عشرون طريقة للرياء


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... أما بعد:

فهذه المحاضرة عنوانها (عشرون طريقة للرياء) ومعاذ الله أن يكون ذلك معناه فتح الباب للرياء, فإن الرياء مذموم شرعاً وطبعاً، وإنما المقصود التحذير منها, والإشارة بأصابع التخويف والزجر عنها.

وهذه المحاضرة تنعقد في ليلة العاشر من شهر ربيع الأول (1414هـ) في الجامع الكبير بمدينة تبوك عمرها الله تعالى بالطاعة والإيمان.

أيها الإخوة: الرحمن -جلَّ وعلا- خلق الإنسان وميزه عن سائر المخلوقات, ميزه أولاً بسلاح الجسم وحسنه، كما قال سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4] فأنت لا ترى في سائر المخلوقات المرئية للعين ما يباري الإنسان أو يماثله في كمال الجسم، واستقامته، وتناسقه، وحسن أعضائه، وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى.

ثم إنه ميزه بميزة أخرى، وخاصية ثانية أعظم من ذلك وأكبر, ألا وهي العقل والتفكير والإنسانية، التي تميز بها عن البهائم والحيوانات والجمادات وسائر المخلوقات، ولذلك قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ [الانفطار:6] فالإنسان المخاطب ليس هو الجسم فحسب, بل هو العقل والروح والنفس قبل ذلك, بدليل أنه لا يدخل في الخطاب المجانين مثلاً، لأنه رفع عنهم قلم التكليف، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود وغيره وهو صحيح: {رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يبلغ, والمجنون حتى يفيق}.

ولهذا كان العقلاء يعلمون أن أعظم ما امتنَّ الله تعالى به عليهم هو نعمة العقل والإنسانية، وأن الله - تبارك وتعالى- من فوق سبع سماوات يخاطبهم ويناديهم ويأمرهم وينهاهم، فأعظم منّة على الإنسانية؛ أن يختار الله من بينها رسلاً، كما قال -جل وعلا- لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164].

ومما زادني شرفاً وتيهــا      وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي      وأن صيرت أحمد لي نبيا<

لِمَ خلق الله تبارك وتعالى هذا المخلوق الكريم المختار؟ خلقه للعبادة، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وهي إرادة الله تعالى في عمل الإنسان كافة, سواء تلك العبادات المحضة الخالصة, والقرب التي يراد بها وجه الله تعالى كالصلاة مثلاً، فإن الإنسان حين يصلي، لا يصلي حتى ينجو من المرض، ولا يصلي ليكسب المال، ولا يصلي ليحافظ على مكانته الاجتماعية مثلاً، وإنما يصلي ليبحث عما عند الله تعالى، من مرضاته ويخاف سخطه, ومثل ذلك الصوم والحج ونحوها من العبادات والقرب المحضة الخالصة, التي لا تفعل إلا لإرادة الدار الآخرة فقط، أما الدنيا فليس فيها مطمع دنيوي، بل قد يفوت الإنسان بها بعض الدنيا, فالزكاة فيها إخراج بعض المال الذي تعب العبد في جمعه، وكذلك الصلاة فإنها تأخذ من الإنسان وقتاً لو صرفه في الدنيا لاستفاد مالاً، ولكنه صرفه فيما يعتقد أنه أفضل وأنفع من الدنيا، قال تعالى: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21] هذا من العبادة، ومن العبادة -أيضاً- أن يريد الإنسان وجه ربه بسائر الأعمال الدنيوية المباحة، كالتجارة -مثلاً- أو الزرع والحراثة, أو الاختراع, أو العلم, أو العمل الوظيفي إذا احتسب في ذلك الأجر عند الله تعالى، وأخلص وأدَّى الأمانة التي اؤتمن عليها، وأدَّى العمل على وجهه الأكمل, فإنه يؤجر على ذلك، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم {وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر}.

إذاً علاقة الرجل بزوجته وهو يؤدي عملاً -كما يقولون- بيولوجياً فطرياً غريزة ركبت في العبد، لكنه إذا أراد بذلك عمل الخير، وتحرَّى بذلك الاحتساب وابتعد عن الحرام، كان له بذلك أجر، فأشار ذلك إلى أن كل عملٍ يعمله العبد من الطاعات أو المباحات، إذا أراد به ما عند الله تعالى؛ فإنه يؤجر على ذلك, حتى ما يضعه في فيِّ امرأته، فالطعام الذي يكدح من أجل أن يحضره لزوجته وأطفاله يؤجر عليه، بل قال بعض الشرَّاح في معنى الحديث: {حتى اللقمة يضعها الرجل في فم امرأته} أي: أن الرجل إذا تلطَّف إلى زوجته وأطعمها بيده, أو سقاها بيده, كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع السيدة أم المؤمنين زوجه عائشة رضي الله عنها، أنه بذلك يؤجر عند الله تعالى.

كل جارحة لها عبادة

إذاً البدن متميز عند الإنسان عن الحيوان، وكل جارحة أو عضو في البدن له عبادة مطلوبة، فمثلاً: العين عبادتها النظر، قال تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:185] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا [الأنعام:11]. وهكذا.., فالنظر سواءً كان نظراً في ملكوت السماوات والأرض، أو قراءة في علم, أو تأملاً في بديع صنع الله تعالى, أو نظراً للمسلمين بما ينفعهم هذا من عبادة العين.

والأذن من عبادتها أن يسمع العبد ما يرضي الله تعالى، من قرآن أو ذكر أو علم أو ما أشبه ذلك، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وقال سبحانه في الحديث القدسي {ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به} أي: فلا يسمع إلا ما يرضيني, ولا يرى إلا ما يرضيني، ولهذا جاء في رواية أخرى قال الله تعالى: {فبي يسمع وبي يبصر}.

وهكذا اليد عبادتها العطاء والبذل للمعروف والصدقة، ومن عبادتها أيضاً: تغيير المنكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان} كما في صحيح مسلم.

ومن عبادة اليد: السلام والمصافحة على أخيك المسلم, وأن تتحاب قلوبكما، فيكون في المصافحة صفاء القلوب، وسلامة النفوس.

ومن عبادة اليد: المجاهدة في سبيل الله تعالى، في مدافعة الكفار ومقاتلتهم دون حوزات الإسلام وبلاده وأهله وعقائده, إلى غير ذلك من ألوان العبادات التي يعملها العبد بيده.

وهكذا المرأة المؤمنة، عبادتها بيدها هي كما سبق، ويدخل في ذلك -أيضاً- ما تعانيه من الأعمال في منـزلها مما يعتبر طاعة وقربة لله تعالى، وهو مرضاة لزوجها.

عبادة الرجل: المشي إلى الجمع والجماعات والصلوات، كما قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12] خطواتهم على الأرض, ولهذا لما همَّ بنو سلمة أن يسكنوا قرب المسجد؛ قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام:{دياركم تكتب آثاركم} الزموا دياركم وابقوا فيها فإن آثاركم وخطواتكم إلى المساجد مكتوبة عند الله تعالى، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى, وكذلك قال سبحانه وتعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15] فالمشي في الأرض والتأمل والاعتبار كل ذلك من عبادة الرجل والقدم.

كل جارحة لها معصية

وضد ذلك المعاصي, فإن معصية العين تسريح النظر إلى الحرام، كالصور والأشكال والمناظر.

ومعصية الأذن سماع الحرام، من غيبة أو نميمة أو شتم أو غناء, أو ما أشبه ذلك, مما يسخط الله تعالى.

ومعصية اليد أخذ الحرام، السرقة مثلاً، أو الأذى والاعتداء على المسلم.

ومعصية الرجل المشيْ إلى الحرام، في بيتٍ أو في سوقٍ أو في محل، أو في بلد قريب أو بعيد، فكل ذلك من معاصي الأعضاء، ولهذا قال القائل:

لعمـرك ما مديت كفّى لريبة      ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي

وأعلم أني لم تصبني مصيبة     من الدهر إلا قد أصابت فتىً قبلي

فهو يفتخر بأنه قد حفظ جوارحه عن المعاصي، ما مد يده إلى معصية، ولا مشت به رجله إلى غير مرضاة الله جل وتعالى.

وكذلك الحال في اللسان، وهو من أعظم الجوارح, وعبادته: ذكر الله تعالى، وتسبيحه، وقراءة القرآن, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك, والمعصية فيه ما يدخل في الغيبة، والنميمة، والقيل والقال, ونقل الكلام، والسب، والشتم، والاستهزاء بالمؤمنين إلى غير ذلك.

ولهذا كانت الصلاة من أعظم العبادات عند الله تعالى، لأنها جمعت كل ألوان عبادات الجوارح, ففيها عبادة العين في النظر إلى موضع السجود، وفيها عبادة الأذن في سماع تلاوة الإمام والإنصات له, كما قال الله تعالى: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] وقال عليه الصلاة والسلام: {وإذا قرأ -أي: الإمام- فأنصتوا}.

وفيها عبادة اليد: بحركة اليدين أثناء التكبير, والركوع والسجود وغير ذلك, ووضع اليد على الصدر، أو على الركبة، أو على الفخذ, وفيها عبادة اللسان: بذكر الله تعالى، وقراءة القرآن, والتسبيح والتهليل والتكبير، وفيها عبادة الرجل: في الوقوف والقيام, وأثناء السجود وغير ذلك؛ وفيها عبادة سائر البدن، ولهذا إذا سجد المرء فإنه يؤمر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في سجوده، أن يباعد بطنه عن فخذيه، ويباعد فخذيه عن ساقيه، وينصب قدميه, ويباعد عضديه عن جنبيه، حتى يأخذ كل عضو حقه من الطاعة والعبادة والسجود لله تعالى.

وفي حديث ابن عباس المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أمرت أن أسجد على سبعة أعظم} وذكر الجبهة والأنف فهذه عبادة للوجه والركبتين واليدين وأطراف القدمين، وهكذا الحال في الركوع والقيام, فإن البدن كله أثناء الصلاة يخبت لله تعالى ويعبده.

ولهذا كانت الصلاة من أعظم العبادات، وأشرفها، وأنفسها، وأكثرها تقرباً إلى المولى جل وعلا.

توعد بعض المصلين بالويل

والعجيب أنه مع هذه الفضيلة الظاهرة للصلاة, إلا أن الله تعالى توعد بعض المصلين، فقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7] فدَّل ذلك على أن العبرة ليست بالحركات الظاهرة فحسب, فهؤلاء القوم موصوفون بأنهم مصلون، ومع ذلك توعدوا بالويل، وهو العذاب والهلاك والنكال لهم, وما ذلك إلا لأنهم صلوا بأجسادهم وما صلوا بقلوبهم.

فأجسامهم في المساجد بين الصفوف, ووجوههم إلى القبلة, ولكن قلوبهم إلى غير القبلة، فقلوبهم إلى غير الله تعالى، قلوبهم إلى فلان الذي عنده مال ينتظرون أن يثق بهم إن صلوا فيأتمنهم على هذا المال, أو قلوبهم عند فلان الذي عنده فتاة يرغبون في التزوج منها, فيصلون حتى يطمئن إليهم ويمنحهم هذه الأمانة ويأتمنهم عليها، قلوبهم عند ذلك المسئول الذي يريدون أن يثق بهم فيعطيهم وظيفة أو رتبة أو ترفيعاً أو علاوة, فلهذا وجوههم إلى القبلة لكن قلوبهم إلى غيرها، ولهذا فإن الله تعالى توعدهم بالويل، فقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ[الماعون:5] لم؟! لأنهم كما قال الله تعالى في الموضع الثاني: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142].

وهذا الأمر يقودنا إلى أعظم العبادات وأهمها وأكبرها, ألا وهي عبادة الباطن, عبادة القلب والسر, قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الروم:30] فالتوجه إلى الله تعالى والتوكل عليه، وإرادة وجهه في الأعمال، هو أعظم العبادات على الإطلاق.

إذاً البدن متميز عند الإنسان عن الحيوان، وكل جارحة أو عضو في البدن له عبادة مطلوبة، فمثلاً: العين عبادتها النظر، قال تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:185] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا [الأنعام:11]. وهكذا.., فالنظر سواءً كان نظراً في ملكوت السماوات والأرض، أو قراءة في علم, أو تأملاً في بديع صنع الله تعالى, أو نظراً للمسلمين بما ينفعهم هذا من عبادة العين.

والأذن من عبادتها أن يسمع العبد ما يرضي الله تعالى، من قرآن أو ذكر أو علم أو ما أشبه ذلك، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وقال سبحانه في الحديث القدسي {ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به} أي: فلا يسمع إلا ما يرضيني, ولا يرى إلا ما يرضيني، ولهذا جاء في رواية أخرى قال الله تعالى: {فبي يسمع وبي يبصر}.

وهكذا اليد عبادتها العطاء والبذل للمعروف والصدقة، ومن عبادتها أيضاً: تغيير المنكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان} كما في صحيح مسلم.

ومن عبادة اليد: السلام والمصافحة على أخيك المسلم, وأن تتحاب قلوبكما، فيكون في المصافحة صفاء القلوب، وسلامة النفوس.

ومن عبادة اليد: المجاهدة في سبيل الله تعالى، في مدافعة الكفار ومقاتلتهم دون حوزات الإسلام وبلاده وأهله وعقائده, إلى غير ذلك من ألوان العبادات التي يعملها العبد بيده.

وهكذا المرأة المؤمنة، عبادتها بيدها هي كما سبق، ويدخل في ذلك -أيضاً- ما تعانيه من الأعمال في منـزلها مما يعتبر طاعة وقربة لله تعالى، وهو مرضاة لزوجها.

عبادة الرجل: المشي إلى الجمع والجماعات والصلوات، كما قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12] خطواتهم على الأرض, ولهذا لما همَّ بنو سلمة أن يسكنوا قرب المسجد؛ قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام:{دياركم تكتب آثاركم} الزموا دياركم وابقوا فيها فإن آثاركم وخطواتكم إلى المساجد مكتوبة عند الله تعالى، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى, وكذلك قال سبحانه وتعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15] فالمشي في الأرض والتأمل والاعتبار كل ذلك من عبادة الرجل والقدم.

وضد ذلك المعاصي, فإن معصية العين تسريح النظر إلى الحرام، كالصور والأشكال والمناظر.

ومعصية الأذن سماع الحرام، من غيبة أو نميمة أو شتم أو غناء, أو ما أشبه ذلك, مما يسخط الله تعالى.

ومعصية اليد أخذ الحرام، السرقة مثلاً، أو الأذى والاعتداء على المسلم.

ومعصية الرجل المشيْ إلى الحرام، في بيتٍ أو في سوقٍ أو في محل، أو في بلد قريب أو بعيد، فكل ذلك من معاصي الأعضاء، ولهذا قال القائل:

لعمـرك ما مديت كفّى لريبة      ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي

وأعلم أني لم تصبني مصيبة     من الدهر إلا قد أصابت فتىً قبلي

فهو يفتخر بأنه قد حفظ جوارحه عن المعاصي، ما مد يده إلى معصية، ولا مشت به رجله إلى غير مرضاة الله جل وتعالى.

وكذلك الحال في اللسان، وهو من أعظم الجوارح, وعبادته: ذكر الله تعالى، وتسبيحه، وقراءة القرآن, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك, والمعصية فيه ما يدخل في الغيبة، والنميمة، والقيل والقال, ونقل الكلام، والسب، والشتم، والاستهزاء بالمؤمنين إلى غير ذلك.

ولهذا كانت الصلاة من أعظم العبادات عند الله تعالى، لأنها جمعت كل ألوان عبادات الجوارح, ففيها عبادة العين في النظر إلى موضع السجود، وفيها عبادة الأذن في سماع تلاوة الإمام والإنصات له, كما قال الله تعالى: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] وقال عليه الصلاة والسلام: {وإذا قرأ -أي: الإمام- فأنصتوا}.

وفيها عبادة اليد: بحركة اليدين أثناء التكبير, والركوع والسجود وغير ذلك, ووضع اليد على الصدر، أو على الركبة، أو على الفخذ, وفيها عبادة اللسان: بذكر الله تعالى، وقراءة القرآن, والتسبيح والتهليل والتكبير، وفيها عبادة الرجل: في الوقوف والقيام, وأثناء السجود وغير ذلك؛ وفيها عبادة سائر البدن، ولهذا إذا سجد المرء فإنه يؤمر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في سجوده، أن يباعد بطنه عن فخذيه، ويباعد فخذيه عن ساقيه، وينصب قدميه, ويباعد عضديه عن جنبيه، حتى يأخذ كل عضو حقه من الطاعة والعبادة والسجود لله تعالى.

وفي حديث ابن عباس المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أمرت أن أسجد على سبعة أعظم} وذكر الجبهة والأنف فهذه عبادة للوجه والركبتين واليدين وأطراف القدمين، وهكذا الحال في الركوع والقيام, فإن البدن كله أثناء الصلاة يخبت لله تعالى ويعبده.

ولهذا كانت الصلاة من أعظم العبادات، وأشرفها، وأنفسها، وأكثرها تقرباً إلى المولى جل وعلا.

والعجيب أنه مع هذه الفضيلة الظاهرة للصلاة, إلا أن الله تعالى توعد بعض المصلين، فقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7] فدَّل ذلك على أن العبرة ليست بالحركات الظاهرة فحسب, فهؤلاء القوم موصوفون بأنهم مصلون، ومع ذلك توعدوا بالويل، وهو العذاب والهلاك والنكال لهم, وما ذلك إلا لأنهم صلوا بأجسادهم وما صلوا بقلوبهم.

فأجسامهم في المساجد بين الصفوف, ووجوههم إلى القبلة, ولكن قلوبهم إلى غير القبلة، فقلوبهم إلى غير الله تعالى، قلوبهم إلى فلان الذي عنده مال ينتظرون أن يثق بهم إن صلوا فيأتمنهم على هذا المال, أو قلوبهم عند فلان الذي عنده فتاة يرغبون في التزوج منها, فيصلون حتى يطمئن إليهم ويمنحهم هذه الأمانة ويأتمنهم عليها، قلوبهم عند ذلك المسئول الذي يريدون أن يثق بهم فيعطيهم وظيفة أو رتبة أو ترفيعاً أو علاوة, فلهذا وجوههم إلى القبلة لكن قلوبهم إلى غيرها، ولهذا فإن الله تعالى توعدهم بالويل، فقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ[الماعون:5] لم؟! لأنهم كما قال الله تعالى في الموضع الثاني: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142].

وهذا الأمر يقودنا إلى أعظم العبادات وأهمها وأكبرها, ألا وهي عبادة الباطن, عبادة القلب والسر, قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الروم:30] فالتوجه إلى الله تعالى والتوكل عليه، وإرادة وجهه في الأعمال، هو أعظم العبادات على الإطلاق.

من المعلوم أن العقل منحهٌ وعطيةٌ من الله تعالى للإنسان، وبناءً عليه كُلِّف العبد بسائر أنواع التكاليف, وصار إنساناً محترماً مطالباً مختاراً -كما هو معروف- مميزاً على سائر الحيوانات، فصلاح العقل وصلاح القلب وتزيينه، هو بمحبة الله تعالى ومراقبته، التي هي ميزة للمؤمنين عن الفجار والمنافقين، فبعض الناس مثلاً ربما ميّز ظاهره وزينه, بحسن الملابس، والعناية بالصحة, وبالمحافظة على الرشاقة والجمال -كما يقال- بتدريبات يومية يؤديها صباحاً أو مساءً, بعضهم إذا زادت عنده نسبة التضخم، فإنه يعمل ما يسمونه (بالرجيم) وهو نوع من الحمية التي يمتنع بها عن بعض الأطعمة, حتى يعود وزنه إلى حجمه الطبيعي، ولا يلام -على كل حال- على مجرد هذه الأشياء, إنما المقصود أن العبد يحرص على تزيين ظاهره بهذا الشكل, وعلى كسب رضا الآخرين وإعجابهم، فإذا أبدوا ارتياحاً لهذا، وقالوا: ما شاء الله! فلان أو حتى فلانة تتميز بالرشاقة والجمال واعتدال القوام, وأنها ليست زائدة ولا ناقصة, ولا طويلة طولاً مفرطاً, ولا قصيرة قصراً مفرطاً إلى غير ذلك, فإن الإنسان يسر ويبهج لأنه كسب رضا الناس وثناءهم ومديحهم.

فكما أنه يفعل ذلك فهو مطالب -أيضاً- بأن يزين باطنه بمحبة الآخرين, وحسن الظن بهم، وأن يفرح لهم بما يصيبهم من خير, وأن لا يكون في قلبه على أحد منهم حقد أو حسد, أو أن يكون أنانياً أو كذاباً أو مغروراً, أو ما شابه ذلك.

فكما يزين ظاهره ينبغي أن يزين باطنه, وكما أنه يكره أن يراه الناس على حال يذمونه عليها, فإنه ينبغي أن يدرك أن فساد الباطن أعظم من ذلك بكثير، ولهذا قال القائل:

لا يعجبن نظيماً حسن بدلته      وهل يروق دفيناً جودة الكفن

ماذا ينفع الميت أن يكون كفنه حسناً، فإنه ينـزع نزعاً سريعاً، فكذلك لو كان الإنسان مثلاً سيء الباطن، حقوداً حسوداً أنانياً كذاباً فاسد الطبع, فإنه لا ينفعه أن يكون حسن الظاهر, وكما قيل أيضاً:

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته      أتعبت نفسك فيما فيه خسران

أقبل على الروح فاستكمل فضائلهــا     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان<

زينة الباطن هي سر التكريم

إن الإنسان لم يصبح إنساناً مكرماً مختاراً بقوته مثلاً، ولو كان ذلك كذلك لكان الفيل أقوى منه، ولم يصبح إنساناً بجماله وحسن ثيابه, ولو كان ذلك لكان الطاوس أجمل وأحسن مظهراً منه.

ولم يكن إنساناً -مثلاً- بعظمه وضخامته، وقوة جسمه وفخامة هيئته وجثته, وإلا لكان البعير أكبر وأضخم منه، وكما قال أحد الشعراء الجاهليين:

ترى الرجل الضعيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور

ويعجبك الطرير فتبتليه      فيخلف ظنك الرجل الطرير

لقد عظم البعير بغير لب      فلم يستغن بالعظم البعير

بغاث الطير أكثرها فراخاً      وأم الصقر مقلات تزور

فالعبرة ليست بالكثرة ولا بالقوة, ولا بحسن الظاهر, وإنما العبرة بالعقل والقلب، العبرة بباطن الإنسان لا بظاهره، ولو كانت قوة الإنسان وحسنه وفخره بقوته الجنسية وقدرته على السباق, لكانت بعض الطيور حتى العصافير أقدر على هذا الأمر منه، كما يقول علماء الحيوان والطيور.

إنما قوة الإنسان في إيمانه وعقله، ولو كانت قوة الإنسان في ماله لكانت الجبال أكثر منه قيمة, لأن فيها معادن الذهب والفضة وغير ذلك, ولكانت آبار النفط والبترول أعظم ثمناً وقيمةً من هذا الإنسان المكرم المختار, لأن فيها الذهب والدينار والدولار.

إن قيمة الإنسان هي في باطنه، في عقله وقلبه، ولقد كان صدِّيق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه دقيقاً نحيفاً، ومع ذلك لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه بإيمان الأمة كلها لرجح إيمانه عليهم، وكان عبد الله بن مسعود، وهو من السابقين الأولين، ومن المقربين إلى سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، ومن أقرب الناس إلى الله تعالى زلفى، كما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: [[لقد علم المحبوبون من أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ابن مسعود من أقربهم إلى الله تعالى زلفى]] ومع ذلك كان صغيراً ضئيلاً دقيق الساقين، حتى إنه ربما هبت الريح فلعبت به، فضحك منه أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام فقال عليه الصلاة والسلام: {أتعجبون من دقة ساقيه!! والله لهما في الميزان أثقل من جبل أحد}.

زينة الظاهر وخراب الداخل

هذا الصنف من الناس يزينون ظاهرهم بالثياب واعتدال القوام والصحة والعافية, ولكنهم يغفلون عن بواطنهم، وهناك صنف آخر قد يزين ظاهره ببعض الأعمال الصالحة التي يراها الناس, ثم لا يخل بهذه الأعمال قط؛ لأن الناس قد اعتادوا أن يروها منه، فلو أخل بذلك لقال الناس عنه: فلان قد ضعف، أو رقَّ دينه، أو قلَّ إيمانه, أو تراجع, أو انحرف, وربما نال الناس من عرضه، أو انكسر جاهه عندهم, لأن جاهه مبني على أنه إمام, أو عالم, أو داعية, أو فقيه, أو مفتٍ, أو شيء من هذا القبيل, فلو أخلَّ ببعض الأصول التي اعتادوها منه ظاهراً, لخاف أن يتناول الناس عرضه، فيحافظ على هذه الأشياء الظاهرة أتم المحافظة؛ لئلا ينكسر جاهه عند الناس، ولكنه لا يعتني بذلك من باب الموافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم, أو الحرص على طاعة الله جل وعلا.

أما باطنه فقد يكون مهدوماً, فربما كان ذا عقل دنيوي ضيق، لا يفكر في الآخرة ولا في الاستعداد لها، ولا يفكر في أمر الأمة ومصائبها ومشكلاتها، وطرق الخلاص منها وسبل العلاج, ولا يفكر في أمر الدعوة إلى الله تعالى والسعي في أسبابها, فأفكاره محدودة قصيرة, وطاقته العقلية ربما كانت مهدورة بغير طائل, أو هو ذو قلب لا يحمل المشاعر النبيلة العظيمة التي يجب أن تكون فيه, كمحبة الله تعالى، أو محبة عباده الصالحين، أو خوف الله, أو رجاء ثوابه, أو سوى ذلك من المشاعر المشروعة في دين الله تعالى؛ فهو يحب وكل إنسان من طبيعته أن يحب, وكل إنسان من طبيعته أن يبغض، إذ كل إنسان هو ذو قلب، والقلب هو محل الحب والبغض، والرضا والسخط، والفرح والحزن وما أشبه ذلك من المشاعر, فهو يحب, ولكنه يحب ويبغض في غير الله تعالى، فقد يحب أعداء الله تعالى, وقد يبغض أولياءه كما هو شأن المنافقين الذين يجعلون همهم وشأنهم وكيدهم مع اليهود والنصارى وسائر أعداء الدين، ويبغض الإسلام وأهله والصالحين.

أو قد يحب ما يضله ويفسد عليه باطنه, كمحبة الصور الجميلة, صور النساء الجميلات, أو صور الغلمان الحسان، صورة رآها في شاشة أو شاهدها في مجلة, أو اطلع عليها، أو صورة إنسان بصر به في الطريق عياناً فأعجبه، وعلَّق قلبه بحبه, فأصبح هّمه بالليل والنهار التفكير بهذه الصورة التي ارتسمت في خياله، وتعلقت في قلبه، فهو يصحو وينام عليها، ويصلي ويسلم وهو لا يذكر سواها, فتستذل هذه الصورة قلبه وباطنه، ويتعلق بها أعظم من تعلق العابد بمعبوده, كما قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165].

التعلق بغير الله

إن أحدهم -كما ذكرت- ربما صلَّى فبكى، لا لأن الإمام قرأ آيات الوعيد والزجر والتهديد، ولكن لأن صورة المحبوب مرتسمة في عينيه فهو يقول.

أصلي فأبكي في الصلاة لأجلها     لك الويل مما يكتب الملكان

وربما ذهب إلى الحج فوقف مع الناس بـعرفة والمشاعر, ورمى الجمار، وطاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وهلّت دموعه وصاح وناح، لا خوفاً من الله تعالى، ولا تأثراً بما يشاهد، ولكن شوقاً إلى محبوب حيل بينه وبينه، وربما كل صورة تذكره بصورة محبوبه، فكل صورة امرأة يراها تذكره بمحبوبه، أو كل صوت يسمعه يذكره، أو كل اسم ينادى به يذكره باسم من يحب, كما قال أحد المفتونين بالصور:

وداعٍ دعا إذ نحن بالـخيف من منى      فهيج أشجان الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما     أطار بـليلى طائراً كان في صدري

وأصبح الكثيرون اليوم من الشباب ذكوراً وإناثاً، يرون أن فوات ذلك يعني فوات شيء عظيم؛ لأن أجهزة الإعلام التي تصبحهم وتمسيهم، والأفلام التي يشاهدونها بالفيديو، والمسلسلات التي يرونها في التلفاز، أو الأغاني التي تصدح وتملأ آذانهم وقلوبهم, أو الروايات الغرامية التي تباع في المكتبات والأسواق أو غير ذلك، كل هذه المعاني فضلاً عن الشلل والأصدقاء الذين جلّ حديثهم العلاقة مع فلانة أو فلان, وتبادل الأحاديث الغرامية، وكلمات الحب، أو المشاعر التي يبالغون في تضخيمها وتعاطيها؛ حتى يغروا بذلك غيرهم أو يُغرُوهم بالتعلق بمثل هذه الأمور, حتى أصبح هذا الأمر مصيبة عامة طامة لدى الكثير من الشباب, وربما تعلقت الفتاة بفتاة مثلها، فأصبحت تحاكيها وتركض وراءها, وتقلدها بحركاتها وسكناتها ولبسها وأعمالها وأقوالها وتسريحة شعرها, وكل أمورها، ولا تصبر عنها طرفة عين أو لحظةً من نهار.

وربما تعلق الفتى بشاب مثله، فأصبح يركض وراءه، يركب معه في السيارة، أو يُركبه في سيارته، ويقدمه على أهله ووالديه, ويحتفل به أعظم احتفال، ولا يصبر عنه، فإذا غاب أو سافر أصابه القلق والجزع والتوتر حتى يظفر به, وربما أعلم أن بعض الشباب يسافر مسافات بعيدة من أجل حبيبه ومعشوقه، وربما طلبت أمه أو أبوه أن يذهب لقضاء حاجة من البقالة على مسافة بضعة أمتار فلا يجيب ولا يفعل ذلك، فكل هذا من تعلق القلب بغير الله، وصرف هذه المشاعر المستودعة فيه إلى بعض المخلوقين الذين لا يضرون ولا ينفعون, بل محبتهم على هذا الوجه محبة ضارة يُعذَّبون بها في الدنيا، بأن يحول الله تعالى بينهم وبين من يحبون, فيعذبهم بمن يحبون في الدنيا, أما في الآخرة فإنهم يحال بينهم وبينهم، وتنقلب محبتهم عداوة, قال الله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67], وقال سبحانه ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:25].

كراهة ما يحبه الله أو حب ما يبغضه

وقد يترتب على هذا اللون من المحبة، أن يكره الواحد منهم ما يحبه الله, أو يحب ما يكرهه الله، أو يعترض على الله تعالى في شرعه, أو يعترض على الله تعالى في قضائه وقدره, كما كان أحدهم يتمنى حصول المعصية والفجور لا لنفسه فقط, بل لنفسه ولغيره من الناس، قال قائلهم:

فيا ليت كل اثنين بينهما هوى      من الناس والأنعام يلتقيان

فيقضي حبيب من حبيب لبابة      ويرعاهما ربي فلا يريان

فانظر كيف تمنى أن يتاح الفساد, وأن تتاح الصلة بين كل عاشقين أو حبيبين على طاعة الله تعالى أو على معصيته، فلا يراهما أحد ولا يشي بهما أحد, وهذا محبة لما يبغضه الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}.

ومثل ذلك أيضاً: التسخط من القضاء والقدر, كما قال أحدهم وقد حيل بينه وبين من يحب:

قضاها لغيري وابتلاني بحبها      فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا

هذا اعترض على الله عز وجل، ومضادة له في حكمه القدري الكوني, وهو من عدم الرضا بالله تعالى رباً وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث سعد: {من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وجبت له الجنة أو غفر له}.

ولذلك يقول محمد إقبال رحمه الله تعالى:

لقد سئم الهوى في البيد قيس      وملّ من الشكاية والعذاب

يحاول أن يباح العشق حتى      يرى ليلاه وهي بلا حجاب

فلهذا قال الله تعالى عن الكافرين: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28] فانظر كيف أصبح القلب هو المحور أو الدينمو أو الأصل الذي تنبثق منه كل الأمور، فأي قيمة لعبد ربما يعمل بعض الأعمال الظاهرة، لكنه يبغضها في قلبه؟! وربما يترك بعض المعاصي, ولكنه يحبها في قلبه ويتمناها ويفرح بحصولها، فإن ذلك -وإن كان العبد إذا أطاع الله تعالى فهو مأجور على كل حال- لكن هذا لا يزال يتمادى بالعبد حتى يفعل المعصية ويترك الطاعة.

ومثل هذا الإنسان الذي أحب ما كره الله, وكره ما أحب الله, من المقطوع به يقيناً أن جوارحه سوف تكون تبعاً لقلبه وما علقه من الحب لغير الله, أو من الخوف من مخلوق، الخوف من الناس، أو من مرض، أو من فقر، أو من موت، أن يخاف من سلطان أن يضره، أن يخاف من بعض رجال السلطان أو أعوانه أن يمسوه بسوء، ومثله -أيضاً- الطمع والرجاء في المخلوقين لتحصيل منفعة دنيوية بسببهم, أو علاوة أو وظيفة، أو دفع مفسدة عن نفسه أو أهله أو ماله, فإن القلب إذا تعلق بهذه الأشياء وتأله بها فإنه الملك، يملي على الجوارح ماذا يجب عليها أن تعمل، فتكون الجوارح تبعاً له، فإذا استعبد القلب بمثل هذه الأمور حباً أو خوفاً أو رجاءً، صارت الجوارح كلها تبعاً له, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في المتفق عليه عن النعمان بن بشير: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب} فالقلب يملي والجوارح تكتب.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5007 استماع
حديث الهجرة 4966 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4078 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4043 استماع
وقفات مع سورة ق 3969 استماع
مقياس الربح والخسارة 3922 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3862 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع