أرشيف المقالات

من القواعد الأخلاقية للحروب النبوية: الإعذار والإنذار

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
من القواعد الأخلاقية للحروب النبوية: الإعذار والإنذار

يُقصد بالإعذار والإنذار عَرْض الدعوة على مَن سيُقاتِل قبل الشروع في قتاله؛ بحيث تُقام عليه الحُجَّة، وتزال كلُّ الأعذار التي تحُول بينه وبين قَبُول الإسلام واتباع دعوة التوحيد.
 
وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها تشهد لهذا المعنى وتؤكِّده؛ فلم يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم قومًا بالقتال دون أن يدْعُوَهم ويرغِّبهم فيما معه من الحق، وما يحمله لهم من خيري الدنيا والآخرة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "ما قاتَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا قطُّ إلا دعاهم"[1].
 
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: ((اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتِلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيتَ عدوك من المشركين فادْعُهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهنَّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يَجري عليهم حكم الله الذي يَجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يُجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبَوْا فسَلْهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتِلهم))[2].
 
فقوله: ((ولا تغدِروا)) بكسر الدال، قيل: معناه: لا تنقضوا العهد، وقيل: لا تحاربوهم قبل أن تدعوهم إلى الإسلام[3].
 
فلا بد من بلوغ الدعوة للكفار وإقامة الحجة عليهم، وأن يُعرَض لهم الإسلام في صورته الحقيقية بعيدًا عن التزييف والتحريف، وبعدها يكون لهم الخيار إما أن يُسلِموا ويدخلوا في دين الله الحق؛ فيعصموا دماءهم وأموالهم، أو يدفعوا الجزية إن كانوا من أهلها، وعندها يُقَرُّون على دينهم ولا يُقاتَلون، ولكنهم لن يحاربوا الدعوة، ولن يمنعوا وصولها للناس، ولن يَحجزوا المسلمين عن تقديم الإسلام للناس في صورة صحيحة، مع توفير أجواء حرَّة آمنة ليؤمن من آمن عن بيِّنة وبصيرة.
 
فإن كانت الحرب، فهي اختيارهم لا اختيارنا، وإن كان القتال، فهم الذين ألجؤونا إليه بإصرارهم على التمسُّك بالباطل، ومحاربة الحق، والتكبُّر في الأرض.
 
إن إعذار الكفار وإنذارهم قبل الشروع في قتالهم ربما يشكل ضررًا على المسلمين إذا قيس بمقاييس الحرب والقتال التي تَهدف لتحقيق الغلبة والنصر بأي شكل، وفي أسرع وقت، وبأقل خسائر؛ لأن مباغتة العدو ومفاجأته قبل أن يستعدَّ ويُعدَّ عدة القتال ويأخذ مواقعه، تُوقِع به نكاية شديدة، وربما تكون من أهمِّ أسباب النصر وأول عوامل الغلبة.
 
وعلى الرغم من ذلك، فإن الإسلام لا يَنظر للقتال هذه النظرة، ولا يَعنيه في المقام الأول تحصيل الغنائم، وقتل الأعداء، وتشريد النساء والذرية، وتحقيق النصر؛ وإنما شرع القتال كوسيلة لنشر الحق والدفاع عنه، ولتحقيق هداية البشر وإنقاذهم من مغبة البقاء على الشرك والكفر.
 
ربما يشكل الإنذار والإعذار خسارةً على الجانب العسكري، أو خللاً في الناحية الإستراتيجية، لكنه بلا شك نصرٌ عظيم في الجانب الخلُقي، ومكسب وفير في الناحية الأدبية، تعكس مدى السمو الذي يتعامل به المسلمون مع غيرهم حتى في ميدان المعركة وساحة القتال، وهو أمر لا بدَّ من إيداعه عين الاعتبار.
 
إن هداية فرد واحد أعظم عند المسلمين كثيرًا من الانتصار في الحروب والفوز في المعارك؛ لأن إنقاذ نفس من النار مهمَّة سامية لا يُضاهيها أي مكسب دنيوي مهما بلغ في عظمه وكثرته، ولأَنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم.
 
ومما قد يشكل على هذه القاعدة ما وقع في غزوة بني المصطلق (أو المريسيع)، وكانت في السنة السادسة من الهجرة؛ حيث يذكر أصحاب السِّيَر أن المسلمين قاموا في هذه الغزوة بمباغتة بني المصطلق ودهموهم عند ماء لهم يُسمى المريسيع وهم غَارُّونَ غافلون، وأنعامهم تُسقى على الماء[4]؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع فكتب إليَّ: إن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مُقاتلتهم، وسبى ذراريَّهم، وأصاب يومئذٍ جويرية؛ حدثني به عبدالله بن عمر، وكان في ذلك الجيش[5].
 
ولكن عند النظر إلى سبب الغزوة، نعلم أن بني المصطلق هم الذين بدؤوا بالاعتداء؛ فقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يُريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعَث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم له ذلك، فأتاهم ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فندب الرسول الناس فأسرعوا في الخروج[6].
 
فهؤلاء المشركون من بني المصطلق كانوا على علم بالدعوة، واتخذوا موقفًا معاديًا من أصحاب الدعوة، وسعَوْا في حربهم والقضاء عليهم؛ ولذلك نجد أن الحديث قد بوب له في صحيح مسلم تحت عنوان: "باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام".
 
قال النووي في تعليقه على الحديث: "وفي هذا الحديث: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة.
 
وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب حكاها المازريُّ والقاضي:
أحدها: يجب الإنذار مطلقًا؛ قاله مالك وغيره، وهذا ضعيف.
 
والثاني: لا يجب مطلقًا، وهذا أضعف منه أو باطل.
 
والثالث: يجب إن لم تبلغهم الدَّعوة، ولا يجب إن بلغتهم، لكن يُستحبُّ، وهذا هو الصحيح؛ وبه قال نافع مولى ابن عمر، والحسن البصريُّ، والثوريُّ، والليث، والشافعيُّ، وأبو ثور، وابن المنذر، والجمهور.
 
قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصَّحيحة على معناه"[7].
 
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يُنادي في الناس أن قولوا: لا إله إلا الله؛ تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، فأبَوْا وتراموا بالنبل، وبعد ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فحملوا على الكفار حملةَ رجل واحد[8].
 
وخلاصة القول أن كفار بني المصطلق قد أعذروا ببلوغ الدعوة لهم، وتحدَّد موقفهم من هذه الدعوة، وهي الحرب الصريحة.
 
وقبل أن يحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم حملة رجل واحد أعطاهم فرصة للخلاص بقول: لا إله إلا الله، وعندها تعصم دماؤهم وأموالهم، ولكنهم أصروا على الكفر، وقذفوا المسلمين بالنَّبل، في إشارة صريحة منهم بأنهم لا يقبلون بغير الحرب سبيلاً، ولا يرضون بغير القتال بديلاً.
 
فكيف يمكن إنكار قاعدة الإعذار والإنذار اعتمادًا على ما حدث في هذه الغزوة؟!
 

[1] أحمد (2001)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح.

[2] مسلم (3261)، من حديث بريدة رضي الله عنه.

[3] تحفة الأحوذي (5 / 201)، وعون المعبود (7 / 196).
[4] سيرة ابن هشام (3 / 966 - 967).
[5] البخاري (2355)، ومسلم (3260).

[6] زاد المعاد (3 / 256 - 257).

[7] شرح صحيح مسلم (12 / 54).
[8] البداية والنهاية (3 / 319).

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير