شرح زاد المستقنع باب الآنية


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب الآنية] الباب: هو المنفذ بين الشيئين يتوصل به أحدهما إلى الآخر، من داخلٍ إلى خارج والعكس، قالوا: سُميت مباحث العلم أبواباً؛ لأن الإنسان يتوصل من خارج وهو: الجهل بها، إلى داخلٍ وهو: العلم بما فيها، فمن قرأ شيئاً من هذه الأبواب فقد أدرك العلم الذي فيها، كمن دخل البيت فإنه يدرك ما فيه، ويرتفق بمنافعه.

(باب الآنية) واحدها إناءٌ، وجمعها رحمة الله عليه لأن الأواني منها ما أباحه الشرع، ومنها ما حرمه الشرع، فناسب أن يقول: (باب الآنية)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك أحكام الشريعة في الأواني، والسبب الذي يجعل العلماء يذكرون باب الآنية، ويتكلمون على مباحث الآنية في كتاب الطهارة: أن الطهارة تحتاج إلى ماء يُتطهر به، وصفةٍ تتم بها الطهارة، والماء الذي يتطهر الإنسان به يحتاج إلى وعاء يحمله فيه، فإنه قد يكون الماء طهوراً ولكن الإناء نجس، فهل يجوز أن يتوضأ الإنسان منه؟!

وقد يكون الماء طهوراً، ولكنه في إناءٍ محرم كالمصنوع من الذهب والفضة، فهل يجوز أن يتطهر به؟ فإذاً لا بد من الكلام على أحكام الآنية؛ لأنها أوعية الماء الذي يُتطهر به.

الأصل في الأواني الطهارة

قال المصنف رحمه الله: [كل إناء طاهر ولو ثميناً يباح اتخاذه واستعماله].

هذه قاعدة، فلو سألك سائل: ما هو الأصل في الأواني؟ تقول: الأصل أنها جائزة ومباحة، إذا كانت طاهرة ولو كانت ثمينة، فلو كان الإناء من الماس أو من الجواهر أو من غيرها من المعادن الثمينة النفيسة، فإنه يباح اتخاذه واستعماله، فلو أن إنساناً شرب في كأسٍ ثمينٍ من معدنٍ ثمين كالجواهر أو غيرها فإنه يباح له ذلك، فالأصل حلّ هذه؛ لأن الله يقول: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13].

فالأصل في هذه الأشياء أنها مسخرةٌ من الله جل وعلا لكي ينتفع بها الإنسان، تكريم من الله لبني آدم، فإذاً: الأصل في الإناء أنه يباح لك استعماله واتخاذه.

والاتخاذ يكون في البيت بأن يحفظ فيه الأشياء أو يجعله للزينة ونحو ذلك، فالأصل جواز ذلك ولا حرج فيه، هذا في الآنية.

وإذا كان الأصل في الآنية حتى الثمينة منها الإباحة فإنه ينتفع بها وعلى هذا يجوز الوضوء بها، فيجوز أن يتوضأ بآنية ولو كانت غالية الثمن، ما خلا ما استثناه الشرع، فالذي يستثنيه الشرع ويحكم بحرمة استعماله واتخاذه لا يجوز أن يتوضأ الإنسان به، ولا أن يستنجي، ولا أن يغتسل.

حرمة استعمال أواني الذهب والفضة

[إلا آنية ذهبٍ وفضة ومضبب بهما].

(إلا آنية ذهبٍ) وهو المعدن المعروف، (وفضة ومضببٍ بهما) وآنية المضبب بهما.

أما: آنية الذهب والفضة فلا يجوز للإنسان أن يشرب في كأس ذهبٍ ولا كأس فضة، ولا يجوز له أن يأكل بملعقة ذهبٍ ولا فضة ولو كان أثنى، فإن الأنثى يباح لها الحلي للزينة، أما الاستعمال والأكل والشرب والاتخاذ والاغتسال من آنية الذهب والفضة فمحرم، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) وفي حديث الدارقطني : (الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جنهم) فإذاً من كبائر الذنوب: الأكل أو الشرب في آنية الذهب أو آنية الفضة، وكذلك لو اتخذ صحناً من ذهب أو صحناً من فضة وجعله للزينة في البيت أو نحو ذلك.

والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن حرمة الأكل والشرب من آنية الذهب والفضة مع أن الأكل فيها والشرب فيها من الحاجة، فلأن يحرم ما هو من مقام التحسينيات والكماليات الذي هو الزينة من باب أولى وأحرى.

فكون الشرع يحرم علينا أن نأكل أو نشرب في آنية الذهب والفضة يدلنا على أن اتخاذها دون استعمال أولى بالتحريم، وهذا -كما يقول العلماء رحمةُ الله عليهم- من باب التنبيه بالأعلى على ما هو أدنى منه؛ لأن نصوص الشريعة تنبه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، ولذلك يقولون: حرم النبي صلى الله عليه وسلم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وكلٌ من الأكل والشرب محتاجٌ إليه، فإن الأكل والشرب قد يصل إلى الاضطرار، فإذا منع الإنسان من أن يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة، فوضعها في بيته زينة أشد وأبلغ في التحريم، ولا يجوز له فعل هذا.

قال رحمه الله: [فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها ولو على أنثى].

أي: ولو كان الذي يشرب فيه من الإناث، فإن التحريم للأكل والشرب عام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإنها لهم في الدنيا -أي: للكفار- ولكم في الآخرة).

قال بعض العلماء: لا يؤمن على من أكل وشرب فيهما، وانتفع بالذهب والفضة بالأكل والشرب في صحافهما وآنيتهما أن يحرمه الله جل وعلا في الآخرة، كما حرم شارب الخمر -والعياذ بالله- خمر الآخرة بإدمانه عليها في الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية.

[وتصح الطهارة منها].

هنا مسألة: عند العلماء أن الشرع إذا نهى عن شيءٍ فهل يدل ذلك على نهيٍ فعل متضمن به، مثال ذلك: لو أن إنساناً أخذ إناءً من ذهب أو فضة ثم توضأ منه، أو جاء إلى صنبور فتوضأ منه وهو من الذهب أو الفضة، فهل يصح وضوءه وغسله أو لا؟!

بعبارة أوضح: بما أنه لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة، فلو أني توضأت واغتسلت من إناء ذهبٍ أو إناء فضةٍ فللعلماء وجهان مشهوران:

الوجه الأول: أن من توضأ من إناء الذهب والفضة صح وضوءه؛ لأن الله أمر بغسل الأعضاء، والوعاء منفصلٌ عن شرط الصحة وهو الوضوء، وهذا قول جمهور العلماء، واختاره غير واحدٍ من العلماء، أنه إذا توضأ أو اغتسل من إناء ذهبٍ أو فضة، فوضوءه وغسله صحيح.

الوجه الثاني: ذهب بعض العلماء -وهو قولٌ في مذهب الحنابلة- إلى أنه إذا توضأ أو اغتسل من إناء ذهبٍ أو فضةٍ فلا يصح وضوءه ولا غسله؛ لأنه فعل ما حرمَ عليه شرعاً، وهذا المحرم لا يوجب ثبوت العبادة الشرعية؛ لأن الشرع يقول له: لا تتوضأ من هذا الإناء فتوضأ من هذا الإناء، فلا تستباح العبادة الشرعية بمنهي عنه شرعاً، والصحيح أن الوضوء صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وهذا قد توضأ، فإن الأعضاء التي أُمِرَ بغسلها قد غسلها، ولكن نقول: هو آثم من جهة استعمال الإناء، وصلاته صحيحة لوقوع العبادة على وجهها المعتبر، فالجهة منفكة، وهذه قاعدة عند الأصوليين: (أنه إذا ورد النهي وانفك عن المنهي عنه في جهته لم يقتضِ ذلك البطلان) فإن الماء الذي توضأ به ماءٌ طهور، والعضو الذي غسله عضوٌ معتبرٌ شرعاً، فإذاً صحت عبادته وصح وضوءه.

قال المصنف رحمه الله: [كل إناء طاهر ولو ثميناً يباح اتخاذه واستعماله].

هذه قاعدة، فلو سألك سائل: ما هو الأصل في الأواني؟ تقول: الأصل أنها جائزة ومباحة، إذا كانت طاهرة ولو كانت ثمينة، فلو كان الإناء من الماس أو من الجواهر أو من غيرها من المعادن الثمينة النفيسة، فإنه يباح اتخاذه واستعماله، فلو أن إنساناً شرب في كأسٍ ثمينٍ من معدنٍ ثمين كالجواهر أو غيرها فإنه يباح له ذلك، فالأصل حلّ هذه؛ لأن الله يقول: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13].

فالأصل في هذه الأشياء أنها مسخرةٌ من الله جل وعلا لكي ينتفع بها الإنسان، تكريم من الله لبني آدم، فإذاً: الأصل في الإناء أنه يباح لك استعماله واتخاذه.

والاتخاذ يكون في البيت بأن يحفظ فيه الأشياء أو يجعله للزينة ونحو ذلك، فالأصل جواز ذلك ولا حرج فيه، هذا في الآنية.

وإذا كان الأصل في الآنية حتى الثمينة منها الإباحة فإنه ينتفع بها وعلى هذا يجوز الوضوء بها، فيجوز أن يتوضأ بآنية ولو كانت غالية الثمن، ما خلا ما استثناه الشرع، فالذي يستثنيه الشرع ويحكم بحرمة استعماله واتخاذه لا يجوز أن يتوضأ الإنسان به، ولا أن يستنجي، ولا أن يغتسل.

[إلا آنية ذهبٍ وفضة ومضبب بهما].

(إلا آنية ذهبٍ) وهو المعدن المعروف، (وفضة ومضببٍ بهما) وآنية المضبب بهما.

أما: آنية الذهب والفضة فلا يجوز للإنسان أن يشرب في كأس ذهبٍ ولا كأس فضة، ولا يجوز له أن يأكل بملعقة ذهبٍ ولا فضة ولو كان أثنى، فإن الأنثى يباح لها الحلي للزينة، أما الاستعمال والأكل والشرب والاتخاذ والاغتسال من آنية الذهب والفضة فمحرم، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) وفي حديث الدارقطني : (الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جنهم) فإذاً من كبائر الذنوب: الأكل أو الشرب في آنية الذهب أو آنية الفضة، وكذلك لو اتخذ صحناً من ذهب أو صحناً من فضة وجعله للزينة في البيت أو نحو ذلك.

والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن حرمة الأكل والشرب من آنية الذهب والفضة مع أن الأكل فيها والشرب فيها من الحاجة، فلأن يحرم ما هو من مقام التحسينيات والكماليات الذي هو الزينة من باب أولى وأحرى.

فكون الشرع يحرم علينا أن نأكل أو نشرب في آنية الذهب والفضة يدلنا على أن اتخاذها دون استعمال أولى بالتحريم، وهذا -كما يقول العلماء رحمةُ الله عليهم- من باب التنبيه بالأعلى على ما هو أدنى منه؛ لأن نصوص الشريعة تنبه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، ولذلك يقولون: حرم النبي صلى الله عليه وسلم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وكلٌ من الأكل والشرب محتاجٌ إليه، فإن الأكل والشرب قد يصل إلى الاضطرار، فإذا منع الإنسان من أن يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة، فوضعها في بيته زينة أشد وأبلغ في التحريم، ولا يجوز له فعل هذا.

قال رحمه الله: [فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها ولو على أنثى].

أي: ولو كان الذي يشرب فيه من الإناث، فإن التحريم للأكل والشرب عام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإنها لهم في الدنيا -أي: للكفار- ولكم في الآخرة).

قال بعض العلماء: لا يؤمن على من أكل وشرب فيهما، وانتفع بالذهب والفضة بالأكل والشرب في صحافهما وآنيتهما أن يحرمه الله جل وعلا في الآخرة، كما حرم شارب الخمر -والعياذ بالله- خمر الآخرة بإدمانه عليها في الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية.

[وتصح الطهارة منها].

هنا مسألة: عند العلماء أن الشرع إذا نهى عن شيءٍ فهل يدل ذلك على نهيٍ فعل متضمن به، مثال ذلك: لو أن إنساناً أخذ إناءً من ذهب أو فضة ثم توضأ منه، أو جاء إلى صنبور فتوضأ منه وهو من الذهب أو الفضة، فهل يصح وضوءه وغسله أو لا؟!

بعبارة أوضح: بما أنه لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة، فلو أني توضأت واغتسلت من إناء ذهبٍ أو إناء فضةٍ فللعلماء وجهان مشهوران:

الوجه الأول: أن من توضأ من إناء الذهب والفضة صح وضوءه؛ لأن الله أمر بغسل الأعضاء، والوعاء منفصلٌ عن شرط الصحة وهو الوضوء، وهذا قول جمهور العلماء، واختاره غير واحدٍ من العلماء، أنه إذا توضأ أو اغتسل من إناء ذهبٍ أو فضة، فوضوءه وغسله صحيح.

الوجه الثاني: ذهب بعض العلماء -وهو قولٌ في مذهب الحنابلة- إلى أنه إذا توضأ أو اغتسل من إناء ذهبٍ أو فضةٍ فلا يصح وضوءه ولا غسله؛ لأنه فعل ما حرمَ عليه شرعاً، وهذا المحرم لا يوجب ثبوت العبادة الشرعية؛ لأن الشرع يقول له: لا تتوضأ من هذا الإناء فتوضأ من هذا الإناء، فلا تستباح العبادة الشرعية بمنهي عنه شرعاً، والصحيح أن الوضوء صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وهذا قد توضأ، فإن الأعضاء التي أُمِرَ بغسلها قد غسلها، ولكن نقول: هو آثم من جهة استعمال الإناء، وصلاته صحيحة لوقوع العبادة على وجهها المعتبر، فالجهة منفكة، وهذه قاعدة عند الأصوليين: (أنه إذا ورد النهي وانفك عن المنهي عنه في جهته لم يقتضِ ذلك البطلان) فإن الماء الذي توضأ به ماءٌ طهور، والعضو الذي غسله عضوٌ معتبرٌ شرعاً، فإذاً صحت عبادته وصح وضوءه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [إلا ضبة يسيرة من فضةٍ لحاجة].

الضبة بالذهب والفضة تكون على أطراف الإناء أو الوعاء، فيكون الإناء محلى في أطرافه، فهذا يعتبر مضبباً كضبة الباب تحيط بعضاده، وكانوا في القديم يستخدمون آنية من الخشب، فيحفرونها في جذوع النخل ويستخلصون منها الأقداح، وهذه إلى الآن لا تزال موجودة في بعض البلاد، حيث يستخدمون هذه الآنية من الخشب بمثابة الأوعية، وهذا الوعاء قد ينكسر فيحتاج إلى جبر الكسر بصب الفضة عليه حتى لا يخرج الماء من هذا الشعب، فيسمونه (مضبباً)، فإذا انكسر الإناء جاز أن يضع الإنسان فيه ضبةً يسيرة من الفضة بشروط: أولاً: أن تكون من الفضة.

ثانياً: أن تكون يسيرة.

ثالثاً: أن لا يباشر الأكل والشرب من نفس المكان الذي فيه الفضة.

هذه ثلاثة شروط: أن تكون ضبةً يسيرة، ومن فضةٍ، ولا يباشر الشرب من مكان الفضة.

لأنه نُهي عن الشرب من آنية الذهب والفضة، فيتقي المكان الذي فيه الفضة ويشرب من غيره إلا أن تكون ضبةً يسيرة فيجوز له، دليل ذلك حديث أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انكسر قدحه سلسله بفضة) قيل: الذي سلسله أنس ، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سلسله، والعمل على الثاني.

قال رحمه الله: [وتكره مباشرتها لغير حاجة].

أي: مباشرة الضبة لغير حاجةٍ، فإن وُجدت الحاجة كما أن يكون الموضع الذي انكسر هو موضع الشرب، قالوا: فحينئذٍ لا يستطيع أن يشرب إلا من هذا الموضع الذي فيه الفضة فيجوز له أن يشرب؛ لأن أصل التحريم الانتفاع بالفضة على سبيل الكماليات وهنا قد انتفع بها على سبيل الحاجة، فتخلف فيه المعنى الذي من أجله ورد النهي شرعاً.

قال المصنف رحمه الله: [وتباح آنية الكفار].

بعد أن بين رحمة الله عليه أحكام أواني المسلمين، وقال لك: الأواني كلها جائز الانتفاع بها إلا آنية الذهب والفضة، بيّن بعد ذلك حكم آنية الكفار، والكفار على قسمين:

كفارٌ من أهل الكتاب وهم الذين لهم في الأصل دينٌ سماوي، وهم اليهود والنصارى.

وكفارٌ على غير دين سماوي كالوثنيين والمشركين والمجوس ونحوهم، فيرد السؤال: لو أن إنساناً سألك في يومٍ من الأيام وقال لك: وجدتُ إناءً ليهوديٍ فهل يجوز لي أن أتوضأ أو أغتسل منه، أو آكل أو أشرب منه؟!

هذا سؤالٌ وارد، ولذلك بينت الشريعة حكم آنية الكفار في أكثر من حديث، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة؛ وتوضيحها: أن آنية الكفار على حالتين:

الحالة الأولى: أن تكون جديدةً غير مستعملة، كالأواني التي تأتي منهم جديدة مُصَنّعة، فهذه طاهرةٌ يجوز استعمالها والانتفاع بها بالإجماع ما لم تكن من مادةٍ نجسة؛ فإن كانت من المواد الطاهرة كالحديد والصفر والنحاس ونحوها جاز الانتفاع بها بالإجماع؛ لأن اليقين طهارتها وليس هناك دليل على النجاسة، فنبقى على الدليل الأصلي ونستصحب الأصل من كونها طاهرة.

الحالة الثانية: أن تكون أواني الكفار مستعملة، فإن رأيت استعمالهم للنجاسة فيها، ورأيت الإناء وفيه النجاسة فبالإجماع أنه نجسٌ حتى يطهر، ولا يجوز استعماله بالإجماع حتى يغسل.

فلو وجدت كأساً لهم فيها خمر فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد غسلها وتنظيفها، وأما إذا كانت هذه الأواني مغسولة عندهم ولم يجد الإنسان غيرها، وكانوا قد أكلوا فيها أو شربوا فهذا للعلماء فيه وجهان:

منهم من قال: لا تستعمل إلا أن يضطر إليها؛ لما ثبت في الصحيح من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: (يا رسول الله! إني بأرض قومٍ أهل كتاب أفآكل في آنيتهم؟ -وفي رواية أفنأكل في آنيتهم؟- قال: لا. إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها ثم كلوا فيها) فدل هذا الحديث على أن آنية الكفار التي يستعملونها لا يؤكل فيها.

ونازع هذا الحديث حديثٌ آخر، وهو أكل النبي صلى الله عليه وسلم من آنية الكفار، ففي حديث رواه أحمد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم استضافه يهودي على خبزٍ وإهالة سنخة، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك) وكذلك أيضاً ثبت في الصحيح عنه: (أن امرأة يهوديةً دعته إلى شاةٍ ووضعت السم فيها، ثم أطعمته عليه الصلاة والسلام فأكل منها).

فدل هذا على أن آنية الكفار يؤكل فيها، قالوا: أما الشرب والوضوء ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما لقي المرأة التي معها المزادة توضأ هو وأصحابه منها) فتوضأ من مزادة مشركة.

قالوا: فهذا يدل على أن أواني الكفار يؤكل فيها ويشرب منها ما لم تُعلم نجاستها، وهذا مذهب بعض العلماء.

وحديث أبي ثعلبة يقتضي أنه لا يؤكل ولا ينتفع بها إلا ألا يجد غيرها فيغسلها ثم يأكل فيها.

وأعدل المذاهب: أن يحتاط الإنسان فيها، فلا يأكل في آنية الكفار ولا يشرب منها إلا ألا يجد غيرها فليغسلها ثم ليأكل فيها، وما ورد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يعارض هذا الأصل؛ لأن الغالب في هذه الآنية طهارتها، ولو كانت نجسةً لما خلا الوحي من تنبيهه صلى الله عليه وسلم على نجاستها.

وعلى هذا فإن التفصيل في أواني الكفار بالصورة التي ذكرناها هو أعدل الأقوال.

الحالة الثالثة: أن لا نعلم أو لا نرى فيها نجاسة، فهل نُعْمِل الأصل الذي هو اليقين أو نُعْمِل الظاهر؟ وقد بسطت هذه المسألة في شرح البلوغ عند حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وأرضاه.

فعند العلماء شيء يُسمى: (اليقين) كما تقدم، وشيء اسمه: (الظاهر)، فقد يقول قائل: نحن قلنا في القاعدة: (أن اليقين لا يزال بالشك)، فاليقين في أواني الكفار: أنها طاهرة في الأصل، فكيف عدلنا عن قاعدة اليقين في هذا الموضوع حتى صرنا نقول: إن أواني الكفار تغسل؟!

الجواب: هناك شيءٌ اسمه: دلالة الظاهر، والظاهر قد يعارض الأصل، فتارةً يُعمِل اليقين، وتارة يُعمل الظاهر، فإن الظاهر في حال الكفار أن أوانيهم نجسة؛ لأنهم يشربون فيها الخمور ويأكلون فيها الميتات، فالظاهر من حالهم أنها نجسة.

ومن أمثلة ذلك: إذا دخل الإنسان أكرمكم الله إلى الحمام، فوجد الماء الذي هو في مجرى النجاسة، فالماء هذا اليقين فيه أنه نجس، والماء الذي خارج الحمام اليقين فيه أنه طاهر، فيبقى الماء الذي بينهما هل نقول: اليقين فيه ما بداخل الحمام أو ما بخارجه؟! قالوا: هذا يعتبر من دلالة الظاهر، فالظاهر دورات قضاء الحاجة أنها نجسة حتى يدل الدليل على طهارتها، وبناءً على ذلك فإن الظاهر من أحوال الكفار النجاسة، فيقدم الظاهر على الأصل، وهذا من المسائل التي يتعارض فيها الظاهر والأصل، وإذا تعارض الظاهر والأصل قُدّم الأصل في مسائل وقدم الظاهر في مسائل أخرى.

وقد تكلم على هذه القاعدة كلاماً نفيساً الإمام الزركشي في كتابه: المنثور في القواعد، وتكلم عليها كذلك القرافي في: الفروق، وغيرهم من أئمة الأصول بحثوا هذه المسألة، وفيها إشكالات مشهورة عند أهل العلم رحمة الله عليهم.

قال المصنف رحمه الله: [وتباح آنية الكفار ولو لم تحل ذبائحهم].

أي: يباح لك استعمال أوانيهم ولو لم تحل ذبائحهم؛ لأن بعض العلماء يقول: تباح آنية أهل الكتاب الذين تحل ذبائحهم، وأما غيرهم ممن لا تحل ذبائحهم فلا تباح آنيتهم.

قال المصنف رحمه الله: [وثيابهم إن جُهِل حالها].

ثياب الكفار لها ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن تكون جديدةً لم تُلبس، كالثياب المصنعة في بلاد الكفار، فحكمها الطهارة يقيناً، فأي ثوبٍ جديد ولو جاء من ديار الشرك والكفر فإنا نقول: اليقين أنه طاهر، والأصل فيها الطهارة حتى ترى النجاسة فيه أو عليه.

الحالة الثانية: أن ترى على ثوب الكافر نجاسة، فحكمه أنه نجس، مثال ذلك: أن تراه قد صب شيئاً نجساً على ثوبه أو عمامته أو نحو ذلك، فتقول: الثوب نجس، والعمامة نجسة.

الحالة الثالثة وهي التي فيها الإشكال: إذا كان ثوباً يستعمله الكافر ولم ترَ نجاسةً عليه، فهل هو نجس أم طاهر؟ قال بعض العلماء: ثياب الكفار يُعمل فيها اليقين من أنها طاهرة حتى تُرى النجاسة عليها، وهو مذهب من يتسامح فيها.

والمذهب الثاني يقول: ثياب الكفار الظاهر فيها النجاسة؛ لأنهم يبولون ويتغوطون ولا يسلمون من وضع النجاسة على ثيابهم وبدنهم ولا يتورعون، فالظاهر نجاستها كلها.

والصحيح: هو المذهب الثالث وهو التفصيل: فإن كانت على موضع يغلب فيه النجاسة فهي نجسة كالثياب التي تلي العورة؛ فإنه إذا استعمل الإنسان ثوب كافرٍ مما يلي العورة كالسراويل ونحوها والأزر فإنه يغسلها قبل أن يستعملها؛ لأن الغالب فيهم أنهم لا يتورعون عن النجاسات، وأنهم لا يتطهرون، فنعمل دلالة الغالب، والنادر لا حكم له، فيفرق في ثيابهم المستعملة بين ما غلبت طهارته وما غلبت نجاسته.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3615 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3335 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3266 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3222 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3182 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع