مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

إخوتي الكرام! تدارسنا في العام الماضي مقدمةً طويلةً تعلقت بفضائل القرآن، وبطرق تفسير القرآن الكريم، وكانت تلك المقدمة تمهيداً لدروس التفسير التي بدأنا بها في العام الماضي، وفي هذه السنة نتدارس مقدمةً تعدل تلك الفائتة، وإن كانت ستأخذ محاضراتٍ أقل منها، وهذه المقدمة كما قلت: هي التحذير من المؤامرات والمكائد التي يكيد بها الأعداء لهذا القرآن العظيم، وقلت: إن تلك المؤامرات وتلك المكائد تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يدعو إلى إهمال القرآن ونبذه وراء ظهورنا، وقلت: إن كفر هذا القسم واضحٌ لكل أحد، وبينت حكم من لم يحكم بما أنزل الله، وإذا كان الأمر كذلك فلن نشتغل بعرض وساوس هؤلاء، فضلالهم معروفٌ لكل أحد، لكننا أمام فرقتين خبيثتين راجت أفكارهما عند كثيرٍ من السذج والدهماء والعامة من المسلمين، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن نقف عند كل فرقةٍ من هاتين الفرقتين وقفةً نضع الحق في نصابه.

فالفرقة الأولى دعت إلى الفصل، والثانية دعت إليه وزادت عليه أخبث أنواع المكر، وكنا إخوتي الكرام مع الفرقة الأولى نتدارس خطرها وشناعتها، وقلت في الموعظة السابقة: إن فصل الدين عن السياسة يعني كفر الحكومة وعدم تقيدها بشريعة الله القويم، وبالتالي يعني كفر الأمة؛ لأن الوكيل إذا كفر فسيكفر الموكل ولا بد، والرضا بالكفر كفر، وقلت مما يوضح خطورة هذا الأمر ثلاثة أمور، وكل أمر قررته بأمرين، فأعيد ما تقدم على سبيل الاختصار:

قلت: لم يخطر ببال حكومةٍ من الحكومات الإسلامية السابقة أن تدعو إلى فصل الدين عن السياسة، ما خطر ببالهم، ولا دار في خلدهم؛ لأن هذا يعني كفرهم، ولذلك ما دعوا إلى هذا ولا خطر ببالهم ولا تبناه أحد منهم، فهذا يعني أن يكفروا، ويعني أمراً ثانياً أن تكفر الرعية، ولذلك ما دعا إلى هذا أحدٌ من الحكومات الإسلامية السابقة.

والأمر الثاني قلت: إن فصل الدين عن السياسة أعظم من فصل الدين عن الأمة لأمرين:

الأول: أن الحكومة تستطيع أن تؤثر في الأمة دون العكس، فلا تستطيع الرعية أن تؤثر في الحكومة إلا إذا أزالتها.

الثاني: لو أن الحكومة حايدت وتركت دين الله جل وعلا دون أن تعتدي عليه -وهيهات هيهات- فإنها عندما تفصل الدين عن السياسة إذا لم تحمل الرعية على الكفر فسيستغل الضالون المضلون هذا الأمر الذي تبنته الدولة وهو فصل الدين عن السياسة لحمل الرعية عن الكفر بأنواع المغريات، وأنواع المحن والشدائد، وضربت على هذا أمثلةً وبراهين.

الثالث: قلت: إن الحكومة إذا فصلت الدين عن السياسة، فهي أخبث من الحكومة الأجنبية لأمرين:

الأول: أن الحكومة الأجنبية لا تتدخل في الشئون الإسلامية الداخلية وتترك الرعية وما تدين، وليست الحكومة المرتدة تفعل ذلك.

الثاني: أن الرعية تعلم أن الحكومة الأجنبية غريبةٌ عليها فستفكر بإزالتها وستزيلها عما قريبٍ ولا بد، وليس كذلك بالنسبة للحكومة الوطنية التي هي من جلدتنا وتتكلم بألسنتنا.

إخوتي الكرام! بعد أن انتهينا من هذا قلنا: سنعمل مقارنةً -وهي موضوع موعظتنا في هذه الليلة المباركة إن شاء الله- مقارنةً بين شريعة رب العالمين والسياسة التي تنفصل عن هدي أرحم الراحمين.

إذا فصلنا الدين عن السياسة.. فصلنا الدين عن الدولة سنضع القوانين الوضعية، فما منزلة تلك القوانين؟ وما منزلة شريعة أرحم الراحمين؟

هؤلاء تستروا بأمرٍ خدعوا به الناس وقالوا: الدين شيءٌ عظيم، ينبغي أن يكون محله في القلوب فقط، وأما في خارج الحياة فدعوا هذا للعباقرة والفلاسفة ولمجلس الشعب ولمجلس الأمة، ولمجلس الوزراء، وللبرلمان، ولغير ذلك، دعوا هذا.

قالوا: هو شيءٌ عظيم يتسترون أمام الناس بهذا، لكن هذا الفصل لو أخذنا به ولجأنا إلى القوانين الوضعية فإن هذا سيلقينا في قعر البحر.

فصل ما أعزنا في الدنيا ولن يسعدنا في الآخرة، فيشقينا هذا الفصل في الدنيا قبل الآخرة، وما عند الله أشد وأفظع.

إخوتي! في هذه الموعظة سنعمل مقارنةً بين الأنظمة الوضعية وبين شريعة رب البرية، وهذه المقارنة هي من باب المقارنة بين الدر والبعر، والنتيجة فيها معروفة، لكن لا بد من عرضها حتى يسلم هؤلاء لربهم، وإذا لم يحصل هذا منهم فلا أقل من أن تسلم الأمة من شرهم، إما أن يسلموا، وإما أن يسلم الناس من شرورهم، وأن يكونوا على بينةً من أمرهم.

إن المقارنة بين شريعة رب البرية وبين القوانين الوضعية كالمقارنة بين الدر والبعر، كيف لا وهي شريعة رب العالمين، وهل يصح مقارنتها بترهات من خلق من ماءٍ مهين؟!

هل يصح أن نقارن شريعة ربنا القهار بخرافات الإنسان الضلول الكفار؟

لكن كما قلت: إن كثيراً من الناس يخفى عليهم ضوء النهار، فلا بد إذاً من إقامة البينة ليعتبر بذلك أهل الاعتبار.

إخوتي الكرام! ينبغي في القانون الذي يحتكم إليه الناس أن يوجد فيه خمسة أمور، إذا لم تكن هذه الأمور موجودةً في هذا القانون فلن يجرهم إلا إلى الخيبة والخسران والشقاء في الدنيا، وإلى العذاب والهلاك في الآخرة:

أول أمرٍ من هذه الأمور الخمسة: ينبغي أن يكون القانون مقدساً، أن يكون القانون محترماً. وأي احترامٍ وقداسةٍ تكونان لغير هذا القانون، لغير شريعة الحي القيوم؟! أي قداسةٍ فوق هذا عندما نقول: هذه شريعة الله، هذا كلام الله؟! إن هذا يحترمه كل أحد، ويقدسه كل أحد، ولا يجد في ذلك غضاضةً ولا حرج، فهذا شرع ربه وهو عبدٌ لله جل وعلا، ولا غضاضة في أن يتذلل المخلوق لخالقه، إنما الغضاضة كل الغضاضة في أن يتذلل المخلوق لمخلوقٍ مثله.

إن حكم الإنسان على غيره فيه نوع استرقاق، والنفوس الأبية تأبى تلك الخصلة الدنيئة، وعليه فعندما يشرع لنا من باض الشيطان في أذهانهم وفرخ، فهل تقبل النفوس الأبية صاحبة الغيرة والشهامة والشرف أن تلتزم بقانونٍ وضعيٍ وضيع، وضعه إنساناً مثلنا جهله أكثر من علمه؟!

هل تقبل نفسٌ شريفةٌ كريمةٌ بهذا؟

إن هذا امتهانٌ ليس بعده امتهان، ولكن عندما أقول لك: هذا حكم الرحمن تقول: سمعاً وطاعة.

إذاً: لا بد من أن يكون القانون محترماً مقدساً، يقول المتنبي :

تغرب لا مستعظماً غير نفسه ولا قابلاً إلا لخالقه حكما

تغرب مستعظماً غير نفسه. أي: ليس لأحدٍ عظمة عليك، ولا تقبل حكم غير ربك جل وعلا.

ولا قابلاً إلا لخالقه حكماً.

تقديس الإنسان لشريعة ربه وكلام خالقه

وهذا القرآن كلام الرحمن فهو محترمٌ، وهو مقدس، وليس بعد هذا الاحترام والتقديس احترامٌ وقداسة، كلام الله، كلام سيدنا، كلام ربنا، كلام خالقنا الذي أغدق علينا نعمه التي لا تحصى سبحانه وتعالى، فلا غضاضة إذاً عندما نأخذ بهدي هذا القرآن، بل في ذلك تشريفٌ ورفعةُ قدرٍ لنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41-42].

ولذلك إخوتي الكرام! برز في هذا القرآن تعبيران يخاطب بهما ربنا الرحمن بني الإنسان، تعبيران شريفان جليلان:

الأول: إضافتنا إليه سبحانه وتعالى، فهو ربنا وسيدنا، كثر في القرآن إضافة العباد إلى ربهم جل وعلا، فلا غضاضة إذاً ولا حرج في أن يأخذ العبد بشريعة سيده، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وقال سبحانه: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53] ، نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50] ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

إذاً: العباد يضافون إلى ربهم فيقدسون ويحترمون شريعته ولا شك.

ومما زادني عجباً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يَا عِبَادِي وأن صيرت أحمد لي نبيا

عليه صلوات الله وسلامه.

كم تتلذذ الأذن ويطير القلب فرحاً عندما يقرأ الإنسان كتاب سيده ويقول الله له: يا عبادي! يا عبادي! يا عبادي! يا عبادي!

إذاً: هذا القانون مقدس، هذا القانون محترم، وهذا سيترتب عليه أمرٌ جليل يأتينا ذكره إن شاء الله بعد ذكر الأمر الثاني الذي برز في القرآن في مخاطبة الله لعباده، فإذا كنا عباداً لله وهو سيدنا، فالقضية المسلمة في ذلك أن نؤمن به، وأن نلتزم بشرعه، ولذلك يخاطب الله عباده بكثرةٍ في كتابه بوصف الإيمان، برز هذان الأسلوبان في القرآن إضافة العباد إلى الله في آياتٍ كثيرة، ومخاطبتهم بوصف الإيمان في آياتٍ وفيرة، يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]، في سورة المائدة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، يناديهم بهذا الوصف إذا كانوا عباداً له، فالواجب عليهم أن يؤمنوا به، وإذا آمنوا به فليلتزموا بشرعه، ولا يقحمون عقولهم في تحليلٍ ولا تحريم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:87]، فهذا اعتداء وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]، ولذلك كان ربنا جل وعلا إذا طلب منا أمراً لنقوم به أو نهياً لنتركه يذكرنا بوصف الإيمان الذي يدعونا للامتثال؛ لأننا نعلم أن ربنا ينادينا، وهذا الذي آمنا به وشرعه مقدسٌ عندنا، يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:90-92].

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)؟ استفهام بمعنى الأمر. أي: انتهوا عن الخمر والميسر، لكن ربنا جل وعلا ما ساقه بصيغة الأمر، وكأنه يطلب منا أن نشاركه في علم مضرة هذا، وسنعطي الجواب نحن، نحن نعلم أنه يأمرنا بالانتهاء لكن عرض علينا بصورة استفهام، فنحن لن نجيب على السؤال، إنما سنجيب على ما يدل عليه السؤال. ماذا قال الصحابة؟ قالوا: نعم أم قالوا: انتهينا؟ قالوا: انتهينا. ولم يقل واحدٌ منهم: نعم، (فهل أنتم منتهون)؟ نعم، لا يقصد هنا السؤال، لكن هذا الأمر كأنه يقول: إذا كانت الخمر فيها هذه المضار وأنا بكم رءوفٌ رحيم، وأنتم عبادي فينبغي أن تتنزهوا عن ذلك لأنكم آمنتم بي. ما رأيكم في هذا؟

أنت يا رب لا تريد منا مشورةً، ولا تريد منا استفساراً، تريد بهذا أمراً، فهمنا مرادك، فهذا جوابنا على سؤالك، وعلى استفهامك لنا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)؟ انتهينا .. انتهينا .. انتهينا.

وهكذا يقول الله جل وعلا في سورة النور: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ [النور:30]، انتبه لوصف الإيمان، فهم عباد الله وآمنوا به، وشريعته مقدسةٌ عندهم قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، (يغضوا) فعلٌ مضارعٌ مجزوم، ما الذي جزمه ولم يتقدم له جازم؟ قيل: إنه مجزومٌ بفعل أمرٍ محذوف وقع فعل (يغض) جواباً له فهو جواب الطلب، والتقدير: قل للمؤمنين غضوا أبصاركم يغضوا. سبحان الله! هذه هي استجابة المؤمنين.

نعم، إن فعلهم متوقفٌ على أمره، قل لهم: غضوا يغضوا، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] ففعلهم متوقفٌ على أمرك، وعلى إشارتك؛ لأن كلام الله مقدسٌ عنده ما له شأنٌ جليل، وهذا أرجح مما ذهب إليه بعض المفسرين بأن الفعل المضارع هنا مجزومٌ بلا الناهية والتقدير: (قل للمؤمنين..) بلام الأمر، قل للمؤمنين ليغضوا أبصارهم. والجواب الأول فيه هذه النكتة وهو أولى، إن تقل لهم: غضوا يغضوا، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].

منزلة شريعة الله في قلوب الناس

إذاً: هذا مقدس ومحترم، وله شأن، وأول أمرٍ ينبغي أن يكون في القانون وفي الدستور وفي النظام أن يكون مقدساً محترماً عند الرعية وعند الناس، وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى منزلة شريعة الله في قلوب الناس، وكيف تعمل عملها، فثبت في الصحيحين وسنن النسائي والحديث في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ). أعمالٌ جليلة قاموا بها تقديساً لهذا القرآن واحتراماً لشريعة الرحمن، وإلا بإمكانهم أن يخرجوا عن ذلك؛ لأنه ليس عليهم رقابةٌ في هذه الأمور، إنما خشيةٍ في قلوبهم من العزيز الغفور، أولهم: (إمامٌ عادل)، بإمكانه أن يبطش، وأن يسفك، وعنده أسباب العظمة والكبر، لكنه يخشى الله جل وعلا.

( وشابٌ نشأ في طاعة الله ) قوته متكاملة تدعوه إلى طياشةٍ وانزلاقٍ هنا وهناك، فزمها بزمام التقوى، فهو عبدٌ لله آمن به.

( وشاب نشأ في طاعة الله، ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ). سبحان الله! هذه المراقبة عندهم؟ نعم؛ لأن دين الله مقدس ومحترم، فتدعوه امرأةٌ هذا شأنها، ذات منصبٍ وجمال، فلا يخشى عقوبةً فلها شأن، ولا نفسه تنفر عنها فهي جميلة، فاكتمل إذاً الأمن من ملامة الناس وعقوبتهم، ولم يوجد في النفس ما ينفر عنها، لكنه يخشى الله جل وعلا، ( ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله )، وانظر لذاك، ذكر الله خالياً لا يراه أحد ففاضت عيناه.

إذاً: هذا القانون مقدس محترم له شأن، وهذا ضروريٌ وجوده في القانون ليلتزم به الناس، ولئلا يحتال عليه هذا من هنا، وذاك من هناك، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن العبد لا يصل إلى درجة المتقين، ولا يتصف بحقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس؛ لأن هذا إذاً ينبغي أن يحتاط في أمور حياته خشية أن يقع في مكروهٍ وهو لا يدري، ثبت الحديث بذلك في سنن الترمذي وابن ماجه ومستدرك الحاكم وسنن البيهقي الكبرى بسندٍ صحيح، عن عطية السعدي رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس ).

وثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما منصوصاً عليه قال: ( لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر ).

أمرٌ شك فيه حلالٌ أو حرام؟ إذا كان الأمر كذلك فدعه واتركه، دعه واتركه من أجل تعظيم الله وتقديس هذه الشريعة، فإذا دار الأمر بين حظرٍ وإباحةٍ فغلب الحظر، و( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )، ومعنى حديث ابن عمر الموقوف عليه: ( لا يبلغ العبد درجةً من حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر )، ثبت في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان ، وثبت في مسند الإمام أحمد عن وابصة بن معبد رضي الله عنهما، عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك وتردد في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ).

إذاً: هذا الأمر الأول الذي يكون في شريعة الله.. في نظام الله.. في دين الله أنه مقدس، والإنسان يراقب قلبه ويكون في الخلوة خيراً منه في الجلوة؛ لأنه يعلم أن الله معه أينما كان، إذاً هذا شيءٌ محترمٌ مقدس.

موقف الإنسان من القوانين الوضعية

أما القوانين الوضعية الرديئة من الذي وضعها؟ بشرٌ وضيعون.

هل يدعوك هذا لتقديسها واحترامها وتنفيذها أو يدعوك هذا للاحتيال عليها والخروج منها؟ أول من يحتال عليها من وضعها، ولذلك لا توجد الجرائم في بلدان المسلمين إلا من علية القوم ومن رجال القانون.

من الذي يتاجر بالمخدرات التي يحرمها القانون؟ أهل الرتب الكبيرة، لهم سماسرةٌ وزبانية يتاجرون بهذا، وهكذا كل ممنوعٍ بالقانون يحتالون على القانون، أو أن المسئول على تنفيذه رجلٌ مغبون؛ لأنه أيضاً تحت رحمتهم، فيقولون: كف طرفك عن هذا، ونحن سنزاول هذا.

إذاً: هذا حقيقةً نظامٌ لا يحترمه أحدٌ ولا يقدسه، ولذلك لم يربط بين الأمة ولم يسعدها في هذه الدنيا، ومن بابٍ أولى لن تحصل لهم السعادة في الآخرة، وقد أشار ربنا جل وعلا إلى وضاعة هذه القوانين الوضعية، فقال في كتابه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31].

مفاسد القوانين الوضعية

عندما وضعت القوانين الوضعية نتجت مفسدتان: المفسدة الأولى: أنها ليست مقدسة، وكل واحدٍ يحتال عليها.

المفسدة الثانية: عندما خولنا رجالاً منا يضعون نظاماً لنا فقد جعلناهم أنداداً لربنا اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31].

ثبت في سنن الترمذي وتفسير ابن جرير والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، والأثر في معجم الطبراني الكبير وطبقات ابن سعد ، وهو بإسنادٍ حسن، وروي له شواهد من حديث حذيفة وغيره رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ الحديث عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: ( دخلت على النبي عليه الصلاة والسلام وفي رقبتي صليبٌ من ذهب -وكان من العرب وقد تنصر ثم شرح الله صدره للإسلام- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: اطرح هذا الوثن من عنقك. يقول: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يتلو قول الله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما عبدناهم. فقال: يا عدي! أوما كانوا يحلون لكم الحرام، ويحرمون عليكم الحلال فتطيعونهم؟ قلت: بلى يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه. قال: فهذه هي عبادتكم إياهم، عندما جعلتموهم نداً لله ).

وأي ذلٍ أعظم من أن يتذلل الإنسان لإنسان بحيث يخوله أن يضع له نظاماً في حياته؟!

أي استعبادٍ أعظم من هذا؟! وإنني لأعجب غاية العجب للصليبي الملعون فرح أنطون الذي ناقش الذي يقال له: الأستاذ الإمام محمد عبده وما استطاع أن يرد ذاك على هذيان هذا وضلاله.

فرح أنطون يناقش محمد عبده في مجلة الجامعة فيقول له: إن قرآنكم يمتهن الناس؛ لأنه يخاطب الناس بلفظ العباد، وفي هذا جرحٌ لشعورهم، يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ [العنكبوت:56]، نَبِّئْ عِبَادِي [الحجر:49]، يقول في هذا: جرحٌ لشعورهم، هلا أجبته أيها الأستاذ الإمام بأننا إذا كنا عبيداً للرحمن على حسب زعمك، فهذا جرحٌ لشعورنا وذلٌ لنا، فكيف سيكون الأمر إذا كنا عبيداً للعباد؟!

كيف رضيت يا فرح أنطون أيها الصليبي الملعون أنت وأمثالك رضيتم بأن يتلاعب لكم القسس والرهبان في دينكم، وأن يضعوا لكم نظاماً، ثم خولتم رجال السياسة في تنظيم حياتكم، وقلتم: هذه كرامة لنا؟ ثم جئتم بعد ذلك إلى قول الله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي [البقرة:186]، قال: هذه فيها مذلة للناس عندما يخاطبهم بلفظ العباد، أما الإنجيل يقول: خاطبهم بلفظ الأبناء: يا أبنائي، وأما في القرآن: يا عبادي، وهل يجتمع بنوة ورق؟! هل يجتمع؟! وهل يصلح أن يكون العباد أبناء لله جل وعلا؟! ( من ملك ذا رحمٍ محرمٍ عتق عليه )، أنت إذا اشتريت ولدك إذا كان عبداً فبمجرد شرائه يعتق عليك؛ لأنه لا تجتمع بنوةٌ ورق، فنحن عبيدٌ لله أرقاء له، هل يصلح أن نكون أبناءً له؟! ولذلك نفى الله بنوة الملائكة له لعلة أنهم عبيدٌ له، يقول جل وعلا: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26]، هؤلاء عباد له، فكيف يكونون أولاداً له؟! لا تجتمع بنوةٌ ورق.

إذاً يقول: خاطب الله الناس في الإنجيل: يا أبناء الله ويا أبنائي، وأما في القرآن فخاطبهم بيا عبادي، وهذا امتهانٌ لبني الإنسان. يقول: ولذلك الإنجيل أعلى أسلوباً في مخاطبة الناس.

أي إنجيل بعد أن حرفتموه وتلاعبتم به؟

ثم كما قلت: إذا كانت مخاطبة الله لنا بلفظ يا عبادي فيها مساسٌ بكرامتنا أفلا يمس بكرامتنا أن نخول رجالاً مثلنا في وضع نظامٍ لحياتنا وأن نكون عبيداً لهم؟

ألا رد الأستاذ الإمام على هذا الصليبي فرح أنطون بهذا؟

كيف رضيت البشرية بعبادة بعضهم بعضاً وجعلوا هذا الحق للمخلوق مع أنه لا يستحقه إلا الخالق؟!

تغرب لا مستعظماً غير نفسه ولا قابلاً إلا لخالقه حكما

فإذاً: كيف يقبل حكم غير الله جل وعلا عليه؟! إن هذا أعظم مساساً بكرامة الإنسان، وهذا هو الذل الذي ليس بعده ذل.

وهذا القرآن كلام الرحمن فهو محترمٌ، وهو مقدس، وليس بعد هذا الاحترام والتقديس احترامٌ وقداسة، كلام الله، كلام سيدنا، كلام ربنا، كلام خالقنا الذي أغدق علينا نعمه التي لا تحصى سبحانه وتعالى، فلا غضاضة إذاً عندما نأخذ بهدي هذا القرآن، بل في ذلك تشريفٌ ورفعةُ قدرٍ لنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41-42].

ولذلك إخوتي الكرام! برز في هذا القرآن تعبيران يخاطب بهما ربنا الرحمن بني الإنسان، تعبيران شريفان جليلان:

الأول: إضافتنا إليه سبحانه وتعالى، فهو ربنا وسيدنا، كثر في القرآن إضافة العباد إلى ربهم جل وعلا، فلا غضاضة إذاً ولا حرج في أن يأخذ العبد بشريعة سيده، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وقال سبحانه: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53] ، نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50] ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

إذاً: العباد يضافون إلى ربهم فيقدسون ويحترمون شريعته ولا شك.

ومما زادني عجباً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يَا عِبَادِي وأن صيرت أحمد لي نبيا

عليه صلوات الله وسلامه.

كم تتلذذ الأذن ويطير القلب فرحاً عندما يقرأ الإنسان كتاب سيده ويقول الله له: يا عبادي! يا عبادي! يا عبادي! يا عبادي!

إذاً: هذا القانون مقدس، هذا القانون محترم، وهذا سيترتب عليه أمرٌ جليل يأتينا ذكره إن شاء الله بعد ذكر الأمر الثاني الذي برز في القرآن في مخاطبة الله لعباده، فإذا كنا عباداً لله وهو سيدنا، فالقضية المسلمة في ذلك أن نؤمن به، وأن نلتزم بشرعه، ولذلك يخاطب الله عباده بكثرةٍ في كتابه بوصف الإيمان، برز هذان الأسلوبان في القرآن إضافة العباد إلى الله في آياتٍ كثيرة، ومخاطبتهم بوصف الإيمان في آياتٍ وفيرة، يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]، في سورة المائدة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، يناديهم بهذا الوصف إذا كانوا عباداً له، فالواجب عليهم أن يؤمنوا به، وإذا آمنوا به فليلتزموا بشرعه، ولا يقحمون عقولهم في تحليلٍ ولا تحريم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:87]، فهذا اعتداء وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]، ولذلك كان ربنا جل وعلا إذا طلب منا أمراً لنقوم به أو نهياً لنتركه يذكرنا بوصف الإيمان الذي يدعونا للامتثال؛ لأننا نعلم أن ربنا ينادينا، وهذا الذي آمنا به وشرعه مقدسٌ عندنا، يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:90-92].

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)؟ استفهام بمعنى الأمر. أي: انتهوا عن الخمر والميسر، لكن ربنا جل وعلا ما ساقه بصيغة الأمر، وكأنه يطلب منا أن نشاركه في علم مضرة هذا، وسنعطي الجواب نحن، نحن نعلم أنه يأمرنا بالانتهاء لكن عرض علينا بصورة استفهام، فنحن لن نجيب على السؤال، إنما سنجيب على ما يدل عليه السؤال. ماذا قال الصحابة؟ قالوا: نعم أم قالوا: انتهينا؟ قالوا: انتهينا. ولم يقل واحدٌ منهم: نعم، (فهل أنتم منتهون)؟ نعم، لا يقصد هنا السؤال، لكن هذا الأمر كأنه يقول: إذا كانت الخمر فيها هذه المضار وأنا بكم رءوفٌ رحيم، وأنتم عبادي فينبغي أن تتنزهوا عن ذلك لأنكم آمنتم بي. ما رأيكم في هذا؟

أنت يا رب لا تريد منا مشورةً، ولا تريد منا استفساراً، تريد بهذا أمراً، فهمنا مرادك، فهذا جوابنا على سؤالك، وعلى استفهامك لنا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)؟ انتهينا .. انتهينا .. انتهينا.

وهكذا يقول الله جل وعلا في سورة النور: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ [النور:30]، انتبه لوصف الإيمان، فهم عباد الله وآمنوا به، وشريعته مقدسةٌ عندهم قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، (يغضوا) فعلٌ مضارعٌ مجزوم، ما الذي جزمه ولم يتقدم له جازم؟ قيل: إنه مجزومٌ بفعل أمرٍ محذوف وقع فعل (يغض) جواباً له فهو جواب الطلب، والتقدير: قل للمؤمنين غضوا أبصاركم يغضوا. سبحان الله! هذه هي استجابة المؤمنين.

نعم، إن فعلهم متوقفٌ على أمره، قل لهم: غضوا يغضوا، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] ففعلهم متوقفٌ على أمرك، وعلى إشارتك؛ لأن كلام الله مقدسٌ عنده ما له شأنٌ جليل، وهذا أرجح مما ذهب إليه بعض المفسرين بأن الفعل المضارع هنا مجزومٌ بلا الناهية والتقدير: (قل للمؤمنين..) بلام الأمر، قل للمؤمنين ليغضوا أبصارهم. والجواب الأول فيه هذه النكتة وهو أولى، إن تقل لهم: غضوا يغضوا، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين [7] 3779 استماع
مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين [8] 2987 استماع
مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين [4] 2871 استماع
مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين [1] 2566 استماع
مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين [5] 2516 استماع
مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين [6] 2121 استماع
مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين [2] 1498 استماع