وصايا جبريل عليه السلام


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله!

روى الحاكم في مستدركه من حديث سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).

فهذه خمس وصايا أوصى بها أمينُ الوحي في السماء أمينَ الوحي في الأرض، وكل وصية من هذه الوصايا تحتاج إلى وقفة تفكّر وتأمل، فجبريل يذكر محمداً صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلوات ربي وسلامه عليه يقوم بتذكير الأمة، والذكرى تنفع المؤمنين، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:21-26].

فهذه خمس وصايا:

الوصية الأولى: (يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت)، وهذا مصداق قول الحق تبارك وتعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، ومصداق قول الحق تبارك وتعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فالكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

والموت فاذكره وما وراءه

فما لأحد عنه براءْه

وإنه للفيصل الذي بهِ

يعرف ما للعبد عند ربهِ

والقبر روضة من الجنانَ

أو حفرة من حفر النيرانِ

لذلك أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة فقال: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) أي: قاطع اللذات الذي يحول بين العبد وبين لذاته وشهواته.

يقول ابن عمر : (كنت عاشر عشرة من الأنصار عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: من أكيس الناس يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أكيس الناس أكثرهم للموت ذكراً، وأشدهم له استعداداً، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وشرف الآخرة)، وليست القضية قضية الموت فقط، لكن ليت شعري كيف ستكون الخواتيم؟ وليت شعري كيف سيختم لكل واحد منا أعلى طاعات أم على مخالفات ومنكرات؟

يقول الله تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فمن عاش على الطاعة مات على طاعة، وبعث على طاعة بإذن الله، ومن شب على حب المعصية، شاب على حب المعصية، ومات عليها والعياذ بالله.

فقضية ذكر الموت هي القضية التي تحيي القلوب، فما قست قلوب الناس اليوم، ولا غفل الناس إلا لما أغفلوا ذكر الموت وما وراءه.

وما قست القلوب، وابتعدت عن ذكر علام الغيوب، وتهاونت في الطاعات، وتجرأت على المحرمات إلا لما غفلت عن ذكر الموت.

وقد كان ذكر الموت هو مدار حديث الصالحين بالليل والنهار؛ لأنه الحقيقة التي لا بد منها، وهو الغائب الذي يوشك أن يطرق الباب بلا استئذان ولا مقدمات، فلا يعرف وزيراً، ولا يعرف ملكاً ولا أميراً، والكل عند الموت سواسية، فقد تفعل كل الأشياء باختيارك إلا الموت فلن يكون لك فيه خيار، فلا بد أن تموت؛ لأن الله قال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فكل نفس ستموت إلا ذو العزة والجبروت.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل أنت مستعد للموت وما وراءه أم أنك ممن سينادي بأعلى صوته: رباه! ارجعون؟ فتريد أن تستدرك ولو لحظات مما فاتك، وتتمنى أنك كنت تصلي الفجر في جماعة، وتتمنى أنك كنت من الصائمين، وتتمنى أنك كنت من المتصدقين، وتتمنى أنك حفظت الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون، فالعمر واحد، والفرصة واحدة، ولقد أجمع أهل العلم على أن الموت ليس له وقت معين، ولا سبب معين، ولا مكان معين، بل يأتيكم بغتة وأنتم لا تشعرون.

إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب

نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها

وحبل الردى مما نؤمل أقرب

ونبني القصور المشمخرات في الهوا

وفي علمنا أنا نموت وتخرب

فانظر -بارك الله فيك- فما من بيت إلا ودخله ملك الموت، فأخذ حبيباً أو قريباً وتخطانا إليهم، وسيأتي اليوم الذي يتخطاهم إلينا، وقد كان السلف رحمهم الله إذا ساروا في الجنائز ترى منهم العجب العجاب، يقول ثابت البناني : كنا إذا سرنا في الجنازة فلا ترى فينا إلا متقنعاً باكياً، وكنا لا ندري من نعزي لكثرة الباكين.

وأما اليوم فضحك واستهزاء وتمثيل لمشاهد ومسلسلات عند المقابر، فالكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت، وعش العمر الذي تريده لكن اعلم أنه سينقضي عمرك طال الزمان أم قصر، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]، فهذه الوصية الأولى: (عش ما شئت فإنك ميت).

الوصية الثانية: (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، وكل وصية من هذه الوصايا مرتبطة بالتي قبلها، يقول الله جل في علاه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:14-17].

فـ(أحبب من شئت فإنك مفارقه)، فيا من تحب الزوجة! وطِّن نفسك على الفراق، ويا من تحب الصبية الصغار! وطِّن نفسك على الفراق، ويا من تحب الأصحاب والأحباب! وطِّن نفسك واستعد للفراق والانتقال من دار إلى دار.

واعلم -بارك الله فيك- أن بعض المحبَّات قد تنقلب إلى عداوات يوم القيامة، فاعرف من تحب -بارك الله فيك-، وما أجمل المحبة في الله! وما أجمل العطاء في الله! وما أجمل البذل في الله! وما أجمل الاجتماع في الله - تبارك وتعالى-! (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، فبعض المحبات قد تنقلب إلى عداوات: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:27-29].

وقوله: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، فاعرف من تحب.

يمر أقاربي جنبات قبري

كأن أقاربي لا يعرفوني

وذو الميراث يقتسمون مالي

ولا يألون إن جحدوا ديوني

وقد أخذوا سهامهم وعاشوا

فيا الله! ما اسرع ما نسوني

احتضر أحد الصالحين فاجتمع أولاده من حوله، فاجتمعت الزوجة والأبناء والبنات، فقال للزوجة: ما يبكيك؟ قالت: أبكي ترملي من بعدك، وقال للأولاد: وأنتم ما يبكيكم؟ فقالوا: نبكي يتمنا من بعدك، فقال: تباً لكم! كلكم يبكي على دنياي، أما منكم من يبكي على آخرتي؟ أما منكم من يبكي عليّ إذا وُسَّدتُ التراب، وفارقني الأهل والأحباب؟! فاعرف من تحب بارك الله فيك، وهنيئاً لمن أحب القرآن، هنيئاً لمن أحب صيام الهواجر، هنيئاً لمن أحب الدعوة إلى الله، هنيئاً لمن أحب الإخوان في الله ومن أجل الله تبارك وتعالى.

بكى معاذ في ساعات احتضاره، وناجى ربه في تلك اللحظات، ثم قال: اللهم! إنك تعلم أني كنت أخافك، وأنا الآن أرجوك، اللهم! إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لطول البقاء، ولا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لصيام الهواجر، وقيام الليل، ومجالسة العلماء.

فهم يحبون الدنيا من أجل هذا، فلأي شيء نحب الدنيا؟ ولماذا نحب البقاء؟

فـ(عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه)، فلا بد من الفراق، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:29-30].

الوصية الثالثة: (واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به)، فيا من تعمل الصالحات أبشر! فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، ويا من تعمل السيئات لا تغتر بإمهال الله لك، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:31-32].

وقوله: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30] .

وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] ، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

وروى صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم يوم القيامة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

إن أعمارنا صفحات نطويها يوماً بعد يوم، فنفتح صفحة الليل ثم نطويها، ونفتح صفحة النهار ثم نطويها، ثم نسطر فيها أعمالنا من خير أو شر، وكل ذلك يكتب، ثم تأتي آخر الصفحات ليختم للعبد على ما عاش عليه، والليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود ووعيد، فهذا الكتاب أنت الذي كتبته، وسيخرج يوم القيامة حتى تقرأه أنت بنفسك، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:13-15]، فماذا يسرك أن ترى في ذلك الكتاب؟ وماذا تحب أن ترى في ذلك الكتاب الذي كتبته أنت؟ أتحب أن ترى فيه أغاني ومسلسلات، ورقص وغناء، وربا وزنا، وفواحش ومنكرات؟ أم تريد أن ترى فيه ما يبيضّ به وجهك في ذلك اليوم العظيم، فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن الله قد أحصى كل شيء عدداً، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، فلا تمنِّ نفسك بالرحمة إلا إذا أخذت بأسبابها، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ * فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:35-45].

قوله: (واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل)، فيا الله ما أجمل تلك الساعات! وما أجمل تلك اللحظات عندما يخلو أولئك الصادقون مع رب الأرض والسموات في مدرسة الصدق والإخلاص! وفي مدرسة المجاهدة والتربية في ظلام الليل حيث لا يراهم إلا الله تبارك وتعالى، وقد أثنى عليهم ربهم حين تركوا الفرش والنساء واللذات من أجل الوقوف بين يدي حبيبهم تبارك وتعالى، فقال عنهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، فلما أخفوا عبادتهم وقيامهم عن الناس أخفى الله ما أعد لهم من عظيم الأجر حين يلقونه تبارك وتعالى، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:17-18]، أفمن صلى وقام كمن رقد ونام؟ أبداً لا يستوون. (واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل)، وتأمل بارك الله فيك الفرق بين الشرف في الحديث وبين الشرف اليوم، فاليوم انقلبت الموازين، وسميت الأشياء بغير أسمائها، فأصبحنا نسمع عن غناء شريف، وعن رقص شريف، وعن فن شريف، وعن فواحش شريفة، فغيروا الأسماء، وغيروا المسميات، فيا الله! فهذه أشراط الساعة قد ظهرت فينا كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم أياماً خداعات: يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وتتكلم فيها الرويبظة، وتسمى الأشياء بغير مسمياتها)، بل إنّ كثيراً من الناس يرى أن الشرف في الحسب والنسب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه)، والله يقول: فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، ويقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، اللهم! اجعلنا منهم ومعهم.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم! صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد:

أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله! ومن تقواه العمل بهذه الوصايا العظيمة التي أوصى بها جبريلُ -عليه من ربي السلام- نبينا صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل).

فهاهو رمضان قد أقبل، وهو شهر الصيام، وشهر القيام، وشهر العطايا، وشهر البذل، فإن كنا حقيقة نحب رمضان فلنستعد له قبل دخوله، والاستعداد لرمضان قبل دخوله ليس بالطعام والشراب كما يصنع كثير من الناس، ولكن وطِّن نفسك من الآن على قراءة القرآن، وقيام الليل، فمن هديه صلى الله عليه وسلم في شعبان أنه كان يكثر من الصيام؛ استعداداً لاستقبال رمضان، قالت أم المؤمنين: (ما رأيته يتم صيام شهر غير رمضان كشعبان)، وهذا لكثرة ما كان يصوم في شعبان، والناس غافلون عن هذا الشهر العظيم، وما فيه من الأجر الكريم، وأن أعمال العباد تعرض على الله في هذا الشهر، فاتقوا الله عباد الله! واستعدوا للقاء رمضان قبل أن يدخل رمضان، أما ترون أننا قُبيل رمضان دائماً نمني أنفسنا بصيام وقيام وخَتمات للقرآن، فإذا دخل الشهر فشلت هذه المخططات، والسبب: أننا نريد أن نلزم أنفسنا بأشياء لم نتعودها قبل رمضان، فأين نحن من أولئك الذين كانوا يصومون على مدار العام، وأين نحن من أولئك الذين كانوا لا يتخلفون عن القيام، فاستعدوا للقاء رمضان قبل دخوله.

ومما يجب التنبيه عليه: أنّ من كان عليه أيام من رمضان الماضي فالبدار البدار، والمسارعة المسارعة إلى قضاء هذه الأيام قبل أن يحل عليه رمضان، فإن تكاسل وتهاون فإنه يجب عليه القضاء بعد رمضان مع الإطعام، ويكون آثماً على التأخير بدون سبب، فسارعوا إلى قضاء ما فات.

والوصية الأخيرة من وصايا جبريل عليه السلام وصية عظيمة نحتاجها اليوم، قال فيها: (واعلم أن عز المؤمن استغناؤه عن الناس)، ومعنى هذا أن يتعلق العبد بالله، كما جاء في حديث ابن عباس : (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، فلا يقِّدم للمخلوق سؤالاً، ولا يتقرب إلى المخلوق؛ فقد عزه استغناؤه عن الغير، فلا يحتاج إلا إلى الله تبارك وتعالى، فتراه يأكل ويشرب من كده وتعبه وعرقه، واعلم أن سؤال الناس مذلة، وليس بعيب أن نعمل، لكن العيب كل العيب أن نكون عالة على الآخرين، فقد عمل الأنبياء، وما من نبي إلا ورعى الغنم، وعمل موسى عليه السلام حتى يعف نفسه، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم لأهل مكة؛ حتى لا يحتاج إلى الآخرين، وهكذا كان العلماء الربانيون يتكسبون كي يعفوا أنفسهم، وكانوا لا يأخذون أعطيات ولا مداهنات الأمراء والوزراء؛ حتى تكون الكلمة قوية، وحتى يستطيعوا أن يصدعوا بالحق، فالاستغناء عن الغير عزّ.

وقد دخل أحد الأمراء على عالم من العلماء وهو بين طلابه، مادّاً رجليه متبسطاً بين طلابه، فظن أنه بأُعطيته قد يستطيع أن يستحوذ على ذلك العالم، فلما جاء لم يقم له العالم للسلام عليه، بل سلم عليه وهو جالس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وهدي محمد أولى بالاتباع من مداهنة المخلوقين، فظن ذلك الأمير أنه يستطيع أن يستحوذ على ذلك العالم بعطيته أو بماله، فأرسل إليه من يعطيه آلافاً مؤلفة من الدنانير، فقال العالم: ردها إليه، وأخبره أن من مدّ رجليه لا يمد يديه.

والتقى أحد الأمراء مع أحد العلماء في بيت الله الحرام، فأراد هذا الأمير أن يتقرب إلى هذا العالم فقال له: هل لك من حاجة نقضيها لك؟ قال: والله! إني لأستحي أن أسألك وأنا في بيته، فتحين هذا الأمير خروج هذا العالم من بيت الله الحرام، فلما التقاه في الخارج قال: والآن ألك حاجة نقضيها؟ فقال العالم: أمن حوائج الدنيا هي أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، قال: ما سألت الذي يملكها أأسألك أنت؟!!

(واعلم أن عز المؤمن استغناؤه عن الغير)، ولن يكون ذلك إلا إذا تعلق بالله، وعرف كيف يطرق أبواب السماء، وعرف كيف يفتح أبواب السماء بالدعاء والسؤال والذل والمسكنة لرب الأرض والسماوات، وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18].

يقول جبريل: (عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزُّه استغناؤه عن الغير).

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا! من الراشدين.

اللهم إنا نعوذ من التوكل إلا عليك، ومن الوقوف إلا ببابك، ومن السؤال إلا منك يا رب العالمين!

اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد سواك طرفة عين، يا رب الأرض والسموات!!

اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، وارزقنا صيامه وقيامه إيماناً واحتساباً يا رب العالمين!

ولا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا علي يا عظيم! وآمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين!

وانصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وقوِّ عزائمهم، واربط على قلوبهم، وثبت الأقدام، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين! وكُن لهم عوناً وظهيراً، ومؤيداً ونصيراً.

اللهم اكبت عدوك وعدوهم فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز!

اللهم عليك بالنصارى ومن ناصرهم، وبالشيوعيين ومن شايعهم، وباليهود ومن هاودهم، اللهم عليك بأعداء الملة والدين، فإنهم لا يخفون عليك، ولا يعجزونك يا عليم يا خبير! يا قوي يا عزيز! واجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، وانصرنا -يا قوي يا عزيز!- على القوم الكافرين.

عباد الله!

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].