أرشيف المقالات

[134] المسكرات والمخدرات - خطب مختارة

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
الخطبة الأولى
عباد الله ، لقد كرّم الله الإنسان بالعقل، وجعله مناطَ التكليف، وأحاطه بالخطاب والتنبيه في القرآن والحديث الشريف.
بالعقل تَميّزَ الإنسان وتكرّم، وترقّى في شأنه وتعلّم، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].
جعله الشارع الحكيم ضرورةً كبرى، وشرع لصيانتِه الحقَّ والحدّ، بالعقل يُميّزُ الإنسان بين الخير والشرّ والنفع والضُرّ، وبه يتبيّنُ أوامرَ الشرع؛ ويعرفُ الخطابَ ويردُّ الجواب؛ ويسعى في مصالحه الدينيّة والدنيويّة، فإذا أزال الإنسان عقلَه لم يكن بينه وبين البهائم فرق، بل هو أضلّ منها، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44]، بل قد يُنتفع بالحيوان، أما الإنسان فلا يُنتفع به بعد زوال عقله، بل يكون عالةً على غيره، يُخشى شرُّه ولا يُرجى خيره.
ومع كلِّ ذلك فقد أبى بعض التائهين إلاّ الانحطاط إلى درَك الذلّة والانحدارَ إلى المهانة والقِلّة، فأزالوا عقولَهم معارضين بذلك العقل والشرعَ والجِبِلّة؛ وذلك بتعاطي الخمور والمسكرات والمفتّرات والمخدّرات.
إخوة الإسلام، إنّ من أعظم الآفات على المجتمعات اليوم هذه المسكراتِ والمخدّرات، فهي أمّ الخبائث وأمّ الكبائر وأصل الشرور والمصائب، شتَّتِ الأسَر، وهتكتِ الأعراض، وسبّبت السرقات، وجرّأت على القتل، وأودت بأصحابها إلى الانتحار، وأنتجت كلّ بليّةٍ ورذيلة، أجمع على ذمّها العقلاء منذ عهد الجاهليّة، وترفّع عنها النبلاء من قَبْلِ الإسلام، فلمّا جاء الإسلام ذمّها وحرّمها ولعنها ولعن شاربَها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولةَ إليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة: 90، 91].
بيّن الله تعالى مفاسدَ الخمر، وأنها رجسٌ ونَجَس، وأنها توقع العداوةَ والبغضاء، وتصدُّ عن الصلاة وذكر الله، وأنها سببٌ لعدم الفلاح.
والخمر هو كلّ ما خامر العقلَ؛ مهما كان نوعُه وأيًّا كان اسمُه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ خمرٍ حرامٌ» [ صحيح مسلم : 2003]، وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ مسكرٍ حرام، إنّ على الله عزّ وجلّ عهدًا لمن يشربُ المسكرَ أن يسقيَه من طينةِ الخبال))، قالوا: يا رسول الله، وما طينةُ الخبال؟ قال: عرقُ أهل النار أو: عصارة أهل النار» [صحيح مسلم: 2002]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ مسكرٍ حرامٌ، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يُدمنها لم يتُب ؛ لم يشربها في الآخرة» [صحيح مسلم: 2003]، وروى الإمام أحمد بسندٍ صحيح أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مُدمن الخمر إن مات لقِيَ الله كعابدِ وثنٍ» [الترغيب والترهيب: 3/249].
إنّها نصوصُ زجرٍ ووعيد وتخويفٍ وتهديد يقفُ عند حدّها من يعلَم أنه محاسَبٌ غدًا أمامَ الله العظيم.
عبادَ الله، والمخدّراتُ بأنواعها شرٌّ من الخمر، فهي تفسد العقل، وتدمّر الجسد، وتُذهب المالَ، وتقتُل الغيرةَ، فهي تشارك الخمر في الإسكار؛ وتزيد عليها في كثرة الأضرار والآثار المدمرة.
إخوة الإيمان ، نتحدّث عن المسكرات والمخدّرات في وقتٍ ضجّت بالشكوى فيه البيوت ؛ واصطلى بنارها من تعاطاها ومن عاشره، وأحالت حياتَهم جحيمًا لا يُطاق، فوالدٌ يشكي؛ وأمٌّ تبكي؛ وزوجةٌ حيرى؛ وأولادٌ تائهون في ضيعةٍ كبرى، ومن عوفي فليحمدِ الله.
المخدّراتُ تفسد العقلَ وتقطع النسل وتورث الجنون وتجلب الوساوس والهموم وأمراضًا عقليّة وعضويّة مستعصية، وتجعل صاحبَها حيوانًا هائجًا ليس له صاحب، وتُرديه في أَسوَأ المهالك، مع ما تورثه من قلّة الغيرة وزوال الحميّة.
وكثيرًا ما تفكّكتِ أسَرٌ من أَثَرِها، وتفشّتِ الجرائم بسببها، وأعظم آثارها فَقدُ الدين وضياعُ الإيمان، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولا يشرب الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن» [صحيح ابن حبان: 5979]، وقد قال عثمان رضي الله عنه: "إنه ـ والله ـ لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجلٍ إلا يوشكُ أحدُهما أن يذهب بالآخر" رواه النسائي وابن حبان في صحيحه.
عباد الله، لانتشار هذا الوباء أسبابٌ وبواعث، منها ضَعف الإيمان وضَعفُ الوازع الدينيّ بسبب كثرة المعاصي؛ ووسائلُ الإلهاء والتغفيل؛ التي أبعدت الناس عن هدي الله وذكره؛ وهوّنت عليهم ارتكاب أيّ محظور، وأنتجت قلّةَ الخوف من الله ؛ فلا يفكّر أحدهم في عذاب الآخرة ولا عقاب الدنيا، وكذلك من أسباب انتشارها الفراغُ القاتل والبطالة، سيِّما عند الشباب ؛ خاصةً عند مصاحبةِ أصدقاء السوء.
وللأعداء ومخططاتهم دور كبير في انتشارها وذلك للسيطرة والعدوان واستلاب العقول والأموال.
وبعد هذا: أيُّها الإخوة، فإنّ الحديثَ عن تفشي المسكرات والمخدّرات ونِسَبها وآثارها وقصصها ومآسيها لهو حديث مؤلم، ومع ما سنّته البلادُ مشكورة من عقوباتٍ رادعةٍ فلا زال طوفان المخدّراتِ المدمّر تئنُّ منه خفايا البيوت وأروقةُ المحاكم وجدرانُ السجون؛ مما يُنبيك عن غَور الجرح وعمق المأساة.
والسكوت عن هذا الوباء لا يزيد الأمرَ إلا إيلامًا؛ لذا فلا بدّ من الوعي بحقائق الأمور وإدراك حجمِ الخطر، ثم التكاتُف والتآزر بين أفراد المجتمع ومؤسّساته للحدّ من هذا الوباء وصدّه.
ولا بدّ من تنمية الرقابةِ الذاتيّة بالإيمان والخوف من اللهِ في قلوبِ الناس عامّةً والناشئة والشّباب خاصّة، ولن يردع البشرَ شيءٌ كوازع الدِّيانة.
ولا بدّ من تكثيفِ التوعية بأضرار المسكرات والمخدّرات.
وتجب العنايةُ بالشباب وملءُ فراغهم بما ينفعُهم وينفعُ مجتمعَهم.
ويجب الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر فهي مهمة كلِّ مسلمٍ ، ولو ائتمرنا بيننا وتناهينا ونصحنا وتناصحنا لما وجَدَ الشيطانُ وأهلُ السوء سبيلاً إلى ضعيفٍ بيننا.
ولا بدّ أن يتكاتفَ أفراد المجتمع مع الجهاتِ المسؤولة على نبذِ المروّجين والتبليغ عنهم وعدم التهاون معهم.
أما المبتلى بالتعاطي فهو مريضٌ بحاجةٍ ماسّة إلى المساعدة بالتوجيه والعلاج، لا إلى مجرّد الشفقة والسكوت السلبيّ، أو نبذه وتركه في معاناته مع من لا يرحمه.
وهنا لا بدّ من الإشادة بما يبذله رجال الأمن وجهاتُ مكافحة المخدّرات ومستشفيات الأمل ومن يقومون بالتوعيةِ بأضرار التدخين والمخدرات من جهود مشكورةٍ للحدّ منها ومتابعتها والتحذير والتوعية، وننتظر منهم ومن غيرهم المزيد، أعانهم الله وسدّدهم وأنجح مساعيَهم، وعافانا الله وإياكم والمسلمين من كلّ سوءٍ ومكروه.
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ والسنّة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
أمَّا بعد: إخوة الإيمان، تنبيه في الختام: ربما يكون التدخين أحيانا بوّابةً للمخدّرات، والتدخين ضررُه على الدين والبدن والمال بيِّنٌ ظاهر، ولا يجادل فيه إلا مكابر، وأفتى العلماء ُ بتحريمه، ، واتَّفق الأطباء على كثرت أضراره.
وهذه المفتِّراتُ من الدخان والقات مع ما فيها من شرٍّ وضُرّ فهي سببٌ للاجتماع على المفاسد ورُفقاء السوء؛ والنُّفرة من أهل الخير والصلاح والوحشة منهم ومن مجالسهم، وهذا له أثره المعلوم.
فالنصيحة المكرّرة والوصيّة المؤكّدة هي الحرصُ على الأبناء والبنات ومتابعتُهم وملاحظتُهم، وتركُ الثقة العمياء، والقيام عل ذلك بالقرب منهم ومصاحبتِهم وتوجيهِهم وتحذيرِهم مع الرفق بهم والصبر عليهم.
اللهمّ احفظنا وعافنا في أنفسنا وأهلنا، وقنا والمسلمين شرَّ هذه البلايا، ورُدَّ ضالَّ المسلمين إليك ردًّا جميلاً.

شارك الخبر

المرئيات-١