لنا في غزوة مؤتة عبر


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله! انبثق نور الإسلام من مكة ليحطم الجاهلية بكل ما فيها إلا ما وافق الإسلام، وقام محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه بحمل راية الدعوة والجهاد، والتف حوله الرجال يفدون دينهم بكل غال ونفيس، وما هي إلا سنوات قليلة مليئة بالصبر والتضحيات إلا والإسلام قد ضرب أطنابه هنا وهناك، وانتشر أبطال الإسلام يبلغون دعوة الله رافعين شعار لا إله إلا الله، العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ فدانت لهم الأرض، ونشروا العدل والمساواة، وقدموا من أجل ذلك التضحيات، وسطروا البطولات، كانوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ثم تبدل الحال وتفكك البنيان، وركنت الأمة للدعة والشهوات، وضيعت أوقاتها بل أعمارها أمام الشاشات والقنوات، ومع نهاية هذا العام وبداية آخر أردت أن أرفع الهمم، وأذكر الأحفاد بما صنع الأجداد، أردت أن أذكر مع بداية العام الجديد بماضينا المجيد، فهيا معاً نفتح صفحات التاريخ؛ لنرى ماذا صنع الرجال؟

روى الواقدي بسنده عن عمر بن الحكم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال له أين تريد؟ فقال له: إنه يريد الشام، فقال: لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم، أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به فأوثقه، ثم قدمه فضرب عنقه، مخالفاً بذلك كل الأعراف والقوانين؛ لأن الرسل لا تقتل، فلما بلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم اشتد ذلك عليه، وزاد الأمر عندما قامت مجموعة من العرب المتنصرة بقتل بعثة سنية دخلت أرض الشام تدعو العرب إلى الإسلام، فقتلوا جميع أفراد البعثة غدراً وعدواناً، وكان عددهم أربعة عشر رجلاً، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابد من تأديب هؤلاء الغادرين ليعلموا أن لهذا الدين رجالاً يذودون عنه وعن أعراضهم، فاستنفر القائد الأعلى صلوات ربي وسلامه عليه ثلاثة آلاف من خيرة أصحابه، وعين ثلاثة يتولون قيادة الجيش بالترتيب، وهم: زيد بن حارثة ثم جعفر ثم عبد الله بن رواحة ، فخرج الجيش لتأديب أعداء الله، وليعلم أولئك المعتدون أن للإسلام رجالاً يدافعون عن دينهم وأعراضهم.

ودع المسلمون جيشهم وهم يدعون لهم قائلين: دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين، خرج الجيش بسرية وكتمان، ولكن الطابور الخامس من اليهود والمنافقين أرسلوا الأخبار إلى إخوانهم في الكفر والنفاق بخروج جيش المسلمين، فحشدوا مائة ألف من مرتزقة العرب المتنصرة، ومائة ألف من الرومان.

لك أن تتخيل ثلاثة آلاف من الرجال يواجهون مائتي ألف من الكفار.

إن اشتباك ثلاثة آلاف في معركة حاسمة مع مائتي ألف يمثل أعظم مخاطرة ومغامرة في تاريخ الحروب.

فتشاور الرجال قبل لقاء العدو، وكان القرار هو مواجهة الأعداء مهما كانت النتائج، فكلا الأمرين: النصر أو الشهادة يمثل فوزاً للمسلم المجاهد في سبيل الله، أما التراجع دون لقاء العدو فليس من شيم الأبطال، أو الرجال، ولا مجال للتراجع عند طلاب الجنان، ولسان حالهم:

سأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياة تسر الصديق

وإما ممات يغيظ العدا

قال عبد الله بن رواحة مشجعاً الناس وداعياً إلى عدم التردد في القتال: يا قوم! إن الذي تكرهون هو الذي من أجله خرجتم، إما النصر وإما الشهادة، ونحن لا نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، لا نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أعزنا وأكرمنا الله به، والله! لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد فرس واحد، فانطلقوا بنا فإنما هي إحدى الحسنين، إما ظفر عليهم فذلك الذي وعدنا نبينا وليس لوعده خلف، وإما الشهادة فلنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان. فأثرت تلك الكلمات البليغة في نفوس الجيش، واشتاقت القلوب والأرواح لجنة الرحمن، وانطلقوا وهم يرددون:

أرواحنا يارب فوق أكفنا

نرجو ثوابك مغنماً وجوارا

وعلى أرض مؤتة في بلاد الشام التقى الجيشان، فريق مسلم لا يتجاوز الثلاثة آلاف وفريق كافر تعداده أكثر من مائتي ألف من الكفار.

وضع قادة الجيش في حسابهم أن الجيش الروماني قد يلجأ إلى أسلوب التطويق فعددهم يسمح بذلك، فحينها إما أن يباد الجيش عن بكرة أبيه وإما أن يجبروا على الاستسلام.

في حساب المقاييس الحربية العادية ليس من الصعب على مائتي ألف مقاتل مجهزين أحسن تجهيز، ومسلحين بأحسن سلاح أن يقوموا بتطويق ثلاثة آلاف وإبادتهم عن آخرهم، ولن يستغرق ذلك إلا ساعات معدودات.

تأمل -رعاك الله- عدد وعدة الجيش الكافر فمعهم خمسون ألف فارس، يتبعهم مائة وخمسون ألف مقاتل من المشاة، يتسربلون بأحسن الدروع، ويلبسون أحسن الخوذات، فمن أجل ذلك ومراعاة لكل الاعتبارات انحاز زيد رضي الله عنه بجيشه الصغير إلى قرية يقال لها: مؤتة، وعسكر فيها ليجنب جيشه الصغير خطر التطويق والإبادة، فتحصن المسلمون في قرية مؤتة، وقام زيد بتعبئة الجيش وتقسيمه.

وأخذت جيوش الرومان والعرب المتنصرة تتدفق على مؤتة في زهو وخيلاء وغرور كأنها أمواج بحر متلاطم، وجيش المسلمين الصغير المرابط في مؤتة كأنه جزيرة صغيرة مهددة بالغرق، وكانت الحالة بالنسبة للمسلمين حالة مخيفة مفزعة تثير الخوف والرعب، وتزيغ منها العقول والأبصار.

ومن أبو هريرة رضي الله عنه ممن حضر معركة مؤتة، فعبر عن هذه الحقيقة المفزعة وهذا الموقف الحرج بقوله: فرأى المسلمون المشركين ومعهم ما لا قبل لهم به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، وقد شهدت ذلك فبرق بصري، وخشع سمعي، فقال ثابت بن أرقم : يا أبا هريرة ! مالك كأنك ترى جموعاً كثيرة؟ قلت: نعم، ما رأيت مثل هذه الجموع من قبل، قال ثابت : لم تشهدنا يوم بدر، إننا لم ننصر من كثرة.

ولا لوم على أبي هريرة لأنه بشر، ولقد كان على كل جندي مسلم أن يقاتل في مؤتة سبعين من جنود الجيش الروماني، فما بالكم برجل مقابل سبعين؟

أسألك بالله العظيم! أما كان بوسعهم الرجوع دونما قتال بعدما علموا بجموع الرومان؟

نعم، لكن طلاب الجنان لا يتراجعون فإما نصر وإما شهادة، لقد أقدم الجيش الإسلامي الصغير في مؤتة على أكبر مغامرة حربية عرفها التاريخ دونما جدال.

ففي القوانين والأعراف العسكرية بين الأمم الأخرى يعتبر ما أقدم عليه قادة جيش المسلمين في ذلك اليوم ضرباً من الانتحار، وتعاقب عليه القوانين العسكرية، أما عند طلاب الجنان فالحال يختلف، فالموت في سبيل الله غاية ما يتمنى المسلم الصادق، فقد اشترى الله منهم الأنفس والأموال، وقد باعوها على أن يكون الثمن الجنة، فبهذه الروح ومن هذا المنطلق ثبت المسلمون بجيشهم الصغير، إنها مغامرة عظيمة لم يشهد التاريخ مثلها!

لقد كانت نتيجة المعركة مضمونة للرومان، وهي: النصر الساحق بإبادة الجيش المسلم إبادة كاملة، وذلك حسب المقاييس والمفاهيم العسكرية العادية، لكن الإيمان صنع عجباً عجاباً! فتدفقت كتائب الرومان بحديدها وفرسانها كأمواج البحر الهادر، فصمد أمامها المسلمون وعددهم لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وأكثرهم بلا دروع!

إن الإيمان وصحة العقيدة والاستبسال في سبيل الله يعكس المفاهيم، ويقلب المقاييس، ويكسر القيود والأغلال، وكثرة العدد، ووفرة السلاح، والتكنولوجيا العسكرية ليست هي التي تصنع النصر المؤزر والساحق، وإن عدم توافر كل ذلك ليس هو الذي يصنع الهزائم.

اسمع رعاك الله! إن الذي يصنع النصر حقيقة ويصنع الصمود الذي يحول دون الهزائم الماحقة هو الإيمان والثقة بالله جل في علاه، والاعتماد على الله، وتشرب القلوب عقيدة القرآن المشرقة لا عقيدة ماركس ولينين المظلمة.

استمرت المعركة سبعة أيام وكانوا يتوقعون أنها ستستمر ساعات، ولم يتوقع الرومان أن المعركة ستكون على هذا المستوى من الصمود والثبات والشراسة والضراوة!

ثبت المسلمون على مشارف مؤتة، بل قاموا بهجوم معاكس أتوا فيه بالعجائب، وصرعوا عدة مئات من أفراد الجيش الروماني وأتباعه، بعد أن صعقوهم بالهجمات، وأثخنوا فيهم الجراح، بل بدأت جموع الرومان مع كثرتها تركن إلى الفرار والهروب من أرض المعركة لهول ما رأوا من القلة المسلمة، وحاولوا اقتحام مواقع المسلمين لتطويقهم فما استطاعوا!

إن أي عاقل وأي منصف سيدرك ذلك المستوى الرفيع من الشجاعة والبطولة والتضحية والفداء والإيمان العميق الذي كان عليه المسلمون، خاصة عندما يعلم أنهم ثلاثة آلاف محارب، وقد استمروا يخوضون المعركة بصبر وشجاعة وضراوة خلال سبعة أيام ضد جيش قوامه مائتا ألف مقاتل، دون أن يتمكن ذلك الجيش من تسجيل أي نصر يذكر على المسلمين في أرض المعركة!

ثبت زيد القائد العام، ثم استشهد بعد ستة أيام من القتال، بعد أن مزقته رماح الرومان وهو مقبل كالأسد الهصور، ثم استلم جعفر الراية فصار يقاتل وهو على فرس له شقراء، والمسلمون خلفه يقاتلون بضراوة واستماتة لا مثيل لها! ممتثلين قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46]، وكانوا يقاتلون وهم يرددون قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4].

اقتحم جعفر صفوف الرومان، ولكثرة الزحام وشدة الالتحام نزل عن فرسه ثم عقرها استعداداً للموت في سبيل الله، وقطعاً لباب الهروب من أرض المعركة، فكان أول من عقر خيله في الإسلام أثناء القتال، وبعد أن ترجل على أرض المعركة، أحاطت به الرومان من كل جهة وهو يقاتلهم قتالاً شديداً، وراية الرسول صلى الله عليه وسلم في يده، وبينما هو كذلك تمكن أحد فرسان الرومان من قطع يده التي يحمل بها اللواء، فحملها باليد الثانية فقطعت، فأظهر القائد الشاب بطولة فذة لا مثيل لها، فبعد أن فقد كلتا يديه، احتضن اللواء بعضديه حفاظاً عليه ليظل مرفوعاً ولا يقع أرضاً، فتنهار لوقوعه معنويات المسلمين، فبقاء اللواء مرفوعاً ساعة القتال له أثر فعال في نفوس المحاربين من حيث الثبات والصمود.

وبعد استبسال جعفر وثباته وصموده الرائع، سقط شهيداً بعد أن تناوشته سيوف الرومان وهو يحتضن اللواء في إصرار وتصميم، فصعدت الروح لتأخذ مكانها بين الصديقين والشهداء.

قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين بعد أن فقد ذراعيه، فأثابه الله جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء. واستمر القتال بضراوة، وسارع عبد الله بن رواحة لقيادة الجيش وحمل اللواء، فوجد في نفسه تردداً لكثرة الحشود الرومانية الهائلة، فعاتب نفسه وخاطبها شعراً:

أقسمت يا نفس لتنزلنه

طائعة أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنه

ما لي أراك تكرهين الجنه

لطالما قد كنت مطمئنه

هل أنت إلا مضغة في شنه

ونزل عن فرسه ولواء النبي صلى الله عليه وسلم بيده، فقاتل مقبلاً غير مدبر حتى قتل، لاحقاً بزميليه اللذين سبقاه إلى الشهادة، لحقهما وهو يردد:

يا نفس إلا تقتلي تموتي

هذا حمام الموت قد لقيتِ

وما تمنيت فقد أعطيت

إن تفعلي فعلهما هديت

لقد عانى الرومان الأهوال من المسلمين، وصنع بهم المسلمون مقتلة عظيمة، وكان من قتلى الرومان القائد العام لقوات العرب المتنصرة، واسمه مالك بن زافلة ، قتله قائد ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري رضي الله عنه وأرضاه.

ظل المسلمون صامدون يقارعون ويقاومون، يضربون أعظم الأمثال في التضحية والثبات، غير أن مصرع القادة الثلاثة، وبقاء الجيش دونما قائد رجح كفة الرومان، وأحدث خللاً واضطراباً في صفوف المسلمين، وأخذ بعضهم ينهزم لاسيما مع سقوط الراية، وبدأت تظهر عليهم علامات الهزيمة، لكن ثابت بن أرقم أحد فرسان الأنصار أنقذ الموقف ورفع اللواء، وصاح: يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجل منكم يحمل اللواء ويقود الجيش، فرشحوه فاعتذر، وقال: ما أنا بفاعل، وبلغ الموقف خطورة لا تحتمل، فقد فقدوا قادة الجيش، وبدت علامات الفوضى والاضطراب تظهر، ولم يكن هناك من تتجه الأنظار إليه لإنقاذ الموقف سوى المحارب الشهير والبطل المغوار خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، الذي لم يمض على دخوله في الإسلام سوى ثلاثة أشهر فقط.

اسمع يا حديث الاستقامة! لم يمض على دخول خالد في الإسلام سوى ثلاثة أشهر فقط، فصاح ثابت بن أرقم بـخالد : خذ اللواء يا أبا سليمان ! خذ اللواء يا أبا سليمان ! فقال خالد : لا آخذه، فصاح ثابت بن أرقم بـخالد : خذ اللواء يا أبا سليمان ! فقال خالد: لا آخذه، أنت أحق به؛ لأنك أقدم إسلاماً وأكبر سناً، والرجال تعرف قدر الرجال، فقال ثابت : خذه يا خالد ! فو الله ما أخذته إلا لك، فأنت أعلم مني بفنون القتال، فأيده كبار الجيش، وطلبوا من خالد تولي القيادة، والنظر في الموقف المتدهور الذي سيؤدي إلى إبادة الجيش إن لم يتدارك الأمر، فحمل الراية خالد وأصبح قائداً عاماً للجيش.

هذه الأحداث في أرض المعركة، فكيف كانت حالة أهل المدينة؟ هذا ما سنعرفه في الخطبة الثانية.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعني وإياكم بهدي المصطفى الأمين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله العزيز القهار، مكور الليل على النهار، ينصر من يشاء ويعز من يشاء، يخلق ما يشاء ويختار، هو القائل جل في علاه: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].

ذكر المؤرخون وأصحاب السير والحديث أن الله تعالى كشف لرسوله المسافة الفاصلة بين المدينة ومكان المعركة، حتى صار ينظر عياناً إلى ما حدث هناك من قتال ضارٍ عنيف.

فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم الخبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، وعيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان، ثم سكت ثم قال: ولقد رفعوا إلى في الجنة) يعني: القادة الثلاثة، ثم قال: (ولقد حمل الراية الآن سيف من سيوف الله، ولقد حمي الوطيس حتى فتح الله عليهم).

اجتمعت المدينة حول نبيها تتابع أخبار المعركة حية على الهواء وحياً، واليوم اجتمع المسلمون حول الشاشات والقنوات لمتابعة المسلسلات والمباريات حية على الهواء، فسبحان الله! فرق شاسع بين الأمس واليوم.

لقد كان اختيار خالد بن الوليد قائداً للجيش في تلك الساعات الحرجة اختياراً موفقاً، فهو فارس شجاع وبطل مغوار، وداهية في القيادة العسكرية هجوماً ودفاعاً، ولقد أثبت خالد في ذلك اليوم تلك البطولات الفذة، حين قاد أول معركة بعد إسلامه.

لقد حمي الوطيس، وبدأت تتطاير الرءوس، وتتقطع الأعضاء والأشلاء، وتسيل الدماء في كل بقعة كالأنهار.

روى البخاري عن خالد رضي الله عنه أنه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية.

عباد الله! إن للقوى البشرية حدوداً، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولقد رأى خالد بخبرته وحنكته أن جيشه الصغير قد أبلى بلاء حسناً، وكبد العدو الخسائر في الأموال والأرواح، ولقنهم درساً لن ينسوه، فكان لابد من خطة لإخراج الجيش من أرض المعركة بأقل الخسائر.

فقام خالد أثناء الليل بتبديل كلي للميمنة والميسرة والقلب، فبدل مواقع الرجال؛ وهدفه من ذلك أن يجعل الرومان يعتقدون أن جيشاً جديداً يشارك في القتال، فرسم هذه الخطة للإيهام والخداع والتضليل، فما كاد يطلع الصباح حتى وجد الرومان أنفسهم أمام جيش جديد ما كانوا يعرفونه منذ ستة أيام من القتال، فظنوا أن مدداً كبيراً قد جاء للمسلمين أثناء الليل؛ فدب الخوف في قلوبهم، وبينما هم في دهشتهم إذا بغبار يسد الأفق من خلف ظهر الجيش المسلم، وما هي إلا لحظات وجيزة حتى دوت وارتفعت في أرض مؤتة أصوات التهليل والتكبير، ثم انشق الغبار عن كتائب من الفرسان تتبع إحداها الأخرى في ترتيب وإحكام راكضة نحو المسلمين، وحوافر خيلها وأصوات فرسانها تصم آذان الرومان بالتهليل والتكبير، ولإدخال مزيد من الرعب في قلوب الرومان اهتز معسكر المسلمين المواجه للرومان في أرض المعركة بالتكبير والتهليل، الله أكبر، لا إله إلا الله، أي قوة تقف أمام التكبير والتهليل؟! وكل ذلك تم بتخطيط محكم من القائد المظفر خالد رضي الله عنه.

أيقن الرومان أن كل ما رأوه من تغيير كامل في الميمنة والميسرة والقلب، وتدفق تلك الكتائب التي أقبلت من خلف الجيش، إنما هو مدد كبير جاء من المدينة لمساندة المسلمين؛ ليستمروا في خوض المعركة حتى النصر؛ فدب الرعب في نفوسهم، وساد فيهم الهرج والمرج، ولسان حالهم: إذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا الأفاعيل، وظلوا يقاتلون مائتي ألف منذ ستة أيام، فماذا عسى أن يصنعوا بهم بعد وصول هذا المدد الكبير؟!

وأدرك خالد بحاسة القائد الماهر المحنك ما أصاب الرومان وحلفائهم من خوف ورعب نتيجة الخطة البارعة، فاغتنمها فرصة فأمر جيشه بالهجوم، فكبر معهم خالد وكبروا واكتسحوا الرومان بهجوم صاعق كاسح، فمالت أسياف المسلمين على الرقاب، ومالت صفوفهم على خطوط الرومان الأمامية، فتملك الرعب الرومان واضطربت صفوفهم، فركبهم المسلمون وأحدثوا فيهم مقتلة عظيمة، وصفها المؤرخون بأنها مذبحة بكل المعاني.

قال ابن سعد في طبقاته وهو يروي قصة انتصار خالد على الرومان بعد توليه القيادة: ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة ثالث القادة، وطاعن حتى قتل، ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ، ثم حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة رأيتها قط، حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا، واستمر خالد وجيشه يطاردون الرومان في أرض المعركة حتى أثخنوهم جراحاً.

ثم اغتنم خالد فرصة ارتباك الجيوش الرومانية واضطرابها، فأصدر أوامره إلى قادة الفرق والكتائب في جيشه بالارتداد بالجيش جنوباً كما هو متفق عليه حينما وضعوا خطة الانسحاب ليلاً، فأخذ الجيش الصغير يغادر ميدان المعركة بكل هدوء وثقة وانضباط، وأشرف خالد على عملية الانسحاب، فكان يجول بفرسه بين الكتائب ليظل النظام سائداً أثناء الانسحاب، ولتظل روح الجند والقادة ومعنوياتهم عالية فلا يدركهم خوف واضطراب، فتمت عملية الانسحاب كما أراد القائد البطل على أدق نظام ودونما أي خسارة، وأصبح الجيش الروماني شبه مشلول يسوده الذهول؛ لما لقيه على أيدي المسلمين من هجوم كاسح قام به خالد ومن معه بعد نجاح الحيلة العسكرية وخدعته الحربية الباهرة، وأصدر قادة الرومان أوامرهم إلى كافة الكتائب بألا يتعقبوا أحداً من المسلمين بعد انسحابهم؛ لأنهم ظنوا أن الانسحاب إنما هو مكيدة حربية لإيقاع الجيش الروماني في كمائن العرب إذا ما تتبع الجيش المنسحب، وهم يعرفون أنه لا أحد يجيد الكر والفر والكمائن ويحكمها مثل العرب، فخافوا من تتبع المسلمين.

والمسلمون رغم قلة عددهم أنزلوا بالرومان خسارة كبيرة، وحملوهم ذلاً وعاراً، ولسان حال الرومان: هذا قبل وصول المدد، فكيف وقد وصلهم مدد؟!

وصل خالد بجيشه إلى المدينة دون أن يتعرض لأي خطر في الطريق، فكيف استقبلت المدينة الجيش وقد وصلت إليهم الأخبار أن المسلمين قد فروا وانهزموا من أرض المعركة؟

استاء أهل المدينة لذلك، فما كاد خالد يصل بجيشه إلى ضواحي المدينة حتى قابلتهم مظاهرة كبيرة تندد بالجيش، وكان المتظاهرون يصيحون بالجيش: يا فرار! يا فرار! فررتم من الموت في سبيل الله؟! ويحثون في وجوه الجند والقادة التراب.

وأما النساء فلم يفتحن لأزواجهن الأبواب، وأغلقن الأبواب دونهم قائلات لهم: أما كان لكم أن تموتوا مع أصحابكم؟!

أما الأطفال فقد استقبلوا خالداً ومن معه في أزقة المدينة بالحجارة والتراب قائلين لهم: يا فرار! يا فرار! ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم بالأخبار الصحيحة مقدار التضحيات والبطولات التي قام بها الجيش المسلم، فقام مدافعاً عن الجيش وأفراده قائلاً: (ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله).

فأنقذ خالد جيشه من فناء محقق بخطة عسكرية بارعة، وألحق بالرومان أبشع هزيمة، وألحق بهم شر مقتلة وهزيمة، وحملهم الخزي والعار.

هذه أخبارهم فما هي أخبارنا؟! هذه تضحياتهم فأين تضحياتنا؟! هذه بطولاتهم فأين بطولاتنا؟! هذه أخبار شيبهم وشبابهم فما هي أخبار شبابنا وشيبنا؟! هذه أخبار نسائهم فما هي أخبار نسائنا؟! هذه أخبار أطفالهم فما هي أخبار أطفالنا؟! ما الفرق بين الأمس واليوم؟ اسمعه بارك الله فيك!

بالأمس كان صغارنا يستقبلون خالداً ومن معه في أزقة المدينة بالحجارة، كانوا يقولون لـخالد ومن معه: إلى أين يا فرار؟ واليوم صغارنا يستقبلون غانية ومطرباً بيده قيتار، ولاعباً في صالة المطار بالورود والأزهار!

ملكنا هذه الدنيا قروناً

وأخضعها جدود خالدونا

وسطرنا صحائف من ضياء

فما نسي الزمان ولا نسينا

بنينا حقبة في الأرض ملكاً

يدعمه شباب طامحونا

شباب ذللوا سبل المعالي

وما عرفوا سوى الإسلام دينا

تعهدهم فأنبتهم نباتاً

كريماً طاب في الدنيا غصونا

إذا شهدوا الوغى كانوا كماة

يدكون المعاقل والحصونا

وإن جن المساء فلا تراهم

من الإشفاق إلا ساجدينا

شباب لم تحطمه الليالي

ولم يسلم إلى الخصم العرينا

ولم تشهدهم الأقداح يوماً

وقد ملئت نواديهم مجونا

وما عرفوا الأغاني مائعات

ولكن العلا صيغت لحونا

ترى هل يرجع الماضي؟ فإني

أذوب لذلك الماضي حنينا

لقد استطاعوا أن يسطروا تلك البطولات، وأن يصنعوا تلك الانتصارات؛ لما حققوا الإيمان والتقوى والإحسان، فلما ضعف ذلك في حياتنا ذهبت الأمجاد والانتصارات، وإنما ضعف الإيمان بسبب كثرة الذنوب والمعاصي والآثام.

ماذا صنعت بنا وبشبابنا وبفتياتنا الشاشات والقنوات؟ كم أفسدت! كم دمرت! لا حياة لمن تنادي.

أردت في بداية العام أن أذكر الأحفاد بما صنع الأجداد، أردت أن أذكر الرجال بما صنع الأبطال.

أقول وأردد بأعلى الصوت: إن كانوا قد استطاعوا، فنحن أيضاً نستطيع، فالمنبع واحد والمصدر واحد، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.

وهذه دعوتنا نصرخ بها مرة ثانية وثالثة، وقد رفعناها منذ أيام: فلنطهر بيوتنا من الشاشات والقنوات، لماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! فمن الشجاع الذي سينتصر اليوم لربه ولدينه؟

من الذي سيغير المنكر انتصاراً لأمته ولعقيدته؟

من الذي سينطلق الآن ويستجيب لنداء الإيمان الذي حطمته الأطباق والقنوات؟

من الذي سيرقى اليوم على سطح البيت ويزيل ذلك الطبق، ويأتي به في ساحة المسجد، ويكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر؟

لقد استجاب نفر وانتصروا لدينهم، وتلك أطباقهم في صرح المسجد، أسأل الله لهم الثبات، وليبشروا بالخير، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً مما ترك.

هذا عام قد انتهى وهذا عام جديد، فلنطو الماضي بكل ما فيه، ولنفتح صفحة جديدة شعارها: لا إله إلا الله، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، ونحن في انتظار الأبطال الذين سيغيرون المنكر في بيوتهم، ويأتون بالأطباق فيكونون قدوة للآخرين، ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.

اللهم! إنا نسألك مع نهاية عام وبداية عام أن تعيدنا إليك عوداً حميداً جميلاً يارب العالمين.

اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسمين، ودمر الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين.

اللهم! طهر بلادنا وبلاد المسلمين من الكفر والشرك والبدع والخرافات والضلالات.

اللهم! آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم! أصلح ولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين، اللهم! هيئ لهم بطانة صالحة تعينهم على الخير إذا فعلوه، وتذكرهم به إذا نسوه.

يا حي يا قيوم! يا بديع السموات والأرضين! اللهم! طهر بيوتنا من الفواحش والمنكرات، ومن الأغاني الماجنات، واحفظ شبابنا وشيبنا، وعف نساءنا وأطفالنا يا رب العالمين.

اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا حي يا قيوم.

اللهم! انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين، اللهم! من انتصر على نفسه وأزال الدش من بيته فأبدله بذلك خيراً يا حي يا قيوم، اللهم! من انتصر لأجلك ولأجل دينك فانصره في الدنيا والآخرة يا رب العالمين، وأبدله خيراً مما ترك يا حي يا قيوم.

اللهم! أصلح شيبنا وشبابنا، واحفظ نساءنا وأطفالنا يا رب العالمين.

اللهم! من أقام هذا المسجد فاجزه خير الجزاء يا رب العالمين، اللهم! بارك لهم في أموالهم، وبارك لهم في أزواجهم، وبارك لهم في ذرياتهم، وارحم موتانا وموتاهم يا حي يا قيوم.

عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3543 استماع
بر الوالدين 3428 استماع
أحوال العابدات 3413 استماع
يأجوج ومأجوج 3350 استماع
البداية والنهاية 3336 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3271 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3255 استماع
أين دارك غداً 3205 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3099 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3097 استماع