يوم ضيعنا الأمانة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله! تولى عمر رضي الله عنه وأرضاه القضاء في عهد أبي بكر ، حيث استعان بهأبو بكر رضي الله عنه في أول خلافته على تولي القضاء، ومضى عام على تولي عمر هذه المسئولية، ثم جاء يقدم استقالته ويريد أن يعفى من القضاء، فقال له أبو بكر : أمن ثقل المسئولية يا عمر ! أردت أن تتخلى عنها؟

قال: لا، ولكن مضى لي عام وأنا في القضاء لم ترفع لي قضية واحدة، ليس لي حاجة بين قوم مؤمنين عرف كل منهم ما له وما عليه.

فهو مجتمع يثق ببعضه البعض، ومجتمع يسعى أفراده إلى إصلاح ذات بينهم فيما بينهم، مجتمع يعرف الحقوق فيؤديها والشعار: الثقة فيما بينه البين.

ولاحظ الفرق! فانظر في محاكمنا اليوم وقد امتلأت بالشكاوى والقضايا حتى بين الأقارب، فساءت أخلاقنا، وساءت معاملاتنا، ولم يعد المجتمع يثق في بعضه البعض.

ومنذ أيام مضت جاءني أحدهم يشكو حاله، ويطلب الإعانة، ويقول: تراكمت علي الديون أكثر من ثمانين ألفاً، ووالله ليس لي فيها يد لا من قريب ولا من بعيد، وإنما أنا أتحملها عن الآخرين، فأين هم الآخرون حتى يؤدوا الحقوق ويحفظوا الأمانات؟!

قال: وجاءني قريب من أقاربي فقال لي: أنا في أمسّ الحاجة لشراء سيارة، فقد مضى لي في الوظيفة فترة قصيرة، ومضى لي عن الزواج عهد قريب، فأحتاج إلى السيارة حاجة ضرورية، قلت: وماذا تريد مني؟ قال: تقدمت إلى إحدى الشركات طالباً الشراء بالتقسيط فأبوا وقالوا: إن مدة الخدمة التي خدمتها لا تكفي حتى نبيعك السيارة، قلت: وما الحل؟ قالوا: تصرّف، يقول لقريبه: فما وجدت الحل إلا أن تشتريها أنت باسمك وأنا أقوم بالسداد، يقول: فاشتريتها باسمي، وقام بسداد الشهر الأول والثاني، ثم اختفى عن الأنظار، فبحثت عنه في كل مكان ولم أجده، وتراكمت الأقساط المتأخرة حتى ساءت العلاقة بيني وبين تلك الشركة، ثم رفعوا علي دعوة في الحقوق وطالبوني بسداد القيمة كاملة، طالبوني بسداد ثمانين ألف ريال، وبحثت عنه فقالوا لي: لقد سافر إلى بلد بعيد، فكيف يستطيع السفر ويترك قريبه على هذه الحال؟!

فهذه صورة واحدة وإلا فالصور كثيرة ومتعددة، بل قال لي أحدهم: قمت بكفالة من أعرفه تمام المعرفة، وبدأ يتأخر في السداد، والنظام يقول: يؤتى بالكفيل ليقوم بالسداد، ثم يطالب المكفول بسداد حقه، يقول: قمت بسداد ما تأخر عنه مرات ومرات، ثم لما طالبته بحقي قال: إن أباك رجل ميسور وهو يسدد عني، فهذا من أثق به، وأنا وإياه على علاقة طيبة منذ سنوات، يا إخوان! لقد فقدت الثقة فيما بيننا البين.

وجاء رجل يقترض من رجل فقال له: كم تريد؟ وما هي حاجتك؟ قال: حاجتي مبلغ كذا وكذا، قال: متى تستطيع سدادها وخذ الوقت الذي تريده؟ قال: أحتاج إلى ستة أشهر، قال: خذ تسعة أشهر، يقول: الآن مضت سنتان ولم أره من بعدها.

يا أخي! اذهب إليه وقل له: ظروفي لا تسمح، لماذا نهرب من بعضنا البعض؟ ولماذا يخون بعضنا بعضاً؟ لقد أصبحنا لا نثق ببعضنا البعض، وحتى القريب لا يثق في قريبه، فأين هي أخلاق المسلمين؟

إن الذي نعاني منه اليوم حقيقة هو افتقادنا لأخلاق المسلمين في تعاملاتنا، وفي بيعنا وشرائنا، وفي أخذنا وعطائنا، وهناك خلق عظيم لو تخلق به المجتمع لساد الأمن والأمان، وعمت الثقة بين أفراده، إنه خلق الأمانة، وهي ضده الخيانة التي هي من صفات المنافقين.

جاء من حديث أبي هريرة عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث -وذكر منها:- إذا اؤتمن خان)، بل أمرنا الله وحثنا على أداء الأمانات فقال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283] وذم الله بعض أهل الكتاب فقال: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75]، فقد فقدنا الأمانة قبل الثقة فيما بيننا البين.

إن الإيمان كلما قوي في القلوب حفظت الحقوق، وأديت الأمانات، وكلما ضعف في قلوبنا ضيعت الأمانات، وضيعت الحقوق.

وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشترى رجل من رجل عقاراً، فالذي اشترى العقار كان يحفر في عقاره فوجد جرة من ذهب في العقار الذي اشتراه، فذهب بها إلى الرجل الذي اشترى منه العقار وأعطاه الجرة، فقال البائع: أنا بعتك العقار بكل ما فيه، فقال الرجل: وأنا اشتريت العقار ولم أشتر جرة الذهب، فتنازع الرجلان في جرة الذهب وكل يقول: جرة الذهب لك، فاختصما إلى القاضي، فتعجب القاضي من مثل هذه القضية، فقال لهذا: ألك غلام؟ قال: نعم، قال: وأنت، ألك جارية؟ قال: نعم، قال: زوجاهما وأنفقا عليهما).

وهذا يوم أن كان المجتمع يثق ببعضه البعض، ويوم أن كان المجتمع شعاره الصدق والأمانة، وأسألك بالله رويعي غنم في الصحراء ما الذي يدفعه لحفظ أمانته؟ أليس هو استشعار مراقبة الله عز وجل؟! أليس هذا هو الخلق الذي في داخله الذي يدفعه إلى مراقبة الله جل في علاه، فيرتاد بأغنامه أحسن المراعي ولا رقيب عليه إلا الله؟!

واليوم الموظف يتأخر ويتكاسل ويتهاون، ولا يستطيع أي رئيس شركة أو مدير مؤسسة أن يراقب كل موظف في مكتبه، فالأمانة خلق داخلي يدفع الإنسان لأداء الواجب وعدم التفريط فيه.

فهذا رويعي غنم في الصحراء يحفظ أمانته، ويرعاها حق الرعاية، فرآه ابن عمر يرتاد بغنمه أحسن المراعي فقال له امتحاناً: بعنا من هذه الشياه، فقال رويعي الغنم: أنا مؤتمن ولا أستطيع التصرف، فقال له ابن عمر امتحاناً واختباراً: قل للمالك: أكلها الذئب، -والذئاب تعدو على الأغنام كما عدت الذئاب على يوسف عليه السلام كما قال إخوة يوسف، فمن المعقول أن تعدوا الذئاب على الأغنام-، قال: قل للمالك: أكلها الذئب، فقال الأمين: وماذا أقول لله؟ إن كنت سأقول للراعي أكلها الذئب، فماذا سأقول لله حين أفرط في الأمانة؟ ماذا سأقول إذا وقفت بين يدي الله وختم على اللسان وأنطق اليدين والرجلين؟!! الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].

فبكى ابن عمر ، وأرسل إليه من يعتقه، وقال: كلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تعتقك يوم أن تلقاه، قل معي وأنت تسمع مثل هذه الأخبار: أين نحن من هؤلاء؟

وجاء في الحديث: (اقترض رجل من رجل مبلغاً من المال، فقال له صاحب المال: جئني بكفيل، قال المقترض: كفى بالله كفيلاً، قال: رضيت، قال: ائتني بشهيد؟ قال: كفى بالله شهيداً، قال: رضيت.

فاتفقا على يوم لسداد ذلك المبلغ، وكان بينهما بحر، فهذا يقيم على تلك الضفة، وهذا يقيم في الجهة الأخرى، فلما حان وقت السداد خرج الذي له المال وخرج الذي عليه المال، وكل يريد أن يلتقي بصاحبه، فهذا ينتظر وذاك يريد الذهاب، فقدر الله في ذلك اليوم أن الجو كان عاصفاً، والسفن لا تسير في ذلك اليوم، فاحتار هذا وانتظر ذاك، فهذا يريد أن يؤدي الأمانة، فلما رأى أن الوقت قد تأخر وليس له حيلة في ركوب البحر رأى خشبة على شاطئ البحر فأخذها الذي عليه الدين ونقرها، وكتب رسالة ووضعها مع المال في تلك النقرة: لقد انتظرت حتى أجد سفينة أركب فيها إليك فلم أجد، هذا هو المال وهذه رسالتي، فطلبت مني كفيلاً فقلت لك: الله الكفيل، وطلبت مني شهيداً، فقلت: الشهيد الله، فالله يؤدي عني، وقذف الخشبة على أمواج البحر تتقاذفها الأمواج يمنة ويسرة.

وفي الضفة الأخرى للبحر انتظر الرجل، فأخذ ينظر في الأفق علّ سفينة تقبل من هنا أو من هناك فلم تقبل، فلما مل وطال عليه الانتظار أراد الذهاب فإذا بقطعة خشب تتقاذفها الأمواج، فقال في نفسه: لن أرجع إلى أهلي خالي اليدين، سآخذ هذه الخشبة أقطعها ثم أجففها، ثم تكون ناراً ووقوداً لي ولأهلي، فأخذها وهو لا يعلم أن الأمانة قد وضعت فيها، فلما ذهب إلى البيت وكسرها خرجت الرسالة من بين كسرات الخشبة، فقرأ الرسالة: انتظرت فلم أجد سفينة، وطلبت مني كفيل فقلت لك: الكفيل الله، وطلبت مني شهيد فقلت لك: الشهيد الله، فالله يؤدي أمانتي وهذا هو المبلغ، فأخذه ثم تعجب.

فحين صدقوا مع الله صدق الله معهم، ودارت أيام فجاء الذي عليه الدين والمبلغ معه كاملاً يريد سداده، فلما جاء إلى الرجل قال له: إن المبلغ عليك حلال وقد سدد الله عنك، وهذا المبلغ مني لك هدية، خذ المبلغ كاملاً لا أريده، فلقد سدد الله عنك.

فيوم كان شعارهم: أمانة، وصدق، وكانوا يثقون ببعضهم البعض، ويعطي كل إنسان ماله ولا يطالب إلا بحقه، كان هذا شأنهم.

قال القرطبي : الأمانة تعم جميع وظائف الدين، فكل ما افترض الله على العباد فهو أمانة، فالأعراض أمانة، والأموال أمانة، والأنفس أمانة، وأعظم الأمانات هو هذا الدين.

وقد كانوا يثقون في أنفسهم وفي بعضهم البعض حتى على الرقاب، فيكفل الرجل الرجل حتى على الرقبة ولا يهاب، تقول السير: جاء شابان إلى عمر رضي الله عنه ومعهما رجل كبير يقتادانه من تلابيبه إلى عمر ، فلما جاءا إلى عمر ، قال: ما خطبكما؟ قالا: قتل أبانا، فنظر فيه عمر ، قال: أصحيح ما يقولان؟ قال: نعم، أغضبني فضربته بصخرة على رأسه فسقط ميتاً، قال عمر : أما وقد اعترفت فلا بد من القصاص، النفس بالنفس، والعين بالعين، والأذن بالأذن، قال: يا أمير المؤمنين! لي صبية صغار يقيمون في الصحراء لا والي لهم ولا راعي، فأعطوني مهلة وفرصة كي أذهب إليهم وأخبرهم: أني لن أرجع إليهم بعد اليوم، وأدفعهم إلى من يقوم بكفالتهم، أو يقوم بسد حاجاتهم، فليس لهم بعدي إلا الله.

فقال عمر : لا نستطيع أن ندعك تذهب، فقال للغلامين: أتعفوان؟ قالا: لا، قتل أبانا، فقال عمر : لا نستطيع أن ندعك أن تذهب إلا أن تأتي بكفيل يكفلك، فمن أين يأتي بكفيل وهو لا يعرف أحداً؟ فنظر في وجوه الحاضرين وفيهم أبو ذر وقال: هذا يكفلني، والله ما رآه من قبل، وما تكلم معه قط من قبل، فقال عمر لـأبي ذر : أتكفله؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين! أما وقد اختارني من بين هؤلاء القوم والله لا أخذله!

فالمسلم أخو المسلم لا يخذله أبداً، حتى وإن كانت القضية تتعلق برقبته ونفسه.

فقال عمر : يا أبا ذر ! إن لم يأت الرجل فأنت تعرف ماذا سيكون الجزاء؟ قال: أعلم يا أمير المؤمنين! قال الرجل: أمهلوني ثلاثة أيام ثم سآتي إليكم أسلم نفسي، فمضى اليوم الأول واليوم الثاني واليوم الثالث، وبدءوا يترقبون تلك الساعة التي وعد الرجل بالرجوع فيها، طال الانتظار على أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فلما أيس الناس من قدوم الرجل إذا بغبار يأتي من بعيد فلما أقبل إذا هو بالرجل يعتذر عن تأخره، فهلل الناس وكبروا.

فهذا رجل في الصحراء لا يعرف مكانه أحد! والقضية ليست قضية عشرة آلاف ريال، أو مائة ألف ريال، إن القضية قضية رقبة سيسددها في الحال.

فكبر الناس وهللوا وقال عمر للشابين: أتعفوان؟ قالا: عفونا.

وكيف لا يعفون والقضية ثقة وأمانة وصدق بين أفراد المجتمع؟! أما ترى عبد الله! أن هذا هو ما نحتاج إليه اليوم؟! أن تكون المعاملة والشعار فيما بيننا صدق وإخلاص، وصدق في البذل، وصدق في العطاء، صدق في كل شأن من شئون حياتنا، بلى والله! فهذا ما نحتاجه اليوم.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد:

أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، اتقوا الله عباد الله! قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، ومن تقوى الله حفظ الأمانات، وأداء الحقوق، ومراعاة مشاعر الآخرين، وقد جاء ذكر الأمانة في القرآن على ثلاثة معانٍ:

الأول: بمعنى الفرائض كما قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].

الثاني: بمعنى الودائع كما قال الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].

الثالث: بمعنى العفة، كما قال الله عن موسى على لسان بنت شعيب: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، أي: قوي في بدنه، عفيف في معاملاته، وهذا ما نحتاجه اليوم، ولن يكون الرجل أميناً حتى تظهر فيه ثلاثة أمور: عفته عما ليس له، وتأدية ما عليه للآخرين، واهتمامه بحفظ حقوق الآخرين.

أمانة الدين

إن الموظف في الشركة إذا أعطوه سيارة يقودها لقضاء حوائج الشركة فإنها أمانة، ورأيت بأم عيني من يسيء استخدام تلك الأمانة ظاناً أنه ليس عليه رقيب.

أحبتي! إن البشر لا يستطيعون مراقبة البشر في كل شأن من شئونهم فإن لم نستشعر أن الحسيب هو الله فلن نؤدي الحقوق، ولن نحفظ أمانات، ومن أعظم ما استؤمنت أنا وأنت عليه: أمانة الدين، والتوحيد الذي لن ينجو يوم القيامة إلا من جاء به خالص لله.

فعند البخاري من حديث معاذ رضي الله عنه قال: (بينما كنت أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا معاذ ! أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم مضى، ثم قال بعد ساعة : يا معاذ ! أتدري ما حق العباد على الله إن هم فعلوا؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه ألا يعذبهم)، وإن لم يعذبهم دخلوا الجنة.

ومن حقوق التوحيد : المحافظة على الصلوات، والقيام بالواجبات، والانتهاء عن المحرمات، وأسألك هنا سؤالاً: هل حافظت على الأمانة في فجر هذا اليوم أم كنت من المضيعين؟ هل صليت الفجر في جماعة المسلمين حفاظاً على أمانة الله التي استأمنك عليها أم كنت مع النائمين المضيعين؟

فاتقوا الله عباد الله! فالدين أعظم ما استؤمنا عليه، فإن حافظنا على ديننا وحفظنا حقوق ربنا فسنحافظ على حقوق الآخرين، فمن حافظ على الصلوات والأوامر، وترك المنهيات حفظ حقوق الآخرين.

فهذه كلمة إلى الذين يتصدرون المسئوليات ويتأمرون على المسلمين: اعلم -بارك الله فيك- أن المسئولية أمانة، وأنها يوم القيامة خزي وعار وندامة، فقد جاء أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله! استعملني على بعض أمورك، قال: (يا أبا ذر ! أنت ضعيف، والمسئولية أمانة، وهي خزي وعار وندامة يوم القيامة) إلا أن يقوم بحقها كما قام يوسف حين قال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].

فإلى أولئك الذين يتصدرون المسئوليات، ويترأسون على أبناء المسلمين : اتقوا الله في أبناء المسلمين، وأدوا الأمانة فيما استرعاكم الله، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.

أمانة الأسرار الزوجية

كذلك من الأمانات أمانة الأسرار الزوجية، وإن من أعظم الخيانة يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: (الرجل يفضي إلى زوجته وتفضي إليه، ثم يكشف سرها أو تكشف سره)، يقول : حدث بيني وبين فلانة كذا وكذا، فالبيوت أسرار، فاحفظ الأمانة، واحفظ الأسرار في البيوت.

وتقوم الساعة إذا ضيعت الأمانة، ففي الحديث قال أنس : (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل أعرابي فقال: يا محمد! متى الساعة؟ فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم قلنا -أي: الصحابة-: إما أنه كره سؤاله، أو أنه لم يسمع ماذا قال، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من حديثه، قال: أين السائل عن الساعة؟ قال الأعرابي: أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وما ضياعها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله).

فاتقوا لله عباد الله! واعلموا أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم.

اتقوا الله عباد الله! واعلموا أن الإيمان هو الدافع لنا لحفظ الأمانات وأداء الحقوق، ولما ضعف الإيمان ضاعت الأمانات وضاعت الحقوق، فاستشعروا رقابة الله في كل مكان: في الصحاري، وفي البراري، وفي البحار، فإن استشعار رقابة الله هي الدافع الحقيقي لنا لحفظ الأمانات.

اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وصلاة خاشعة، وعلماً نافعاً، ورزقاً حلالاً واسعاً.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين! وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين!

اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا وانصرنا يا قوي يا عزيز! على القوم الكافرين.

اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين!

اللهم عليك بكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويعذبون أولياءك، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم أنزل عليهم بأسك وبطشك إله الحق! إنهم لا يعجزونك.

عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].