرَّت بين المصلين فلم يوجب ذلك قطع صلاتهم، فدل على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة.

قالوا: وأما المرأة فلما ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح).

كانت حجرته عليه الصلاة والسلام صغيرة الحجم إلى درجة أنها لو نامت رضي الله عنها لا يجد مكاناً يسجد فيه صلوات الله وسلامه عليه، ولكنها وإن كانت ضيقة فهي واسعةٌ بما فيها من الإيمان والحكمة ونور القرآن، وبما فيها من خير النبي صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الآفاق صلوات الله وسلامه عليه.

قالوا: لو كان مرور المرأة يقطع الصلاة لامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على هذه الصورة.

وعند التأمل لهذه النصوص التي احتجّ بها جمهور العلماء رحمةُ الله عليهم فإننا نرى أن الدليل الذي دلّ على قطع الصلاة أرجح، وذلك لكونه نصاً في موضع النزاغ.

ثانياً: أن اعتراض أم المؤمنين عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو اعتراض الجزء، والقاعدة في الأصول أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، ولذلك لو حَلَفت وقلت: والله لا أدخل الدار، فأدخلت رجلاً ولم تدخل الأخرى لم تحنث؛ لأنه لا يَصْدُق عليك أنك قد دخلت إلا بالجرم كله، وكذلك هنا. ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين عائشة وهو معتكفٌ بالمسجد: (ناوليني الخُمرة قالت: إني حائض. قال: إن حيضتك ليست في يدك). أي أن جُزءَك ليس آخذاً حكم الكل. فلذلك دلت السنة على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، فيكون اعتراض القدمين بين يديه لا يوجب الحكم بكونها معترضةً بالكل، والحديث الذي ورد في القطع إنما هو للكل، وفرقٌ بين الجزء والكل، فهذا وجه.

الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حَكَم بكون الصلاة تنقطع بالمرور، وكونها تمد الرجل وتقبضها ليس بمرور حقيقة، ولذلك يُعتبر حديث الذين قالوا بالقطع أقوى من حديث الذين قالوا بعدم القطع.

أما استدلالهم رحمة الله عليهم بحديث ابن عباس رضي الله عنهما في صلاته بخيف مِنَى فيجاب عنه بأنه أرسل الأتان ومر بالأتان بين الصفوف، أي مر بين يدي المأمومين، والمرور بين يدي المأمومين لا يؤثر، وإنما مورد النص في المنفرد والإمام، أما المأموم فإنه يجوز أن تمر بين يديه كما هو معلوم، فمحل الخلاف أن يمر بين يدي الإمام أو يمر بين يدي المنفرد، فأصبح حديث ابن عباس خارجاً عن موضع النزاع.

ولذلك لا يَقْوَى على معارضة ما ذكرناه من النص الصريح في كون الصلاة تنقطع بمرور هؤلاء، وخصّه المصنف بالكلب الأسود البهيم لورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلب الأسود دون غيره.