الشهادة الكبرى


الحلقة مفرغة

أولاً: بين يدي الحديث، إنه انقطاع طويل عن الدرس تخلله شهر رمضان المبارك وعيد الفطر، ولا بد من التذكير في عجالة بوجوب المحافظة على الطاعات واغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً [النحل:92] لقد تعلمت في رمضان الصيام، والقيام، وتعلمت الإنفاق، والحلم، فاجعل من العام كله مجالاً لتطبيق ذلك كله، ثم إن الله تعالى قد أنعم على البلاد خلال هذه الفترة الماضية كلها بنعم، منها: هذا الغيث المدرار الذي اكتست منه الأرض حلةً خضراء، وهذا أيضاً مما يوجب الشكر وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الفترة الماضية التي ربما طالت تخللها عدد من الدروس والمحاضرات المتعددة، التي سأل عنها عدد من الإخوة، وطلبوا أن أسجلها في مستهل هذا الدرس؛ ليتسنى لهم متابعتها ومعرفتها والحصول على أشرطتها، على رغم أن أمر انتشارِ الشريط وتوزيعه وتداوله أصبح أمراً عادياً ميسوراً والحمد لله تعالى على ذلك كثيراً، فمن هذه المحاضرات (مفاتيح الخير) في الرياض ثم (الثبات حتى الممات) في الخرج (حديث حول منهج السلف) في مكة (مقياس الربح والخسارة) في جدة (ونبلو أخباركم) في الزلفي (أسئلة صريحة) في حائل و(صائمون ولكن) قبل رمضان بليلة في بريدة، فضلاً عن دروسٍ متفرقة هنا وهناك، وعن دروس رمضان والتي أشير إلى درسين منها فحسب أولهما: (عشرون كلمة عتاب للرجل)، و(عشرون كلمة عتاب للمرأة) وقد أخرجته بعض التسجيلات بعنوان (شريك الحياة) وهذا عنوان لا بأس به، وكذلك درسٌ آخر أخرج مستقلاً بعنوان (رسالة خاصةٌ جداً) وإنما ذكرت هذا لهؤلاء الإخوة الذين يسألون ويخشون من انقطاع بعض الأشرطة - والحمد لله تعالى- على التيسير.

أما بالنسبة للدروس المستقبلية فهناك موضوعات كثيرة، وفيها مادة غزيرةٌ جداً وافاني بها الإخوة الكرام - جزاهم الله تعالى عني وعنكم خير الجزاء - وأسأل الله تعالى العون عليها. من هذه الدروس مجموعة رسائل موجهة إلى المسلمين في عدد من البلاد منها: رسالة إلى المسلمين في الجزائر ، ومنها: رسالة إلى المسلمين في أرض الكنانة في مصر، ومنها مجموعة من الموضوعات المتعلقة بالجانب الاقتصادي والمالي، وأحد هذه الموضوعات سيكون في الأسبوع القادم - إن شاء الله تعالى - وسيكون عنوانه (دعوة للإنفاق).

ومن هذه الموضوعات أيضاً (همسة إلى شباب الصحوة) ومنها (حديث إلى الغرب) ومنها (كلام في الإعلام) ومنها (حتمية السقوط) وسيكون عن البشائر بانهيار النظام الصليبي النصراني الغربي، ومنها درس عن الهندوس في الخليج، وأسأل الله تعالى الإعانة.

أيها الإخوة! أتيتكم وأنا فرح مسرور والحمد لله؛ لأنني سوف أحدثكم عن الله، الله الذي نحن بعض خلقه، ونحن بالقياس إلى الأكوان والأجرام والعوالم ذرة تائهة صغيرة لا نكاد نعد شيئاً، ولكن الله تعالى من علينا وتفضل وأنعم، فسخرها لنا، وميزنا بالعقل والإدراك، واختارنا للمسؤولية واختص من بيننا رسلاً تتنـزل عليهم الملائكة: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] الله الذي له كل شيء، له الدنيا والآخرة، والأرض والسماء، والإنسان والمادة، وله كل شئ: وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى [الليل:13] فلله الآخرة والأولى، فإذا رضي عن العبد أعطاه بلا حساب إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].

الله الذي سنقدم عليه وسنلقاه وسنلاقيه وسيحادثنا ويحاضرنا سبحانه وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [البقرة:223] يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الإنشقاق:6] فأي شيء أعظم وألزم وأهم من التعرف إليه، والثناء عليه، والكلام عنه، والتمدح بصفاته، والتحبب له، إننا حين نتحدث مثلاً عن عبادةٍ من العبادات كما تحدثنا مرةً عن الصلاة، وأخرى عن الصيام، وثالثةً عن الحج، فإنما هذه الأعمال والعبادات لا تعدو أن تكون وسائل وأسباباً وذرائع لتحصيل مرضاة الله تعالى، وإدراك عفوه، والفوز بكرامته.

وحين نتحدث عن الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن الدعوة إلى الله تعالى، فإنما نتحدث عن بعض آثار التوحيد، التي تقع من الموحدين المؤمنين، العارفين بالله تعالى، العالمين بأسمائه وصفاته، العابدين له، الذين يعملون لله لا للناس، ويجاهدون في سبيله لتكون كلمته هي العليا، فيحبون في الله، ويبغضون في الله، ويوالون في الله، ويعادون في الله، ويعملون لله، ويتركون لله.

ألا في الله لا في الناس شالت     بداودٍ وإخوته الجذوع

مضوا قتلاً وتمزيقاً وصلباً     تحوّم حولهم طيرٌ وقوع

إذا ما الليل أظلم كابدوه     فيسفر عنهم وهمُ ركوع

أطار الخوف نومهم فقاموا     وأهل الأمن في الدنيا هجوع

لهم تحت الظلام وهم سجودٌ     أنينٌ منه تنفجر الضلوع

وخرسٌ بالنهار لطول صمتٍ     عليهم من سكينتهم خشوع

يعالون النحيب إليه شوقاً     وإن خفضوا فربهمُ سميع

وحين نتحدث عن جوانب من الخلل في الحياة الإسلامية، في الواقع السياسي، أو الأخلاقي، أو العبادي، أو الإعلامي، أو الاقتصادي، أو التعليمي، فإنما نتحدث عن ترسيخ قاعدة التوحيد الشاملة، والدينونة لله تعالى في كل الأموريَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119].

ونتحدث عن منابذة طريق المغضوب عليهم والضالين، وأهل الشرك والتجزئة، الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، والذين جعلوا القرآن عضين، فليس التوحيد نصاً يقرأ ولا منهجاً يدرّس فحسب، ولا درساً يلقى فقط، ولا جانباً من جوانب العقل أو القلب مقطوعاً عما سواه وما عداه، بل التوحيد منهج يهيمن على الحياة كلها، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة. فما من طاعة من الطاعات إلا وهى تزيد في التوحيد وتكمله، وما من معصية صغرت أو كبرت إلا وهى تخدش التوحيد وتنقصه وتنافيه أو تنافى كماله.

إنها السنن: إن الأمم الكتابية ثلاث، المسلمون واليهود والنصارى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنـزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا [الأنعام:156] فقد أنـزل الكتاب على اليهود، ثم أنـزل على النصارى، ثم أنـزل على المسلمين، على نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الخاتم، أنـزل عليه القرآن، وقد حذّرنا الله تعالى مما آلت إليه الأمم السابقة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أننا سوف نتبع سننهم وطريقتهم حذو القذة بالقذة.

العناية بالرسوم وإهمال المعاني

إن من سنن أهل الكتاب السابقين العناية بالرسوم، وإهمال المعاني والحقائق، فقد كان من شأنهم مثلاً: بناء المساجد على قبور الأنبياء تعظيماً لهم، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا ينسبون إلى الأنبياء كثيراً من النقائص والآثام، ويخالفون هديهم في كثير من الأمور حتى بناء المساجد على قبورهم، كان مما نهاهم عنه الأنبياء فأبوا وأصروا وقَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21].

إن الأنبياء لا يأتون بمثل ذلك أبداً، وهذه الأمة تعاني من هذا ما يطول منه العجب! فمثلاً: عناية الأمة بالرسوم وإهمالها للحقائق والمعاني كثير، فالقرآن نـزل ليقرأ ويُفهم، ويعمل به، ويحكّم في واقع الحياة الفردية والجماعية، فماذا صنع المسلمون؟ أعرضوا عن قراءته، وعن فهمه، وعن تحكيمه، وعن التحاكم إليه، وذهبوا يطبعونه على ورق، ويذهِّبونه بأغلى الأثمان، ويقبلونه، ويضعونه على جباههم، ويضعونه على موتاهم، ثم لا شيء بعد ذلك.

والكعبة جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ [المائدة:97] هذه الكعبة جعلها الله تعالى أمناً وقياماً للناس يصلى إليها، ويطاف بها، ويتوجه إليها المؤمنون في عباداتهم ودعائهم وما سوى ذلك.

فماذا صنع المسلمون؟ أعرض الكثير منهم عن ذلك، وذهبوا يحافظون على الرسوم، لا تستدبر الكعبة وأنت ماش؛ بل امشِ على وراءك لئلا تستدبرها، لا تمد الرجل إليها وأنت قاعد، والتمسح بها وبكل جوانبها، بل وبخرقها، وبالماء النازل من ميزابها، أما الصلاة والطواف والدعاء وتعظيم حرمات الله عز وجل فالكثير عن ذلك بمعزل، والمساجد عموماً غير الكعبة أصبحت تبنى وتشَّيد وترفع مآذنها، وربما وضعت فيها ألوان من الأشكال والرسوم والصور، ولكن أين الصلاة فيها؟! أين رفع الأذان؟ أين البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه؟!

مآذنكم علت في كل حيِّ     ومسجدكم من العباد خالي

حتى البلاد التي فتحت ذراعيها للمسلمين اليوم في آسيا الوسطى وغيرها، وفى ألبانيا، البلاد التي كانت شيوعية ذهب المسلمون من الأثرياء ومن الدعاة يتنافسون في بناء المساجد ووضع القباب عليها وتشييدها، لكن لم يهتموا بإيجاد الدعاة، وإيجاد الأئمة، وإيجاد الخطباء، وإيجاد المصلين، فاعتنوا بالمسجد وغفلوا عن الإنسان المصلي.

والرسول صلى الله عليه وسلم، تجد كل المسلمين حتى العصاة، حتى الفجار، تصيبهم الحميّة له عليه الصلاة والسلام، ومما أذكر في القصص أنني قرأت في كتاب الطريق إلى المدينة لـأبي الحسن الندوي، أن شاعراً هندياً كان سِكِّيراً لا يكاد يصحو أبداً، فجلس مع شاب عربي في أحد المطاعم أو المقاهي، يتعاطون الخمر، ويتكلمون فيما حرم الله عز وجل، حتى نـزل هذا الشاب العربي، وكان شيوعياً، فتكلم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونال منه عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي، فغضب ذاك الشاعر الهندي وكان ثملاً، فقام إلى ذلك الشاب العربي وضربه بيده ورجله ونعله حتى ظل طريحاً في غيبوبة أياماً، وهو يقول له: كل شيء فعلناه، ولم يبق لنا إلا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأنت أيها العربي! الذي تنتسب إلى نفس الجنس الذي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ [الجمعة:2] تأتي إلى بلاد الهند، إلى بلاد العجم، لتنال من رسول الله صلى الله عليه وسلم!

فكل المسلمين حتى المسرفين والمقصرين والخطاة والجناة يغارون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصيبهم الحمية له، وأكثرهم يقيمون الموالد والاحتفالات والمناسبات التي تتلى فيها السير بما صح وما لم يصح، وتتناشد فيها الأشعار في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وجماله وكماله وغير ذلك، بل وفى بعض البلاد تصدع الأغاني المختلطة بالموسيقى وتختلط الرجال بالنساء كما يفعل النصارى فيما يسمونه بعيد (الكريسمس)!

الرسوم غالبها محدثة لا أصل لها

لتتبعن سنن من كان قبلكم، إنها السنن، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، هذه واحدة، والأخرى أن هذه الرسوم التي لا زال المسلمون يعتنون بها دون أن ينتقلوا إلى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، ولزوم شريعته، والأخذ عنه، والدفاع عن عقيدته وعن دينه، هذه الرسوم التي يعتنون بها هي في غالبها محدثة لا أصل لها، فعظّمت هذه الأمور عند العامة كثيراً، كما يتحدث الرافضة مثلاً عن يوم عاشوراء، ويقولون كما يقول مجددهم المعاصر الخميني، يقولون: إن يوم عاشوراء هو الذي حفظ دين الرافضة، لأن هذا اليوم وما فيه من التمثيليات التي يعرضونها، وشق الجيوب، وخمش الوجوه، وضرب الظهور، وسيلان الدماء، وارتفاع النياحة، والأصوات والضجيج والصراخ، هذا أصبح رمزاً وشعاراً ومناسبة يربطون بها العوام الجهلة إلى ذلك الدين المحدث.

الرسوم لم تحفظ حق الله تعالى ولا حق رسوله

هذه الرسوم لم تحفظ حق الله تعالى، إذ حفظ حق الله تعالى هو بمعرفته، وعبادته، وحبه وخوفه ورجائه، ولم تحفظ حق الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ حفظ حقه صلى الله عليه وسلم هو بحبه أشد الحب، وطاعته واتباعه فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، والاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم والدفاع عن دينه، ولكن هذه الرسوم خلطت الأوراق، فجعلت ما لله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلت ما للرسول للأولياء، وجعلت ما للأولياء للمشايخ، بل لغير الصالحين أحياناً، بل جعلت حق الله تعالى لبعض المجهولين، وبعض الفجار، وبعض الفساق، وكم من ضريحٍ يزار، ويطاف به، ويعبد مع الله تعالى، أو من دون الله، وتنذر له القرابين، وتبرم عنده العقود، ويتبرك بتربته، وهو مرقد لشخص لا يُدرى أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار، بل إن بعضهم مما يعلم بأنهم من أهل النار، لأنهم من الكافرين، وإنني أقرأ لكم خبراً مضحكاً، نُشر في عدد من الصحف، وأذاعته وكالة اسمها وكالة إينا من باريس، ونشر في عكاظ (3/6/1413هـ) ونشر في الندوة أيضاً (29/5) من العام نفسه، هذا الخبر يقول: إنه تم تأجير ضريح أحد الأولياء في بلد إسلامي، في شمال إفريقيا بمبلغ يزيد على مليون دولار، ويشمل الإيجار القبر والقبة، وصندوق جمع التبرعات والنذر، ويستأجر هذه القبور النصابون والمحتالون، الذين يحصلون على مبالغ ضخمة، توضع في صندوق التبرعات، يضعها بعض العامة من البسطاء والجهلة، الذين يتصورون أن الولي الميت، أو أن الميت ولو لم يكن ولياً سيحل مشاكله، وهناك تخصصات مختلفة يعتقدونها، فبعضها للشفاء من الصرع والجنون، والبعض الآخر لعلاج النساء من العقم، في حين يحرص النصابون والمشعوذون على نشر القصص الخيالية والأكاذيب بين الناس، لدفعهم إلى زيارة القبر، وطلب مساعدة المقبور، وبعض القبور التي يزدحم حولها الزوار لطلب العلاج من الميت تصبح -كما يقول الخبر- بؤراً للدعارة والفسق، في حين يقوم المستفيدون من هذه الظاهرة بخداع الناس، كالتكلم من وراء حجاب، أو عمل خدع بسيطة لإيهام الناس بأن الميت يسمعهم ويتحدث إليهم.

يقول الخبر: وذكر أنه في بلد إسلامي، أسيوي يتسابق أصحاب النفوذ والسلاطين في الدولة على إعطاء حق الإشراف على القبور لأقربائهم، حتى يتمتعوا بالدخل اليومي الوفير.

وفى بلد إسلامي آخر، يقع على البحر المتوسط، قبر يزوره الناس، ويطلبون من صاحبه الوساطة والمساعدة على أساس أن الميت من الأولياء، ثم تبين أن المدفون في القبر صياد سمك يوناني، وبعض المحتالين يلجأ إلى وضع كومة من الأحجار في مكان ما، ويزعم كذباً أنها قبر لولي صالح، ويبدأ الناس في تصديقهم، ويجمعون الأموال مع أنه ليس في المكان ميت ولا قبر أصلاً، ومن المعروف أن الحسين رحمه الله ورضي الله عنه، له ثلاثة قبور، قبر في العراق وقبر في الشام، وثالث في مصر، وقد ضحك بعض المتندرين وقال: لعل رأسه في العراق، وصدره في الشام، ورجلاه في مصر، وهذا على سبيل التندر والطرفة، يبذلون الأموال الضخمة عند هذه القبور نذوراً للميت، وقرابين، وذبائح، على رغم أنهم يعانون أشد ألوان الفقر، فحيهم يموت جوعاً، أما ميتهم فتذبح عنده القرابين، وتنذر له النذور! إنها أُضحوكة على هذه الأمة التي قال شاعرها الأول:

يا أمة ضحكت     من جهلها الأمم

أحياؤنا لا يرزقون بدرهمٍ     وبألف ألف ترزق الأموات

من لي بحظ الميتين بحفرةٍ     قامت على أحجارها الصلوات

يسعى الأنام لها ويجري حولها     بحر النذور وتقرأ الآيات

ويقال هذا القطب باب المصطفى     ووسيلةُ تقضى بها الحاجات

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20-21].

حتى جحا شيدت له القبور في ثلاث دول إسلامية، وفي تركيا قبرٌ لـجحا، نصر الدين خوجة، يذهب إليه من يريدون عقد الزواج، يعقدون الزواج عند قبره تبركاً بتربته، ويطوفون حوله، وربما توجهوا إليه بالدعاء، بل وربما استقبلوه بالصلوات، وقد حدثني شهود عيان، أن بلداً إسلاميا بمجرد ما ينـزل السائح إلى ذلك البلد، في المطار يخلع نعليه؛ لأنه في البلد الذي حوى تربة الولي الصالح فلان فمن تكريمه أن تخلع نعليك مند أن نـزلت المطار، وتكون خاشعاً مطرقاً مخبتاً، فإذا وصلت إلى القبر رأيت العجب العجاب رأيت استقباله بالدعاء والصلاة إليه والسجود، ولقد حدثني شهود عيانٍ بذلك كله، في غير ما موضع.

ومما يذكر أيضاً في هذا، أن جريدة أو مجلة اسمها الأولى، نشرت في الحادي عشر من جمادى الآخرة، من هذا العام خبراً طويلاً عنوانه (الأولى في حضرة ولي الله الصالح الشيخ العيدروس وذكرت الجريدة أخباراً وصوراً عن الابتهاج والاحتفال عند هذا الولي، وكيف يتوجهون إليه، وينشدون الأناشيد، وترتفع الأصوات بالغناء المصحوب بالموسيقى، وتختلط الرجال بالنساء، وتكون هناك طقوس وعبادات ومشاعل، ويحضر كبار الشخصيات، تعلوهم الابتسامات التي تزاحم - كما تقول الجريدة - تزاحم أصداح نغمات الموسيقى النحاسية، التي جاءت للمشاركة في الاحتفال، وبدون تمايز اختلطت النساء بإخوانهن الرجال في لوحة بديعة أطلقوا عليها لوحة العيدروس وقد حازت تلك الجريدة قصب السبق الصحفي حيث شغلت صفحتين كاملتين لبيان الطقوس والمراسيم، التي كانت في مثل ذلك الاحتفال البدعي الوثني.

إننا قلما نسمع في دنيا المسلمين من ينتصر لحق الله تعالى، أو يقول لقومه مقالة نوح عليه السلام: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:13-14] أو يرمي قوماً بأنهم ما عرفوا الله حق معرفته، ولا قدروه، حق قدره كما قال الله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].

لكننا كثيراً ما نسمع حتى من العامة، من يقول: إن فلاناً لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إن فلاناً لا يحب الأولياء الصالحين، ولا شك أن الذي لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بمؤمن، كما يقول سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين}.

فيجب على كل مؤمن أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون أحب إليه من نفسه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، بل أحب إليه من الماء البارد على العطش والظمأ الشديد، والذي يبغض الأولياء والصالحين هو أيضاً قد بارز الله تعالى بالمحاربة كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب}.

لكن ما هو المقياس في حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب الأولياء الصالحين؟ لعل هذا الذي ترميه بأنه لا يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، قد رفض الرسوم الحادثة، التي يعبر بها هؤلاء عما يزعمونه حباً، وعبر هذا المؤمن عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع طريقته الشرعية، التي ترضي محبوبه وتوافق هديه.

الغلو الشركي عند أهل الرسوم

هذا أحدهم يعبر عن محبته لرجل من الناس فانظر كيف خلع عليه -لا أقول أوصاف الأولياء- وهو ولي فعلاً، لأنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا أقول خلع عليه أوصاف النبوة، بل خلع عليه أوصاف الإلهية!

لقد سمعت يوماً من الأيام شاعراً لبنانياً معاصراً، رافضياً، يخاطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعلي بن أبي طالب في قلوبنا، والله إننا نحبه أشد الحب، وأكرمه وأزكاه، الحب اللائق به، فهو رابع أربعة من الخلفاء الراشدين، والمبشرين بالجنة، وأحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحبه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحبه لبلائه وجهاده، ونحبه لسابقته، لكن يظل علي بن أبي طالب بشراً من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس نبياً مرسلاً، ولا إلهاً معبوداً، لقد سمعت شاعراً لبنانياً يخاطبه ويقول:

أبا حسن أنت عين الإله     وعنوان قدرته السامية

وأنت المحيط بعلم الغيوب     فهل عنك تعزب من خافية

لك الأمر إن شئت تنجي غداً     وإن شئت تسفع بالناصية

فاندهشت لذلك وقلت سبحان الله! كيف يوجد إنسان قرأ ولو شيئاً من القرآن، وسمع ولو شيئاً من الحديث، أو حافظ على نقاء فطرته فقط، كيف يعطي بشراً مثل ذلك؟! فإذا بي أفاجأ بهذه الورقة توزع في بعض مدارسنا، وفى بعض مؤسساتنا، وفى بعض دوائرنا الحكومية، وفيها الشرك الأكبر البواح الصراح! أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قصيدة لمن يسمي نفسه الشيخ علي بن سليمان المزيدي في مدح الإمام حيدر عليه السلام:

أبا حسن أنت زوج البتول     وجنب الإله ونفس الرسول

وبدر الكمال وشمس العقول     ومملوك ربٍ وأنت الملك

لا حول ولا قوة إلا بالله! قال في المقدمة:" أنت مملوك" وذكرني بالمشركين الأولين الذين كانوا يقولون في التلبية: "لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"، فقالوا: لا شريك لك إلا شريكاً واحداً، ثم جعلوا لهذا الشريك الذي هو اللات والعزى كل شيء، ولم يجعلوا لله تعالى شيئاً قط، يقول: ومملوك رب وأنت الملك.

دعاك النبي بيوم الغدير     ونص عليك بأمر القدير

بأنك للمؤمنين الأمير     وعقد ولايته قلدك

إليك تصير جميع الأمور     وأنت العليم بذات الصدور

وأنت المبعثر ما في القبور     وحكم القيامة بالنص لك

ماذا بقي لرب العالمين؟!

وأنت السميع وأنت البصير     وأنت على كل شيء قدير

ولولاك ما كان نجمٌ يسير     ولا دار لولا ولاك الفلك

وأنت بكل البرايا عليم     وأنت المكلم أهل الرقيم

ولولاك ما كان موسى الكليم     كليماً فسبحان من كونك

سرى سر اسمك في العالمين     فحبك كالشمس فوق الجبين

فمن ذاك كان ومن ذا يكون     وما الأنبياء وما المرسلون

وما القلم اللوح ما العالمون     وكلٌ عبيدٌ مماليك لك

أي شرك وكفر وردة وجراءة أعظم من هذا؟ الأنبياء والمرسلون والقلم واللوح والعالمون كلهم عبيد مماليك له!!

أبا حسن يا مدير الوجود     وكهف الطريد ومأوي الوفود

ومسقي مجيبك يوم الورود     ومنكر في البعث من أنكرك

ولاؤك لي في ضريحي منار     واسمك لي في المضيق الشعار

وحبك مدخلني جنتك

فالجنة والنار أصبحت له في نظر هذا المرتد، الكافر الكبير! يقول: المزيدي علي -هذا اسمه-

بك المزيدي عليٌّ دخيل     إذا جاء أمر الإله الجليل

ونادى المنادي الرحيل الرحيل     وحاشاك تترك من لاذ بك

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:2-7].

والله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، ما كان يدور في خلدي أن يصل الجهل والكفر والجراءة بإنسانٍ ينتسب إلى الإسلام، ولو نسبة ضعيفة، أن يقول مثل هذا الكلام، خاصة في مثل هذا الوقت الذي أصبح الناس فيه، متصلٌ بعضهم ببعض ويجامل بعضهم بعضاً، ويستحي بعضهم من بعض، فحتى صاحب الفكر الدخيل والكفر، ربما يداري أو يواري أو يتقي، أما أن يعلن ذلك ويصرحه ويبوح به، فهذا والعياذ بالله أمر عجيب!

إن مثل هذا الكلام لم يمدحوا به رب العالمين جل وعلا، وأقسم بالله على ذلك، ولو قرأت الكتب الضخمة الكبيرة لن تجد قصيدة يُمدح فيها الله جل جلاله بمثل هذه البلاغة، ومثل هذه الألفاظ، كما مدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يمدح فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بمثل ما مدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ [الأنعام:136].

إن من سنن أهل الكتاب السابقين العناية بالرسوم، وإهمال المعاني والحقائق، فقد كان من شأنهم مثلاً: بناء المساجد على قبور الأنبياء تعظيماً لهم، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا ينسبون إلى الأنبياء كثيراً من النقائص والآثام، ويخالفون هديهم في كثير من الأمور حتى بناء المساجد على قبورهم، كان مما نهاهم عنه الأنبياء فأبوا وأصروا وقَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21].

إن الأنبياء لا يأتون بمثل ذلك أبداً، وهذه الأمة تعاني من هذا ما يطول منه العجب! فمثلاً: عناية الأمة بالرسوم وإهمالها للحقائق والمعاني كثير، فالقرآن نـزل ليقرأ ويُفهم، ويعمل به، ويحكّم في واقع الحياة الفردية والجماعية، فماذا صنع المسلمون؟ أعرضوا عن قراءته، وعن فهمه، وعن تحكيمه، وعن التحاكم إليه، وذهبوا يطبعونه على ورق، ويذهِّبونه بأغلى الأثمان، ويقبلونه، ويضعونه على جباههم، ويضعونه على موتاهم، ثم لا شيء بعد ذلك.

والكعبة جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ [المائدة:97] هذه الكعبة جعلها الله تعالى أمناً وقياماً للناس يصلى إليها، ويطاف بها، ويتوجه إليها المؤمنون في عباداتهم ودعائهم وما سوى ذلك.

فماذا صنع المسلمون؟ أعرض الكثير منهم عن ذلك، وذهبوا يحافظون على الرسوم، لا تستدبر الكعبة وأنت ماش؛ بل امشِ على وراءك لئلا تستدبرها، لا تمد الرجل إليها وأنت قاعد، والتمسح بها وبكل جوانبها، بل وبخرقها، وبالماء النازل من ميزابها، أما الصلاة والطواف والدعاء وتعظيم حرمات الله عز وجل فالكثير عن ذلك بمعزل، والمساجد عموماً غير الكعبة أصبحت تبنى وتشَّيد وترفع مآذنها، وربما وضعت فيها ألوان من الأشكال والرسوم والصور، ولكن أين الصلاة فيها؟! أين رفع الأذان؟ أين البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه؟!

مآذنكم علت في كل حيِّ     ومسجدكم من العباد خالي

حتى البلاد التي فتحت ذراعيها للمسلمين اليوم في آسيا الوسطى وغيرها، وفى ألبانيا، البلاد التي كانت شيوعية ذهب المسلمون من الأثرياء ومن الدعاة يتنافسون في بناء المساجد ووضع القباب عليها وتشييدها، لكن لم يهتموا بإيجاد الدعاة، وإيجاد الأئمة، وإيجاد الخطباء، وإيجاد المصلين، فاعتنوا بالمسجد وغفلوا عن الإنسان المصلي.

والرسول صلى الله عليه وسلم، تجد كل المسلمين حتى العصاة، حتى الفجار، تصيبهم الحميّة له عليه الصلاة والسلام، ومما أذكر في القصص أنني قرأت في كتاب الطريق إلى المدينة لـأبي الحسن الندوي، أن شاعراً هندياً كان سِكِّيراً لا يكاد يصحو أبداً، فجلس مع شاب عربي في أحد المطاعم أو المقاهي، يتعاطون الخمر، ويتكلمون فيما حرم الله عز وجل، حتى نـزل هذا الشاب العربي، وكان شيوعياً، فتكلم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونال منه عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي، فغضب ذاك الشاعر الهندي وكان ثملاً، فقام إلى ذلك الشاب العربي وضربه بيده ورجله ونعله حتى ظل طريحاً في غيبوبة أياماً، وهو يقول له: كل شيء فعلناه، ولم يبق لنا إلا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأنت أيها العربي! الذي تنتسب إلى نفس الجنس الذي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ [الجمعة:2] تأتي إلى بلاد الهند، إلى بلاد العجم، لتنال من رسول الله صلى الله عليه وسلم!

فكل المسلمين حتى المسرفين والمقصرين والخطاة والجناة يغارون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصيبهم الحمية له، وأكثرهم يقيمون الموالد والاحتفالات والمناسبات التي تتلى فيها السير بما صح وما لم يصح، وتتناشد فيها الأشعار في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وجماله وكماله وغير ذلك، بل وفى بعض البلاد تصدع الأغاني المختلطة بالموسيقى وتختلط الرجال بالنساء كما يفعل النصارى فيما يسمونه بعيد (الكريسمس)!

لتتبعن سنن من كان قبلكم، إنها السنن، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، هذه واحدة، والأخرى أن هذه الرسوم التي لا زال المسلمون يعتنون بها دون أن ينتقلوا إلى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، ولزوم شريعته، والأخذ عنه، والدفاع عن عقيدته وعن دينه، هذه الرسوم التي يعتنون بها هي في غالبها محدثة لا أصل لها، فعظّمت هذه الأمور عند العامة كثيراً، كما يتحدث الرافضة مثلاً عن يوم عاشوراء، ويقولون كما يقول مجددهم المعاصر الخميني، يقولون: إن يوم عاشوراء هو الذي حفظ دين الرافضة، لأن هذا اليوم وما فيه من التمثيليات التي يعرضونها، وشق الجيوب، وخمش الوجوه، وضرب الظهور، وسيلان الدماء، وارتفاع النياحة، والأصوات والضجيج والصراخ، هذا أصبح رمزاً وشعاراً ومناسبة يربطون بها العوام الجهلة إلى ذلك الدين المحدث.

هذه الرسوم لم تحفظ حق الله تعالى، إذ حفظ حق الله تعالى هو بمعرفته، وعبادته، وحبه وخوفه ورجائه، ولم تحفظ حق الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ حفظ حقه صلى الله عليه وسلم هو بحبه أشد الحب، وطاعته واتباعه فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، والاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم والدفاع عن دينه، ولكن هذه الرسوم خلطت الأوراق، فجعلت ما لله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلت ما للرسول للأولياء، وجعلت ما للأولياء للمشايخ، بل لغير الصالحين أحياناً، بل جعلت حق الله تعالى لبعض المجهولين، وبعض الفجار، وبعض الفساق، وكم من ضريحٍ يزار، ويطاف به، ويعبد مع الله تعالى، أو من دون الله، وتنذر له القرابين، وتبرم عنده العقود، ويتبرك بتربته، وهو مرقد لشخص لا يُدرى أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار، بل إن بعضهم مما يعلم بأنهم من أهل النار، لأنهم من الكافرين، وإنني أقرأ لكم خبراً مضحكاً، نُشر في عدد من الصحف، وأذاعته وكالة اسمها وكالة إينا من باريس، ونشر في عكاظ (3/6/1413هـ) ونشر في الندوة أيضاً (29/5) من العام نفسه، هذا الخبر يقول: إنه تم تأجير ضريح أحد الأولياء في بلد إسلامي، في شمال إفريقيا بمبلغ يزيد على مليون دولار، ويشمل الإيجار القبر والقبة، وصندوق جمع التبرعات والنذر، ويستأجر هذه القبور النصابون والمحتالون، الذين يحصلون على مبالغ ضخمة، توضع في صندوق التبرعات، يضعها بعض العامة من البسطاء والجهلة، الذين يتصورون أن الولي الميت، أو أن الميت ولو لم يكن ولياً سيحل مشاكله، وهناك تخصصات مختلفة يعتقدونها، فبعضها للشفاء من الصرع والجنون، والبعض الآخر لعلاج النساء من العقم، في حين يحرص النصابون والمشعوذون على نشر القصص الخيالية والأكاذيب بين الناس، لدفعهم إلى زيارة القبر، وطلب مساعدة المقبور، وبعض القبور التي يزدحم حولها الزوار لطلب العلاج من الميت تصبح -كما يقول الخبر- بؤراً للدعارة والفسق، في حين يقوم المستفيدون من هذه الظاهرة بخداع الناس، كالتكلم من وراء حجاب، أو عمل خدع بسيطة لإيهام الناس بأن الميت يسمعهم ويتحدث إليهم.

يقول الخبر: وذكر أنه في بلد إسلامي، أسيوي يتسابق أصحاب النفوذ والسلاطين في الدولة على إعطاء حق الإشراف على القبور لأقربائهم، حتى يتمتعوا بالدخل اليومي الوفير.

وفى بلد إسلامي آخر، يقع على البحر المتوسط، قبر يزوره الناس، ويطلبون من صاحبه الوساطة والمساعدة على أساس أن الميت من الأولياء، ثم تبين أن المدفون في القبر صياد سمك يوناني، وبعض المحتالين يلجأ إلى وضع كومة من الأحجار في مكان ما، ويزعم كذباً أنها قبر لولي صالح، ويبدأ الناس في تصديقهم، ويجمعون الأموال مع أنه ليس في المكان ميت ولا قبر أصلاً، ومن المعروف أن الحسين رحمه الله ورضي الله عنه، له ثلاثة قبور، قبر في العراق وقبر في الشام، وثالث في مصر، وقد ضحك بعض المتندرين وقال: لعل رأسه في العراق، وصدره في الشام، ورجلاه في مصر، وهذا على سبيل التندر والطرفة، يبذلون الأموال الضخمة عند هذه القبور نذوراً للميت، وقرابين، وذبائح، على رغم أنهم يعانون أشد ألوان الفقر، فحيهم يموت جوعاً، أما ميتهم فتذبح عنده القرابين، وتنذر له النذور! إنها أُضحوكة على هذه الأمة التي قال شاعرها الأول:

يا أمة ضحكت     من جهلها الأمم

أحياؤنا لا يرزقون بدرهمٍ     وبألف ألف ترزق الأموات

من لي بحظ الميتين بحفرةٍ     قامت على أحجارها الصلوات

يسعى الأنام لها ويجري حولها     بحر النذور وتقرأ الآيات

ويقال هذا القطب باب المصطفى     ووسيلةُ تقضى بها الحاجات

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20-21].

حتى جحا شيدت له القبور في ثلاث دول إسلامية، وفي تركيا قبرٌ لـجحا، نصر الدين خوجة، يذهب إليه من يريدون عقد الزواج، يعقدون الزواج عند قبره تبركاً بتربته، ويطوفون حوله، وربما توجهوا إليه بالدعاء، بل وربما استقبلوه بالصلوات، وقد حدثني شهود عيان، أن بلداً إسلاميا بمجرد ما ينـزل السائح إلى ذلك البلد، في المطار يخلع نعليه؛ لأنه في البلد الذي حوى تربة الولي الصالح فلان فمن تكريمه أن تخلع نعليك مند أن نـزلت المطار، وتكون خاشعاً مطرقاً مخبتاً، فإذا وصلت إلى القبر رأيت العجب العجاب رأيت استقباله بالدعاء والصلاة إليه والسجود، ولقد حدثني شهود عيانٍ بذلك كله، في غير ما موضع.

ومما يذكر أيضاً في هذا، أن جريدة أو مجلة اسمها الأولى، نشرت في الحادي عشر من جمادى الآخرة، من هذا العام خبراً طويلاً عنوانه (الأولى في حضرة ولي الله الصالح الشيخ العيدروس وذكرت الجريدة أخباراً وصوراً عن الابتهاج والاحتفال عند هذا الولي، وكيف يتوجهون إليه، وينشدون الأناشيد، وترتفع الأصوات بالغناء المصحوب بالموسيقى، وتختلط الرجال بالنساء، وتكون هناك طقوس وعبادات ومشاعل، ويحضر كبار الشخصيات، تعلوهم الابتسامات التي تزاحم - كما تقول الجريدة - تزاحم أصداح نغمات الموسيقى النحاسية، التي جاءت للمشاركة في الاحتفال، وبدون تمايز اختلطت النساء بإخوانهن الرجال في لوحة بديعة أطلقوا عليها لوحة العيدروس وقد حازت تلك الجريدة قصب السبق الصحفي حيث شغلت صفحتين كاملتين لبيان الطقوس والمراسيم، التي كانت في مثل ذلك الاحتفال البدعي الوثني.

إننا قلما نسمع في دنيا المسلمين من ينتصر لحق الله تعالى، أو يقول لقومه مقالة نوح عليه السلام: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:13-14] أو يرمي قوماً بأنهم ما عرفوا الله حق معرفته، ولا قدروه، حق قدره كما قال الله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].

لكننا كثيراً ما نسمع حتى من العامة، من يقول: إن فلاناً لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إن فلاناً لا يحب الأولياء الصالحين، ولا شك أن الذي لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بمؤمن، كما يقول سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين}.

فيجب على كل مؤمن أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون أحب إليه من نفسه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، بل أحب إليه من الماء البارد على العطش والظمأ الشديد، والذي يبغض الأولياء والصالحين هو أيضاً قد بارز الله تعالى بالمحاربة كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب}.

لكن ما هو المقياس في حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب الأولياء الصالحين؟ لعل هذا الذي ترميه بأنه لا يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، قد رفض الرسوم الحادثة، التي يعبر بها هؤلاء عما يزعمونه حباً، وعبر هذا المؤمن عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع طريقته الشرعية، التي ترضي محبوبه وتوافق هديه.

هذا أحدهم يعبر عن محبته لرجل من الناس فانظر كيف خلع عليه -لا أقول أوصاف الأولياء- وهو ولي فعلاً، لأنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا أقول خلع عليه أوصاف النبوة، بل خلع عليه أوصاف الإلهية!

لقد سمعت يوماً من الأيام شاعراً لبنانياً معاصراً، رافضياً، يخاطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعلي بن أبي طالب في قلوبنا، والله إننا نحبه أشد الحب، وأكرمه وأزكاه، الحب اللائق به، فهو رابع أربعة من الخلفاء الراشدين، والمبشرين بالجنة، وأحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحبه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحبه لبلائه وجهاده، ونحبه لسابقته، لكن يظل علي بن أبي طالب بشراً من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس نبياً مرسلاً، ولا إلهاً معبوداً، لقد سمعت شاعراً لبنانياً يخاطبه ويقول:

أبا حسن أنت عين الإله     وعنوان قدرته السامية

وأنت المحيط بعلم الغيوب     فهل عنك تعزب من خافية

لك الأمر إن شئت تنجي غداً     وإن شئت تسفع بالناصية

فاندهشت لذلك وقلت سبحان الله! كيف يوجد إنسان قرأ ولو شيئاً من القرآن، وسمع ولو شيئاً من الحديث، أو حافظ على نقاء فطرته فقط، كيف يعطي بشراً مثل ذلك؟! فإذا بي أفاجأ بهذه الورقة توزع في بعض مدارسنا، وفى بعض مؤسساتنا، وفى بعض دوائرنا الحكومية، وفيها الشرك الأكبر البواح الصراح! أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قصيدة لمن يسمي نفسه الشيخ علي بن سليمان المزيدي في مدح الإمام حيدر عليه السلام:

أبا حسن أنت زوج البتول     وجنب الإله ونفس الرسول

وبدر الكمال وشمس العقول     ومملوك ربٍ وأنت الملك

لا حول ولا قوة إلا بالله! قال في المقدمة:" أنت مملوك" وذكرني بالمشركين الأولين الذين كانوا يقولون في التلبية: "لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"، فقالوا: لا شريك لك إلا شريكاً واحداً، ثم جعلوا لهذا الشريك الذي هو اللات والعزى كل شيء، ولم يجعلوا لله تعالى شيئاً قط، يقول: ومملوك رب وأنت الملك.

دعاك النبي بيوم الغدير     ونص عليك بأمر القدير

بأنك للمؤمنين الأمير     وعقد ولايته قلدك

إليك تصير جميع الأمور     وأنت العليم بذات الصدور

وأنت المبعثر ما في القبور     وحكم القيامة بالنص لك

ماذا بقي لرب العالمين؟!

وأنت السميع وأنت البصير     وأنت على كل شيء قدير

ولولاك ما كان نجمٌ يسير     ولا دار لولا ولاك الفلك

وأنت بكل البرايا عليم     وأنت المكلم أهل الرقيم

ولولاك ما كان موسى الكليم     كليماً فسبحان من كونك

سرى سر اسمك في العالمين     فحبك كالشمس فوق الجبين

فمن ذاك كان ومن ذا يكون     وما الأنبياء وما المرسلون

وما القلم اللوح ما العالمون     وكلٌ عبيدٌ مماليك لك

أي شرك وكفر وردة وجراءة أعظم من هذا؟ الأنبياء والمرسلون والقلم واللوح والعالمون كلهم عبيد مماليك له!!

أبا حسن يا مدير الوجود     وكهف الطريد ومأوي الوفود

ومسقي مجيبك يوم الورود     ومنكر في البعث من أنكرك

ولاؤك لي في ضريحي منار     واسمك لي في المضيق الشعار

وحبك مدخلني جنتك

فالجنة والنار أصبحت له في نظر هذا المرتد، الكافر الكبير! يقول: المزيدي علي -هذا اسمه-

بك المزيدي عليٌّ دخيل     إذا جاء أمر الإله الجليل

ونادى المنادي الرحيل الرحيل     وحاشاك تترك من لاذ بك

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:2-7].

والله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، ما كان يدور في خلدي أن يصل الجهل والكفر والجراءة بإنسانٍ ينتسب إلى الإسلام، ولو نسبة ضعيفة، أن يقول مثل هذا الكلام، خاصة في مثل هذا الوقت الذي أصبح الناس فيه، متصلٌ بعضهم ببعض ويجامل بعضهم بعضاً، ويستحي بعضهم من بعض، فحتى صاحب الفكر الدخيل والكفر، ربما يداري أو يواري أو يتقي، أما أن يعلن ذلك ويصرحه ويبوح به، فهذا والعياذ بالله أمر عجيب!

إن مثل هذا الكلام لم يمدحوا به رب العالمين جل وعلا، وأقسم بالله على ذلك، ولو قرأت الكتب الضخمة الكبيرة لن تجد قصيدة يُمدح فيها الله جل جلاله بمثل هذه البلاغة، ومثل هذه الألفاظ، كما مدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يمدح فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بمثل ما مدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ [الأنعام:136].